شخص يسوع في أصول التاريخ
الفصل الأول
شخص يسوع في أصول التاريخ
منذ القرن التاسع عشر، تطوّر البحث التأويليّ، بل تحوّل واغتنى بفضل الدراسات المتعاقبة لعلماء عديدين عالجوا مسألة المراجع الوثائقيّة التي تتكلّم عن يسوع. ولكن ضاعت عامّة الناس ويئست من براهين هي أقرب إلى اللغز منه إلى الوضوح. وها نحن هنا نتحدّث عن وثائق مكتوبة تساعدنا على الإحاطة قدر المستطاع، بوجه يسوع التاريخي. هذه الوثائق تتوزّع في أربعة أنماط: المراجع الرومانيّة التي يعود أقدمها إلى بداية القرن الثاني ب م. المراجع اليهوديّة التي كان فلافيوس يوسيفوس (37 – 100) أقدم ممثّل لها. المراجع المنحولة والغنوصيّة التي تعود إلى القرن 2 -6 . وأخيراً، الأناجيل القانونيّة، حيث كان إنجيل مرقس أولها، وهو يعود إلى حوالي سنة 70.
1 – التاريخ »الحقيقيّ«
قبل أن نتوقّف عند هذه المراجع الأربع، نشير إلى تيّارات عديدة شغلت بال الناس الذين أرادوا أن يلمسوا يسوع »بأيديهم«.
سنة 1972، نشرت إحدى الصحف في صفحة كاملة مع صورة كبيرة اكتشاف العصر: »هذه هي صورة المسيح على الصليب«. وأسندت تأكيدها إلى شهادة اعتبرت نفسها عمليّة، شهادة راهب بنديكتاني، اسمه بالاغرينو ارناتي(1). قال: »أجل اختُرعت، فبركت، كيّفت آلة تصوّر الماضي. وقد حصلتُ بها أخيراً على وجه يسوع الحقيقيّ ساعة صُلب على جبل الجلجلة«(2). هذه »المعلومة« صارت اليوم في عالم النسيان، غير أن عدداً من القرّاء اقتنعوا بها. ولكن إن كانت قد استحوذت انتباه القرّاء، فلأنها تتجاوب مع انتظار لدى الناس، ورغبة دفينة. وما يشهد على ذلك، الجدالات حول كفن تورينو(3).
كم رغب الناس في أن تكون لهم صورة فوتوغرافيّة عن يسوع؟ ولكنها رغبة صبيانيّة. عندئذ توجّهت بعضُ المحيطات الفكريّة إلى الاهتمام بالتاريخ »الحقيقيّ« للمسيح. واستفاد الناشرون من الوضع، فما عادوا يكتفون بعناوين موجزة مثل »يسوع« أو »يسوع الناصري« لتقديم كتب عن تاريخ يسوع، أو محاولات سيرويّة، بل أخذوا يختارون عناوين مشوّقة. مثلاً، التاريخ الحقيقيّ(4)… وكأن هناك تاريخاً غير حقيقيّ!
هذه الحقيقة أراد بعضهم أن يتأكّد منها بالوسائل الديموقراطيّة. مثلاً، إن حلقة يسوع(5) التي ينشّطها، في الولايات المتّحدة، جون دومينيك كروسان(6)، درست أقوال يسوع: هل هي منه، هل هي من الكنيسة؟ كيف نعرف ذلك؟ دُعي كل واحد لكي يضع في »صندوق الاقتراع« إحدى الطابات التي بين يديه: يضع الطابة الحمراء إن كان موافقاً على صحّة الأقوال المنسوبة إلى يسوع في الأناجيل. أي، هو الذي قالها حقاً. ويضع الطابة الورديّة إن اعتبر القول جزءاً من أسلوب يسوع العاديّ. والطابة السوداء إن اعتبر أنها ليست بصحيحة. أين هي الحقيقة؟ حيث تكون الأكثريّة. ومع أن النتيجة خامرها أكثر من شك، إلاّ أنها انتشرت انتشاراً واسعاً في الولايات المتّحدة، وفي خارجها.
وحاول آخرون أن يُثبتوا الحقيقة التاريخيّة للأناجيل، فجعلوا تاريخ تدوينها أقرب ما يكون من تاريخ الأحداث الواردة. أو هم حاولوا أن يبرهنوا أن هذه النصوص هي نسخة لما كتبه الناس حين كان يسوع يتكلّم أو يعمل عملاً من الأعمال. هذا ما يعمله الصحافيّ اليوم، وهو يقدر أن يستعين بمسجّلة. ولكن المسجّلة لم تكن موجودة في زمن يسوع! نذكر هنا على سبيل المثال كتاباً ظهر في الانكليزيّة والفرنسيّة، سنة 1996، عنوانه: شاهد يسوع(7). يكفي أن نقرأ ما على الغلاف لكي نفهم الهدف الذي توخّاه الكاتب: »البرهان المادي (الملموس، المحسوس) بأن الانجيل حسب القد يس متّى هو »شهادة عيانيّة (أي ظاهرة للعين، كتبها شاهد رأى بعينيه) دوّنها أحد معاصري يسوع«. إلى ماذا يستند هذا التأكيد اللافت للنظر؟ يستند إلى ثلاثة أجزاء صغيرة جداً من ورق البردي (الأكبر: 4،1 × 3،1 سنتم). محفوظة في اوكسفورد، في مغدالين كوليدج(8). سنة 1953، تفحّص العلماء هذه الأجزاء كما اعتادوا أن يتفحّصوا النصوص القد ماء، فوجدوا أنها تعود إلى القرن الثاني.
وانطلق أحد البحّاثة في كتابه »يسوع بحسب متّى« من هذه الأجزاء، مع أن لا عنصر جديداً، فأعلن أنها تعود إلى سنة 50. وهكذا ملأ الفجوة التي تفصل الانجيل عن يسوع، »الهوّة الشريرة بين التاريخ والإيمان«(9). ولكن تبقى عشرون سنة! هذا التأريخ الجديد عُرف في مجلّة مختصّة بدراسة البرديّات، ولكنه لم يُقنع مفسّري الكتاب المقدّس ولا علماء البرديات، لأنه غير دقيق، بل هو يرتبط بعالم الخيال وبالأفكار المسبقة. ومع ذلك، تحدّثت المجلاتُ الشعبيّة عن هذا الوضع، وهي الباحثة عن كل غريب وعجيب.
وبعد بضع سنوات، عرف كلود تراسمونتان نجاحاً كبيراً من النوع ذاته، في كتابه: يسوع العبري. لغة الأناجيل وعمرها(10). اعتبر أن يسوع تكلّم اللغة المقدّسة، اللغة العبريّة (لا اللغة الأراميّة). ودُوّنت الأناجيل في هذه اللغة. وما بين أيدينا هو ترجمة يونانيّة أمينة لنصوص عبريّة أخذها التلاميذ »عالطاير«، أي حين كان يسوع يتكلّم. وهكذا انتفت المسافة بين يسوع الذي تكلّم والانجيل الذي بين أيدينا. شاهدٌ عيان كتب حالاً. وجاء من ترجم نصّه. وتناولت الصحافة هذا »الاكتشاف«! وراح الأب جان كرمينياك(11) يبحث عن هذه الأناجيل العبريّة الأصليّة وينشرها. ولكنه نسي أنها في الواقع ترجمة عن اللاتينيّة. لا شكّ في أن الفكر الذي نجده في أساس الأناجيل فكر ساميّ، لأنه يعود إلى يسوع الذي عاش في بيئة ساميّة. ولكن النصّ الأصليّ هو في اليونانيّة. وقد دُوّن أول انجيل حوالي سنة 70 وآخر انجيل حول سنة 95. لا شكّ في أن المسافة بعيدة بين يسوع والأناجيل، وهذا ما جعل البعض يعتبرون الأناجيل محرّفة لأن يسوع لم يكتبها بيده، كما لم يكتبها في الحال أشخاص كانوا في رفقة يسوع. ولكنهم نسوا أن الكنيسة جسد المسيح وهي سابقة للأناجيل وهي ضامنة لصحة الأناجيل. وأن الروح القدس هو الكاتب الأول والشارح الأول لأقوال يسوع.
