حبيبي جاء بي إلى منزله
ألقاني على فراشٍ تفوحُ منه رائحةُ العسل
وعندما استلقى لصيق القرب مني
مرّة إثر مرّة، ودون أن أنبسَ ببنت شفة
تحرّكتُ نحوه
ارتجفتُ تحته، وبقيتُ أندفع تحته بصمت
“قصائد من إنانا إلى دموزي”
يسبق الفن الإيروتيكي الذي وجدت آثاره حيث قامت حضارة ما بين النهرين، الكاماسوترا الهندية بما يقارب 1500 سنة، فيعرض لأوضاع جنسية متنوعة، بين رجل وامرأة، أو امرأة تعتلي مجسماً يشبه العضو الذكري. واستدلّ به على شكل من أشكال الحرية الجنسية للنساء والرجال، عزّزه ما عرف من ممارسات طقوس دينية جماعية، يتخللها الجنس، احتفالاً بالآلهة عشتار، إلهة الخصب والجمال عند تلك الحضارات، الإلهة التي لا تكل رغبتها الجنسية.
لكن ماذا لو كانت تلك النقوش والمجسمات هي محض تصورات خيالية تقع في إطار فانتازيا الأساطير التي اعتقد بها سكان تلك البقعة من العالم؟ ألا يمكن أن تكون المجتمعات الآشورية والبابلية والأكادية تمثل مجتمعات شرقية محافظة تقيّد الحرية الجنسية؟ وكيف انتشرت الدعارة المأجورة لدى تلك الحضارات؟
يعالج هذه الطروحات المؤرّخ جيرولد كوبر في محاضرة ألقاها في معهد الدراسات الشرقية في جامعة شيكاغو، والتي بنى عليها دراسته التي نشرت عام 2016 تحت عنوان: “الجنس كعمل: الدور الاجتماعي والاقتصادي للمومسات في بلاد الرافدين قديماً،” والمؤرّخة جيردا ليمر في بحثها: “أصول الدعارة في بلاد ما بين النهرين”.
الجنس المقدّس في معبد الآلهة
إن النقوش التي وجدت على سقوف المعابد الأثرية في مدينة أوروك (شمال العراق حالياً) والتماثيل والمنحوتات الغنية بالصور الجنسية، تدلّ على أن بعض الطقوس الاحتفالية الجنسية كانت تؤدى في معبد الربة عشتار كأضحية لها ولكي يعم الخصب في الأرض، كمحاكاة للتزاوج الذي حصل بين إنانا (عشتار لاحقاً) وبين الإله دموزي. في إحدى القصائد المسمارية التي تذكرها مارثا روث في كتاب “مجموعة قوانين من بلاد ما بين النهرين وآسيا الصغرى”، يظهر وصف لمبادرة إنانا تجاه حبيبها وتعبير عن شوقها للاتحاد به. تزدهر الأرض بعد اجتماعهما، “يرتفع القمح حالياً على جانبيه”، وتعدّه إنانا تعبيراً عن رضاها، “سأرعى منزل حياتك”. وبما أن هذه المجتمعات اعتمدت على الزراعة في تأمين احتياجاتها، فقد اعتبر الاحتفال السنوي لإحياء هذا الاتحاد الأسطوري بمثابة مباركة الربة العظيمة للأرض والناس، وتمثل بنشاط جنسي جماعي مقدس وثنائي، يؤديه كاهن وكاهنة المعبد نيابة عن الآلهة داخل المعبد وحوله. وبقي طقس الزواج المقدس قائماً لتكريم آلهة الخصب طوال ألفي سنة، فلا ينتهي فصل الجفاف حتى يبعث الإلهان ويلتقيا في اتحادهما.
