“غيرترود بيل” الجاسوسة التي رسمت حدود العراق
تمهيد
غيرترود بيل Gertrude Bell
مواليد 14 تموز 1868، باحثة ومستكشفة وعالمة آثار بريطانية عملت في العراق مستشارة للمندوب السامي البريطاني بيرسي كوكس في عقد العشرينيات من القرن العشرين، واسمها الكامل غيرترود بيل ولقد جاءت إلى العراق في عام 1914، ولعبت دورا بالغ الأهمية في ترتيب أوضاعه بعد نهاية الحرب العالمية الاولى، فقد كانت بسعة علاقاتها ومعارفها وخبراتها بالعراق أهم عون للمندوب السامي البريطاني في هندسة مستقبل العراق، ويعرفها العراقيون القدماء بلقب الخاتون، بينما يعتبرها البعض جاسوسة بريطانية.
كانت مس بيل ذات شخصية مؤثرة شاركت مجالس سيدات المجتمع في ذلك الوقت، وكانت تنتقد أسلوب التحدث الجماعي للنسوة، كما كانت معروفة على المستوى الشعبي وهناك قصة لها مع أحد قطاع الطرق المعروف باسم (ابن عبدكه) وهو قاطع الطريق المشهور في مناطق شمال بغداد، عند بدايةالقرن العشرين، ولقد حدث ان استولى ابن عبدكة على القطار الصاعد من بغداد ، والتقى “مس بيل” المسؤولة الإنكليزية المعروفة، التي كانت تستقل القطار، وحين عرفها اكرمها، وعاملها بحفاوة، فتوسطت له، واسقطت عنه الملاحقات القانونية، ووظفته في الدولة، ولقد زارت منطقة حائل في السعودية وأوردت مشاهداتها عنها في مذكراتها.
اقترحت مس بيل مع توماس إدوارد لورنس قيام مجلس تأسيسي للدولة العراقية بهدف تنصيب الأمير فيصل بن الحسين ملكا على العراق.
تبتسم الضابطة عندما أضاءت في هذا اليوم من عام 1921 إحدى وعشرون طلقة تحيةً في سماء بغداد. “يحيا الملك!”، صاح خطيب الاحتفال. وصفق عرب ويهود ومسيحيون في باحة القصر، وعندما لمح الحاكم الجديد الضابطة في الصف الأمامي، أدت له التحية العسكرية بهدوء.
كانت غيرترود بيل سعيدة، لأن تتويج ربيبها فيصل الأول كملك على العراق هو أيضا تتويج لمشروع حياتها. “ولكن يمكنك أن تعتمد على شيء واحد”، كتبت قبل ذلك إلى والدها، “لن أحاول بعد هذا صنع ملوك. إنه أمر متعب للغاية”.
كان حدثاً تاريخياً في تلك السنوات بعد الحرب العالمية الأولى، بعد تفكك الإمبراطورية العثمانية، فقد تم إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط من جديد. قسمت إنكلترا وفرنسا المنتصرتان وفقا لاتفاقية سايكس بيكو عام 1916 ممتلكات الإمبراطورية العثمانية المفلسة فيما بينهما وخلقتا من أقاليمها دولاً جديدة. وهكذا توحدت الولايات العثمانية، بغداد والبصرة والموصل، لتشكل هيكلاً متماسكاً، هيكل أصبح، اسمه ابتداء من عام 1921 المملكة العراقية، التي قامت بتأسيسها غيرترود بيل: فحددت الجزء الأكبر من حدودها واختارت حاكمها.
“ابنة الصحراء وأم المؤمنين”
ملكة العراق غير الـمُتَوَّجة. ابنة الصحراء. أم المؤمنين. كانت تلك بعض الألقاب، حيث وصلت في هذا العام 1921 إلى قمة سلطتها. بدأ كل شيء بنية سليمة. بدأت قصة غيرترود بيل وبالتالي تاريخ العراق أيضا بثوب للرقص.
