بيوتر فيازيمسكي في بيروت: التوق إلى بعلبك ودمشق
بذل أدباء العصر الذهبي جهداً تأسيسياً في جعل الأدب شعبياً يخاطب الناس بلغتهم، وقد اضطلع فيازيمسكي بدور ملحوظ في إعادة صياغة أهداف الأدب ووظيفته في الحياة العامة، وهي مهمة بالغة الصعوبة. تحلّق كبار الشعراء حول فيازيمسكي بعد تأسيس جمعية “أرزاماس” الأدبية سنة 1815، التي انضم إليها بوشكين لاحقاً. وحملت هذه الجمعية على عاتقها تلك المهمة الجسيمة. غاب فيازيمسكي عن القارئ العربي، لأسباب سياسية في الحقبة السوفياتية وتجارية في روسيا الحديثة اليوم، على الرغم من أننا نجد أعمالاً له ولرفاقه، لا تقل شأناً عن أعمال بوشكين.
في بيروت
زار فيازيمسكي فلسطين حين كان في العقد السادس من عمره، وكان في مرحلة اتسمت بتراكم تجارب الحياة، حيث قلّت أعماله الأدبية، لكنها عبرت عن نظرته إلى العالم فتحول الشعر والمذكرات والنقد الأدبي لديه إلى التفكير في معنى الحياة ومأساة الوجود. خلال هذه المرحلة توجه الشاعر مع زوجته إلى الشرق في نيسان 1850، وحلّ في القدس في أيار/ مايو، وانتقل في حزيران/ يونيو إلى بيروت. كتب آنذاك سلسلة مقالات بعنوان “الرحلة إلى الشرق”، نُشرت عام 1883 بعد وفاته، على يد حفيده المؤرخ سيرغي شيريميتيف. كما انعكست انطباعاته الشرقية في قصائد وصفها ناقد مجلة “البشير الروسي” بأنهما “أثمن عمل في شعرنا”.
يقول فيازيمسكي: “في بيروت، عند وصولنا علمنا أنه سيتعين علينا المكوث هنا لمدة ثمانية عشر يوماً في انتظار السفينة النمساوية. هذه المدة طويلة جداً بالنسبة إلى بيروت، على الرغم من أن أسباب الراحة والهدوء مؤمنة على نحو جيد في منزل [القنصل الروسي قسطنطين] بازيلي الجميل. المنظر من نوافذ البحر الأزرق والجبال اللبنانية والحدائق الخضر المحيطة بالمدينة ساحر بشكل رائع”. أراد الشاعر استغلال هذا الوقت للذهاب إلى بعلبك ودمشق، لكن القنصل بازيلي نصحه “بعدم الإقدام على ذلك خوفاً من الحرّ. لكننا لم نشهد موجات كبيرة من الحرّ حتى الآن، ويمكنني السفر بشكل مريح للغاية. إنه أمر محزن”.
سلب جمال بيروت قلب الشاعر، يقول: “موقع بيروت خلاب للغاية. ولا يوجد ما هو أفضل في العالم من هذا الدمج بين زرقة البحر وخضرة الأشجار. تجولنا في رأس بيروت، وتنزهنا على طول الشاطئ بموازاة البحر… على بعد نصف ساعة من المدينة يقع حرج الصنوبر. حملت أزقته التي قطعناها إلى روحي ذكرى حزينة من عزبة الغابة. ثم نزلنا إلى النهر، منسوب المياه منخفض فيه، لكنه يفيض في الشتاء وتكبر مساحته. اليوم، في مكان المياه، تنمو شجيرات الغار الوردية بكثرة على قاع النهر. هنا وهناك تتكاثف خضرة الأشجار على الضفتين. نادراً ما يمكن للمرء أن يشاهد صوراً بهذا الجمال والنضارة في الشرق. بالنسبة إليّ، هذه أفضل اللوحات الطبيعية. كذلك لدى عشاق العظمة ما يثير الإعجاب هنا، وهو مشهد المدرج المهيب لجبال لبنان. على طول شاطئ البحر هنا وهناك، تجود بقايا رصيف وأعمدة، ما يثبت أن الرصيف البحري كان، في يوم من الأيام، مبنيًا بشكل متقن ورائع. يقولون إنه مقابل بضع عشرات الآلاف من القروش يمكن إصلاح الرصيف وجعله أكثر أماناً. بشكل عام، يمكن لبيروت، لو تسنى لها أن تكون بيد قوم آخرين، أن تكون بسهولة واحدة من أفضل المدن وأكثرها متعة في العالم”.