أوردنا هذه العيّنات لكي نشير إلى أمرين. الأول، اهتمام الرأي العام بمسألة تاريخيّة الأناجيل، وخضوعه لآراء متضاربة تأتيه من هذه الجهة أو تلك. فهناك الذين يريدون أن يؤمّنوا للإيمان أساساً أكيداً: هم يبرهنون أن الأناجيل صادقة على مستوى التاريخ، لأنها »تسجيل« لا تفسير فيه لأقوال يسوع وأعماله (يعني لا دخل للكنيسة الأولى التي كانت ناقلة حرفيّة، فلم تحاول أن تكيّف كلام الربّ في المحيط الذي يصل إليه). هذا الموقف يدلّ على حذر كبير من مسيرة التقليد الذي يقدّم كلمة حيّة، كلمة تنمو (أع 6:7)، لا كلمة جامدة متحجّرة نصطدم بها ونقف، فتبقى خارجة عن المحيط الذي دُوّنت فيه، وخارجة عن محيطنا الذي يتقبّلها، فنكتفي بتكرارها كالببغاء. كلمة الله حيّة، ولا تظهر حياتها إلاّ حين تتجسّد في كنيسة الأمس، حيث دوّنت، وفي كنيسة اليوم حيثُ تعاش في ظروف المكان والزمان التي نحن فيها. وهناك الذين يرفضون الأناجيل القانونيّة، لأن الكنيسة شوّهتها، ويستندون إلى الأسفار المنحولة (انتحلت صفة الالهام، ولم تكن ملهمة) ولا سيّما الأناجيل الغنوصيّة (كتب باطنيّة تشدّد على المعرفة، لذلك بقيت مكتومة عن عامّة الشعب)، لأنها أجدر بالثقة. هكذا يتّهمون الكنيسة بكل بساطة. فموقفهم موقف مبدأي لا يستند إلى الحقيقة. ويكفي أن نقرأ ما في الأناجيل المنحولة من أمور صبيانيّة (يسوع يصنع طيوراً من تراب الأرض، نخلة تنحني نحو العائلة المقدّسة) لنأخذ موقفاً من هذه النظرة المتطرّفة التي تهدم الأناجيل والكنيسة والإيمان.
والأمر الثاني الذي نشير إليه، هو أن هناك خطاً بين الخطّين المتطرّفين: يعلن الأول أن لا مسافة بين يسوع والأناجيل، وهكذا يشوّه الواقع الذي نعرفه كما يشوّه المعطيات التاريخيّة. لهذا نرفضه باسم العقل السليم. ويلغي الثاني المسافة، بل هو يلغي الكنيسة، والأناجيل الأربعة، ويأخذ بأناجيل أخرى استقت من الأناجيل القانونيّة، أو هي استنبطت نظريات، كما حاولت أن تُدخل »لاهوتها« الخاص في إطار الانجيل. مثلاً رفضت تجسّد الابن باسم فلسفة يونانيّة تعتبر أن الروح لا يلامس المادّة لئلاّ يتنجّس بها. وهكذا نكون أمام نهج في دراسة الأناجيل. لن نأخذ بكل ما يقال، بل نمحّص الطريقة التي اتّخذها الباحث ليصل إلى نتيجة من النتائج. فما يلفت النظر بشكل خاص وتنشره الصحافة، قد لا يكون هو الصحيح.
2 – المراجع الرومانيّة
هناك المصادر التي عاصرت المسيح، وهناك الطريقة التي بها نعالج هذه المصادر. ونبدأ بالمصادر. وقبل أن نتوسّع في الموضوع نقول إن يسوع لم يكتب شيئاً بيده، سوى على الرمل، في حادثة المرأة الزانية (يو 8:6). وما زال العلماء يبحثون عمّا كتب. إذن، لم تصلنا وثيقة من يد يسوع. فلا نستطيع الوصول إلى يسوع التاريخيّ، يسوع كما عاش في تاريخ شعبه، في فلسطين، بواسطة الشهود المباشرين، بل بواسطة مراجع وثائقيّة غير مباشرة. أمّا هذه المراجع فهي على أربعة أنواع. ونحن نبدأ بالمراجع الرومانيّة.
لا يتكلّم المؤرّخون اللاتين، إلاّ عن طريق العرض، عن المسيحيّين الأوّلين وعن إيمانهم. وقد يشيرون بشكل غير مباشر إلى المعلّم. وأقدم وثيقة وصلت إلينا ليست وثيقة مؤرّخ، بل رسالة من بلينوس الأصغر(12)، موفد الامبراطور في بتينية. فقد كتب حوالي سنة 111 – 113 إلى الامبراطور ترايانس ليعرض له الموقف الذي أخذه تجاه المسيحيّين، ويطلب نصحه: »تلك هي القاعدة التي اتّبعتها تجاه الذين قُدّموا إليّ كمسيحيين. سألتهم إن كانوا مسيحيين. فالذين أجابوا بالإيجاب، سألتهم مرّة ثانية، وأنا أهدّدهم بالعذاب. فالذين ثبتوا في جوابهم أعدمتُهم… فبفعل الملاحقات وحدها، كشفت الجريمة، كما يحدث مراراً، مدى اتساعها، فبرزت أنواع عديد. وصلتنا بطاقة لم يوقّعها صاحبها، وفيها عدّة أسماء. فالذين أنكروا أنهم مسيحيّون أو أنهم لم يكونوا مسيحيين، اعتبرتُ أنه يجب أن أخلي سبيلهم بعد أن دعوا الآلهة من ورائي وصلّوا بالبخور والنبيذ أمام تمثالك الذي جئتُ به لهذا الهدف، مع تماثيل الآلهة. ثم لعنوا المسيح. ويقال أن لا أحد يستطيع أن يُكره على هذه الأشياء من هم حقاً مسيحيّون…
»وآخرون، سمّاهم المخبر، قالوا إنهم كانوا مسيحيّين. وفي الحال، تراجعوا وقالوا إنهم كانوا في الماضي، وما عادوا الآن. بعضهم (كان) منذ ثلاث سنوات، وبعضهم من أكثر، وآخرون منذ عشرين سنة. كل هؤلاء عبدوا تمثالك وتماثيل الآلهة. كما لعنوا المسيح. وكان كل ذنبهم أو خطأهم، كما اعترفوا، بأنهم اعتادوا أن يجتمعوا في وقت محدّد، قبل طلوع النهار، وأن يُنشدوا فيما بينهم نشيداً للمسيح كما لاله. والتزموا أيضاً بقسَم، لا أن يقترفوا هذا الجرم أو ذاك، بل أن لا يقترفوا سرقة ولا لصوصيّة ولا زنى، وأن لا يعودوا عن قسَم أقسموه، وأن لا يُنكروا وديعة استودعوها«(13).
فأجابه الامبراطور بلينوس، ناصحاً اياه بأن يرفض الوشايات المغفّلة. وبأن يعاقب الذين يثبتون على القول إنهم مسيحيون.
من خلال كلام على الاضطهاد الرومانيّ، ذُكر المسيحيّون الذين يثبتون على إيمانهم والذين لا يثبتون، وذُكر المسيح الذي يعبدونه كإله وينشدون له الأناشيد التي نجد بعضها في رسائل القدّيس بولس: »يسوع المسيح ربّنا. وُلد بحسب الجسد من ذريّة داود. أقيم ابن الله بقدرة حسب روح القداسة بقيامته من بين الأموات. به نلنا النعمة والرسالة، لنكرز طاعة الإيمان. لأجل مجد اسمه« (روم 1:3 – 5). »هو القائم في صورة الله… صار شبيهاً بالبشر… طائعاً حتى موت الصليب، فرفعه الله« (فل 2:6 – 9). »هو صورة الله غير المنظور، بكر كل خليقة. فيه خُلق جميعُ ما في السماوات والأرض…« (كو 1:15 – 16).
النص الثاني المشهور نقرأه في »حوليات« تاقيتس(14)، التي دُوّنت سنة 116 – 117 تقريباً. يشرح الكاتب كيف أن الناس ظنّوا أن نيرون قد أحرق رومة من أجل مشاريعه في المدينة، فأبعد نيرون عنه الظنّ وألصقه بالمسيحيّين، فجعلهم موضوع انتقام الشعب، جعلهم كبش المحرقة:
»إذ أراد نيرون أن يُلغي الضجة (التي نَسبت إلى الامبراطور حريقَ رومة)، افترض وجود مذنبين، وأنزل عذابات قاسية بالذين جعلهم رجسُهم مكروهين، فسمّاهم الشعب مسيحيّين. فقد جاءهم هذا الاسم من مسيح الذي أسلمه الوالي بونسيوس بيلاطس إلى العذاب في عهد طيباريوس. سُحقت هذه الخرافة البغيضة في الحال. ولكنها برزت من جديد، لا في اليهوديّة فقط حيث وُلد الشرّ، بل في رومة أيضاً حيث يرد أحقر ما في العالم وأبشعه، ويجد له زبائن عديدة. إذن بدأوا فقبضوا على الذين اعترفوا بإيمانهم. وبالاستناد إلى ما كشفوه، (قبضوا) على آخرين كثيرين اتّهموهم بجرم حريق (رومة)، بل ببغض الجنس البشريّ. وما اكتفوا بأن يهلكوهم، بل تفنّنوا، فألبسوهم جلود الوحوش لكي تمزّقهم أسنان الكلاب. أو رُبطوا بصلبان وُضعت عليها مادة سريعة الاحتراق. وعند زوال النهار كانوا يصيئون الظلمة كأنهم مشاعل«.
