جريمة مقتل زعيم العلمانيين السوريين الدكتور عبد الرحمن الشهبندر
في مطلع العام 1940، دخل شاب متديّن من حيّ باب سريجة، يُدعى أحمد عصاصة، على الشيخ مكي الكتاني، رئيس جمعية العلماء، وسأله: “ما جزاء الخائن في الإسلام؟”. أجابه الشيخ الكتاني دون تردد، ودون الدخول بالتفاصيل: “القتل”. اتُخذت هذه الفتوي يومها كغطاء شرعي لتصفية الدكتور عبد الرحمن الشهبندر، أحد قادة الحركة الوطنية في سورية، بعد تزايد الكلام عن توجهاته العلمانية، من تهجّمه على الحجاب إلى مطالباته المتكررة بفصل الدين عن السياسة.
ما لا يذكره الكثير من المؤرخين أن ما نُسب للشهبندر لم يصدر عنه رسمياً، لا في خطاب معلن ولا في مقال منشور، وكانت كل هذا الأقاويل مجرد تهم ألصقت به وتناقلها العوام في مقاهي دمشق ومجالسهم الخاصة، دون أي دليل.
عندما عاد الشهبندر إلى دمشق، بعد دراسته الطب في الجامعة الأميركية في بيروت، كان مُدافعاً شرساً عن الإسلام، وقد قام بترجمة كتاب “روح الإسلام” للكاتب الهندي أمير علي، من اللغة الإنكليزية إلى العربية، وانفرد بفصل كامل عن حقوق المرأة في الإسلام، نُشر في جريدة المقتبس الدمشقية سنة 1907. قال فيه الشهبندر نقلاً عن الكاتب الهندي، إن الإسلام أنصف المرأة، ولم يظلمها بالميراث أو بالحقوق والواجبات.
بعد خروج العثمانيين من سورية، طرأ تغيير على فكر الشهبندر، الذي صار يقول في مجالسه الخاصة إن الدين الإسلامي لا يتماشى مع متطلبات العصر الحديث، وتحديداً في حال تعارضه مع العلم، ولكنه تحالف مع علماء دمشق عند تأسيسه لحزب الشعب عام 1925، قبل أسابيع من اندلاع الثورة السورية الكبرى، وعندما دعى أنصاره لحمل السلاح ضد الفرنسيين، كان نداؤه: “باسم الله والوطن”.
التأثر بالجامعة وداروين
كان للجامعة الأميركية دور محوري في تبني الشهبندر للأفكار العلمانية. خلال سنوات دراسته، كان عدد الطلاب المسيحيين في الجامعة يفوق 85%، وكان لهم تأثير بالغ على الطالب الدمشقي المتفوّق، الذي خرج من حي القيمرية بدمشق للالتحاق بهذه الجامعة التبشيرية، وهو قرار غير مألوف بالنسبة لشاب من الطبقة الوسطى.
كانت الجامعة الأميركية، المعروفة في حينها بالكلية السورية البروتستانتية، ما زالت تعيش إرهاصات حادثة حصلت قبل سنوات، عندما استشهد البروفيسور الأميركي أدوين لويس، أحد أساتذة مادة الكيمياء، بالعالم البريطاني تشارلز داروين، صاحب نظرية التطور البشري من سلف مشترك، والتي رفضها جامع الأزهر كما رفضها الفاتيكان، لأنها تتنافى مع رواية الخلق في كلا الديانتين، ولا تترك أي دور للخالق.
كان للجامعة الأميركية دور محوري في تبني الشهبندر للأفكار العلمانية
كان أحد أستاذة الجامعة قد تواصل مع داروين، بعد قيامه بتجارب مخبرية على الكلاب في دمشق وبيروت، لإثبات النظرية، ما زاد من هيجان المؤسسة الدينية داخل الجامعة، تحديداً بعد موافقة داروين على نشر الدراسة القادمة من سورية.