تذكر جيردا ليمر أن عهد حمورابي الممتد بين عامي (1792-1750) قبل الميلاد: “سمح للكاهنات اللواتي يمارسن هذا الطقس أن يعشن خارج الأديرة وحفظ سمعتهن”، وقد كانت كاهنات معبد الإله شماش في بابل تنتمين إلى طبقات اجتماعية رفيعة، فكن بنات لملوك وأطباء وكهنة، “وضمّ الدير التابع للمعبد قرابة مئتي كاهنة، انحدر عددهن في عهد حمورابي”. أما كاهنات الإله مردوك فلم يكن ملزمات بالمكوث في الأديرة، بل وسمح لهن بالزواج بدون إنجاب، غير أن شرعة حمورابي بحسب بالمر: “فرضت عليهن عقوبة الموت في حال شوهدن في خمارة أو عملن بها”. ولعل الإشارة إلى الخمارة هنا تعني النزل الذي يقدم الجنس المأجور، وهنا يبدأ التحري عن مثل هذه الحالات، فسنّ هكذا قانون يعني أن الدعارة كانت منتشرة في ذاك الوقت، وربما في أوساط كاهنات المعابد، فكيف بدأت الظاهرة بالانتشار وما هي أسبابها؟
بداية الدعارة في بلاد ما بين النهرين
“عندما أقعد عند مدخل الحانة، أكون أنا، عشتار، المومسة العاشقة”: من لوح بابلي.
يُشير المؤرخ جيرولد كوبر أن النساء في تلك المنطقة عملن كطبيبات ومزينات وطباخات ومدونات، أو حتى في المطاحن كما في حالة السجينات، وكمومسات أيضاً. وفي حين يؤكّد المؤرخون على أن تقديم الخدمات الجنسية المأجورة كان عملاً كأي من تلك الأعمال، إلا أن كوبر يصرّ على كونه محتقراً ومهيناً للنساء العاملات به، فما هي دوافعه لهذا الاعتقاد؟
عملت النساء في بابل كطبيبات ومزينات وطباخات ومدونات، أو حتى في المطاحن كما في حالة السجينات، وكمومسات أيضاً
يقول كوبر في بحثه: “برغم عدم اعتبار ممارسة النساء الجنس خارج إطار الزواج خطيئة بالمعنى الديني، إلا أن الدعارة كانت محتقرة، ولفظ مومس أو عاهرة كان يستخدم بقصد الإهانة”، وهو يختلف بهذا عما تقوله المؤرخة النسوية جوليا أسانتي، التي رفضت ترجمة لفظة “حاريمتو” باللغة الأكادية إلى “مومس”، واعتبرت أن الكلمة تشير إلى امرأة متحرّرة من سلطة الرجل في إشباع رغباتها الجنسية بالشكل الذي تشاء، وتستند بهذا إلى نصوص من كتاب روث تربط وجود حاريمتو بالحانات والفنادق التي عرفت بتقديم خدمات جنسية للنزلاء.
يذكر كوبر في محاضرته أن الدعارة نشأت في تلك الحضارة بشكل رئيسي بسبب تزايد الطلب على الجنس من قبل الرجال الذين كانوا يتأخرون نسبياً في الزواج، فالرجل يتزوج في منتصف عشرينياته أو في الثلاثين من فتاة في الخامسة عشر. ونظراً لأهمية العفة قبل الزواج والتأكيد على الإخلاص الزوجي لضمان شرعية الأبناء، لم تكن النساء متاحات إلا كمومسات. والمومسات بدأن بداية من المعبد بحسب ليمر، حين بدأت الكاهنات اللواتي ينحدرن من أسر فقيرة نذرتهن لخدمة المعبد، تحتفظن بعطايا الرجال لقاء الجنس لأنفسهن لإعالة عوائلهن، ثم امتهنّ الجنس خارج المعبد، وما لبثت أن انتشرت المهنة في أوساط النساء الفقيرات والأرامل بدون معيل، بغرض الكسب المادي.
الدعارة قانوناً
رغم أن تلك الحضارات لم تجرّم ممارسة الدعارة، إلا أنها وضعت قوانيناً لضبط هذا النشاط، تصل حد الحط من قدره واحتقار العاملات به.
