تواضع الفكر في الأرثوذكسية مقابل استعلاء الفكر
يقول القديس سلوان الآثوسي أنَّ من صفات الروح القدس: “البساطة، والوضوح” ومن ثماره “السلام والراحة للنفس” (1)…
لهذا السبب حين تقرأ في الكتاب المقدس أو في كتب الآباء القديسين، فإنّك ترى البساطة والوضوح وتشعر بالراحة لا بالتعب… أما إذا كنتَ تقرأُ لأحد الفلاسفة أو المبتدعين فإنّك سرعان ما تشعر بالتعب والضغط، والتعقيد والغموض…
في الحقيقة أنَّ السلام الذي تشعر به لدى قراءتكَ لكتابٍ آبائيّ (للآباء) ليس إلا انعكاساً للسلام الموجود في داخل نفس الكتاب… وبنفس المعنى، فإنَّ التعب الذي ينتابُكَ لدى قراءة مقالة لأحد الهراطقة (حتى وإن كان مضمونها صحيحاً)، ليس إلا التعب الموجود داخل نفس من كتب تلك المقالة… وبمعنى آخر، النفس المريضة لا يمكنها أن تنتج إلا فكراً مريضاً مثلها… نستطيع هنا أن نفهم ما يقوله القديس كبريانوس القرطاجي:
” إنَّ الهرطقات نشأت وغالبًا ما تنشأ بفعلِ أنَّ العقل الضّال لا يملك السلام … لقد سبقَ الروح القدس فنبّه بفم الرسول قائلًا: “لا بد من الهرطقات ليظهر فيكم المُزكّون (١كو١١: ١٩)”. هكذا يُزَكّى المؤمنون، هكذا يُكشفُ الغدّارون، هكذا هنا وقبل يوم الدينونة يُفصل ما بين نفوس الأبرار والأثمة، وعن الحنطة يُعزلُ التِّبن”. (٢)
ولكن من أين أتى هذا المرض” استعلاء الفكر”؟
تؤمن الكنيسة الأرثوذكسية بأنَّ الطبيعة البشرية قد فَسُدت بسقوط الإنسان من الفردوس، وأصبحت بالتالي طبيعةً تميلُ إلى الشر. هذا الفساد هو مرضٌ روحي أصاب الإنسان وكانت نتيجته النهائية “الموت الجسدي”.. وقد تجسد المسيح حتى يشفينا من هذا المرض الروحي، ويعيد طبيعتَنا إلى ما كانت عليه قبل السقوط وأكثر من ذلك ل”يؤلّه” هذه الطبيعة.
لم يستطع جميع الحكماء والفلاسفة قبل تجسد المسيح من الوصول إلى الحقائق الإلهية الشافية، وهذا ما عبّر عنه كبير فلاسفة قبل المسيح ألا وهو سقراط بقوله: “أنا الحكيم الوحيد في أثينا لأنّي الوحيد الذي أعترف بأني لا أعرفُ شيئًا”. (٣)
أليس هذا اعتراف متواضع من سقراط بأنّه جاهلٌ في الحق الذي هو غاية الفلاسفة؟
أوليسَ ذلك أيضاً تأكيداً لقول الكتاب المقدس:
“أين الحكيم؟ وأين الباحث؟ وأين المجادل في هذا الزمان؟ ألم يظهر الله حكمة هذا العالم جهالة؟ فبما أن العالم، في حكمة الله، لم يعرف الله عن طريق الحكمة، فقد سُرَّ الله أن يخلص بجهالة البشارة الذين يؤمنون بل إن الله قد اختار ما هو جاهلٌ في العالم ليخجل الحكماء” (1كو1: 20-27 ).
الحكيم الحقيقي هو من يعرف حدودَه ويدرك بأنَّ حقائق اللاهوت بما فيه طرق شفاء الإنسان النفسية (الروحية) ليست من اختصاص العقل البشري، ليس فقط لأنَّ فاقد الشيء لا يعطيه، أي أنَّ المريض لا يمكنه أن يُشفي مريضًا، بل أيضًا لأنَّ المحدود لا يمكنه بمنطقٍ محدود أن يستقصي عن اللامحدود..
وبذلك يكون الحكيم هو من قبل جميع الحقائق الإلهية دون فحصٍ وتدقيق، واثقاً من عظمة خالقه ومتأكداً من ضعف نفسه…وهو (أي الحكيم) إذ تكلّم في اللاهوت، لا يتكلّم من عنده، أي لا يضيف شيئاً ولا ينقص شيئاً… حسبه أنّه ينقل تعاليم آبائه القديسين وما تركه الرسل والمسيح، بهدف شفاء نفسه وشفاء الآخرين بعلاجٍ كاملٍ وأصيل..
ولذلك تحدث القديس باسيليوس الكبير عن سبب كتابته في أمور اللاهوت قائلًا
“لو شاء أولئك الذين يسمّون أنفسهم مسيحيين أن يستمروا محافظين على الحقيقة الإنجيلية والتقليد الرسولي والإيمان البسيط، لما اضطررت أن أتكلّم، ولبقيت صامتاً، لكن عدو الحقيقة الشيطان الذي يضاعف الشر مع الزؤان الذي زرعه في كنيسة الله، والذين وُجِدوا أعضاء له، وأداة نكران للمسيح، جعلني أقف بينكم لا لأدحض فكرة الشيطان فقط، بل لأعيد إلى حقيقة المسيح مَن سخّره إبليس ليكون له أداة طيّعة”.