نحن هنا أيضاً في إطار اضطهاد نيرون الذي أبعد التهمة عنه وألصقها بالمسيحيين. هنا ذُكر المسيح الذي صُلب في أيام بونسيوس بيلاطس وطيباريوس.
والنص الثالث نقرأه في »سيرة القياصرة الاثني عشر« لسواتانيوس(15)، التي دوّنت حوالي سنة 120. هو يذكر المسيحيين في سلسلة من التنظيمات أقرّها نيرون:
»في عهد (نيرون) أقرّ عدد كبير من الأحكام القاسية والاجراءات المضيّقة، كما أقرّت قواعد جديدة: وُضعت حدود للبزخ. حصروا الولائم العامة بتوزيع الاعاشة. مُنع في المقاهي بيع طعام مطبوخ ما عدا الخضر والبقول، مع أنهم كانوا يقدّمون فيها كل أنواع المأكولات. وسلّموا الى العذاب المسيحيين، وهم أناس متعلّقون بخرافة جديدة وخطرة. ومنعوا قوّاد العربات، الذين سمح لهم تقليد قديم بأن يدوروا في المدينة كلها فيغشّوا المواطنين ويسرقوهم للتسلية، من أن يمرحوا بعدُ، كما كانوا يفعلون«.
في هذا المقطع، يذكر سواتانيوس المسيحيّين، لا المسيح. ولكنه سيذكر المسيح في »حياة كلوديوس«، فيشير إلى قرار طرد اليهود من رومة، سنة 46 – 50. فقال: »بما أن اليهود كانوا يتحرّكون على الدوام، بدفع من »خرستوس« (المسيح) طردهم من رومة«.
بدا نصّ تاقيتس ثميناً لأنه يؤكّد بكلام واضح إعدام المسيح بيد الوالي بونسيوس بيلاطس، وفي عهد طيباريوس. ولكن ما يلفت النظر هو هذا العدد القليل من الشهادات. هذا يعني بلا شكّ أن الحركة المسيحيّة لم تتّسع اتّساعاً كافياً بحيث تركت أثراً كبيراً. ولو امتدّ بحثنا إلى القرن الثاني، للاحظنا الأهميّة التي اتّخذتها هذه الحركة من خلال النقد اللاذع الذي نجده لدى الفلاسفة الوثنيين. تحدّث لوقيانس الشميشاطي (حوالي 170) عن »السفسطائي المصلوب«. ولكن قلسيوس الذي ردّ عليه اوريجانس، كان ألذع منه.
ما نستخلصه من هذه المراجع القديمة، سواء اللاتينيّة التي ذكرناها، أو اليهوديّة التي سنشير إليها، هو أن ما من خصم للمسيحيّة في العالم القديم، أنكر وجودَ يسوع التاريخيّ.
3 – المراجع اليهوديّة
هناك مرجعان: فلافيوس يوسيفوس وتلمود بابل.
أ – فلافيوس يوسيفوس (37 – 100)
وُلد فلافيوس يوسيفوس في عائلة كهنوتيّة، في أورشليم، وشارك عن قرب في حرب اليهود ضدّ الرومان وفي الأحداث التي سبقت هذه الحرب. فيوسيفوس بن متيا، استسلم مع الفرقة التي كان يقودها، إلى الرومان. فصار بعد ذلك المؤرّخ الرسمي للبلاط الامبراطوريّ، ودخل في الوقت عينه عائلة الفلافيان، فصار فلافيوس يوسيفوس. بعد مؤلّف أول عنوانه »حرب اليهود« (في اليونانيّة، في نهاية السبعينات)، نشر مؤلّفاً آخر عنوانه »العاديّات اليهوديّة« (93 – 94). في هذا الأخير نجد مقطعين يلفتان انتباهنا.
المقطع الأول يبدو بسيطاً وليس موضوع جدال. فيه يورد يوسيفوس خبر موت يعقوب، أخي الربّ. »جمع حنان (أنانوس) مجلس (سنهدرين) القضاة. فمثُل أمامهم يعقوب، أخو يسوع الذي يقال له المسيح، كما مثُل آخرون. فاتّهمهم بأنهم تجاوزوا الشريعة، وأسلمهم إلى الرجم«(16).
المقطع الثاني يطرح عدداً من الأسئلة. وها نحن نقرأه كما ورد في التاريخ الكنسيّ لاوسابيوس القيصري(17).
»في ذلك الوقت ظهر يسوع، الانسان الحكيم، هذا اذا وجب أن نسمّيه انساناً، لأنه كان صانع أعمال عجيبة. وسيّد أناس نالوا الحقيقة بفرح. اجتذب عدداً كبيراً من اليهود، وعدداً كبيراً أيضاً من اليونانيين. كان المسيح. ولما اشتكى عليه الأولون بيننا، حكم عليه بيلاطس بالصلب. أما الذين سبقوا فأحبّوه، فما زالوا يحبّونه. (فقد ظهر لهم حياً من جديد، في اليوم الثالث. وقد كان الأنبياء قد قالوا هذه الأشياء وربوات أخرى من المدهشات في شأنه). وحتى الآن أيضاً، لم تزل حاضرةً مجموعةُ المسيحيّين المسمّاة كذلك بسببه«.
هذا المقطع يطرح أكثر من سؤال، لأن له رنّة مسيحيّة. فإن أوريجانس الذي قرأ فلافيوس يوسيفوس، قال عنه: »مع أنه رفض أن يؤمن بيسوع على أنه المسيح… فلم يكن بعيداً عن الحقيقة«(18). أما أوسابيوس فيجعل من يوسيفوس شاهداً يهودياً من أجل مسيحانيّة يسوع. لهذا برزت فكرة تقول إننا أمام تحويل مسيحيّ للنص، حصل بين زمن اوريجانس وسنة 325، سنة تدوين التاريخ الكنسيّ. منذ القرن 16، شكّ سكاليغر(19) في صحّة هذا المقطع. ولما نشر نيزي(20)، سنة 1890، العاديات اليهوديّة في نشرة تامة، جعل هذا المقطع بين عاكفين. ومنذ ذلك الوقت لم يتوقّف الجدال في استعادة الأمور وتقديم الفرضيات.
إذا كان بعض الشرّاح ما زالوا يرفضون المقطع على أنه ليس من قلم يوسيفوس، فآخرون كثيرون يعتبرون أن هذا المقطع قد دخل بشكل حاشية في التاريخ الكنسيّ. ماذا يكون جوابنا؟ أولاً، إن الأسلوب والمفردات هي أسلوب يوسيفوس ومفرداته. وما يلفت النظر هو أننا نجد هذا المقطع في جميع المخطوطات. ونشير إلى أن ترجمة شهادة يوسيفوس هذه كما وردت عند ايرونيموس، في القرن الخامس، واغابيوس، أسقف العرب، في القرن العاشر، وميخائيل السرياني في القرن 12، ليست واضحة كما في أوسابيوس حول مسيحاويّة يسوع. فمن المعقول جداً أن يوسيفوس الذي كتب في التسعينات، عرف الحركات اليهوديّة كالفريسيين والصادوقيين والاسيانيين والغيورين. ويمكن أيضاً أن يكون عرف المسيحيّين. فوجب عليه أن يتكلّم عنهم وهو المؤرّخ الضنين بشهرته. فبالنسبة إليه، وهو الفريسي، لم تكن شيعة الأسيانين أقل غرابة من الشيعة المسيحيّة. وهكذا ننتقل من فرضيّة تقول إن النصّ كله صحيح ويُنسب إلى يوسيفوس، إلى الكلام عن عبارة قصيرة (هذا إذا وجب أن نسمّيه انساناً)، أضافها ناسخ مسيحيّ في الهامش، بشكل تكملة أو تفسير. هنا نتذكّر أن مؤلّفات يوسيفوس وصلت إلينا في إطار العالم المسيحيّ. ولكننا لا نقول الفرضيّة عينها في المقطع التالي: »فقد ظهر لهم حياً من جديد في اليوم الثالث. وكان الأنبياء قد قالوا هذه الأشياء وربوات أخرى من المدهشات في شأنه«. فقد يكون يوسيفوس دوّن هذا معتبراً إياه وجهة نظر تلاميذ يسوع (وهذا هو عمل المؤرّخ). ونضيف أن الألفاظ ليست تلك المستعملة لدى المسيحيّين، بل لدى يوسيفوس. مثلاً، إن اللفظة التي استعملها يوسف للكلام عن الظهورات هي »إفاني«(22)، لا »أُفتي«(23) المستعملة عادة لدى المسيحيين (ما عدا مر 16:9، الذي يستعمل »إفاني« مع فعلين لاحقين). أتكون هذه الصيغة درجت في نهاية القرن الأول، لنقرأها في ملحق مرقس الذي دُوّن بعد الانجيل بزمن طويل؟
ب – تلمود بابل (القرن 5)
نبدأ فنقول إن التلمود هو مجموعة التقليد الأدبي لدى الرابينيين، وهو يتضمّن الأمور التشريعيّة والإخباريّة. يتألّف من المشناة التي هي أساس التلمود، وهي مجموعة قوانين دينيّة يهوديّة. نُقلت شفهياً بفم الردّادين (تنائيم)، قبل أن تدوّن في القرن 2 ب م في 6 نظم و63 مثالاً. كما يتألّف من تفاسير تسمّى غماره (أو التكملة). جاء التلمود أكمل شاهد عن التقليد اليهوديّ القديم(24). فاتّخذ شكلين:
تلمود أورشليم الذي انتهى العمل منه في القرن 4 ب م، وتلمود (بابل الذي هو أربعة أضعاف تلمود أورشليم) الذي يعود تدوينه الأخير إلى القرن الخامس ب م.