(بيوتر فيازيمسكي)
وسط كل هذا الجمال بقيت نفس الشاعر كانت تواقة إلى دمشق وبعلبك، ويبدو أنه كرر طلبه مراراً من القنصل الروسي، حتى أنّه وصل إلى النقّ، يقول: “لحسن الحظ، علمت أن بوابات المدينة تفتح بحرية تامة، وفي المساء أتجول على الشاطئ، مستمعاً إلى الأمواج المتطايرة والصاخبة التي تتكسر على الحجارة والصخور المتكوّمة على الشاطئ. أعتقد بحزن أنه بعد قضاء نحو ثلاثة أشهر في هذه الديار، يمكنني احتساب 35 يوماً فقط جديرة بالاهتمام، وهي مدة إقامتي في القدس، فأنا لم أر الناصرة ولا العديد من الأماكن المقدسة الأخرى، وكذلك لن أرى دمشق أو بعلبك. هو ذا قدري، لا أنال مبتغاي كلّه، كل رغباتي غير مكتملة وغير متمّمة…”. وعندما يجلس إلى مائدة القنصل التي تضمّ الأعيان والقناصل، يقول: “كل ما في رأسي عن دمشق وبعلبك. دمشق وبعلبك تدوران فيه وتعصرانه. وكل ما يتبقى هو الانزعاج من أنني لن أصل إلى هناك. كان من الضروري السفر لمدة يومين أو ثلاثة أيام إثر وصولي إلى بيروت”.
في المحصلة، يبدو أن القنصل رضخ لطلب فيازيمسكي، فحقق له أمنية الذهاب إلى بعلبك فقط، وحرمه من زيارة دمشق.
إلى بعلبك
مما قاله عن رحلته إلى بعلبك: “في الصباح الباكر، ذهبت إلى بعلبك. الطريق سلس على طول وادي بعلبك [سهل البقاع] الواسع، السهل مزروع بكامله تقريباً، وفيه مروج حيث ترعى القطعان الوفيرة… المشاهد الريفية تهدئ النفس وتنعش الحواس بعد المشاهد المتشنجة لطبيعة المنحدرات الجبلية المعذبة والمحطمة للنفس. هنا يمكنك أن تدع حصانك يعدو، وهو ما فعلته مما أثار استياء رفاقي ومرشدي. كان عليهم أن يعرفوا أنني فارس ميئوس منه، فقد تقدمت الركب بفارق كبير. يمتد الوادي بطول 60 فيرستا (وحدة قياس طول قيصرية تعادل 1065 متراً)، أما عرضه بتقدير العين فيبلغ 20 فيرستا. وصلت إلى مقصدي في ما يزيد قليلاً عن أربع ساعات، فيما استغرقت الرحلة الرسمية ست ساعات”.
“أنا سعيد لأنني شاهدت آثار بعلبك، ولكنني سعيد أكثر لأنني في الطريق إليها مررت بجزء من جبال لبنان ووادي بعلبك. إن الطبيعة، بأي شكل كانت، هي دائماً أكثر جاذبية بالنسبة لي من المباني الحية والخرائب. ولكن هنا من الغريب والمدهش أن نرى ما استطاع الناس تحقيقه قبل عدة آلاف من السنين. أي مجتمع متطور رفع هذه المعالم الأثرية! إذا ما قارنا بها مبانينا الأثرية، فهي تشبه بيوت الورق وألعاب الأطفال. من يتحدث عن التقدم، فليأت لينظر إلى أنقاض معابد بعلبك، ليحكم منها أي مدينة يمكن أن تستوعب مثل هذا المبنى الضخم داخل أسوارها. ما هي الدرجة الأعلى من التنوير والصناعة والفنية التي يشير إليها مثل هذا الهيكل! وليقارن هذا مع الخراب والجهل والفقر الروحي والمادي الذي سيطر الآن على هذا المكان”.
في اليوم الثاني من رحلته إلى بعلبك، يصدف أن يمرّ بحفلة عرس، يقول: “عند عودتنا ليلاً من نزهة تحت ضوء القمر عبر الآثار، مررنا بحديقة يقام حفل توديع العزوبية للمسلمات خارج الأسوار، حيث غنين أغنيات ما قبل الزفاف وصفقن بأيديهن. الأتراك والمسيحيون الذين رافقونا كانوا يخشون البقاء في الشارع لمدة طويلة، حتى لا ننتهك بحضورنا الحفل النسائي. ففي العرف التركي لا يجوز انتهاك حرمة حفل كهذا، وقد يعتبر فعلنا انتهاكاً لحرمة المنزل من قبل رجال غرباء، فكيف إن كانوا من الأغيار؟”.
قضى الشاعر ليلتين في مدينة بعلبك قبل أن يعود إلى بيروت، ومما قاله: “عدت عند الساعة الثامنة مساءً إلى زحلة. قبل نصف ساعة من انطلاقي، خرج لمقابلتي شيخ يرتدي زياً أحمر اللون. قفز من على صهوة حصانه، سحب غليونه من فمه ووضعه في فمي. هذه أعظم مجاملة شرقية”.
عماد الدين رائف / المدن
Beta feature
Beta feature
اترك تعليقاً