جبرائيل دلال
***
نشر قسطاكي بك حمصي سنة ١٩٠٣ ترجمة هذا الصحافي الجليل في كتيب عنوانه «السحر الحلال في شعر الدلَّال» فاقتطفنا منها ما يأتي وأضفنا بعض زيادات تناسب المقام:
وُلد في ٢ نيسان ١٨٣٦ وهو سليل بيت كريم من أعرق بيوتات حلب في العز والجاه، فنشأ في بيت أبيه عبد الله دلال ومجلسه إذ ذاك منتدى الفضلاء ومثابة النبلاء يقصده أدباء الوقت وشعراؤه كفتح الله مراش ونصر الله الطرابلسي وسواهما. وفقد صاحب الترجمة أباه صغيرًا فاعتنت شقيقتُه مادلينا بتربيته وهي من فاضلات النساء، وقد نظم المعلم بطرس كرامة تاريخًا لضريح عبد الله دلال بقوله:
ولما أكمل درس مبادئ القواعد العربية أرسلته أخته إلى مدرسة عين طورا بجبل لبنان فلم يلبث فيها إلا ستة شهور، ثم عاد إلى حلب وكأنه قد درس الفرنسية والإيطالية سنين طوالًا، وذلك لما أوتيه من توقد الذهن وملكة الحفظ، فأقام فيها يطالع العلوم بنفسه ويدرس أصول اللسان التركي، ومال إلى اقتناء الكتب فلم يقع كتابٌ نفيس في يده إلا اشتراه فأصاب حظًّا وافرًا من علوم العرب، وكان يحفظ جلَّ ما كان يقرؤه فكان يتذكر في الخمسين من عمره ما كان قرأه مرةً واحدة قبل ذلك بثلاثين سنة، وكان يحفظ ديوان المتنبي وأكثر شعر الصفي ومقامات الحريري وكثيرًا من مقدمة ابن خلدون والمعلقات السبع وطائفة من أشعار العرب وقسمًا كبيرًا من القرآن، وكانت له مشاركة في أكثر العلوم ودرس فن الرسم فأصاب شيئًا منه، وكان شديد الولوع بالغناء عارفًا بفن الموسيقى متمكنًا من علمي الجغرافية والتاريخ، وله رسالة في التاريخ العام غير كاملة، وكان يحرز حصةً حسنة من العلوم الرياضية والفلسفة والطب، وكان يتتبع العلوم والفنون العصرية والاكتشافات والاختراعات، فكان صدره أشبه بخزانة علوم وفنون فلا يُسأل عن علم أو اختراع أو مسألةٍ فلكية أو سياسية إلا ويجيب أحسن جواب، بل كثيرًا ما كان يأخذ في الشرح والتعليل كأنه من أئمة ذلك الفن فيجيد غاية الإجادة.
وكان طيب الحديث لسنًا فصيحًا وشاعرًا متفننًا من الطراز الأول، سريع التصور لطيف الشمائل خفيف الروح صحيح الانتقاد يميل إلى المزاح أحيانًا، وكان الغالب على طباعه سلامة السريرة وكثرة الوفاء وحرية الفكر. لما كان في نحو العشرين من عمره مات له عم في القسطنطينية بلا عقب وترك ثروةً كبيرة، فسافر إليها ليحصل على حصته من التركة المذكورة ثم عاد إلى وطنه بعد خمسة شهور، وعلى أثر رجوعه بمدةٍ قصيرة تزوج فتاةً من أجمل بنات الشهباء بل بنات الشرق جامعةً بين الذكاء والصيانة، وفي سنة ١٨٦٨ عاد إلى القسطنطينية فلبث فيها إلى السنة التالية، وفي تلك الأثناء نظم من القصائد والمقطعات شيئًا كثيرًا كقوله من قصيدة يمدح بها جودت باشا:
ثم استصحب قرينته معه إلى أوربة وزارا أكثر مدنها الشهيرة، وبعد مدةٍ قصد صاحب الترجمة بلاد البرتغال لقضاء حاجة كانت في نفس أحد أصحابه من الأشراف كان توسل إليه في التماسها من ملك البرتغال، فلما تشرف بمقابلة الملك أجاب الملك سؤله وبلَّغه مأموله وربح جبرائيل من ذلك مالًا جزيلًا، ومرَّ في طريقه بإسبانيا وأحب أن يتفقد آثار العرب في الأندلس وما كان لهم هناك من ضخامة الملك واتساع الحضارة، ثم عاد إلى مرسيليا حيث أصيبت قرينته بمرضٍ عضال فماتت مأسوفًا على شبابها، فرثاها رثاءً مؤثرًا بقوله:
ولما لم يطق الإقامة في المدينة المذكورة بعد هذا المصاب سار إلى باريس ومنها إلى بلاد الجزائر ومنها إلى بلجيكا، ثم رجع فاستقر في باريس وهناك انتدبه سنة ١٨٧٧ وزير المعارف لتحرير جريدة «الصدى» العربية التي كانت تصدر فيها بأمر الحكومة الفرنسية، وكان يترجم بين سفراء الحكومات العربية الذين كانوا يقصدون باريس كوزراء مراكش وتونس وزنجبار وبين وزراء فرنسا وغيرهم من أشراف العاصمة. وبين أولئك الوزراء نذكر خير الدين باشا وزير باي تونس فإنه اتخذ صاحب الترجمة نديمًا له وجعله أمين سره وكلفه ترجمة رسالاتٍ عديدةٍ سياسية من اللسان العربي إلى الفرنسي وتهذيب بعض الرسائل التي كان يكتبها الوزير بالعربية، وقد توثقت عرى المودة بينهما فلم يكن يستغني عنه يومًا حتى إنه استصحبه معه إلى حمامات فيشي حيثما كان يذهب في صيف كل عام أكثر رجال السياسة من سائر الممالك للمذاكرة في المهمات متسترين ببراقع الاستحمام. ومن غرر أشعاره الموشح الذي مدح به خير الدين باشا ومطلعه:
ولما انتدب خير الدين باشا سنة ١٨٧٩ لمنصب الصدارة العظمى كتب إلى جبرائيل يستدعيه إلى القسطنطينية، فلبَّى هذا الأمر الصدر الأعظم وكان يأكل على مائدته ويملي على سمعه درر مفاكهته، وكلفه الصدر المشار إليه إنشاء جريدة «السلام» وكان خير الدين باشا ينشر بها آراءه السياسية وأفكاره في طرق إصلاح السلطنة، ثم ألغيت الجريدة وكان صاحب الترجمة قد نال شهرةً بعيدة لدى أعاظم رجال الدولة العثمانية.
وبعد استقالة خير الدين باشا من منصب الصدارة وردت الرسائل على الدلال من رئيس المكتب الملكي في فينا عاصمة النمسا يطلب بها إليه أن يكون أستاذًا أول في المكتب المذكور، فرحل إليها سنة ١٨٨٢ حيثما لبث سنتين، وألَّف لتلامذته رسالةً في الهمزة وأحكامها، ورسالة ثانية في قواعد اللغة العربية تقرب منالها على الطالبين من الفرنج. وكان يراسل في أسفاره أهم جرائد ذلك العصر كصحيفة «الجوائب» في الآستانة و«الجنان» في بيروت و«الأهرام» في الإسكندرية و«مرآة الأحوال» في لندن، وفي تلك الأثناء اقترح عليه السيد موسى المفضل وزير مراكش أن يمدح سلطانها مولاي حسن فنظم قصيدة من غرر القصائد حازت حسن القبول، ولما وافى باريس ناصر الدين شاه إيران طلب سفيره حينذاك يعقوب خان إلى جبرائيل دلال أن يمدح جلالته، فنظم قصيدةً شائقة مطلعها:
وفي صيف سنة ١٨٨٤ عاد إلى حلب بعد أن طال رحيله عنها نحو سبعة عشر عامًا وقد طبقت شهرته الآفاق، واشرأبت لرؤيته الأعناق، فأقام في منزله مجلسًا للآداب، جمع فيه شتيت ذوي الألباب، لم تر مثله الشهباء منذ قديم الزمان، غير أن بعض الحساد افتروا عليه قولًا زورًا وفعلًا يعلو هذا الصحافي عنه علوًّا كبيرًا، فعكروا صفاء أيامه وسئمت نفسه الإقامة في وطنه مع شدة تعلقه به؛ فرحل عنه ولسان حالة ينشد مع الشاعر:
وأمَّ مدينة بيروت فلقي من حفاوة علمائها به ما أنساه شيئًا من الأكدار التي صادفها في آخر أيام إقامته بحلب، ثم قصد القسطنطينية وحلَّ ضيفًا على صديقه منيف باشا وزير المعارف الذي أعاده إلى الشهباء وعيَّنه بوظيفة أمين خزانة مجلس المعارف في مركز ولايتها، وأضاف إليه منصب أستاذ أول للغة الفرنسية في المكتب الإعدادي في المدينة المذكورة، وقال له حينئذٍ هذا الوزير: «إن هذا دون ما يليق بفضلك ووجاهتك ولكن قدر الله فستنال بعده ما يشرح صدور أهل الفضل.»
فقام الدلال بخدمة ذلك المنصب بكل أمانة إلى أن اتهم بتأليف وطبع قصيدة «العرش والهيكل» المشهورة التي لم ترق في عيون الحكام المستبدين في العهد الحميدي، فعُزل من منصبه وأُلقي في السجن مدة سنتَين حتى فاجأته المنية في صبح الرابع والعشرين من كانون الأول ١٨٩٩ عن ستة وخمسين عامًا قضاها في الأسفار وخدمة العلم، فتقاطر آله وأصحابه ونقلوه إلى منزله ثم دفن بين ذرف العبرات وتردد الحسرات، وقد نظم قسطاكي بك حمصي هذه الأبيات لتُنقش على ضريحه:
اترك تعليقاً