في معرفة الله
الله لا يُعرَف. هو يعرِّف عن ذاته. لا يستطيع الإنسان أن يعرف، بقدراته البشريّة المحدودة، الله. هو يتلمّس وجوده، يتحسّس شيئاً من صفاته، يقيسه انطلاقاً من العالم المخلوق، لكنّه لا يدركه أبداً، ولا يعرفه معرفة كيانيّة، حقيقيّة، إلا بتدخل إلهيّ، بفعل كشفٍ لقدراته الإلهيّة. وهذا يحتاج إلى نفوس نقيّة وبارّة ومتواضعة، حتّى تراه وتتجاوب معه. فالله يضيء بنوره على الأخيار والأشرار، على الأبرار وعلى الذين يختارهم هو، برحمةٍ منه، لمقاصد وحده يعرفها. “الله يريد الكل أن يخلصوا وإلى معرفة الحقّ يُقبِلوا”.
يستدّل الإنسان على الله، يساعده عقله على رؤية السبل التي تؤدي إليه. الله يُعرَف بالحب. برهان وجوده مرتبط ببرهان فعله فيك وفي الكون.
قيل قديماً “أرني إلهك”، أرني البرهان على إلهك.
صفات إلهك تُرى بواسطتك. كيف تسلك، كيف تتصرف، كيف تواجه العالم، ما هي أخلاقك؟… إن كنت مؤمناً بالله تطيعه، وتسلك بحسب وصاياه ومرضاته، فيظهر هذا في مسلكك في دنياك. المؤمن يتشبّه بإلهه. وفي المسيحيّة، الإنسان مدعوّ إلى أن يصير على صورة الله. لقد خُلق، في الأصل، على صورته. وإن كانت، هذه الصورة الإلهيّة، قد تشوّهت بسقوط الجدّيَن الأوّلَين من الفردوس، إلا أنّ آثارها ما تزال موجودة، ويستطيع الإنسان، بالمسيح، أن يرمّمها، ويرقى بها إلى جمالها الإلهيّ الأصيل.
عرف المسيحيّون، منذ القدم، طريقتين لمقاربة الله، هما، في الوقت ذاته، متوازيتان ومتكاملتان. قالوا بالإثبات، عن طريق الاستدلال والقياس، وبالتنزيه، عن طريق السموّ بالله، عن كلّ صفة موجودة في الخليقة.
في الطريقة الأولى، أنت، على سبيل المثال، تطلق صفة الجمال على الله، لأنّك ترى الجمال في الخليقة، التي برأها، له المجد. وهكذا ترى إلى كلّ حُسْنٍ وخيرٍ في هذه الدنيا، وتثبته في الله. ترى رحمة فائقة في مخلوق ما، فتقول إذا كان المخلوق قادراً على أن يصل إلى هذه الدرجة من الرحمة، فكم رحمة الله عظيمة إذن!
هذا طريق استدلالي، منطقي، ينطلق من الخليقة إلى الخالق. سمّاه اللاهوتيّون لاهوتَ الإثبات أو اللاهوت الإيجابي.
الطريقة الثانية تسمى التنزيهيّة. وهي على العكس من الطريقة الإثباتيّة. تنطلق من أنّ الله منَزَّه كليّاً عن محدوديّة خليقته. فعدل البشر، على سبيل المثال، ناقص، أمّا الله، فليس فيه نقصان، وتالياً، عدله يتجاوز العدل البشري، بما لا يمكن قياسه، ولا معرفته، ولا حدّه. لذلك وصل بعضهم إلى القول بلا عدالة الله، إذا ما قورنت أو قيست بالعدالة كما يفهمها البشر. لأنّ عدالة الله، غير المحدودة، وغير المُدرَكة، تجعلنا ننفي العدل عنه، انطلاقاً من عدلنا البشري الناقص والمحدود. تُسمّى هذه الطريق في مقاربة الله باللاهوت السلبي أو لاهوت النفي، لأنّه ينفي كلّ صفة بشريّة، مهما كانت صالحة وحسنة، عن الله، باعتباره، تعالى، يفوقها بما لا يُقاس.
ولأنّ الإنسان لا يستطيع أن يفهم الله مباشرةً، تراه يستعين بالصور والرموز، على قدر ما يستوعب عقله ومخيّلته. لذلك، فإنّ كلّ كلام عن الله، في النهاية، هو كلام رمزي وغير مباشر، وبشري، يحمل النفحة واللغة البشريتين، اللتين لا يمكنهما الإحاطة بالله.