لندن عام 1889. بيل في عمر 21 عاما تبحث عن زوج. اكملت ابنة العائلة الصناعية الثرية دراسة التاريخ في جامعة أكسفورد بامتياز، والآن ترقص في حفلات الرقص في لندن، الذي كان سوق الزواج للشباب الأثرياء.
ولكن أكثر من ذلك تأسرها الصحراء. في رحلتها إلى بلاد فارس عام 1892 تكتشف بيل عشقها للشرق. تبدأ في تعلم اللغة العربية، وتدرس علم الآثار، وتقوم بأول رحلة بحث في الصحراء السورية.
الإمبراطورية البريطانية في حالة حرجة
مفتونةً بالعالم الغريب، كانت متعددة اللغات ذات الشعر الأحمر التي تتقن ثماني لغات منغمسةً لسنين عديدة في ذاتها. إلى أن وصلتها برقية في أحد أيام تشرين الثاني عام 1915 – مفادها: الإمبراطورية البريطانية بحاجتك. إنها الحرب العالمية الأولى.
وضع إنجلترا محرج في صراعها ضد الإمبراطورية العثمانية المتحالفة مع ألمانيا والنمسا-المجر. في البداية هزيمة عام 1915 في غاليبولي، وبعد ذلك بقليل وضع حرج في (مدينة) كوت العمارة (العراقية). الآن يجب على المخطط الذي يدور في أروقة الدبلوماسية السرية أن يقلب الموازين: يريدون ضم القبائل العربية إلى حلفهم، والتحريض على الثورة ضد الأتراك. ومن أجل ذلك هم في حاجة إلى معلومات حاسمة:
من هي القبائل التي تكن ود للإنجليز؟ من منهم يمكن أن يشاكس؟ عدد قليل من الإنجليز لديه الأجوبة، وبيل واحدة منهم. سافرت آلاف الأميال على ظهور الجمال في الصحارى العربية، تقاسمت الخبز والملح مع شيوخ البدو كعلامة للصداقة، وكانت تصغي دائماً الى آرائهم السياسية.
عربية أكثر من أن تكون إنجليزية
“على الرغم من أنها ليست سوى امرأة”، قال ذات مرة زعيم قبلي، “ولكنها قوية وشجاعة”، كان السكان المحليون يثقون بهذه الغريبة ذات العيون الخضراء، وكانت بالنسبة لهم عربية أكثر من أن تكون بريطانية.
رست في صباح الثالث من آذار عام 1916 سفينة القوات البريطانية في ميناء البصرة في جنوب بلاد الرافدين. نزلت امرأة على الرصيف تمسك بيد تنورتها الطويلة وتحمل في اليد الأخرى قبعة. إنها غيرترود بيل. بعد فترة عمل قصيرة في مكتب المخابرات في القاهرة، انتدب نائب الملك في المستعمرات البريطانية الممتدة من الهند إلى البصرة “امرأة ذكية بشكل ملحوظ لها دماغ رجل”.
على الفور بدأت بالعمل: ترسم الخرائط التي ستدل الجيش الزاحف على بغداد، وتضع ملفات شخصية للقبائل البدوية وتحاول الإيقاع بينهم وبين زعمائهم من أجل إقناعهم بالتحالف مع إنكلترا.
الرائد ميس بيل
فجأة أصبحت معلومات بيل مطلوبة للغاية، بدأ نجمها يصعد: كانت أول ضابط مخابرات نسوي في الجيش البريطاني (الرائد ميس بيل) وقد استفيد من خبرتها ومعرفتها عن المنطقة وكذلك مكانتها الحميمية عند شيوخ الصحراء العرب.
