رحل “عاشق دمشق”حكيم مرزوقي المسرحي التونسي
الكاتب والمسرحي فارس خيري الذهبي كتب ينعى صديقه حكيم المرزوقي بالقول
“وداعا حكيم مرزوقي خسارتنا كبيرة فيك يا حبيبي. خسارة أيام المسرح والفن الحلو والشام والضحك والسخرية من هذا العالم”…
ونعته وزارة الثقافة السورية، الذي وافته المنية الجمعة عن عمر يناهز 58 عاماً. ورفاقه في المسرح التونسي…
وقضى مرزوقي- الذي يلقبه البعض بـ “عاشق دمشق”– أكثر من ثلاثة عقود في العاصمة السورية، كما أسس فرقة “مسرح الرصيف” عام 1996، وقدّم من خلالها عدداً من الأعمال المسرحية كتابةً وإخراجاً، ونال بعضها جوائز دولية، على غرار “عيشة” و”حلم ليلة عيد” و”إسماعيل هاملت” و”بساط حلبي”.
كما كتب أعمالاً تلفزيونية وسينمائية في تونس وسورية، فضلاً عن المجموعة الشعرية “الجار الثامن”، وكتابته في عدد من الصحف العربية.
وكتب المخرج السينمائي التونسي سمير الحرباوي: “آخر القلاع والحصون، مرفأ النجاة الوحيد والأخير وملاذي الآمن في هذا الهزيع الموحش يرتحل. حكيم مرزوقي الرفيق والصديق الشاعر والكاتب والمسرحي الكبير موحش هذا العالم في غيابك. كيف لي أن أنعى قطعة من روحي؟”.
وكتب الفنان التونسي إكرام عزوز: “نحن لا نملّ الدهشة أبداً. أبواب تونس بلا أقفال. كيس القمامة الأنيق. لا أحب الوسطية ولا الوسطيين (…) هذه عناوين مقالات للرائع صديقي الفيلسوف المسرحي والصحفي عاشق دمشق، حكيم مرزوقي، الذي توفي وحيداً بشقة وسط العاصمة”.
وأضاف: “حكيم مثقف عضوي متفرّد ومختلف، لم يظهر في قنوات الدعاية، ولم يبحث عن شهرة أو مكانة فيها. سمعت عنه وعن منجزاته الفنية في سورية مع السوريين، ثم التقيته فاكتشفت قامة فنية ومفكراً حقيقياً ومختلفاً، حتى جاءت الفرصة واشتركنا في لجنة تحكيم المهرجان المغاربي لمسرح الهواة لنابل، لصديقنا المشترك فوزي بن إبراهيم، مع ما فيها من معاشرة ونقاشات وتحليل أعمال مسرحية، وكنت أصغي إليه بانتباه وشغف، وأقول في نفسي: لماذا ليس لدينا الكثير من حكيم مرزوقي”.
ونعت مديرية المسارح والموسيقى السورية مرزوقي، مشيرة إلى أنه “قضى أكثر من ثلاثين عاماً في دمشق، قدّم خلالها مجموعة من الأعمال المسرحية التي نالت جوائز في مهرجانات عربية، وتمت ترجمة بعضها إلى لغات أخرى منها الفرنسية والكردية”.
وكتبت الفنانة أمل عرفة: “كان مرزوقي عاشقاً لدمشق، يليق به تشييعاً تونسياً كبيراً. عزائي لأولاده وزوجته وأصدقائه”.
ونشر الفنان أيمن رضا صورة لحكيم مرزوقي، وعلق بالقول: “الرحمة لروحك”.
وكتب الفنان قاسم ملحو: ” ترحّموا على عاشق حواري الشام. المسرحي التونسي حكيم مرزوقي. رحمة الله تتغمد روحك. رحيلك المفاجئ كقبر مفتوح في مقبرة الدحداح (في دمشق)”.