أضاف التلمود البابلي إلى المشناة تقاليد لم تكن في المشناة. ونحن نقرأ في مقال سنهدرين 43 أ، ما يلي: »يورد التقليد: ليلة الفصح عُلّق يسوع. سار المنادي أمامه أربعين سنة وهو يقول: فليأتوا ويشهدوا في صالحه. ولكن لم يوجد أحد يشهد لصالحه، فعُلّق ليلة الفصح«.
يبدو هذا النصّ تبريراً لقتل يسوع الذي جاء حسب الشريعة، فما وُجد احتجاج على ما فعل الرؤساء. ويقول أيضاً إن يسوع كان يستحقّ، في السبل العاديّة، الرجم، وهو عذاب محفوظ للمحكوم عليهم لأسباب دينيّة، لا الصلب (يعلّق على الصليب) المحفوظ للناس العاديين وللعبيد. وأخيراً يُثبت الكرونولوجيا (تحديد الزمن) التي أخذ بها يوحنا والتي تجعل موت يسوع يتمّ ليلة الفصح، أو الليلة السابقة لعيد الفصح، لا في مساء يوم الفصح، كما قال الازائيون الذين جعلوا من عشاء يسوع الأخير وليمة فصحيّة(25).
4 – الأناجيل المنحولة
من المعروف أن الكنيسة احتفظت باكراً بأربعة أناجيل اعتبرتها قانونيّة (قانون في اليونانيّة يعني القاعدة، المقياس) دون غيرها، اعتبرتها قاعدة الإيمان والحياة المسيحيّة. هي التي كانت تُقرأ في جميع الكنائس تقريباً خلال الاحتفال الليتورجيّ. احتفظت الكنيسة بهذه الأناجيل، لا على أساس حكم يجعلها أهلاً للثقة على مستوى التاريخ، بل على أساس فائدتها في حياة الكنيسة من أجل الإيمان والممارسة.
ولكن أما يمكن أن نرجو يوماً اكتشاف انجيل أقدم من هذه الأناجيل الأربعة؟ ذاك هو موضوع قصة لاقت نجاحاً، لجاك نايرينك: »مخطوط القبر المقدّس«(26). قال:
وُجد في قبر يسوع مخطوط يتضمّن مجموعة أقوال كما حُفظت في الأراميّة. ويصف الكاتب الحركة اللامعهودة التي أثارها هذا المخطوط في الفاتيكان، كما يصف وسائل الاعلام التي استغلّت هذا »الجديد«. لا شكّ في أننا أمام قصة من نسيج الخيال ولا تمتّ إلى الواقع بصلة، ولكنها تحرّك الشوق لدى معاصرينا من أجل كل جديد، الانجذاب إلى كتب اعتبرناها ضائعة »فوُجدت«. يضاف إلى كل هذا، حذرٌ من الكنيسة التي يظنون أنها تُخفي كل ما تراه غير لائق بها. أما قيل أخيراً أنها أخفت مخطوطات قمران؟
وهكذا يُطرح السؤال: ما قيمة الخيار الذي اتّخذته الكنيسة في بداياتها؟ لماذا اختارت فقط أربعة أناجيل؟ لماذا وضعت »الحرم« على سائر الأناجيل؟ أما نستطيع أن نجد في الأناجيل المنحولة نظرة أكثر حياديّة إلى يسوع التاريخيّ، لم يطبعها الإيمانُ بطابعه؟
يليق بنا، للاجابة عن هذا السؤال، أن نأخذ بعين الاعتبار مجمل الأناجيل المنحولة، ونبدأ ببعض تمييزات أساسيّة. فاللغة اليونانيّة التي تقابل »منحولة« هي »أبوكريفوس«(27)، أي ما هو خفيّ، مكتوم، مُبعد عن الأنظار. وهناك بعض كتّاب الأناجيل المسماة أناجيل غنوصيّة وصفوا مؤلّفاتهم بهذه الصفة، واعتبروها صفة إيجابيّة: كتاباتهم سريّة، وهي محفوظة للمتدرّجين، للذين مرّوا في تنشئة باطنيّة. ولكن مع الأيام، أعطى آباء الكنيسة هذه الصفة »ابوكريفوس« معنى تحقيرياً. فتعاليم المسيح الحقيقيّة لا تخاف النور، ويمكن أن تُعطى بكل وضوح لجميع البشر، بدون استثناء. فلا سريّة فيها ولا باطنيّة(28). وهكذا اتّخذت اللفظة منذ القرن الرابع هذا المعنى: المنحول أو: أبوكريف، هو نصّ لا تقبل به الكنيسة للقراءة العلنيّة في الليتورجيا.
والأناجيل المنحولة هي أناجيل بدون قرّاء، لأنها تُمنع عن عامة القرّاء وتُحفظ للنخبة، لفئة معيّنة دون سواها.
هذه الأناجيل المنحولة التي لا يزال الشرّاح يختلفون على زمن تدوينها، تتوزّع في ثلاثة أنماط. ونحن نحدّد كلاّ من هذه الأنماط منطلقين من السبب الذي يجعلنا نهتمّ به اليوم، وهو المعلومات التاريخيّة. من الواضح أن الملفّ التاريخيّ المتعلّق بيسوع أوسع من الملفّ الذي نجده في الأناجيل القانونيّة. أما يمكن أن نرجو وجود لآلئ في الأناجيل المنحولة حول يسوع وتاريخ المسيحيّة الأولى. لا ننسى أننا نقرأ في انجيل يوحنا: »وصنع يسوع أمام التلاميذ آيات أخرى كثيرة، لم تدوّن في هذا الكتاب« (20:30). ونقرأ أيضاً: »وصنع يسوع أيضاً أشياء أخرى كثيرة. فلو أنها كُتبت واحداً فواحداً، لما خلتُ أن العالم نفسه يَسعُ الصحف المكتوبة« (21:25). في هذا الخطّ يقع الاهتمام بالأناجيل المنحولة. فقد نجد فيها معلومات جديدة حول يسوع.
وهكذا نوزّع الأناجيل المنحولة في ثلاثة أنماط كبرى، بالنظر إلى هذا الاهتمام، وهذه الرغبة.
* النمط الأول يتعلّق بالحياة العلنيّة ليسوع الناصريّ. فهذه الأناجيل موازية للأناجيل الإزائيّة، لأنها بُنيت بشكل رواية يتداخل فيها الخير والقول، ما عمله يسوع وما قاله. وهكذا تداخلت العناصر الإخباريّة والعناصر الخطابيّة: الانجيل حسب العبرانيين أو الناصريين، انجيل الأبيونيين، انجيل بطرس، انجيل المصريين، برديّة اغرتون الثانية(29)، برديّة بهلنسة(30). في هذه الأناجيل القديمة (القرن 2 – 3)، نجد أكثر ما نجد التوضيحات حول تاريخ يسوع، حول نموّ التقليد الانجيلي، وربّما حول تاريخ تكوين الأناجيل القانونيّة. ولكن ما يؤسف له هو حالتها الاجزائيّة(31) (مقاطع مفتتة). فهي لا تعلمنا بأمور كثيرة، سوى تفاصيل مسلّية بعض المرّات، تضاف إلى الأخبار الازائيّة.
