تفكيك الخبر الكاذب عن “الكتاب المقدس الآرامي” المخفيّ في أنقرة
الانجيل التركي
تصل إلى هواتفنا الذكية أخبار لا نعرف مصدرها ونجهل لماذا تتداول بين المعارف والأصدقاء. وبينها يصلنا فيديو في اللغة الإنكليزية يعرّف على مخطوطة قديمة وكأنها محروقة ويقول تصاريح فاضحة حول إيماننا المسيحي مثل أن الرب يسوع لم يصلب وأنه ليس ابن الله، بل مجرد نبيًّا، وأن بولس الرسول كان محتالاً. يفترَض أن هذه المخطوطة تم العثور عليها في غنيمة مهربين من جنوب تركية قبضت عليهم السلطات التركية سنة 2000. دائمًا بحسب الفيديو، أمست المخطوطة في المتحف الاثنوجرافي في أنقرة حيث تحفظ بالأمن القصوى. النسخة العربية لهذا الفيديو متوفرة في اليوتيوب بأشكال عديدة معظمها منشورة من قبل مشتركين مسلمين ومنها: “خبر يهز العالم”.
غني عن القول إن الموقع الرسمي للمتحف في أنقرة لا يدوّن شيئًا عن الموضوع وإن الجرائد الجدية العالمية لم تنشر خبرًا لهذا الافتراء. ولا حتى المجتمع الأكاديمي أو المرجعيات الكنسية اهتمّوا بالرد على هذه الاستفزازات التي لا أساسَ لها. ولكن يبقى الشك في عقول الكثير من الناس الذين تلقوا هذا الفيديو المشوش من أحد أقربائهم أو أصدقائهم. في لغة الانترنت يسمى هذا النوع من الأخبار الكاذبة “هواكس” (Hoax) أي خدع. وهناك عدد هائل من هذه الأخبار تنشر يوم وراء يوم لأنها تشجع الاستهلاك الالكتروني الذي يغذي سوقًا مهمًّا من التمديدات في الشبكات ومن الآلات التي نشتريها من أجل الاستعمال الشخصي.
بين الأخبار اللافتة للنظر نجد النص المنشور في البوابة التركية للأخبار “ناشيونال تورك” يوم 23 شباط 2012 بعنوان: “عثور لكتاب مقدس سرياني من 1500 سنة في أنقرة تركية والفاتيكان في صدمة” ومقالة جريدة دايلي مايل البريطانية في 3 شباط 2012 “كتاب مقدس سري ثمنه 14 مليون جنيه يتنبأ فيه يسوع عن مجيء النبي محمد، رأى النور في تركية”. وعربت وكالة الجزيرة هذا المقال فنشرته في موقعها يوم 26 أيار 2012 بعنوان رنان أيضًا: “اكتشاف مخطوطة مسيحية تبشر بنبوة محمد” وفيه صورة من المقالة في الدايلي مايل. أما في لبنان، فنشرت جريدة الأخبار خبرًا شبيهًا بعنوان “استكشاف إنجيل عمره 1500 سنة في تركيا” في 11 أيار 2012.
كما سبق وأشرنا أعلاه المجتمع الأكاديمي لا ينشغل بهذه الصحافة المروجة للإثارة لأنها تفقد عن ذكر لأي مصدر معتمد قد يعطي الحد الأدنى من المصداقية للمضمون. طبعًا تلتزم الكنائس الصمت أيضًا لهذه المنشورات الغاشة لأن التكلم عنها لا تخدم إلا لغايتها وهي نشر الكذب والغش من أجل الشهرة.
ولكن في شباط 2016 والآن في كانون الثاني 2018 تم تداول هذا الفيديو بكثافة في هواتف عدد مهم من المسيحيين في الشرق الأوسط وخصوصًا الموجودين في منطقة الخليج العربي، الأمر الذي حرك بعض التساؤلات عن المضمون وصحته. الصوت المسموع في الفيديو هو قراءة آلية لمقالة منشورة في موقع اسمه “أبناء النار” وهو موقع لفرقة موسيقى الروك الإلكتروني من بورتو ريكو. وكما يقال: “المكتوب يعرف من عنوانه”، فالنص في الفيديو لا يحتوي إلا على أخطاء ومغالطات.