ابتداء من عام 1917 أصبحت سكرتيرة للشؤون الشرقية، حيث ساهمت في وضع الإطار السياسي للدولة العراقية المقبلة. بالإضافة إلى خبراتها، كان لديها بصيرة سياسية أثارت ضجة في لندن، حيث يرى الآخرون التفاصيل فقط، كانت هي ترى غالبا الكل الكبير. فقط: لدى غيرترود بيل مشكلة. أنها تُربك الجنرالات المحليين خاصة. يشعر الكثيرون بسبب ثقافتها واعتدادها بالنفس بأنهم محشورون في الزاوية، على سبيل المثال عندما تنتقد ضابطا بشكل لاذع أمام الجميع فتقول له: “أيها العفريت الصغير”، ويتبعه جزاء.. يتحدث زميل لها عن “الاعتداد بالنفس الذي لا حدود له” والديبلوماسي البريطاني مارك سايكس كبير مفاوضي معاهدة سايكس بيكو شتمها قبل سنين بأنها “بلهاء، ثرثارة، مغرورة وسطحية”.
لكن الذي أدى إلى التصعيد هو وجهات نظر بيل السياسية: فقد أصبحت من أشد أنصار فكرة تقرير المصير العربي، في وقت كان زملاؤها البريطانيون يستخفون بالناس المحليين في كثير من الأحيان بوصفهم بكلمة “ملابس” .
عراق حديث كنموذج لعموم المنطقة العربية
بدأت الدسائس تحاك ضد بيل، وتم استبعادها، وتحديد حركتها. لكنها مستعدة لأن تصلب نفسها من أجل قناعتها”، نعم أكثر من ذلك: معالم رؤيتها لمستقبل العراق بدأت ملامحها تظهر. تريد خلق دولة متسامحة، حديثة رائده، كنموذج لعموم المنطقة العربية. حتى – وإن كان ذلك بتوجيه من إنجلترا. على الرغم من أنها تعمل دائما من أجل القضية العربية، فهي في نهاية المطاف بريطانية، تخدم مصالح وطنها وفي بلاد الرافدين اسم المصلحة: البترول.
مع ذلك: رغم المشاحنات في العمل، كانت بيل كلها حيوية في بغداد – حيث تعيش منذ عام 1917: تحب ركوب الخيل، والنزهات تحت أشجار النخيل مع المقربين منها، مع مُزارع الفواكه والخضار الحاج ناجي، الحديث لساعات طويلة مع تجار البازار، تشرب معهم الشاي الحلو وتدخن السجائر وتسمع آخر الشائعات في البلاد. ولكنها تحب أيضا أن تقوم بدور المضيفة في لقاءات يوم الأحد بعد الظهر – ففي حفلات الحديقة في منزلها، تتناقش مع أصحاب النفوذ في البلد حول التطورات السياسية. والشيء المبهر هو كيف بإمكانها أن تحلل في دقيقة واحدة النزاعات القبلية المعقدة، وتتحول مباشرة إلى موضوع الرقصات الحديثة الحالية في إنجلترا، أو كم عقدة تحتاج البوصة الواحدة لنسيج السجاد الفارسي الأصلي. يبدو أنها نسيت علاقتَيْ الحب الفاشلتين في
“تحيا الحكومة العربية!”
عام 1920 بسط الخريف ظلاله على بغداد، وفجأة تسارعت الأحداث. وبسبب انتفاضة العراقيين قررت سلطة الانتداب البريطاني نقل البلاد إلى الحكم الذاتي الذي وعدت به منذ فترة طويلة. “تحيا الحكومة العربية! فهي ستعمل ألف مرة أفضل منا”، تهلل بيل. تشكلت حكومة محلية وتم تعيين رئيس وزراء، وسن قانون انتخاب.
ينقص الحاكم فقط. طبعا غورتريد بيل متأكدة على مَن سيقع “الخيار الأول” – فيصل ذو الـ 36 عاما، ابن شريف مكة، قائد الثورة العربية ضد الأتراك. ملك سورية عام 1920 التي انحلت بعد غزوة ميسلون في 24 تموز 1920 الفرنسية، وهو الأكثر قدرة للحفاظ على تماسك البلاد الهش بين الشيعة والسنة والأكراد والمسيحيين واليهود. واستطاعت بيل أن تفرض رأيها: أولاً في مؤتمر القاهرة عام 1921 عند أمين عام المستعمرات تشرشل، ثم في إقناع العراقيين أنفسهم. وجرى استفتاء فاز به فيصل بـ 96 في المئة من الأصوات. في حين يقول المؤرخون ان 90% من السكان كانوا اميين، وبدأت الاستعدادات لحفل التتويج.