* النمط الثاني يتعلّق بالمادة التي لا تتحدّث عنها الأناجيل الازائيّة. هي مكمّلة. وهي روائيّة. تسعى أن تقدّم معلومات عن مريم ويوسف، عن ولادة يسوع، وبعض المرات عن حاش (آلام) يسوع ونزوله إلى الجحيم أو العالم: إنجيل نيقوديمس، خبر يوسف، انجيل توما الفيلسوف الاسرائيليّ، انتقال مريم، متّى المزعوم. دُوّنت هذه النصوص بين القرنين الثالث والسادس. فهي لا ترتبط بتاريخ يسوع بقدر ما ترتبط بتاريخ تقبّل الشعب المسيحي للنصوص القانونيّة وإعادة قراءتها. وبعبارة أخرى، هي تدلّ على الخيال المسيحيّ، وتعطينا معلومات عن تطوّر المسيحيّة في القرون اللاحقة. غير أننا لا ننسى أن هذه الأناجيل أثارت المعارضة والرفض، لدى ايرونيموس مثلاً الذي سمّاها بدون تردّد: أضغاث أحلام(32) الأسفار المنحولة. ومع ذلك تبقى ذات فائدة فتبيّن كيف أن الخيال المسيحيّ وجد توسّعاً له في إحدى طرقه.
* النمط الثالث، الأناجيل الغنوصيّة. هي ما تبنّت حقاً الفن الأدبيّ الانجيليّ: منحول يوحنا، انجيل الحقيقة، انجيل توما. هي نصوص قديمة (القرن 2 – 3) بلا شك، ولكنها حرّكت معارضة قويّة وحامية لدى آباء الكنيسة. ظلّت مجهولة مدة طويلة فاكتُشفت مؤخراً في نجع حماديّ، في مصر. ليست تاريخيّة وليست روائيّة، بل هي تعليميّة وباطنيّة (ايزوتيرية).
أما في ما يتعلّق بموضوعنا، فنجد بعض الحصاد في النمط الأول، غير أن الغلّة ظلّت ضئيلة، بسبب طابع التفتّت الذي فيه وصلتْ إلينا هذه المراجع.
5 – الأناجيل القانونيّة
أ – مقاربة جديدة
اعتادت الكنيسة، ولا سيّما في الشرق، أن تقرأ الأناجيل بشكل بسيط دون أن تطرح الأسئلة. ولكن كانت مقاربة جديدة أو مقاربات وُلدت في الغرب وأثّرت على الفكر التأويليّ في الكنيسة شرقاً وغرباً. هذا ما نودّ أن نشير إليه حين نقرأ النصوص القانونيّة بدءاً بالرسائل، وصولاً إلى الأناجيل.
فإذا انطلقنا من الوجهة الكرونولوجيّة، من وجهة ظهور النصوص الكتابيّة في الزمن، ليست الأناجيل المرجع القانونيّ الأقدم، بل الرسائل البولسيّة التي دُوّنت في الخمسينات، بينما ظهر أول انجيل حوالي سنة 70. غير أن هذا المرجع لا يقدّم لنا الكثير من وجهة يسوع في التاريخ. هناك إشارات متكرّرة عن صلب المسيح وقيامته. ولكننا لا نجد المعلومات الكثيرة عن حياته العلنيّة. ذكر بولس أربع مرات »كلمة الرب«. مثلاً في 1 تس 4:16 – 17: »وإنّا نعلن لكم بناء على قول الربّ، أنّا نحن الأحياء…«. وفي 1 كور 7:10: »أما المتزوّجون، فأوصيهم، لا أنا، بل الربّ، أن لا تفارق المرأة رجلها«. رج 1 كور 9:14؛ روم 14:14. وما نجده عند بولس أيضاً هو البنية الأساسيّة لأخلاقيّة يسوع وتركيزها على وصيّة المحبّة (مر 12:29 – 31 وز؛ غل 5:14؛ روم 13:8 – 10).
ولكن تبقى الأناجيل القانونيّة المصدرَ الأهم للتعرّف إلى يسوع التاريخيّ. ففي القرن التاسع عشر، عرف النقدُ التاريخيّ عصره الذهبيّ، بعد أن استبقه القرن 17 في مجال البحث حول الأناجيل. ولكن القرن التاسع عشر هو حقاً القرن الذي فيه كُتبت سَير يسوع. أرادوا لهذه السير أن تكون ناقدة، رافضة لكل ما ليس بأكيد. أرادوها بحثيّة ومثبتة بالطريقة العلميّة، فجرّدوها من معتقدات الكنيسة ومن ديانة شعبيّة تُلقي الغموض لا الوضوح على التاريخ. وإن عدداً من هذه السير انطبعت بالطابع العقلانيّ، فجعلت جانباً مسألة الوحي والالهام، فقرأت الأناجيل كما يُقرأ كل نصّ قديم. أشهر هؤلاء الكتّاب: دافيد فريديريك شتراوس في المانيا (حياة يسوع(33) في صيغة نقديّة، 1835 – 1836) وارنست رينان في فرنسا (حياة يسوع(34)، 1862). كيف دوّنت هذه السير؟ هي ممارسة الجرّاح الذي يعمل في النصوص فيشرّحها لكي يجرّدها من وجهها السطري والمدهش والدوغماتي (قول لاهوتيّ مسبق). وهكذا يبرز وجه يسوع الموضوعي (كما هو في الواقع) لا الذاتي (كما يحسّ به الانسان أو المجتمع). وفي نهاية هذا العمل من التجريد ومحو عدد من النصوص، وصل رينان مثلاً إلى التقديم الشهير ليسوع الذي هو »الحالم الجليليّ العذب«.
وسوف ننتظر سنة 1906 لتكون لنا نظرة شاملة إلى كل هذا المجهود في البحث مع ألبار شوايترز(35) الذي كان طبيباً، ولكنه تخصّص في الكتاب المقدّس (البحث عن يسوع التاريخيّ كما تقول الترجمة الانكليزيّة عن الالمانيّة، سنة 1910). بعد أن درس سير يسوع هذه، جاءت النتيجة في إجمالها سلبيّة. فقال في الخاتمة: »لا سلبيّة تساوي نتيجة الدراسة النقديّة لحياة يسوع«. وجاءت انتقاداته حول ثلاث نقاط رئيسيّة:
– ينطلق عدد من هذه السير من مقدّمات خاطئة. مثلاً تعتبر أن انجيل متّى هو أقدم من انجيل مرقس. نشير إلى أن الكلام عن أولويّة متّى ظهر في القرن التاسع عشر، ولكن كتّاب سَير يسوع جهلوا هذا الجديد الذي سيفرض نفسه بشكل واسع في عالم النقد الكتابيّ.
– ما استطاع هؤلاء الكتّاب أن يتحرّروا من أفكارهم المسبقة. فكشفت »حياة يسوع« وجهَهم الخاص، لا وجه يسوع. من هذا القبيل كان شوايتزر قاسياً على رينان الذي طبع وجه يسوع باللون الرومانطيقيّ.
– نسي هؤلاء أن الأناجيل هي شهادة إيمان، وليست أولاً وثائق تاريخيّة. لهذا، شكّك شوايتزر في إمكانيّة كتابة سيرة يسوع كتابةً تكون أمينة للتاريخ.
هذه الدراسة وضعت حداً لكتابة »سَير يسوع« سحابة خمسين سنة. ويعود هذا في ما يعود إلى باحث هام جداً، إلى رودولف بولتمان الذي توسّع في نظرة سبق إليها شوايتزر: إن محاولة إعادة بناء حياة يسوع بناء تاريخياً ونقدياً حقاً، هي محاولة مستحيلة، وفي أي حال عديمة الفائدة. فما يهمّ المسيحيّ ليس إعادة بناء حياة يسوع بناء تاريخياً بما في هذه المحاولة من مخاطرة، بل يسوع الإيمان. أو كما قال شوايتزر: »هو يسوع الحيّ روحياً وسط البشر، الذي يشكّل معنى لعصرنا ويقدر أن يساعدنا«.
وسوف ننتظر الخمسينات لتظهر من جديد سير جديدة ليسوع. ولكنها بدت أكثر فطنة وتحفّظاً من تلك التي دُوّنت في القرن التاسع عشر. ومنذ بضع سنوات برزت سير يسوع التي حملتها وسائل الاعلام وضخّمتها: السيرة الحقيقيّة… السيرة الصحيحة، الصادقة… هؤلاء الكتاب لم يعودوا للأسف، إلى تاريخ البحث الذي يعلّمنا الفطنة وعدم التسرّع والابتعاد عن أمور نريد أن تفرضها، وهي ليست بتاريخيّة ولا معقولة.
ولكن إن لبثنا متردّدين حول امكانيّة كتابة حياة يسوع كتابةً لا تكون من نوع الرواية التاريخيّة (كما هو الحال مثلاً لدى بعض الكتّاب)، يبقى أن البحث الذي حصل في القرن 19 – 20 قد أتاح لنا أن نجعل الأساليب النهجيّة أكثر دقّة، وأن نحسّن معرفتنا لتكوين الأناجيل والظروف التي فيها عمل الانجيليّون. وها نحن نقدّم نتائج هذا البحث في ثلاث نقاط: تاريخ تكوين الأناجيل، تفسير التشابهات والاختلافات بين الأناجيل، تاريخ تدوين الأناجيل.