ولكن تحت ضغط من مؤسس الجامعة، القس دانيال بلس، استقال البروفيسور الأميركي من منصبه، وحصلت موجة من الاعتراضات داخل الحرم الجامعي، من الطلاب وأعضاء الهيئة التدريسية، دعماً للأستاذ المستقيل، أدت إلى طردهم جميعاً. لم يدافع الشهبندر عن البروفيسور الأميركي علناً، بالرغم من إعجابه بجرأته وطرحه، ولكنه كتب كلاماً منصفاً بحق المفكر المسيحي شبلي شميل، خريج الجامعة ذاتها، الذي دافع بدوره عن نظرية داروين في جريدة المقتطف، ووضع مؤلفاً كاملاً عنه بعنوان “فلسفة النشوء والارتقاء”.
لرفع تهمة “العلمانية” عن زعيمهم، التي كانت تعتبر رديفاً للإلحاد في المجتمع السوري، قام الشهبندريون بتوزيع بيان بعد جريمة القتل بأيام، قالوا إن الشهبندر قد أعدّه بنفسه، جاء فيه: “من يوجه نفسه إلى الله ويصلي بقلب ملؤه الإيمان لا يجوز له أن يقنط، فالعقيدة لا تكون عقيدة إلا إذا كانت مخلصة لله”.
تنفيذ الجريمة
عقد أحمد عصاصة عدة اجتماعات في الجامع الأموي مع رفاقه السلفيين والحاقدين على الشهبندر، كونه “ملحداً” بحسب تعبيرهم، و”جاسوساً” للإنكليز. تحدثوا مليّاً عن ارتباطاته بالحكومة البريطانية، واجتماعاته في لندن برئيس الوكالة الصهيونية العالمية، حاييم وايزمان، الذي كان يلتقي الزعماء العرب بحثاً عن تعاون مشترك لإقامة دولة يهودية في فلسطين. كان أحد أستاذة الجامعة الأميركية قد تواصل مع داروين، بعد قيامه بتجارب مخبرية على الكلاب في دمشق وبيروت، لإثبات النظرية، ما زاد من هيجان المؤسسة الدينية داخل الجامعة، تحديداً بعد موافقة داروين على نشر الدراسة القادمة من سورية
لم يكن الشهبندر وحده من اجتمع بالصهاينة، بل شملت اللقاءات الصف الأول من الحركة الوطنية، مثل فخري البارودي ولطفي الحفار الذي التقى بالصهاينة في دمشق، وجميل مردم بك الذي اجتمع معهم في باريس. لم يتنازل أحد منهم عن حقوق العرب في فلسطين، ولكن هذا الأمر لم يهمّ المجتمعين في الجامع الأموي يومها، المصممين على تصفية الشهبندر، جسدياً وسياسياً.
إضافة لأحمد عصاصة، وهو من أصحاب السوابق، ضمّت المجموعة صديقه القديم أحمد الطرابيشي، من أبناء حيّ باب سريجة أيضاً، وصالح معتوق، وهو طالب متديّن مقيم في منطقة المهاجرين، عمره واحد وعشرون سنة، وكان معهم كلّ من سعيد الهندي، وهو بائع خضار من حيّ الشاغور، وسامي الحفّار، وهو حفّار قبور، وعزت الشماع، العامل الأمي البسيط القادم من منطقة العقيبة، وأخيراً اشترك في الجريمة محمد خيرو الحافي، وهو خيّاط من حيّ الميدان، وخليل غندور، حارس ليلي من أصحاب السوابق الجنائية، والذي كان أكبر المتآمرين سناً، في الثانية والأربعين من عمره.
أما بقية المجرمين، فجميعهم كانوا من العائلات الدمشقية المعروفة، وجميعهم كانوا شباباً متدينين، تتراوح أعمارهم بين العشرين والخامسة والعشرين. دخل ثلاثة منهم على الشهبندر في عيادته الكائنة في منطقة الشعلان، مقابل مدرسة الفرنسيسكان، يوم 6 تموز 1940. أحدهم لبس بدلة إفرنجية، وتنكر البقية بزي أهالي الغوطة، وكانوا يحملون بيدهم سلّة تفاح، هدية للشهبندر.