كانت بيل منهكة لكنها راضية، لقد عملت الخير للعراق، دون أن تدرك أنها بقراراتها على امتداد كل هذه السنوات زرعت بذور الصراعات الدموية التي يتم حصدها اليوم. بدايةً عند بناء المؤسسات بالتهميش السياسي للشيعة عمدا لصالح السنة، أو بدمج محافظة الموصل (الغنية بالنفط) بأكرادها مع العراق.
تضاؤل النفوذ
في 23 آب عام 1921 صاح خطيب الاحتفال “يحيا الملك!” ودوت واحد وعشرون طلقة تحية فوق بغداد، وعزفت الفرقة الموسيقية “حفظ الله الملك”. مازالت الدولة من دون نشيد، وحدودها النهائية لم تُرسم بعد. كان ذلك آخر مهمة كبيرة تقوم بها بيل، والتي اختتمتها بهذه الكلمات: “قضيت صباحاً مفيداً في المكتب لرسم الحدود الصحراوية الجنوبية للعراق”، لكن بعد ذلك بدأ نفوذها يتقلص، لم يعد في حاجة إليها. وأخيرا انتهى زمانها.
التجاهل والخيبة
انعزلت بيل، أصبحت كئيبة. كان استئناف عملها كعالمة آثار بديلا عن السلطة سابقا. وفي عمر 54 عشقت الرائد بيل بشعرها الأشيب للمرة الثالثة والأخيرة. ولكنها فشلت مرة أخرى.
في مساء الحادي عشر من تموز عام 1926، طلبت بيل من الخادمة أن توقظها الساعة السادسة في صباح اليوم التالي. ذهبت بيل إلى الفراش ولم تستيقظ بتاتاً. على المنضدة جانب السرير زجاجة صغيرة لحبوب النوم، لقد تناولت منها جرعة إضافية. هل كان ذلك عمدا؟ هذا لم يتم توضيحه إطلاقاً. قبل يومين من عيد ميلادها الـ 58 غفت إلى الأبد، وهي ترقد إلى يومنا هذا حيث كانت تتمنى: في الأرض العراقية. في البلاد التي خططت لها مشاريع كبيرة.
وفاتها
توفيت في 12 تموز 1926 بسبب تناولها جرعة زائدة من الدواء، ولا يعرف إن كانت قد قصدت الانتحار ام لا، شيعت تشييعاً مهيباً حيث شارك فيه الملك فيصل الأول، ودفنت في مقبرة الإنجليز في باب المعظم وسط بغداد.
قبل أن تدخل غرفتها في بيتها ببغداد، وتتناول حفنة من الأقراص المنوّمة لتنهي بذلك حياتها عام 1926، شكّلت غيرترود بيل فعلياً الشرق الأوسط الجديد، ورسمت حدود العراق، وبذلت كلّ ما لديها من علم ومهارات وحنكة لوضع النظام السياسي في المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى، إذ تدخلت بتشكيل نظام الملكية الدستورية في العراق، وتنصيب الملك فيصل حاكماً له، بالتنسيق مع الاستعمار البريطاني الذي اتخذ “مكتب القاهرة” مكاناً للتخطيط.
“كانت بيل صديقة ومصدر ثقة الملك الجديد فيصل، ومحركاً أساسياً لرسم حدود الدولة وتأسيس الملكية الدستورية هناك، إضافة للبرلمان ومرافق الخدمات المدنية والنظام القضائي”، بحسب ما قالت ليورا لوكيتز في كتابها “السعي في الشرق الأوسط: جيرترود بيل وتكوين العراق الحديث”، الصادر عام 2006، ليحكي تفاصيل حياة بيل، ويوثق دورها السياسي واضطرابات حياتها الشخصية.