ب – تاريخ تكوين الأناجيل
المرحلة الأولى هي مرحلة التقليد الشفهيّ، التي درستها بشكل خاص المدرسةُ السكندينافيّة مع برغر غرهاردسون(36) (التاريخ الأول للأناجيل). هذا التقليد الشفهيّ توسّع جداً في العالم اليهوديّ، في زمن يسوع، ومارسته المدارس الرابينيّة. وهذا ما ساعد على حفظ التقاليد في الذاكرة وتجميعها كتابة منذ القرن الثاني في المشناة، ثم في التلمودين، في القرن الرابع والقرن الخامس. نستطيع هنا أن نفترض أن وظيفة الذاكرة السمعيّة تتوسّع في حضارة شفهيّة، توسّعاً خاصاً.
أما الوسط الحيّ الذي فيه حُفظت ونُقلت اقوال يسوع وأخبار أعماله، فهو وسط الجماعات المسيحيّة الأولى. هي جماعات متنوّعة. ولكننا نبسّط الأمور فنجعلها في ثلاثة أنماط: جماعات مسيحيّة متهوّدة (= آتية من العالم اليهودي)(37) فلسطينيّة. اللغة المسيطرة هي الأراميّة بلا شك. جماعات مسيحيّة مهلينة (آتية من العالم الهليني، أي المتحضّر بالحضارة اليونانيّة)(38). جماعات مسيحية أمميّة (= آتية من الأمم، آتية من العالم الوثني). فكل نمط من هذه الأنماط (هذه الجماعات) يحتفظ بتذكّرات وينقلها بالنظر إلى مراكز اهتماماته ويقيناته الحضاريّة.
ونحن نميّز عادة ثلاث وظائف رئيسيّة في حياة الجماعات الأولى، وبهذه الوظائف ارتبطت مُجمل المواد الانجيليّة التي وصلت إلينا.
– وظيفة الكرازة والوعظ وإعلان الكلمة في الخارج. هذا ما نجده بشكل خاص في خطب بطرس وبولس.
– وظيفة العبادة أو وظيفة الصلاة المشتركة (أع 2:42). لا نجد سوى بعض صلوات صريحة في الأناجيل. ولكننا نستطيع أن نقرأ فيها نسختين عن الصلاة التي علّمها الربّ لتلاميذه: نجد في الأولى سبع طلبات (مت 6:9 – 13)، وهي التي اعتدنا أن نصلّيها اليوم في الليتورجيا: أبانا الذي في السماوات. ونجد في الثانية خمس طلبات (لو 11:2 – 4). هذا يعكس بدون شك تقاليد ليتورجيّة مختلفة في جماعتين مختلفتين. ونلاحظ الظاهرة عينها في أخبار العشاء الأخير.
– وظيفة الرعاية. ذُكرت أيضاً في أع 2:42، فتحدّثت عن تعليم الرسل. توخّى هذا التعليم الاجابة عن عدد من الأسئلة المطروحة على المسيحيين الجدد. مثلاً، هل يستطيع اليهود الذين صاروا مسيحيين أن يشاركوا الوثنيين الذين صاروا مسيحيين في الطعام اليومي؟ هو سؤال هام، ولا سيّما حين يكون الكلام عن كسر الخبز والافخارستيا. هل تكون هناك جماعتان متحاذيتان تمارسان الافخارستيا الواحدة؟ ما كان رأي يسوع لو كان معنا؟ عندئذ عاد التلاميذ إلى جدالات عرفها يسوع حين تَشارك في الطعام مع أناس وجب عليه أن يتجنّبهم، كما كان الفريسيون يقولون. أي الخطأة العشّارون.
تبيّن هذه الأمثلةُ القليلة أن التذكّرات حول يسوع قد انطلقت من حاجات عرفتها الجماعات، فحُفظت في إطار الكنيسة من أجل تعليمنا. بدأت هذه التذكّرات فنُقلت بطريقة شفهيّة ودُوّنت فيما بعد. لا شكّ في أن أول مجموعة دُوّنت كانت خبر الآلام، بعض الجدالات، أمثال الملكوت، المعجزات. وانطلق الكتّاب من هذه التقاليد الشفهيّة والمكتوبة، فكوّنوا فناً أدبياً سيُسمّى فيما بعد »انجيل« (بشارة، خبر طيّب): سيرة شخص من تاريخنا. مات وهم يقولون إنه حيّ من جديد وفاعل في جماعات تسمّت باسمه. إذن، نحن أمام قراءة جديدة، بعد الفصح والقيامة، لتاريخ يسوع على الأرض، قراءة يضيئها الإيمان بقيامة يسوع بعد موته. بعد اليوم، تشكّل القيامةُ المفتاح لقراءة الانجيل.
ج – تقاربات واختلافاتويُطرح سؤال: كيف نشرح التقاربات والاختلافات بين الأناجيل الثلاثة الأولى؟
إن الأناجيل الثلاثة الأولى (متى، مرقس، لوقا) تتشابه تشابهاً، بحيث سُمّيت ازائيّة: نستطيع أن نجعل النص بإزاء الآخر، في عواميد متوازية، بحيث نضمّها في نظرة واحدة فنقابلها. ونرى التقارب والاختلاف. حتى القرن التاسع عشر، اعتُبر انجيل متّى أول الأناجيل، فتميّز في الاستعمال الليتورجي، وفسّره الآباء… ولكن الدراسات التي تقابل نصاً بالنصّ، جعلت البحّاثة يرون في انجيل مرقس الانجيل الأول من الوجهة الكرونولوجيّة. هذا لا يعني أن الجدال انتهى.
في الواقع، يبدو انجيل مرقس كالقاسم المشترك في التقليد الازائيّ. لن نبرهن عن هذا القول الآن. ولكن تقديماً احصائياً سريعاً للآيات المشتركة في الأناجيل تعطينا فكرة عن ذلك. فمرقس الذي هو أقصر الأناجيل، يتضمّن 661 آية. نجد منها 600 آية في متّى. و350 في لوقا. هذا يعني أن القسم الأكبر من مرقس يرتبط بالتقليد المشترك بين الأناجيل الثلاثة. فلا يبقى له سوى خمسين آية (5،7%) خاصة به، ولا تجد ما يوازيها في الانجيلين الآخرين. وفي انجيل متى 1068 آية. وفي انجيل لوقا 1150 آية. نلاحظ أن 230 آية موجودة عند متّى ولوقا وغائبة عند مرقس. هي تورد عادة أقوال يسوع، ولا تذكر سوى خبر واحد. وأخيراً نلاحظ أن لوقا هو أكثر الأناجيل آيات لا نجدها في الأناجيل الأخرى: 600 آية.
في جميع المقاطع المشتركة بين انجيلين أو ثلاثة أناجيل، قد تكون أهميّة كبيرة تجاه اختلاف على مستوى الكلمات أو الجمل (رج مر 2:1 – 12 وز). ويحصل أيضاً أن يكون توافق تام بين نص وآخر. مثلاً، كرازة يوحنا المعمدان (مت 3:7 ب – 10؛ لو 3:7 ب – 9) تتضمّن 63 كلمة، وليس سوى ثلاث اختلافات بين انجيليّ وآخر (»ثمر«(39) هي في صيغة الجمع في لوقا وفي المفرد في متّى. »لا يخطر لكم أن تقولوا« في مت. »لا تشرعوا تقولون« في لو. وفي آ 9، يضيف لوقا حرف العطف. ونضيف في هذه الحالات الثلاث أن هناك تردّداً على مستوى النصوص. حينئذ يختار الناشر الكلمة (أو العبارة) الأصليّة، لا تلك التي تحاول أن تنسخ ما نقرأه في انجيل آخر.
انطلق الشرّاح من مثل هذه الملاحظات، فحاولوا أن يشرحوا كيف ظهرت الأناجيل، وما هي علاقتها بعضها ببعض، وعلاقتها بمراجع أخرى. ولكن لا نملك نصاً واحداً سابقاً للأناجيل، نستطيع أن نعتبره مصدراً للأناجيل. لهذا، كل كلام عن مصدر سابق يبقى في عالم الفرضيّات ولا يمكن أن يُسند تعليماً حقيقياً. هناك من تحدّث عن انجيل أراميّ. أين هو هذا الانجيل إلاّ في مخيّلة من يهمّه أن يكتب رواية تشير من بعيد أو من قريب إلى يسوع، لا أن يجعل كلام الانجيل قريباً من الناس؟ وتحدّثوا أيضاً عن نصوص وصلت إلى يد بولس. ولكن بولس نفسه لم يُفصح عن هذه النصوص. فكيف نقدر نحن أن نتحدّث عنها إلاّ إذا كنا من المسحاء الدجّالين الكاذبين، إذا كنا »انتيكرست«، أي مناوئاً للمسيح ومحاولاً هدم صورته في قلب المؤمنين وإحلال صورة من عندنا أو من مراجع لا تستحقّ أن تحلّ سير نعل الأناجيل، كما قال يوحنا المعمدان.