“عاشق دمشق”
ولقب مرزوقي بـ”عاشق دمشق” حيث عاش هناك أكثر من30 عامًا، بعد أن درس في المعهد العالي للفنون المسرحية في سورية، قبل أن يعود إلى بلاده عام 2012، احبها واسماها خالته وهي شقيقة امه تونس وقال صرت اخشى نتيجة حبي لدمشقي معشوقتي من غيرة زوجتي….
علاقة “عاشق دمشق” تمتد الى ما قبل أن يسافر حكيم مرزوقي لدراسة الأدب العربي في جامعتها، قضى الشاب حياته متجولاً بين باريس وجنيف وبروكسل وبغداد وبيروت، إلى أن حط رحاله في منزل صغير ابتاعه في ضاحية صحنايا (الريف الغربي لدمشق). البيت الذي سيغادره على عجل بعد اشتداد حمأة المعارك عام 2012 مع بداية الحرب السورية.
كذلك حازت مسرحية “عيشة” لمرزوقي على جائزتي مهرجان بروكسل للفنون المسرحية عام 1998، وجائزة مهرجان (ليفت) بلندن عام 1999.
ومع فرقة “مسرح الرصيف” قدم مرزوقي، أعمال مسرحية عديدة، ومنها “ذاكرة الرماد”، و”لعي”، و”الوسادة”، و”حلم ليلة عيد”، و”بساط حلبي”. ومسرحية “عيشه” التي ترجمت إلى عدة لغات، وقدمها في لندن بممثلين أوروبيين.
المسرحي والسياسي
مبدع في المسرح السوري
المرحلة التي قضاها صاحب “الجار الثامن” في العاصمة السورية كانت هي المرحلة الأغزر في حياته كتابة وإخراجاً للمسرح، فلقد أسس عام 1996 مع كل من رولا فتال ومها الصالح ورائفة أحمد فرقة “مسرح الرصيف”، وأطلق عروضها التي كتب معظمها وأخرجها. وكانت البداية مع مونودراما “إسماعيل هاملت” التي نال عنها الجائزة الذهبية في مهرجان قرطاج 1997. وفي هذا العرض الذي ترجم إلى الفرنسية وقدم على مسرح نجمة الشمال في باريس، أعاد المرزوقي بطريقته رواية أحداث النص الشكسبيري بحس شعبي ساخر عبر شخصية شاب دمشقي ينتقل من مهنته كمكيس في حمام السوق إلى مهنة تغسيل الأموات، وتحديداً إلى تغسيل جثة عمه الذي تزوج أمه بعد موت أبيه. سيرة يتلوها ممثل وحيد على الخشبة كانت بمثابة مفتاح لقريحة هذا الكاتب الذي رأى أن المسرح يجب أن يقدم في البداية للناس، وألا يكون مسرحاً للتعالي عليهم أو مصادرة ذائقتهم بمسرح سياسي أو خطاب جاف ومؤدلج.
تتالت بعدها الأعمال التي انتزعت للمرزوقي مساحة لافتة داخل الريبرتوار السوري، فقدم عدة عروض اشتبك من خلالها مع موضوعات حساسة كظاهرتي الإرهاب والتطرف، كما في عرضه “بساط أحمدي” عام 2009. وقدم حكيم عرضاً بعنوان “المنفردة” تناول فيه لأول مرة أجواء المعتقلات السياسية والعلاقة المزدوجة بين الضحية والجلاد داخل السجون العربية. حاز حكيم عن هذه التجارب أهم الجوائز في مهرجانات عربية ودولية، كان أبرزها جائزة مهرجان بروكسل للفنون المسرحية عام 1998، وجائزة مهرجان “ليفت” في لندن عام 1999.