“ملكة الصحراء وأم المؤمنين ومخترعة دولة العراق”
غيرترود بيل، أشهر جاسوسة بريطانية، غابت عن الذاكرة العربية الجمعية لعقود طويلة، على عكس الإصدار الذكوري منها “لورانس العرب”، وذلك على الرغم من أنها كانت أهم امرأة في منظومة الاستعمار البريطاني وفي المنطقة العربية في تلك الفترة، حيث كانت أحد الخبراء الـ39 الذين دعاهم وينستون تشرتشل لمؤتمر القاهرة عام 1921 للتشاور معهم حول مخطط تقسيم الشرق الأوسط في فترة انهيار الإمبراطورية العثمانية، ورسم حدود الدولة القومية.
فبعد أن كانت أول خريجة بامتياز من جامعة أكسفورد قسم التاريخ، أدارت بيل ظهرها للعالم الأرستقراطي الذي ترعرعت فيه في إنجلترا حيث عاشت مع عائلتها النخبوية، لتجوب العالم وصحاريه بصفتها مستكشفة وباحثة في الآثار ومستشرقة.
وبعد أن جابت أرجاء العالم اتجهت بيل لبلاد الفرس، في رحلة مع عمّتها ماري، التي كان زوجها سفيراً إنجليزياً هناك، ومن هنا كانت طهران بوابة بيل للمشرق، فخلال ترحالها الطويل تعلمت لغات عدة، منها العربية والفارسية والتركية، وأتقنتها بشكل كبير، أدت بها لسبر أغوار الحضارة العربية والعادات والثقافة، والتغلغل داخل المجتمع المشرقي، وجمع المعلومات حوله من أحاديث الناس؛ النساء خاصة.
أتقنت “خاتون بغداد” (اللقب الذي كانت تنادى به بيل أثناء إقامتها في بغداد) العربية والفارسية والألمانية والفرنسية وقليلاً من اللغتين الايطالية والتركية، وسجّلت أغلب معايشتها لأهل المدن التي زارتها وربما يكون كتابها الأبرز “سوريا: الصحراء” (1907) الذي اعتبر مرجعية لدى العديد من الدارسين لتاريخ بلاد الشام.
في نهاية عام 1909، أتت إلى العراق ضمن بعثة آثار لزيارة قصر الأخيضر وبابل وبعض المدن كالنجف وقامت برسم بعض الخرائط عنها، إلى جانب جمعها معلومات عن العشائر التي مرّت بها، ثم أرسلت من قبل المخابرات البريطانية إلى القاهرة حيث التقت هناك بلورانس العرب، ثم عادت إلى البصرة في مهمّة تتصل بترتيبات سايكس بيكو.
في تلك الفترة، يبدو أن مقترحات بيل نالت موافقة حكومة بلادها؛ وأهمها رسم خارطة العراق الحالية التي ضمّت ثلاث ولايات عثمانية؛ بغداد والبصرة والموصل بعد جدل حول وضع الولاية الأخيرة ضمن حدود الدولة الحديثة في أروقة السياسة البريطانية، وترشيحها فيصل بن الحسين ليكون أول ملك يحكمها، ورفضها إقامة دولة مستقلّة للأكراد.
عُيّنت مستشارة للمندوب السامي البريطاني في العراق سير برسي كوكس، وكانت علاقتها متوترة مع عدد من شخصيات الحركة الوطنية آنذاك، وفق الفيلم الذي يعرض لرسائل متبادلة بينهم وبينها، ومنهم المحامي سليمان فيضي، ممّن كان يدافعون عن حقهم في الاستقلال، لكنها تمتّعت بشعبية عالية حيث خرجت الآلاف في جنازتها، وقد دفنت في بغداد.
– تجليات النسوية المبكرة
لا يعود غياب قصة غيرترود بيل عن الأدبيات العربية– والغربية كذلك- لسبب واضح، لكن ظهورها في حقبة زمنية اتسمت بالذكورية إلى حد بعيد، يعد أحد الأسباب التي غيّبت اسمها عن أذهان المؤرخين الذين جمعوا وكتبوا عن تلك الفترة، على الرغم من أن دورها كان مشابهاً، وربما أكثر أهمية من دور لورانس العرب الذي حظي بذكر أكبر في المؤلفات المكتوبة والمرئية مبكراً.
