جئت لألقي ناراً على الارض…!
سؤال من الأديب توفيق الحكيم إلى بابا الكنيسة القبطية شنوده
“قرأت في دفترى عبارة افزعتنى، وسجلتها لأسال فيها حتى يطمئن قلبي… عبارة في الاصحاح الثانى عشر من أنجيل لوقا قال فيها السيد المسيح: “جئت لألقي ناراً على الأرض.. أتظنون أنى جئت لأعطى سلاماً على الأرض، كلا أقول لكم بل انقساماً.. فكيف والمسيح ابن مريم كلمة من الله، جاء ليلقى ناراً على الأرض…
فكيف يكون الله تعالى هو الكريم، وأنه كتب على نفسه الرحمة، ويقول في قرآنه أن المسيح كلمة منه.. والمسيح يقول في أنجيل لوقا أنه جاء ليلقي ناراً على الأرض؟… وغمرتنى الدهشة وقلت لا بُدّ لذلك من تفسير…
فمن يفسر لى حتى يطمئن قلبى؟.. وصرت أسأل من أعرف من أخواتنا المسيحيين المثقفين، فلم أجد عندهم ما يريح نفسي…
أما فيما يخص بالمسيحيين فمن أسال غير كبيرهم الذي أحمل له التقدير الكبير لعلمه الواسع وإيمانه العميق.. البابا شنوده.. فهل المسيحي العادى يفطن لأول وهلة إلى المعنى الحقيقي لقول السيد المسيح…
الإجابة:
رد الخطاب من قداسة البابا شنوده الثالث
عميد الأدب في أيامنا: الأستاذ الكبير توفيق الحكيم.
تحية طيبة، ودعاء لكم بالصحة، من قلب يكن لكم كل الحب. فأنا قارئ لكم، معجب بكتاباتكم، احتفظ بكل كتبكم في البطريركية وفي الدير…
وقد قرأت مقالكم الذي نشر في الأهرام يوم الاثنين 2/12/85، الذي قدمتم فيه أسئلة حول بعض الآيات التي وردت في الإنجيل (إنجيل لوقا 12). وعرضتموها في رقة زائدة وفي أسلوب كريم، يليقان بالأستاذ توفيق الحكيم.
وإذا أشكر ثقتكم، أرسل لكم إجابة حاولت اختصارها على قدر ما أستطيع. وأكون شاكرًا إن أمكن نشرها كاملة كما هي. لأن تساؤلكم في مقالكم، أثار تساؤلات عند كثيرين، وهم ينتظرون هذا الرد. وختامًا لكم كامل محبتي.
أمضاء: البابا شنوده الثالث
مقدمة:
حينما نتحدث عن آية من الكتاب. لا نستطيع أن نفصلها عن روح الكتاب كله، لأننا قد لا نفهمها مستقلة عنه.
فلنضع أمامنا روح الإنجيل، ورسالة المسيح التي ثبتت في أذهان الناس. ثم نفهم تفسير الآية في ظل المفهوم العام الراسخ في قلوبنا.
رسالة السيد المسيح هي رسالة حب وسلام: سلام مع الله، وسلام مع الناس: أحباء وأعداء. وسلام داخل نفوسنا بين الجسد والعقل والروح.
في ميلاد المسيح غنت الملائكة قائلة “المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرة” (لو2: 14). وقد دعي السيد المسيح “رئيس السلام” (أش9: 6). وقد قال لنا “سلامي أترك لكم، سلامي أعطيكم.. لا تضطرب قلوبكم ولا تجزع” (يو14: 27)، وقال “أي بيت دخلتموه، فقولوا سلام لأهل هذا البيت” (لو10: 6). وذكر السلام كأحد ثمار الروح في القلب. فقيل “ثمر الروح: محبة فرح سلام” (غل5: 22). وفى مقدمة عظة السيد المسيح على الجبل “طوبي لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون” (مت5: 9).
كما ورد في الإنجيل أيضًا “أطلب إليكم.. أن تسلكوا كما يليق بالدعوة التي دعيتم لها، بكل تواضع القلب والوداعة وطول الأناة، محتملين بعضكم بعضًا بالمحبة، مسرعين إلى حفظ وحدانية الروح برباط السلام. ولكي تكونوا جسدًا واحدًا وروحًا واحدًا” (أف4: 1-4). ودعا السيد المسيح إلى السلام، حتى مع الأعداء والمقاومين، فقال “لا تقاوموا الشر. بل من لطمك على خدك الأيمن، فحول له الآخر أيضًا. ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك، فاترك له الرداء أيضًا. ومن سخرك ميلًا، فاذهب معه اثنين، ومن سألك فأعطه” (مت5: 39-42).
بل قال أكثر من هذا “أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم.. لأنه إن أحببتم الذين يحبونكم فأي أجر لكم.. وإن سلمتم على أخوتكم فقط، فأن فضل تصنعون” (مت5: 44-47).