ومن هنا أيضًا هتف آباء المجمع المسكوني الرابع (خلقيدونية) بعد أن سمعوا رسالة القديس لاون الكبير
“هذا هو إيمان الآباء. هذا هو إيمان الرسل… بطرس يتكلم هكذا بفم لاون. هكذا الرسل علّموا. وهكذا كيرلس علّم الخ..الخ…”
فلم يكن القديس لاون الكبير (بابا رومية) يعطي رأياً أو تعليماً خاصاً به بل هو نفسه الإيمان “المسَّلَّمْ مرة للقديسين” (يه1: 3).
ليس من سبيل المبالغة أن ينعت الآباء القديسون -مراتٍ عديدة- الهراطقة بالملحدين، فليست المبالغة في الكلام من صفات الآباء القديسين بل أنَّ كلَّ كلمة وكل حرف لديهم له معنى دقيق وواضح، إذا لا يتكلمون من عندهم بل “مسوقين من الروح القدس” (2بط1: 21).
فالواقع أنَّ جميع الهراطقة على مرّ التاريخ، قد تصرّفوا وكأنَّ الله غير موجودٍ البتة، مُغتصبين أحد أهم الوظائف الخاصة بالله وحده، ألا وهي “وضع التعاليم الخلاصية”.
إنَّ كلَّ تعليمٍ إلهي في الكنيسة مصدره أولاً وأخيراً الكشف الإلهي أو ما يمكن أن نسميه “الوحي الإلهي”. فالروح القدس هو واضع الكتاب المقدس وهو مفسره عن طريق الآباء القديسين، والروح نفسه هو الذي يتكلم بالآباء القديسين مُدافعاً ومُوضحاً ومعلّمّاً، وهو الذي جمع الآباء في مجامع مقدسة لسن القوانين المقدسة وتحديد العقائد الخلاصية.
لكن الذين رفضوا الوحي الإلهي كمصدر أساسي وحيدٍ للتعليم، ابتدعوا وحياً خاصاً، واضعاً فكرهم الخاص فوق فكر الله: هذا ما يسميه آباؤنا “استعلاء الفكر”، يقابله “تواضع الفكر” عند الأرثوذكسيين الحسني العبادة. ولا شك أن تواضع الفكر هو امتداد لتواضع القلب المحب لله. لذلك لا يمكن أن يعرف الله وتعاليمه سوى أولئك المتواضعين العارفين لحدودهم جيداً.
هذا ما أعلنه الرب على لسان داوود النبي: “القلب المتخشع والمتواضع لا يرذله الله” (مز٥٠: ١٧)، وهذا ما قاله الرب نفسه على موعظة الجبل: “طوبى لأنقياء القلوب فإنهم يعاينون الله” (مت٥: ٨).
حين تؤمن أنَّ الله هو مَلكُ السموات والأرض، وهو الخالق الذي يحدد هدف الإنسان في وجوده وحياته، لا يمكن حينها إلا أن تُسلم لمشيئة الله واثقاً بتعاليمه كل الثقة سواء فهمتها اليوم أو فهمتها غداً أو حتى لم نفهمها، فتماثل ابراهيم أبانا الذي لم يسأل ولم يناقش ما إذا كان الله على حق في أن يطلب منه تقديم إبنه ذبيحة. طاعة ابراهيم العظيمة جعلته مستحقًا للبركات الكثيرة التي وهبها له الله فصار أباً لأممٍ كثيرة بعد أن كان عاقراً..
خلاصة القول
أنَّ الإيمان بالرب لا يعني شيئًا بدون طاعة وصاياه وطاعة روحه القدوس الناطق بالآباء القديسين: هذا هو تواضع الفكر.. أما عدم الطاعة أو الطاعة الإنتقائية للروح القدس هو عبادة للذات وجعلها مشرِعة للحق وللتعاليم بدلًا من الله، إنّها الحية نفسها التي أغوت جدّينا الأولين: إنّه “استعلاء الفكر” أي جعل فكرنا فوق فكر الله وأكثر حكمة منه!
من هنا نفهم أيضًا لماذا “جعل الآباء القديسون الطاعة أهم من الصلاة والصوم” على حد قول القديس سلوان الآثوسي.
ألا أهّلنا الرب لنملك إيمان آبائنا وطاعتهم لله الذي كشف لهم تعاليمه الخلاصية. ونحن إذا كنا نظهر كأننا أعلى من غيرنا في الفهم اللاهوتي، فهذا لأننا نتجاسر على الوقوف على أكتاف آبائنا ناقلين ما كشفه الله لهم بعد جهاد طويل ومرير، دون أن يكون لنا أيُّ فضلٍ في ذلك…
ذوو الإستعلاء الفكري لا يرضون لأنفسهم أن يكونوا مجرد “ناقلين للفكر اللاهوتي” بل يريدون أن يكونوا خالقين ومبدعين له.. من هنا سمتهم الكنيسة “مُبتدعين” فيما هم سموا أنفسهم “مُبدِعين”.. نعم هو إبداع .. لكنه إبداعٌ في الشر.. إبداعٌ فاسدٌ من الطبيعة الفاسدة جراء السقوط، والتي لا يريدها الله أن تبقى كذلك، فهو تجسد وصُلب وقام لتقوم معه مُمجَدةً ومتألِّهة.. ولكنَّ قيامتَنا تتوقف على إرادتنا الحرة.. فهل نحن نريد القيامة حقًا، أم أنَّ استعلاء الفكر أعمانا؟
(روني سعيد بتصرف)
الحواشي
(١) Jean-Claude Larchet, Saint Silouane de l’Athos
(٢) القديس كبريانوس القرطاجي، في وحدة الكنيسة الجامعة، تعريب القارئ يوحنا، طبعة أولى ٢٠١٧، ص٢٦
(٣) الأرشمندريت صفرونيوس زخاروف، القديس سلوان الآثوسي، ترجمة الأم مريم زكا
اترك تعليقاً