في هذا السياق تقول المؤرخة والكاتبة لوكيتز: إن “المؤرخين الكبار كانوا رجالاً، ولم يأخذوا (بيل) على محمل الجد لكونها امرأة”.
إلى جانب ذلك، نظراً لأن بيل وثقت حياتها عن طريق كتابات شخصية شملت أيضاً أحاديث عن الفساتين واللقاءات الاجتماعية، قد يكون ذلك أسهم في تغييب سيرتها.
عقود طويلة قبل تأسيس الحركة النسوية في الغرب، كان طابع حياة وعمل غيرترود بيل يثير التساؤلات أحياناً والإعجاب في كلّ الأحوال، إذ كان الحيز العام في السياسة خاصة مخصصاً للرجال بشكل كامل، لكن غيرترود كانت المرأة الوحيدة بين الخبراء الذين استعان بهم تشرشل لتشكيل الدول القومية، وترسيم الحدود، وهو ما يثير التساؤلات حول مساهمة بيل– بشكل واعٍ أو غير واعٍ- بالتراكم المستمر الذي أثر لاحقاً على دور المرأة في الحيز العام.
وفي هذا السياق تقول لوكيتز: إن “غيرترود قد تكون هي تجلّي النسوية المبكر، أو نسوية لأجل نفسها (…) فقد نسيت أن النساء المنتميات لطبقة اجتماعية أقل من مكانتها، لم تكن ستتوفر لهن الظروف لتحقيق ما حققته هي”.
وتضيف أن بيل لم تتحدَّ أو تنتقد النظام الأبوي في السلطة والمجتمع، بل عملت من خلاله.
– العودة لذاكرة الحاضر
تأسيس المتحف العراقي
لها الفضل في تأسيس المتحف العراقي وظل المتحف حافظاً لأهم الآثار التي وجدتها والآثار العراقية البابلية القديمة والمخطوطات والتحف حتى عام2003، حيث سرقت وتحطمت بعض الآثار في ظل تدهور الأوضاع اثناء الغزو الأميركي للعراق، فقد نهبت وخربت الكثير من الآثار وقد أرجع البعض منها خلال الفترة ما بعد عام2006
التجاهل
لم يكتب المؤرخون عن غيرترود كثيراً، إلا أنه بعد عقود من التجاهل وجدت الكاتبة والباحثة ليورا لوكيتز كنزاً ثرياً، وهو كتابات ومذكرات أهم مرأة في الإمبراطورية البريطانية، واعتماداً على ما تكشفه الأوراق من تفاصيل حياتها الشخصية، وتقلباتها النفسية، ودورها السياسي، ألفت لوكيتز كتابها وهو السيرة الذاتية الشاملة لحياة بيل، وتعمل حالياً على جزء ثانٍ له.
في الوقت الذي يشهد فيه العراق منذ أكثر من عقد انهياراً مستمراً للنظام السياسي، وتحديات معقدة كثيرة، توثق إصدارات مرئية قصة المرأة التي رسمت حدود العراق، وأنهت حياتها قبل أن تعرف مصيره.
ففي فيلم “ملكة الصحراء”– من إنتاج هوليوود 2015- تجسّد الممثلة الأمريكية نيكول كيدمان، شخصية غيرترود ومراحل حياتها، إلا أن نقداً كبيراً واجه الفيلم؛ لكونه يركز بشكل كبير على جانب حياة بيل الرومانسي والاجتماعي، ويظهر أسلوب حياتها الأرستقراطي الذي أخذت جزءاً منه معها إلى الشرق أيضاً.
في حين يضع الفيلم في الهوامش دور غيرترود السياسي البارز وتداعيات تنفيذ مخططها والحدود التي رسمتها للعراق، والذي نتج كما نرى اليوم عن إقامة دول تصنف سنوياً ضمن قوائم الدول “الفاشلة” وتعاني من نزاعات داخلية مستمرة أو من تدخل عسكري أجنبي.