ولست مستطيعاً أن أذكر كل ما ورد في الإنجيل عن رسالة السلام في تعليم السيد المسيح، إنما اكتفى بهذا الآن، وعلى أساسه نفهم الآيات التي هي موضع السؤال:.
وكمقدمة ينبغي أن أقول إن الإنجيل يحوي الكثير من الرمز، ومن المجاز. ومن الاستعارات والكنايات، من الأساليب الأدبية المعروفة.
جئت لألقى ناراً
وهى قول السيد المسيح “جئت لألقى نارًا على الأرض. فماذا أريد لو اضطرمت” (لو12: 49).
1- إن النار ليست في ذاتها شراً. وإلا ما كان الله قد خلقها. وليست بصدد الحديث عن منافع النار، ولا عما قيل عنها من كلام طيب في الأدب العربي. وإنما أقول هنا إن النار لها معان رمزية كثيرة في الكتاب المقدس:
2- فالنار ترمز إلى عمل الروح القدس في قلب الإنسان.
وقد قال يوحنا المعمدان عن السيد المسيح “هو يعمدكم بالروح القدس ونار” (لو3: 16).
وقد حل الروح القدس على تلاميذ المسيح على هيئة ألسنة كأنها من نار. (أع2: 3).
وكان هذا إشارة إلى أن روح الله ألهبهم بالغيرة المقدسة للخدمة. وهذه الغيرة يشار إليها في الكتاب المقدس بالنار.
وهى النار التي أعطت قوة لتطهير الأرض من الوثنية وعبادة الأصنام. وهذه النار هي مصدر الحرارة الروحية. وقد طلب منا في الإنجيل أن نكون “حارين في الروح” (رو12: 11). وقيل أيضًا “لا تطفئوا الروح” (1تس5: 129).
3- والنار ترمز أيضًا في الكتاب إلى المحبة
وقيل في ذلك “مياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئ المحبة” (نش 8: 7). وقيل أيضًا “لكثرة الإثم تبرد محبة الكثيرين” (مت 24: 14).
4- والنار قد ترمز أيضًا إلى كلمة الله
كما قيل في الكتاب “أليست كلمتي هذه كنار، يقول الرب” (ار23: 29). وقد قال ارمياء النبي عن كلام الرب إليه “فكان في قلبي كنار محروقة” (أر20: 9). لذلك لم يستطع أن يصمت. على الرغم من الإيذاء الذي أصابه من اليهود حينما أنذرهم بالكلمة.
5- والنار في الكتاب ترمز أحيانًا إلى التطهير
كما قيل عن إشعياء النبي إن واحدًا من الملائكة طهر شفتيه بجمرة من النار. (أش 6: 6, 7).
وإن كانت النار تحرق القش، إلا أنها تنقي الذهب من الأدران، وتقوى الطوب الطين وتجعله صلبًا. وكانت تستخدم في العلاج الطبي (بالكي).
فالذي كان يقصده السيد المسيح
إنني سألقى النار المقدسة في القلوب. فتطهرها، وتشعلها بالغيرة المقدسة لبناء ملكوت الله، على الأرض، لذلك قال: “ماذا أريد لو اضطرمت”.
هذه النار قابلتها نار أخري من أعداء الإيمان..
12: 49 «جِئْتُ لأُلْقِيَ نَاراً عَلَى الأَرْضِ، فَمَاذَا أُرِيدُ لَوِ اضْطَرَمَتْ؟ 50 وَلِي صِبْغَةٌ أَصْطَبِغُهَا، وَكَيْفَ أَنْحَصِرُ حَتَّى تُكْمَلَ؟
الشرح
يختلف بعض المفسرين حول ما تعنيه هذه العبارة (جئت لألقي نارا على الأرض) التي حفظها لوقا في إنجيله (12: 49). فمنهم من يرى أن الرب يسوع يريد بها الدينونة الأخيرة ونتيجتها، وآخرون يوازون، في معناها، بين النار وعطية الروح القدس.
ولا يخفى أن هذين التفسيرين لهما ما يبررهما في الكتاب المقدس. ذلك أن الكتاب أوحى، من جهة، بأن “النار” سترافق دينونة الله الأخيرة (انظر مثلا: إشعياء 66: 15 و16؛ حزقيال 38: 22 و39: 6؛ ملاخي 3: 19..) ووضع، من جهة ثانية، “النار” في سياق الكلام على معمودية الروح القدس التي بدأت في العنصرة (أعمال 2: 3 و19؛ ثمة من يصوّر انتشار خبر البشارة في الأرض بعد اليوم “الخمسين”، مثل النار في الهشيم).
