جوانب تاريخية في القصة الإنجيلية لقطع رأس النبي السابق والصابغ يوحنا المعمدان

وُلد يوحنا لأبوين متقدمين بالعمر ولما بلغ أشدّه توجه إلى البرّية للنسك والكرازة، مبشراً بالمجيء الوشيك للمخلص، ولذا يُدعى النبي السابق، ولكونه عمّد المسيح في مياه نهر الأردن يُدعى المعمدان بالصابغ أي المعمّد. منذ ولادته (عام 4 ق.م)، قبل أشهر من ولادة يسوع، حتى استشهاده، أيضاً قبل أشهر من موت وقيامة المخلص (عام 30 م)، ارتبطت حياته وكرازته بالرب. هذا واضح بجلاء، خاصة في إنجيل مرقس، حيث يتم الحديث عنه في مشهدين، بالتلازم مع الحديث عن ابن الله.

الأول في بداية الإنجيل، حين يصف هيئة آخر أنبياء العهد القديم وتعميده لجموع الناس مع كرازته بالتوبة، واعتماد يسوع منه ثم بدء بشارته حين أسلم يوحنا للسجن: “كَانَ يُوحَنَّا يَلْبَسُ وَبَرَ الإِبِلِ، وَمِنْطَقَةً مِنْ جِلْدٍ عَلَى حَقْوَيْهِ… وَكَانَ يَكْرِزُ قَائِلاً: «يَأْتِي بَعْدِي مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنِّي، الَّذِي لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَنْحَنِيَ وَأَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ. أَنَا عَمَّدْتُكُمْ بِالْمَاءِ، وَأَمَّا هُوَ فَسَيُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ». وَفِي تِلْكَ الأَيَّامِ جَاءَ يَسُوعُ مِنْ نَاصِرَةِ الْجَلِيلِ وَاعْتَمَدَ مِنْ يُوحَنَّا فِي الأُرْدُنِّ. وَبَعْدَمَا أُسْلِمَ يُوحَنَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى الْجَلِيلِ يَكْرِزُ بِبِشَارَةِ مَلَكُوتِ اللهِ” (مر 1: 5-9، 14) .

والثاني عندما انتشرت شهرة يسوع وبلغت للحاكم نفسه: “فَسَمِعَ هِيرُودُسُ الْمَلِكُ، لأَنَّ اسْمَهُ صَارَ مَشْهُورًا. وَقَالَ: «هذَا هُوَ يُوحَنَّا الَّذِي قَطَعْتُ أَنَا رَأْسَهُ. إِنَّهُ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ!»… أَنَّ هِيرُودُسَ نَفْسَهُ كَانَ قَدْ أَرْسَلَ وَأَمْسَكَ يُوحَنَّا وَأَوْثَقَهُ فِي السِّجْنِ مِنْ أَجْلِ هِيرُودِيَّا امْرَأَةِ فِيلُبُّسَ أَخِيهِ، إِذْ كَانَ قَدْ تَزَوَّجَ بِهَا. فَحَنِقَتْ هِيرُودِيَّا عَلَيْهِ، وَأَرَادَتْ أَنْ تَقْتُلَهُ وَلَمْ تَقْدِرْ، لأَنَّ هِيرُودُسَ كَانَ يَهَابُ يُوحَنَّا” (مر 6: 14-20).

من اللافت أن كلاهما قد عاشا ثلاثة وثلاثين عاماً. فبعد ثلاث سنوات من الكرازة قضى منها سنتين في سجن ماخيريا، نال يوحنا إكليل الشهادة، وخلال أشهر تمّ صلب يسوع. وأن كلاهما قد اختارا البدء بكرازتهما ليس من أورشليم بل من مناطق خاضعة لسيطرة حاكم الجليل وبيريا، هيرودس أنتيباس، المسؤول عن موت كليهما. فمن هو هذا الملك وماذا كان مصيره؟

بعد موت والده هيرودس الكبير (عام 4 ق. م)، تمّ اقتسام المملكة إلى أربعة أقسام، فدُعي حاكم كل منها رئيس الربع. وهم سالومي أخته، وأبناؤه الثلاثة: أرخيلاوس، وفيلبس، وهيرودس أنتيباس. تسلّم هذا الأخير ولاية الجليل شمالاً مع بيريا جنوباً، فبنى مدينة طبرية كعاصمة له، بما فيها من مسرح وألعاب وسواها من مميزات لسكانها الأمميين ذوي الثقافة اليونانية، في حين أسس فيها مجمعاً وأكره الكثير من اليهود على السكن فيها، وارثاً عن أبيه الظلم وجلّ عيوب حكمه ونقائص شخصيته.

كان فيلبس أفضلهم وأعدلهم، فنال حظوة في عيون رعيته، ولكنه ابتلي بزوجة لعوب، اجتذبت إليها قلب أخيه هيرودس، فقرر هذا تطليق زوجته ليتزوجها بعد حصولها على الطلاق. وكان هذا مخالفاً للشريعة، تصدّى له بحزم يوحنا المعمدان، موبّخاً ومنتقداً إياه، ما دفع بهيرودس إلى إلقائه في السجن بمنطقة ماخيريا، غير راغب في أذيته خشية قيام ثورة ضد حكمه، لأن يوحنا كان مكرّماً من جميع الشعب بمثابة نبي عظيم. لكن بعد سنتين، أرسل السيّاف ليقطع عنقه ويأتي برأسه على طبق كهدية لسالومي ابنة هيروديا، وبعد شهور قليلة قام بمحاكمة يسوع، رغم براءته من كل التهم الزائفة، بل وازدرى بالرب وجعل جنوده يسخرون، وهو ما يتناوله إنجيل مرقس مطولاً (الأصحاحات 14-15).

لكن المصائب لم تنفك تحلّ فوق رأس هيرودس، الذي وضع نهاية لحياة كل من يوحنا ويسوع، بسبب هيروديا، التي ستكون علّة لإنهاء حياته السياسية وسقوط حكمه ونفيه المأسوي.

إلى الخلافات السابقة مع الحارث ملك الأنباط، حول الأراضي الواقعة على حدود بيريا والبتراء، كان طلاقه لزوجته فاسايليس، وهي ابنة الملك الحارث، سبباً لحربٍ كبرى بينهما، ثبتت أنها كارثية بالنسبة لأنتيباس. لم يتمكن هيرودس أنتيباس من الفرار والنجاة إلا بمساعدة القوات الرومانية، ثم أمر الامبراطور طيباريوس بشن هجوم روماني مضاد، لكن تم التخلي عنه بعد موت الإمبراطور عام 37 م. كانت هيروديا قد حرضته على طلب مكافأة من الامبراطور نظير ما فعل مع أخيها أغريبا الأول. لكن أغريبا، وهو ابن أخيه، اتهم هيرودس بالتآمر ضد الإمبراطور الروماني الجديد كاليجولا، فأرسله هذا إلى المنفى في بلاد الغال (حيث كان قد نُفي بيلاطس البنطي عام 36 م ومات منتحراً). وهناك مات هيرودس وهيروديا في تاريخ غير معروف.