بعد تسجيل اسم وهمي في دفتر المراجعات، هو “حيدر رمضان”، أخرج عصاصة مسدساً مخفياً في جعبته، وأطلق النار على الشهبندر من مسافة متر واحد، اخترقت الرصاصة حلمة أذنه اليمنى وخرجت من صدعه الأيسر، فسقط قتيلاً على الفور.
فرّ الثلاثة وهم يشهرون مسدساتهم في وجه الممرض المذعور والناطور المرابط على مدخل البناء، واستقلوا سيارة “تاكسي” كانوا قد استأجروها من سوق التبن، وأمروا سائقها بنقلهم بسرعة إلى قرية كفرسوسة القريبة من دمشق، مروراً بالتكية المولوية ثم بمحطة البرامكة، وصولاً إلى الفحّامة، حيث توقف الطريق المعبّد، فترجّلوا من السيارة وأكملوا سيرهم على الأقدام.
في نفس اليوم، تشكّلت لجنة عليا للتحقيق بالجريمة، برئاسة المدعي العام، عبد الرؤوف سلطان، وعضوية المستنطق الأول فلاديمير السبع، ومدير العدلية خليل رفعت. بدأ البحث الفوري عن الجناة، وبعد تسعة أيام عُثر على أحمد عصاصة متوارياً في بساتين الميدان، حيث قال للأهالي إنه يدعى “محمد كلاس” من الشاغور. أُلقي القبض عليه بواسطة أحد سكان الميدان الذي تمت مكافأته بخمسة آلاف ليرة سورية، قدمها صديق الشهبندر، الصناعي عثمان الشرباتي.
كانت جريمة مقتل الشهبندر حدثاً مفصلياً في تاريخ سورية المعاصر، تعامل معها الجميع على أنها جريمة سياسية، متجاهلين أن في طيّاتها بداية صعود التيار السلفي المُسلّح في البلاد، فهي المرة الأولى في العصر الحديث التي يُقتل فيها زعيم سوري بسبب أفكاره
أرادت حكومة الانتداب الفرنسي الصاق الجريمة بخصوم الشهبندر في الكتلة الوطنية، فذهب أحد رجالات الاستخبارات الفرنسية، جوزيف جميّل، إلى نزيه مؤيد العظم، صهر الشهبندر، وقال له: “اقتلوا بالمقابل واحداً من الكتلة الوطنية!”. كانت الخصومة بين رجال الكتلة والشهبندر لا تخفى على أحد، منذ أن عاد إلى سورية من المنفى، وحارب بشدة اتفاقية 1936 التي أوصلت زعيم الكتلة، جميل مردم بك، لسدّة الحكم.
جاء في محضر التحقيق أن المجرمين اجتمعوا سراً داخل الجامع الأموي مع مدير مكتب مردم بك، المحامي الشاب عاصم النائلي، الذي حرّضهم ضد الشهبندر ووصفه بالعميل للإنكليز وبأنه “عدو الله وعدو الوطن”.
قال أحمد عصاصة إن عاصم النائلي عرض عليهم مبلغ 400 ليرة عثمانية ذهب لتصفية الشهبندر، مقدمة من جميل مردم بك ورفاقه، لطفي الحفار وسعد الله الجابري. قيل إن اجتماعاتهم بالنائلي تكرّرت في المساجد، فبعد الأموي، التقى بهم في جامع الياغوشية في الشاغور، جامع النورية بسوق الخياطين وجامع دنكز في السنجقدار.