جاء في سيرة المغبوط أُغُسطين، أنّ ملاكاً، بهيئة ولد، ظهر له فيما كان يتمشّى على شاطىء البحر، متفكِّراً، بتركيز وإجهاد، في سرّ الثالوث القدّوس، وعلاقة الأقانيم بعضها ببعض. كان الولد – الملاك ينقل بكفّيه ماءً، من البحر، ليضعه في حفرة صغيرة، صنعها في رمل الشاطئ. فلمّا رآه أًغُسطين، قال له: ألا ترى اتساع البحر ومداه؟ كيف لهذه الحفرة الصغيرة أن تتسع لكلّ هذا الماء؟ فأجابه الملاك: وكيف لعقلك المحدود أن يتسع لله اللا محدود؟!!
لأنّ الرموز والصور واللغة البشريّة لا تكفي للتعبير عن سموّ الله الفائق، وكذلك عن اختلافه عنّا، ترانا نحتاج إلى استخدام أسلوب النفي، لكي نقول ما ليس هو الله، أكثر من القول ما هو الله. فطريقة إثبات الصفات في الله تتوازى وطريقة نفي هذه الصفات عنه تعالى.
كلّ تعبير بشري إنّما هو تصوير قاصر، على الرغم من صدق القصد منه. ويبقى الله سرّاً. إنّه يتجاوز كلّ ما هو بشريّ. عندما نقول بالسرّ نعني، على حدّ قول المطران كاليستوس وير، أنّ أمراً ما قد استبان لفهمنا، غير أنّنا لا ندركه، البتّة، إدراكاً كاملاً.
الله في المسيحيّة، هو الإله الذي عُرف، في الكتاب المقدّس، بالإله الذي يكشف عن أفعال قدرته للبشر، ليجعلهم يعرفونه على حقيقته. لذلك دعا الكثيرون المسيحيّةَ بدين الكشف الإلهي، الذي بدأ بمخاطبة إبراهيم، وانتهى بالتجسّد الإلهي، في شخص المسيح. نعرف الله بيسوع المسيح. “ما من أحد يعرف الآب إلا بي” (يو: 14،6؟).
من هنا يفرِّق اللاهوت الأرثوذكسي بين جوهر الله أو طبيعته أو ذاتيّته، من جهة، وبين قدراته أو صنائعه أو أفعال قوّته، من جهة أخرى.
جوهر الله لا يمكن إدراكه أبداً، لا في هذه الحياة، ولا في الأبديّة. لو عرفنا جوهر الله لما بقينا مخلوقين. هذا أمر مستحيل على الإنسان “الله في النور الذي لا يدنى منه”. لكنّه يكشف لنا عن قدراته أو أفعال قوّته. وذلك عندما يعزّينا أو يَهدينا أو يُرشدنا…إلخ. نرى قدراته في أفعاله، التي يتمّمها فينا، وفي العالم المحيط بنا: في خليقته.
يقول القدّيس سمعان اللاهوتي الجديد: “أيّها العالم غير المنظور، نحن نراك، أيّها العالم غير الملموس، نحن نلمسك، أيّها العالم الممتنعة معرفته، نحن نعرفك، أيّها العالم المحتجز إدراكه، نحن نمسك بك”.
هذا يستلزم عيوناً روحيّة ترى ما لا يُرى بعيني الجسد فقط. هذا يُعطى لمن لطّفت النعمة الإلهيّة أهواءهم، فاستنارت بصيرتهم الداخليّة.
كيف لقاسي القلب، مثلاً، أن يتحسّس أفعال الرحمة؟ وكيف لمَن أعمت الغيرة قلبه، أن يرى الصلاح الذي في غيره، وهو يتمزّق غيرةً وتحرّقاً وحسداً وكراهية؟
لكي تعرف الله على حقيقته يلزمك حبّاً وتواضعاً وحسّاً إنسانيّاً مرهفاً. تعرفه بقدر ما تعاشره، ويكون حاضراً فيك. ولا تعاشره حقّاً إلا إذا كنت مُخلِصاً، حتّى المنتهى، لوصاياه وتعاليمه، التي كشفها لك في يسوع المسيح. آنذاك يظهر فعله فيك، وإلا فأنت تعبد ذاتك متوهّماً إيّاها إيّاه، وتغلق، بذلك، الطريق أمام فعل قدرته فيك.
يقول الشيخ المستنير صفروني زاخاروف: “الله يمكن معرفته في كلّ مكان، لأنّه حاضر في كلّ مكان. وحتّى يمتلك الإنسان هذه المعرفة، فإنّ المدارس والكتابات اللاهوتيّة ليست كافية قطعيّاً. ولكن متى كان حاضراً معنا، فإنّ المعرفة الحقّة تخترق، وبشكل لا يُفسَّر، كياننا كلّه”. 13؟
المتروبوليت سابا (إسبر)
اترك تعليقاً