ما يمكن القول من منظور أكاديمي؟ من جهة الشكل، فأنه لم يبرهن وجود المخطوطة بعد، وليس هناك أي دليل لمحتوياتها. لذلك لا نستطيع أن نتأكد ما إذا كتبت بالآرامية أو بالسريانية ولا نقدر أن نثبت زمن كتابة مخطوطة لأننا في الأساس لا نعرف ما إذا وجدت أم لا. يقال إنّ عمرها 1500 سنة ولكن كيف عرفوا ذلك؟ الصور التي تظهر في الانترنت غير كافية لأي دليل علمي ويمكن إنتاج صور من هذا النوع بناء على آلاف المخطوطات المسيحية الموجودة في المنطقة مع بعض التعديلات البسيطة ببرامج التصوير. وفي هذا السياق، تلمّح المقالات في الجرائد إلى اهتمام الفاتيكان بمراجعة المخطوطة الأصلية، الأمر الذي لم يعلن عنه الكرسي البابوي في روما أي تصريح. أضف أنّ المتحف الاثنوجرافي في أنقرة لم ينشر كلمة أو صورة عن هذه التحفة في موقعه على الشبكة.
أما من جهة المضمون، فالادعاءات بأن يسوع الناصري لم يصلب وأنه تنبأ بمجيء محمد تذكرنا بما يرد في كتاب إسلامي المنشأ من القرن السادس عشر الميلادي (بعد الـ 1500) معنون بـ “إنجيل برنابا” وهو مصنف دفاعي عن الدين الإسلامي موجه ضد المسيحيين في منطقة الأندلس.[1] هناك مخطوطتان مهمتان في أوروبا باللغتين الإيطالية والاسبانية تشهدان أن النص الأصلي كان على الأرجح باللغة العربية.[2] نجد في هذا النص القول بأن بولس كان محتالا عندما قرر نشر خبر القيامة. طبعًا، لم يكتب برنابا الرسول هذا الكتاب ولا أي مؤمن مسيحي. لا بل، بالعكس، إنه رد على المعتقدات المسيحية من منظور إسلامي وبأسلوب جداليّ. إن قراءة نص “إنجيل برنابا” في إحدى الطبعات الحديثة تؤكد على أن ليس لهذا النص أي علاقة بالرسول القبرصي الذي بشّر في أنطاكية وكل المشرق بصلب يسوع المسيح وقيامته (راجع أع 13: 46؛ 15: 12). انتشر هذا النص بين المعلمين المسلمين في القرن التاسع عشر الميلادي بقوة ويعود يبرز تارة وطورًا بين الجماعات التبشيرية الإسلامية كنموذج للكتابات الدفاعية الكلاسيكية. يتميز المضمون بالفكر الخاص بنهاية القرون الوسطى ونحن اليوم تخطينا هذه الأحكام المسبقة على أبناء الديانات السماوية ونحاورهم بروح الأخوة ومن أجل الحفاظ على العيش المشترك الذي نجح منذ قرون في هذه المنطقة.
لذلك، فإن الفيديو المتداول بين هواتفنا يفقد كل مصداقية تاريخية وعلمية وهو ليس إلا نتيجة صحافة الإثارة التي تدعم استهلاك الانترنت ووسائل الإعلام. مضمونه يشوش على التفاهم بين أبناء الوطن الواحد الذين يتعاونون يوميًا من أجل الخير المشترك ويعبرون عن احترامهم المتبادل. إنه محاولة فاشلة لزرع الخلاف وسيفني في النسيان لأن الإيمان أقوى من أي تشكيك.
دانيال عيوش
أستاذ العهد الجديد
جامعة البلمند
[1] See: “In Pursuit of a ‘True’ Gospel: Riḍā’s Arabic Edition of the Gospel of Barnabas.” In: Ryad, Umar. Islamic Reformism and Christianity: A Critical Reading of the Works of Muhammad Rashi-d Rida and His Associates (1898-1935), BRILL, 2009, pp. 213-242.
[2] Wiegers, Gerard A. “Gospel of Barnabas”. Encyclopaedia of Islam, THREE. Ed. Kate Fleet et al. Brill Reference Online. Web. 17 Jan. 2018
Beta feature
اترك تعليقاً