قام شكري القوتلي ورياض الصلح بتشكيل فريق من أشهر المحامين للدفاع عن رفاقهم المتهمين، ضمّ حبيب أبو شهلا وأميل لحود من لبنان، وإحسان الشريف من سورية، مقابل فريق مؤلف من عشرين محامياً لامعاً رافع عن أسرة الشهبندر، فيه منير العجلاني وزكي الخطيب، وكلاهما أعضاء سابقين في الكتلة الوطنية.
تبين لاحقاً أن المحققين الفرنسيين، وبالتعاون مع عملائهم السوريين، جاؤوا بأحمد عصاصة إلى مديرية شرطة دمشق، بعض ضربه وإهانته، وقالوا إنهم سيخففون عقوبته ويبعدون عنه حبل المشنقة، لو وجّه أصابع الاتهام إلى جميل مردم بك ورفاقه، وفعلوا ذات الشيء مع إبراهيم غندور.
وصل إلى مسامع زعماء الكتلة أن الفرنسيين ينوون إصدار مذكرات توقيف بحقهم، بواسطة مترجم المندوب السامي، اللبناني عبد الله عبسي، الذي كان يعمل لصالح الحركة الوطنية في سورية. كان ذلك متوقعاً طبعاً، بعد التحقيق معهم بتهمة التحريض ضد الشهبندر خلال تواجدهم في الحكم. فرّ سعد الله الجابري، وزير الخارجية الأسبق، من حلب إلى العراق، ولحقه جميل مردم بك ولطفي الحفار عبر طرق الصحراء، بمساعدة سائق كان يعمل في شركة النفط العراقية ويحفظ الطريق الليلي عن ظهر قلب.
خلال المحاكمة، أصر أحمد عصاصة على أقواله، حتى دخل الشيخ مكي الكتاني على القاعة، وهو صاحب الفتوى الشهيرة التي استخدمها المجرمون كذريعة شرعية لتصفية الشهبندر.
كان الكتاني رجل علم ومعرفة، وكان بعيداً كل البعد عن القتل والإجرام. عند دخوله، نهض الجناة من خلف قفص الاتهام باحترام بالغ وارتباك شديد، فتوجه إليهم قائلاً إنه عندما أفتى بالقتل، كان يتحدث بالعموم عن الخيانة، دون معرفة من المقصود بذلك، مؤكداً أنه لم يفتِ قط باغتيال الشهبندر.
هنا طُلب من أحمد عصاصة أن يعيد شهادته أمام القاضي بعد أن يقسم على القرآن الكريم، انفجر بالبكاء واعترف بأنه قتل الشهبندر دون توجيه من أحد، وبأنه لم يجتمع بحياته مع عاصم النائلي، وأضاف أنه ورفاقه كانوا ينوون تصفية جميل مردم بك بعد الشهبندر، لما سمعوا عن أفكاره التحررية وعلمانيته.
كانت جريمة مقتل الشهبندر حدثاً مفصلياً في تاريخ سورية المعاصر، تعامل معها الجميع على أنها جريمة سياسية، متجاهلين أن في طيّاتها بداية صعود التيار السلفي المُسلّح في البلاد، فهي المرة الأولى في العصر الحديث التي يُقتل فيها زعيم سوري بسبب أفكاره، أو بالأصح، لما نسب إليه من أفكار.
وكانت هي المرة الأولى أيضاً التي يتم فيها اقحام الدين بالسياسية بهذا الشكل، حيث لعبت الاستخبارات الفرنسية بغرائز الناس ونزعاتهم المتطرفة. البعض اعتبر أنها نتيجة متوقعة لتصرفات فرنسا في سورية، حيث شجّعت التطرف عن طريق العلمانية المفروضة على المجتمع، وألهبت مشاعر المحافظين بإصرارها على نمط حياة لا تشبههم، كان ضحيتها عبد الرحمن الشهبندر. وإن دلت على شيء، فهي أن الهوّة صارت كبيرة جداً بين المحافظين والتقدميين، لا يستطيع أن يردمها إلا شيخ من العقلاء.
سامي مروان مبيض/ رصيف 22
Beta feature
Beta feature
اترك تعليقاً