جديدة
كتب الآثاري المخضرم والمتقن لكل اللغات الميتة اضافة الى اليونانية الصديق الاستاذ المهندس ملاتيوس جغنون
“كَثيــراً ما كانَتْ تُثير فضولي معاني وأصول أسماء المدن والمواضع والبلدات السورية وكنتُ أبحثُ عن هذه المعاني بالوسائط المتوفِّرة: الميماس، دمشق، الشام، شآم، اللاذقية، جبلة، القرداحة، تَدْمُر، تعنيتا، طرطوس وغيرها الكثيــــــر… ومن بينِها “جديدة يابوس” في منطقة قدسَيّا بريف دمشق الغربي. فماذا عَنْ هذه الأخيرة إن كانت تثيرُ فضولُكُم أنتم أحِبَّتي؟!
يابوسْ، أو يَبوسْ تُعِيدُنا إلى الإصحاحِ الأول(الآية 21) من سِفْرِ القضاة في العهد القديم حيث وَرَدَ ما يلي: ” (الآية 21) وَبَنُو بَنْيَامِينَ لَمْ يَطْرُدُوا الْيَبُوسِيِّينَ سُكَّانَ أُورُشَلِيمَ، فَسَكَنَ الْيَبُوسِيُّونَ مَعَ بَنِي بَنْيَامِينَ فِي أُورُشَلِيمَ إِلَى هذَا الْيَوْمِ”.
إذاً، فاليبوسيّون كانوا سكّان أورشليم (القدسْ) قبل قدوم سبط بنيامين إليها. أي، وبمعنى آخر، كان اسم أورشليم هو يَبوسْ قبل أن يؤول اسمُها إلى أورشليم. وهذا أقدَم ذِكرٍ وَصَلَنا عن يابوس أو يبوس. وكان سُكّانها يُدْعَون باليبوسيين نِسْبَةً إليها.
نعودُ إلى السؤال: ” وماذا تعني كلمة يبوس وماهي دلالتها؟”.
تَوَصَّلتُ، وبشكلٍ مُؤَكَّدٍ وقاطع إلى معناها عن طريق لوحةٍ فسيفسائية سبق لي وأن اهتديتُ إليها، بمحض المصادفة، وهذه اللوحة لَـيْسَـــتْ من شرقنا الحبيب، بل من إيطاليا ؟؟!!، وتحديداً من مدينة ﭘـاليسترينا Palestrina الواقعة إلى الشرق من مدينة روما العاصمة في وسط شبه الجزيرة الإيطالية. وهي، أي الفسيفساء عبارة عن لوحة أرضية مقاساتها 5.85 م طولاً و 4.31 م عرضاً وتعود إلى الدور الهيلينستي المتأخر. واللوحة تُصَوِّرُ بأيدي فنان فسيفساء إيطالي نهر النيل تخيلياً مرفقاً بمحطات ومشاهد على ضفافه من منابعه في الحبشة مروراً بالأراضي المصرية وانتهاءً بمصبه في المتوسط. واللوحة تعكس مدى أهمية مصر في ثقافة الغرب الغابرة ومكانتها وانبهاره الأكيد بها وتفصح عن مشاهد غاية في الروعة والإثارة لجهة توثيق المشهد النيلي في القرن الأول قبل الميلاد.
ففي هذه اللوحة، وَقَعْتُ على تصوير لحيوان هو من فصيلة الجمال يدنوه تعريف به باليونانية ΥΑΒΟΥΣ = يابوس ؟؟؟!!!!!… ( في الشطر العلوي من اللوحة) وهنا “حَطَّنا الجَمّـــــال” كما يقولون. واللافت في طريقة تصوير الفنان الفسيفسائي الذي قام بتنفيذ اللوحة هو عدم إتقانه للشكل الذي كان ينبغي أن يكون عليه الجمل ذو الحدبتين Dromedary ومَرَدُّ إخفاقِهِ في التصوير الدقيق للجمل هو، بدون أدنى شك، يعود إلى أنه لم يسبق له وأن عاين الجمل أو أبْصَرَه حقيقةً (لأنه حيوان غير معروف بالنسبة لسكان القارة الأوروبية عموماً) ولم يسبق له وان رأى تصويراً له على لوحات أو رسوم سَبَقَتْهُ أو عاصَرَتْه، فخرج الجمل هكذا (مُشَوَّهاً) بدون سنام أو سنامين لأن الفنان عّجِزَ عن تخيّل ذلك أو حتى قبوله إن كان قد عَرِفَهُ من خلال الأحاديث أو الكتابات أو الوثائق غير التصويرية؟؟؟!!!!…
أما عن صفة “اليبوسيين” التي عُرِفَ بها سكان مدينة القدس منذ أقدم العصور، فهي لا تعني إلا “الجَمّــــالَة” أو الذين يمتهنون تربية الجِمال والاتجار باستخدامها في عملية نقل البضائع والسلع التي كانت تتم عن طريق قوافل الجِمال كما نَـعْـلَمُ جميعاً.
مع أجمل تحياتي وأمنياتي لكم بالمزيد والمزيد من المعرفة. أرفِقُ ثلاثة صور إحداها للوحة فسيفساء Palestrina كاملة، والثانية للموضع الذي توجد فيه صورة اليَبوس والثالثة صورة تفصيلية عالية الدقّة لليابوس أو اليَبوس.
إذاً، لَم تكن جديدة يابوس إلّا محطة لقوافل الجمال التي كانت تأتي محملة بالبضائع من القدس القديمة باتجاه بلاد الشام.
اترك تعليقاً