كانت فرقة “الرصيف” بالنسبة إلى صاحب رواية “سيد الوقت” أشبه بهامش في صفحة مكتظة اسمها المدينة العربية. صفحة تزدحم فيها خطوات المسرعين إلى حتفهم. فالرصيف الذي غنى له يوماً كل من جاك بريل ولوي فيري وفرانك سينترا وفيروز كان يتكون بالنسبة إلى حكيم من أحجار صبورة، بينما يتجسد الطريق من أسفلت قاس وعديم الإحساس. ولهذا وقفت فوق ذلك الرصيف بطلة مسرحيته “عيشة” زهاء 30 عاماً بوردتها الحمراء تنتظر حبيباً لا يأتي، كما وقف أبو عرب ماسح الأحذية وبطل مسرحيته “حلم ليلة عيد” 2006، ومثلهما وقفت شخصية السيدة حكمت 2008 المرأة الدمشقية التي تجد نفسها على قارعة الرصيف بعد أن تزيل السلطات بيتها التراثي.
اتخذ المرزوقي في عروضه المسرحية رموزاً من الذين يفترشون الرصيف بيتاً وعالماً وفضاءً معرفياً كما هي الحال في مدينة باريس، حيث اصطلح الناس على تسمية الرصيفيين بـ”الكلوشار” نسبة إلى “سانت دي كلوش” الفرنسي النبيل الذي كان يجمعهم كعروة الصعاليك في تكية خاصة، ويقدم لهم وجبة من الحساء والكونياك الشعبي لمقاومة قسوة البرد وأصحاب السطوة المالية.
حقق المرزوقي عديداً من العروض التي لا تزال في ذاكرة عديد من عشاق المسرح في سورية والعالم العربي، منتصراً لكائنات الهامش لا المتن، ومصغياً لعذابات هؤلاء سواء في كتاباته المسرحية أو الشعرية. فكانت مسرحيات من قبيل “ذاكرة الرماد” 2002، و”الوسادة” 2005. هكذا نعثر في أعماله على أبطال لحكاياته الشعبية الصادمة من مثل أبو عبدو اللحام وأبو سعيد الباطونجي وشخصيتي شاذلي وشمسي في مسرحية “لعي” عام 2003، وسواها من النماذج الشعبية التي درج المرزوقي على حياكة قصصها بقالب ساخر ابتعد فيه المخرج التونسي عن الشعوذة البصرية والتلوينات الحركية الفائضة عن الحاجة.
بعد عودته إلى تونس لم يقدم حكيم أي عمل مسرحي، بل واظب على كتابة زواياه الصحافية في صحيفة “العرب” اللندنية، والتي كانت بمثابة متنفس له للتعبير عن آرائه السياسية والثقافية، من دون أن يتخلى عن كتابة الشعر، إذ دفع قبل رحيله بأسابيع بمخطوط ديوانه الشعري الجديد “وحيد مثل قبلة في الهواء” والذي سيصدر بعد موته عن دار كنعان في دمشق.
كثر من أصدقاء المرزوقي تنادوا لرثائه على حساباتهم الشخصية في موقع “فيسبوك”، فكتبت الفنانة أمل عرفة تقول “كان عاشقاً لدمشق، يليق به تشييع تونسي كبير. عزائي لأولاده وزوجته وأصدقائه. الله يرحمك يا حكيم”، فيما تناقل عديد من أصدقائه عبارته الشهيرة: “يموت الشاعر فلا يختصم الورثة” مرفقين إياها بصورهم مع الشاعر الذي قام بتأسيس ملتقى “بيت القصيد” مع الشاعر لقمان ديركي، قبل أن ينفرط عقد هذه الشراكة بسفر كل من حكيم ولقمان ومعظم رواد الملتقى الدمشقي، الذي شكل ظاهرة ثقافية استثنائية في قلب العاصمة السورية ما قبل سنوات الحرب.
اقتبس مرزوقي شخصيات مسرحه من شخصيات “الرصيف” المتعددة، وقال في إحدى مقابلاته الصحفية عام 2016، عن واقع المسرح العربي: “المسرحي العربي اليوم مهدد في مهنته، كون السياسي هو المنافس الأول له، هذا السياسي يقف اليوم فوق مسرح هائل تضخ له الأموال وتسخر له حملات الدعاية، كمسرحي أتساءل ما الذي يمكن مسرحته؟”.