وثمة فيلم آخر: “رسائل من بغداد”، بعد تجنيده لدعم مادي شعبي عبر حملة جمع تبرعات إلكترونية، وهو يعرض صوراً وقصصاً نادرة للمرأة التي استثناها التاريخ من أوراقه. بقالب وثائقي دراميّ يعتمد الفيلم على رسائل بيل ليحكي قصتها الاستثنائية، إذ كان لها دور أكثر تأثيراً من صديقها وزميلها لورانس العرب، الذي خلده ذكر المؤرخين والكتب العربية والأفلام منذ الستينيات.
“رسائل من بغداد” عنوان الفيلم الوثائقي الذي أنتج بالاستناد إلى لقطات أرشيفية لعدد من البلدان العربية قبل مائة عام لم يسبق عرضها من قبل ووثائق بريطانية، يتناول العمل قصة بيل؛ الجاسوسة والدبلوماسية وعالمة الآثار في مرحلة حسّاسة ساهمت خلالها في تشكّل جغرافيا المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى وتقاسمها بين بريطانيا وفرنسا.
تؤدّي أدوار بطلة الفيلم والشخصيات التي عايشتها مجموعة ممثلين يقدّمون ضمن حواراتهم محطّة غيرترود بيل الأولى بعد تخرّجها من “جامعة أكسفورد” إلى إيران حيث كان عمّها يعمل فيها سفيراً لبلاده، لتصدر بعد كتابها “صور من بلاد فارس” (1892)، تصف فيه مشاهداتها هناك، ثم يصوّر رحلتها إلى فلسطين وسورية في مهمة محدّدة تتعلّق بدراسة أوضاع دولة آل الرشيد في شمال الجزيرة من خلال اتصالها مع عدد من القبائل العربية، وإرسال تقييمها الخاص لمستقبل دولتهم.
غيرترود التي استثناها التاريخ، وانتحرت بعد معاناتها من اكتئاب حاد، ساعدت على ترسيم الحدود في الشرق الأوسط، وإقامة متحف العراق. وكان لها موقف مخالف للإنجليز فيما يخص فلسطين والحركة الصهيونية، فقد وجد بين أوراقها رسالة لعائلتها تقول فيها: “أنا أكره الإعلان الصهيوني للسيد بلفور، ففي رأيي ليس هناك إمكانية لتطبيق الأمر، تلك البلاد غير ملائمة لطموح اليهود، فهي أرض فقيرة لا يمكن تطويرها، وثلثا سكانها من العرب المسلمين الذين لا يحبون اليهود، هذا مخطط اصطناعي أتمنى له ألا ينجح”.
الخاتمة
هي واحده من الاشخاص الذين استعان بهم تشرشل لتشكيل الدول القوميه في الوطن العربي وترسيم الحدود لهذه الدول وهو مايثير التساؤلات الكثيره حول شخصية هذه الامراه التي لعبت دورا كبيرا في التاثير على الحياة السياسيه في العراق في العهد الملكي ولحين وفاتها، فلقد لعبت دوراً لايقل اهمية بالنسبة لبريطانيا عن دور لورنس العرب…
عد احتلال الجيش الأميركي للعراق عام 2003، عادت إلى التداول مجموعة رسائل كتبتها الباحثة والآثارية الإنكليزية غيرترود بيل (1868 – 1926)، ورغم أنها نشرت بعد رحيلها بعام كاشفة عن دورها في رسم الحدود الحالية وترشيحها لعدد من زعماء المنطقة ليحكموا بلدانهم، وحضورها القوي في المملكة العراقية الناشئة ووضع سياساتها، إلى جانب اشتباكها مع المجتمع وتمتين علاقاتها بعدد من رموزه وشخصياته العامة.
المصادر
– خليج اون لاين
– القنطرة ايريس موستيغل، ترجمة سليمان توفيق
– ويكيبيديا
اترك تعليقاً