كيف نشرح هذه التقاربات وهذه الاختلافات؟ هناك عدّة نظريات؟ ولكننا نقدّم تلك التي بدأت تفرض نفسها لدى معظم الشرّاح: نظرية المصدرين أو نظريّة الأربعة مصادر. إن مرقس الذي هو القاسم المشترك في التقليد الازائيّ، يشكّل مرجع متّى ولوقا للبنية الإخباريّة ولجزء من المواد الانجيليّة. ولكن بما أن هناك 230 آية (خصوصاً أقوال يسوع) مشتركة بين متّى ولوقا، وغائبة من مرقس، طُرحت فرضيّة مصدر ثان لمتّى ولوقا هو »المعين« (كوالي(40) في الالمانيّة) أو »معين الأقوال«. وأضاف بعض الشرّاح إلى هذه الرسمة البسيطة مصدرين آخرين: واحد يتعلّق بالمتّاويات أو بالأمور الخاصة بمتّى. وآخر باللوقاويات أو الأمور الخاصة(41) بلوقا. ولكن في هاتين الحالتين الأخيرتين نفضّل أن لا نتحدّث عن مصدرين محدّدين، بل عن تقاليد مختلفة جاءت من أماكن متعدّدة.
د – متى دوّنت الأناجيل
أقدم الأناجيل هو الانجيل الثاني. نُسب إلى مرقس، رفيق بولس في أول مرحلة من رحلاته الرسوليّة (أع 12:25؛ 15:37). هذا الانجيل دُوّن، على ما يبدو، قبل سنة 70، أي قبل سقوط أورشليم على يد الجيوش الرومانيّة. فهو يدلّ على أنه لم يعرف خبر دمار المدينة المقدّسة وحريق الهيكل. فنحن نقرأ في 13:14: »وحين ترون رجاسة الخراب جالسة حيث لا ينبغي«. كلام غامض وسيكون واضحاً في كل من متّى ولوقا. إن ايريناوس، أسقف ليون (في فرنسا) كتب حوالي سنة 180، فاستخلص النقّاد من شهادته أن مرقس دوّن انجيله حوالي سنة 65.
وإليك نص ايريناوس في كلامه »على الهراطقة«(42): »متّى لدى العبرانيين، في لغتهم، نشر شكلاً مكتوباً من انجيل، ساعة كان بطرس وبولس يبشّران رومة ويؤسّسان فيها الكنيسة. بعد موتهما (رحيلهما)، نقل إلينا مرقس، تلميذ بطرس وترجمانه، هو أيضاً، كتابة كرازة بطرس. وكذلك لوقا، رفيق بولس، دوّن أيضاً في كتابٍ، الانجيلَ الذي كرز به بولس. بعد ذلك، يوحنا، تلميذ الربّ، ذاك الذي ارتاح على صدره، نشر هو أيضاً انجيلاً خلال إقامته في أفسس، في آسية«.
إن التقليد حول استشهاد بطرس خلال اضطهاد نيرون (64:67) أمرٌ لا شكّ فيه. وبعد هذا الاستشهاد، استنبط مرقس فناً أدبياً جديداً هو الفنّ الانجيليّ. هذا الكلام يُسنده المطلعُ الانتيمرقيوني(43) (= المناوئ لمرقيون) الذي يعود إلى سنة 160 – 180. أما اكلمنضوس الاسكندراني (150 – 215) فيعتبر أن مرقس كتب انجيله، ساعة كان بطرس بعدُ حياً. نجد هذا الرأي في مقطعين أوردهما اوسابيوس القيصري: في الأول (التاريخ 2/15:2)، يوافق بطرس على عمل مرقس. في الثاني (6/14:6 – 7)، يبقى بطرس على الحياد، فلا يرفض ولا يوافق. إذن، نعتبر أن انجيل مرقس دوّن بين سنة 65 وسنة 70 (زمن اضطهاد بالنسبة إلى كنيسة رومة). وإن رأى عدد من الشرّاح أنه دُوّن بعد سنة 70.
أما في ما يخصّ متّى ولوقا، فكلاهما عرفا بشكل واضح سقوط أورشليم سنة 70. يكفي أن نرى كيف أن لو 21:20 (وإذا ما رأيتم أورشليم قد أحاطت بها الجنود، فاعلموا حينئذ أن خرابها اقترب) أوضح نصّ مر 13:14 الغامض على المستوى التاريخي (رج لو 19:41 – 44). وفي ما يخصّ متى، نجد في مثل وليمة العرس (22:1 – 14) عبارة تدلّ على دمار أورشليم بشكل عقاب إلهيّ: »أنقذ جيوشه، فأهلك أولئك القتلة. وأحرق مدينتهم« (أي مدينة اليهود، آ 7). ثم إذا أخذنا بنظريّة المصدَرَين، نقول إن مت ولو قد دُوّنا على أساس هذين المصدرين فجاءا بعدهما. إذن، مت ولو دُوّنا بدون شك بعد سنة 70. وبصورة أدق في الثمانينات.
وماذا نقول عن الانجيل الرابع؟ إن بردية رايلندس 457 (بردية 52) التي هي جزء من كودكس مصري يعود إلى الربع الثاني من القرن الثاني، والتي تتضمّن يو 18:31 – 33، 37 – 38، تشهد أن هذا الانجيل عُرف في مصر في بداية القرن الثاني. هذا يعني أنه كُتب في نهاية القرن الأول. ثم إن موضوع حُرم المسيحيين وإخراجهم من المجمع، واضح في انجيل يوحنا (9:22؛ 12:42؛ 16:2: سيخرجونكم من المجامع). إن هذا الحرم يرتبط بقرار اتّخذه المجلس الأعلى (السنهدرين) الذي اجتمع في يمنية (أو: يبنة على الساحل الفلسطيني) بالاتّفاق مع الامبراطور، بعد أن دُمّرت أورشليم سنة 70 م. تمّ هذا الاجتماع سنة 80 – 90. من أجل هذا، أخذ الشرّاح يجعلون يوحنا في تدوينه الأخير في العقد الأخير من القرن الأول. هنا نشير إلى أنه كان هناك تقاليد شفهيّة وخطيّة، وربما تدوينات، بدأت سنة 50.
يختلف الانجيل الرابع عن الأناجيل الإزائيّة على مستوى الكرونولوجيا (تسلسل الأحداث) وعلى مستوى عدد من التفاصيل. ومع أننا نثق به على المستوى التاريخيّ ثقة لا نجدها في نصوص أخرى، إلاّ أنه يشكّل في إجماله قراءة جديدة وتأمّلية لما كان يسوع للمسيحيين: كلمة (لوغوس) الله. فالخطب الطويلة التي يجعلها هذا الانجيل على شفتَي يسوع، تشكّل صياغة متأخّرة انطلقت من أقوال الرب التي أوردها الازائيّون ونقلوها إلينا أمانة.
إن المسافة بين تدوين الأناجيل والأحداث التي تعالجها (40 سنة بالنسبة إلى مرقس أول إنجيل) تحمل سمة سلبيّة بالنسبة إلى مجموعات مسيحيّة ترى في هذا البُعد خطراً على صدق المسيحيّة في المنظار التاريخيّ: هم يعتبرون هذه المسافة وكأنها حقبة خلْق قامت بها الجماعة. لهذا خافوا، واجتهدوا في أن يجعلوا تاريخ تدوين الأناجيل أقرب ما يكون من تاريخ الأحداث. أشرنا في بداية هذا المقال إلى طرح تراسمونتان. في الفترة عينها كتب روبنسون في الانكليزية: إعادة تحديد زمن تدوين العهد الجديد(44) (لندن، 1976). درس بشكل خاص الأناجيل، واستند في طروحاته إلى تلميحات إلى سقوط أورشليم. ولكن براهينه بدت واهية. وكل هذا الخطّ الذي يريد أن يجعل الأناجيل تُدوّن قبل سنة 50، قد وصل إلى الحائط المسدود. كأني به، كما قلنا، ينسى أن أبواب الجحيم لا تقوى على الكنيسة، وأن الروح القدس، صاحب الالهام، يحفظ الكتب المقدّسة من كل خطأ أو ضلال. »لستم أنتم المتكلّمين، بل إن روح أبيكم يتكلّم فيكم«.