ولم تكن السينما ببعيدة عن المرزوقي، الذي كتب سيناريوهات مختلفة لعدة أفلام، ومنها فيلم “المايسترو”، و”الصورة الأخيرة”، و”المراهن”، كما عرف المسرحي كشاعر حيث أصدر مجموعة شعرية عام 2009، باسم “الجار الثامن” في دمشق.
ونقلت صحيفة “السفير” اللبنانية، في المقابلة نفسها عام 2016، قوله عن المدن التي زارها: “لا تدخل مدينة من دون حقيبة ولا تضيعها فيها، لأنكَ سوف تحتاجها عند الخروج، ولا تبح بأسرارك لمدينة مسيجة لأنها سوف تسخر منك، ولا تبحث عن مدينة في مدينة فلن تجدها، لا تنسَ لكنتكَ فيها، وليعتد لسانكَ مذاق طعامها قبل لغتها”.
وفاته
لم يعرف أصدقاء حكيم مرزوقي (1966-2024) أن سهرتهم معه ليل الثلاثاء فجر الأربعاء الماضي ستكون السهرة الأخيرة، فقد رافقوه من مكان سمرهم في محلة المرسى إلى باب بيته في حي باب الخضراء في العاصمة التونسية بعد أن اطمأنوا عليه. كان الرجل الذي يعاني داء السكري يرفض أن يتناول حقن الإنسولين، بل يتندر عليها ضاحكاً، فيروي لهم طوال تلك الأمسية حوادث ونوادر كثيراً ما برع الكاتب والمسرحي التونسي في سردها، خالطاً فيها الجد بالسخرية والحقيقة بالخيال.
وبعد يومين من فقدان التواصل معه وعدم رده على هاتفه الجوال، قرر صديقاه الصحافيان علي القاسم ومحمد المولهي أن يتوجها إلى شقته. وفعلاً وصل الرجلان برفقة طليقته رويدة وابنه إبراهيم إلى المكان، وخلعوا بمساندة من عناصر الشرطة باب منزله ليشاهدوا حكيم وهو في كامل قيافته يجلس إلى حاسوبه الشخصي وقد شخصت عيناه في الشاشة أمامه، وأصابعه متيبسة على لوحة المفاتيح. لن يمضي وقت طويل ليكتشفوا بعد حضور الطبيب الشرعي إلى المكان أنه أصيب بنوبة قلبية قبل يومين من كتابته آخر ما دونه على حسابه الشخصي في “فيسبوك”. جاء المقطع لمناسبة عيد الحب، وقال المرزوقي فيه: “أحزن لرجل بهدية واحدة وعشرات الأحضان، ليت لي حضناً آخر يا امرأتي الجميلة”.
هكذا رحل الشاعر والكاتب والمسرحي التونسي في عيد الحب عن 58 سنة، ولعله كعادته كان يتأهب للخروج في صباح العاصمة التونسية لتناول فنجان قهوته مع البسطاء والباعة الجوالين، وتحديداً في أحد مقاهي الحي الشعبي الذي يقيم فيه، قريباً من منطقة الأسواق وجامع الزيتونة في تونس العاصمة. هناك فاضت روحه العاشقة فوق مسارح المدينة ومكتباتها وساحاتها التي عرفته شاباً يافعاً وتجاهلته حين عاد إليها، وهذا ما جعله طوال الوقت يعتبر نفسه “منفياً في بلاده”. مما يمكن ملاحظته من تجاهل المؤسسات الثقافية التونسية لخبر وفاته، فيما نعته “مديرية المسارح والموسيقى” في وزارة الثقافة السورية ببيان نشرته على موقعها الإلكتروني. ونعاه كل المسرحيين والممثلين السوريين بشتى اطيافهم وانتماءاتهم السياسية…
Beta feature
اترك تعليقاً