ويعرف قارئو العهد الجديد أن يوحنا المعمدان الذي أعدّ الطريق ليسوع، وقال في رسالته: أنا أعمدكم بالماء، ولكن يأتي من هو أقوى مني، من لستُ أهلا لأن أفك رباط نعليه”، وصف العمل الذي سينجزه يسوع، بقوله:” إنه سيعمدكم في الروح القدس والنار” (لوقا3: 16). وتَرِد، في إنجيل مرقس، صيغة مختصرة لهذه الكلمات، نقرأ ” سيعمدكم بالروح القدس” (ولا يذكر لفظة “نار”). أما متى فيتوافق مع لوقا (يربط بين الروح القدس والنار)، ويمضيان كلاهما فيرويان المزيد من كلمات يوحنا في وصف الرب الآتي، نقرأ: “بيده المِذْرى (خشبة ذات أطراف كالأصابع تنقّى بها الحنطة من التبن)، ينقي بيدره، فيجمع القمح في أهرائه، أما التبن فيحرقه بنار لا تطفأ (متى 3: 12؛ لوقا 3: 17). ونرى أن رسالة يسوع، كما توقعها يوحنا السابق، تفترض دينونة علنية يتمها الرب في ظهوره. وهذا الأمر يصح عموما، وذلك أن يسوع المخلّص الذي “أرجأ” تنفيذ دينونة العالم إلى اليوم الأخير، وضع في العالم قياسها، فهو سيدين الناس على حسب مقتضيات خلاصه، فمن يقبلها في حياته يحيا، ومن يتعداها موتا يموت.
غير أن قراءة المقطع الذي وردت فيه العبارة موضوع هذا المقال، تجعلنا نعتقد أن الكلام على الدينونة حصرا لا يتوافق كليا وسياق النص، يقول الرب:”جئت لألقي نارا على الأرض، وما أشد رغبتي أن تكون قد اشتعلت! وعلي أن أقبل معمودية، وما أشد ضيقي حتى تتم”. إن لهاتين الآيتين موازاة ظاهرة في الإيقاع، ولذا يبدو للكثيرين، وعن حق، أن فهم الآية الأولى يستحيل من ربطها بالآية التي تتبعها. ونرى أن يسوع- الذي أبى أن يستجيب لإرادة أثنين من تلاميذه طلبا منه أن يلقي نارا على مدينة رفضت استقباله (لوقا 9: 51- 56)- يقول: إنه جاء ليلقي “نارا على الأرض”، وأن رغبته جامحة لتشتعل. والحال أن هذه الرغبة (اشتعال النار) –كما يظهرها سياق النص – تفترض أن يقبل يسوع قبلا المعمودية (لوقا 13: 50)، وهو (يسوع)، لا شك، لا يشير هنا إلى المعمودية التي تقبّلها في الأردن، وإنما إلى موته على الصليب الذي كان حدث الأردن صورة عنه. وهذا ما يزيد قناعة البعض – وقناعتنا- فيفهمون العبارة(جئت لألقي نارا على الأرض) على أنها لا تدل(حصرا) على الدينونة، وإنما على توق السيد إلى سكب الروح القدس في اليوم الخمسين. ذلك أن مجيء الروح كان يتطلب قبلا أن يتمجد ابن الله على الصليب (يوحنا 7: 39). لقد اختبر يسوع شخصيا انسكاب الروح عليه في الأردن، وهو يشتاق أن يعمّد العالم بناره، هذا ما حاول أن يعبّر عنه يوستينوس الشهيد (القرن الثاني)، لمّا استخدم صورة النار في وصفه هذا الانسكاب، بقوله:” عندما نزل يسوع إلى الماء اشتعلت نار في الأردن”.
إن الكنيسة المقدسة، منذ العنصرة، تحيا بموجب هذه النار (الروح القدس)، وهي إياها النار التي اضطرمت في صدر تلميذي عمّاوس حين كانا يستمعان إلى كلام الرب القائم من بين الأموات (لوقا 24: 33)، هي نار التجليات التي تأتي بها عطيّة الروح وتمدّها بين البشر. وذلك أن الذين قبلوا الروح القدس، في حياتهم، وأُحرقت خطاياهم بناره وتجدّدوا بمواهبه، لا يترك الله مسافة بينه وبينهم، أي إنه يتم قصده فيهم وبواسطتهم، وقصده (رغبته) أن تلتهب “الأرض” بالقداسة. وتزيدنا قناعة، في اختيار هذا المعنى للعبارة (جئت لألقي نارا على الأرض)، ليتورجيا عيد العنصرة التي تربط بين الروح والنار، فتصف الروح القدس بأنه “نار من نار بارزة…نار مقسومة لتوزيع المواهب” (إينوس صلاة السَحَر).
إن يسوع جاء ليهبنا روحه القدوس، إنه المعزّي الذي يخزي “العالم على الخطيئة والبر والدينونة” (يوحنا 16: 8 – 11)، ويلهب أحباءه بناره المقدسة.
اترك تعليقاً