وعادت »الموضة« اليوم إلى دراسة البرديات التي تدلّ على قرب النصوص الانجيليّة من زمن يسوع على الأرض. سبق وأشرنا إلى تيدي(45) واستنتاجاته السريعة في ما ينصّ انجيل متّى، انطلاقاً من درس مخطوط أوكسفورد. وكان قد عالج بالطريقة عينها زمنَ تدوين الانجيل الثاني. لهذا، انطلق من فرضيّة أطلقها كالاغان(46) سنة 1972، الذي ظنّ أنه وجد في المغارة السابعة من مغاور قمران جزءاً (رقمه 5) يقابل مر 6:52 – 53، وجعل تاريخ هذا الجزء قبل سنة 50. رفض الاخصّائيون هذه الفرضيّة فسقطت في الاهمال. ولكنها استيقظت سنة 1984، وتلقّفتها المجلات المسيحيّة في أوروبا، فوجدت فيها برهاناً له وزنه من أجل تاريخيّة حرفيّة للأناجيل.
ولكن على ما ترتكز هذه الفرضيّة المتهوّرة التي استُعملت لتبني طرحاً اجمالياً معاكساً »لباحثين متحرّرين وأردياء« الذين يجعلون الناس يشكّون في السلطة التاريخيّة للأناجيل؟ في الأصل، هناك اكتشافات البحر الميت في قمران، سنة 1974. تضمّنت المغارة السابعة 18 جزءاً من برديات، في اللغة اليونانيّة. هناك نصان يعودان بلا شك إلى العهد القديم: الجزء الأول: خر 28:4 – 7. الجزء الثاني: رسالة إرميا 43 – 44. وحاول كالاغان أن يتعرّف إلى سائر الأجزاء، التي وُجدت في تلك المغارة، ولكن عبثاً. أخيراً قدّم طرحاً »عجيباً« حول الجزء الخامس الذي ماهاه مع مر 6:52 – 53، لأن توالي اربعة حروف(47) ذكّرته بجبل »جناسرت(48)«. في الواقع، هذا الجزء يتضمّن تسعة حروف يجب أن نوزّعها على أربعة أسطر (وقد يتضمّن السطر 12 حرفاً أو أكثر). وهناك أثر لحروف أخرى يصعب قراءتها بحيث تُفتح الطريق لبناءِ أكثرَ من نصّ. جاءت الاعتراضات كثيرة على هذا الطرح. ولكننا نكتفي بثلاثة براهين رئيسيّة: (1) هناك ثلاثة حروف تُقرأ بصعوبة. فقرأها كالاغان وتيدي بشكل غير معقول، بل مستحيل. (2) عادةً، تكون السطور متوازية في النصّ. ولكن هذين الدراسَين قدّما فرضيّة غير معقولة في السطر الثالث. وهكذا استندت الفرضيّة إلى فرضيّة. فما تكون النتيجة؟ (3) وحتّى بين الحروف التسعة التي بدت أكيدة، هناك حرف قُرئ خطأ: خلط القارئ بين التاء والدال(49). مثل هذا الخلط معروف في النصوص البرديّة، وهكذا تُضاف فرضيّة أخرى على الفرضيات السابقة، فكيف نتجاسر أن نعلن ذلك وكأنه أكيد؟ فالروح العلميّة المتواضعة تُبقي ذلك على مستوى طرحٍ يمكن تدارسه. فهل تقبل الصحافة بشيء غير أكيد؟ وفي كل هذا، لا تعود البرديّة إلى ما قبل سنة 50 كما قالوا، بل بعد هذه السنة. إذن، ماذا يبقى من برهان »مدرسة« تريد أن تُسند إلى وسائل بشريّة، صحّةَ الكتب المقدّسة؟
6 – معايير التاريخيّة في البحث
بعد أن قدّمنا المراجع، نودّ أن نورد باختصار المعايير الرئيسيّة المستعملة في البحث النقديّ كما يطبّق على هذه المراجع.
* القطيعة وعدم التواصل
يُنسب إلى يسوع التاريخ كل تقليد لا يمكن أن نستخلصه من اليهوديّة، وأن ننسبه إلى المسيحانيّة الأولانيّة، ولا سيّما حين خفّفت المسيحيّة المتهوّدة أو عدّلت التقليد الذي تسلّمته بسبب جرأته وخروجه عن الطرق المعروفة. نذكر هنا بشكل خاص أقوال يسوع وأعماله التي حيّرت أو أزعجت الجماعات المسيحيّة الأولى. مثلاً، عماد يسوع على يد يوحنا. كان بإمكان تلاميذه أن يجدوا في هذا العمل إشارة إلى أن يسوع خضع لمعلّمهم.
* التواصل التاريخيّ أو الشرح الكافي
هذا المعيار يكمّل المعيار السابق ويعطيه توازنه. لهذا نعطي صفة الصحّة لبعض وقائع لا جدال فيها، في حياة يسوع. مثلاً، أزيل من الساحة (بالموت) على أثر خلافه مع السلطات الدينيّة اليهوديّة. واحتفظ النصّ بما يبدو وكأنه يشكّل الأصل الملموس لتعدّد الاتجاهات في المسيحيّة الأولانيّة. مثلاً، التمثّلات المختلفة بالنسبة إلى الشريعة.
* الشهادات الكثيرة
ويعتبر الناقد صحّة أقوال يسوع وأعماله حين ترد في أكثر من مرجع مستقلّ: المعين، مرقس، بولس، يوحنا، انجيل منحول. أو في أكثر من شكل أدبيّ: الجدال، المثل، قول حكمة، خبر شفاء…
* التماسك
لا يمكن أن يكون تناقض بين الميزات المختلفة المنسوبة إلى يسوع التاريخ، كما رسم عنه المؤرّخون صورة إجماليّة.
يضاف إلى ذلك اللون المحلّي أو التوافق مع المحيط الفلسطيني كما عُرف في القرن الأول: عادات، معتقدات، نهج قانوني، ممارسات وظائفيّة وتجاريّة، ظروف اجتماعيّة وسياسيّة. وأخيراً، هناك معيار الأراميّة. فالأقوال المنسوبة إلى يسوع، يجب أن نستطيع أن نعيد ترجمتها إلى الأراميّة، فتتميّز بالبلاغة الساميّة (لا ننسى أن الأناجيل دوّنت في اليونانيّة، في بلاغة هندوأوروبية). لا قيمة لمعيار من هذه المعايير إن لجأنا إليه وحده. وحين تكثُر المعايير التي نستطيع أن نطبّقها على قول من أقوال يسوع أو عمل من أعماله، نقترب أكثر فأكثر من الحقيقة التاريخيّة التي نبحث عنها. غير أن كل هذا البحث يبقى على مستوى العلم. أما المؤمن فهو يسعى إلى اكتشاف شخص يسوع لكي يستنير بنوره ويسير في خطاه.
خاتمة
من الوجهة القانونيّة (أي وجهة الأناجيل الأربعة)، جاءت روايةُ سيرة الجليليّ في أكثر من صيغة. وحين قدّمت الكنيسة الأولى أربعة أناجيل، لا إنجيلاً واحداً، لتلاميذ المسيح الذين يقرأون الكتب المقدّسة، ولا سيّما في اجتماعات الليتورجيا، اتّخذت قراراً ذات بُعد لاهوتيّ عظيم. إذا كان المسيح هو تجسّدُ الكلمة الالهي وملء وحي الله الآب، فالاقتراب من شخصه وحياته ورسالته، يتمّ عبر أربعة مداخل. فالأناجيل الأربعة تكوّن أربع قراءات بعد فصحيّة(50) (أي دوّنت بعد عيد الفصح والقيامة، فاستنارت بنور القيامة) لتاريخ يسوع على الأرض. تقدّم أربعَ شهادت مختلفة. هذا الاختلاف يعني أن تاريخ يسوع لا يمكن أن ينحصر في تعبير واحد. لهذه الملاحظة وزنها اللاهوتي الكبير، لأن الأناجيل، على اختلافها، تمثّل قاعدة كل كلام عن المسيح.
حين احتفظت الكنيسة الأولى بأربعة أناجيل، في لائحة كُتبُها المقدّسة، في لائحة قانونها، وضعت حاجزاً لقراءة واحدة لحياة يسوع الناصريّ. فهناك أربع قراءات. فإن أردنا أن تكون لنا قراءة واحدة عارضنا الممارسة المسيحيّة الأولانيّة (حربٌ على الدياتسارون أو الأناجيل الأربعة في واحد)، بل كانت قراءتنا لحياة يسوع قراءة ناقصة. والبحث عن يسوع التاريخ الذي لم يكتمل بعد، له معناه من الوجهة التاريخيّة. لهذا يصعب علينا أن نختم الجدال الكرستولوجي ما دام لنا أربعة أناجيل. فالبحث التاريخيّ الذي يجعل اللايقين يُشرف على سيرة يسوع، يمنعنا بطريقته من أن نضع حداً لهذا الجدال الجوهري بالنسبة إلى الجماعة المسيحيّة.
الخور اسقف بولس فغالي
Beta feature
Beta feature
Beta feature
Beta feature
اترك تعليقاً