في ظل انتشار الجنس المأجور، يشير كوبر، سُنّ قانون آشوري لحماية سمعة النساء وبنات العائلات المحترمة، فرض عليهن أن تظهرن في الأماكن العامة بأوشحة على رؤوسهن تدل على العفة، ومنع المومسات من ارتدائه تحت طائلة العقوبة القانونية. نذكر نص القانون من كتاب روث:
“كل من رأى مومساً متشحة عليه اعتقالها والإتيان بها مع شهود إلى قصر العدل، لا يجرّدها من جواهرها ولكن للرجل الذي أحضرها أن يجردها من ردائها ويجلدها بالعصي خمسين جلدة ويصب القار على رأسها”.
غير أن القانون لا يكتفي بتجريم المومسات المخالفات، بل يتوعد من يسمح لهن بالإفلات دون تسليمهن بعقاب شديد هو الجلد خمسين مرة، وثقب أذنيه وتعليقهما بحبل يعقد خلف ظهره للدلالة على جرمه، وهكذا فإن ما يبدو مخالفة بسيطة قد يعود بالوبال على من اقترفها وعلى من تغاضى عنها دون أن يبلغ.
فرضت أيضاً عقوبات للممارسات الجنسية خارج الزواج، فالرجال الذين يمارسون الجنس مع نساء متزوجات يعاقبون بالجلد، شرط أن تعاقب الزوجة بطريقة مماثلة. وفرض عقوبة يحددها الأب على الفتاة التي تمارس الجنس خارج الزواج ما لم تفرّ مع حبيبها وتطلب الصفح، وللأب حرية القرار في الحالتين. يعتقد كوبر أن هذه القوانين تدل على أن المساس بعفة النساء في تلك الحضارات كان يعني إهانة للذكر الأب أو الزوج، وبهذا نرى أن النظرة البطريركية لممارسة الجنس سادت في ذلك الوقت. وحتى وشاح العفة لم يميّز العبيد أو الخادمات عن النساء الأحرار، بل صنف النساء قانونياً بحسب نشاطهن الجنسي، ضمن أو خارج إطار الزواج.
أمثلة عن مومسات الأسطورة
في ملحمة جلجامش الشعرية، في نسختها الأكادية المبنية على قصص سومرية سابقة، فإن الآلهة خلقت نظيراً لجلجامش للسيطرة على سلوكه العنيف هو إنكيدو البري، ولترويض وحشيته يستعين الصياد بحاريمتو أو مومس من المعبد لتمارس معه الجنس، وتوقظ إنسانيته القابعة تحت برّيته: “فعالجت همجيته حين مارس معها الحب”. وهنا تشير ليمر إلى الدور المبجّل للمومس المقدسة التي اختيرت لتستخدم حكمتها في تحضر الإنسان البري، وهذا على حد تعبيرها يجعل “الفعل الجنسي حضارياً ومرضياً للآلهة”.
لاحقاً، حينما يعلم إنكيدو بمرضه القاتل، ويندم على دخوله في الحضارة يلعن المومس: “لعنتي عليك ألا تقيمي في بيت دعارة وألا تحلي في حانة النساء، فلتقيمي في الخرابات، فليصبح سور المدينة مستظلك، وليقرح قدميك شوك الأرض، وليصفعك السكارى والمشاة”، وهذه هي الصورة التقليدية لمومسات الشوارع وما يتعرضن له من التعنيف والإهانات من المارّة والمخمورين.
تخلص هذه الدراسات والنصوص إلى أن القوانين الصارمة التي وضعها سكان تلك المنطقة في ذاك الوقت، لم يكن هدفها أن تحد فقط من إقدام الرجال على ممارسة الجنس المأجور، بل أن تصور ممارسة الجنس خارج الزواج جرماً يستحق العقاب، وأن تحتقر مكانة النساء اللواتي عملن بالجنس أو مارسنه بحرية. وربما هذا ما أسس اعتقاد المؤرخين اليوم من أن وجود تصنيفات اجتماعية قائمة على النشاط الجنسي ومرتبطة بالانحطاط أو التقدير ضمن الجماعة في تلك الحضارات، تجعلها مجتمعات محافظة تتغنى بالفانتازيا الأسطورية للربة الأم، وتحظر الحرية الجنسية على النساء.
* حلا علي (من رصيف 22)
اترك تعليقاً