قصة المصالحة التاريخية بين أحبار الكرسي الانطاكي ووقائع تمتد من عصر البطريرك ثيودوسيوس السادس الى البطريرك الياس الرابع
قصة لبنان مع البطريرك الراحل اغناطيوس الرابع هزيم قصة طويلة، وهي لا تُروى في مقال ولا تُكتب في رواية. وللإنصاف للحقيقة فإن الرواية تتطلب مجلدات وكتباً وليست رواية واحدة على الاطلاق.
يوم وداع سلفه الراحل الياس الرابع معوض الذي ذهب الى مؤتمر لاهور وعاد مجللاً بلقب بطريرك العرب، وقف اغناطيوس الرابع هزيم في باحة الكنيسة المريمية في دمشق، وقد خرج منها وهو يتدثر بتواضع جم، وتجلله مهابة حادة، يحف به السادة الأحبار، ويتهافت عليه الأساقفة بفرح وغبطة وهو صامت، هادئ، ويفكر في أحوال طائفة كبرى، تتنازعها انقسامات كبرى أيضاً.
بادرته: ما هو شعاركم الآن، صاحب الغبطة، وأنتم تنقلون من موقع يألفه الأساقفة، الى سدة القيادة، والمتناوبون على رئاستها كثيرون والمطلوب واحد: قائد يتمتع
بخصائص الحكمة؟
افترَّ ثغره يومئذٍ، عن ابتسامة حيية، وأردف بتعبير خجول: القيادة محبة، وطائفتنا ما أحوجها اليوم الى المحبة، وأسأله تعالى أن يمنحني فرصة الحوار، ويعطيني موهبة سماع الآخر، والرأي الآخر، والمحبة لا تولَد الا بالحوار.
رمى عباراته ومشى خطوات الى الأمام، ثم انكفأ خطوة الى الوراء وبادرني: أريدك غداً في مكتبي لمهمة عسيرة.
عدتُ الى بيروت من دمشق، وكان عنوان الأنوار في اليوم التالي: الكنيسة الأرثوذكسية اختارت بطريركا التقى والمحبة والحوار.
أمس، الأحد، ودَّع اللبنانيون بطريرك انطاكيا وسائر المشرق واليوم يُدفن مع أسلافه البطاركة السابقين في الكنيسة المريمية الدمشقية، وأربعة مطارنة، على الأقل، يحلمون بخلافة اغناطيوس الرابع، أو يتصرفون في السر لا في العلن، وكأن كلاً منهم أصبح بطريركاً مقبلاً.
قطع الشركة
كانت أزمة الانقسام في الطائفة الأرثوذكسية قد بدأت بعد فترة العجز التي أصابت المطران ثيودثيوس أبو رجيلي متروبوليت طرابلس والكورة وتوابعهما، اثر حياة حافلة بالمجد والنجاحات، فقد كان رائداً من رواد العلم والثقافة. وعندما زار لبنان الرئيس التركي جلال بايار، وعرج مع كبار المسؤولين مع العاصمة الثانية، ألقى خطاباً في رجالات طرابلس، وتولى البطريرك أبو رجيلي ترجمته مباشرة، وخطف اعجاب الناس لبلاغته وسرعة بديهته.
وبعد وفاته في حقبة الستينات، نشأت في الشمال حرب انتخابية كانت بمثابة معركة سياسية شارك فيها زعماء الشمال وفي مقدمهم النائب فؤاد البرط والوزير السابق جبران نحاس وحبيب فاضل طرابلس والميناء والوزيران السابقان فيليب بولس وفؤاد غصن والدكتور جميل البرجي الكورة.
عدتُ الى دمشق في اليوم التالي، فوجدتُ البطريرك اغناطيوس الرابع بانتظاري، وأودعته نسخة من عدد الأنوار وقد تُوِّج بالشعار الذي أطلقه بُعيد انتخابه بطريركاً.
تلقَّف العدد بارتياح، وهو يردد بأن هذا العنوان ليس غريباً على صحافة سعيد فريحه، إن هذا الصحافي الكبير دأب منذ الاستقلال على تربية جيل لا يتعب في خدمة لبنان والعرب، وعلى هذه الصفات نشأت عائلته الخاصة وأسرته المهنية.
أضاف: لندخل في الموضوع. أنا أعرف مدى صداقتك مع المطرانين الجليلين وكلاهما من أساتذتي: المتروبوليت بولس الخوري مطران صيدا وصور ومرجعيون، والمتروبوليت أبيفانيوس زائد مطران عكار وتوابعها. الأول هو من أهم خطباء العرب، والثاني صاحب أجمل صوت كنسي في أداء الترانيم الدينية. وأنا أريد بولس أن يخطب في المحبة، ومن أبيفانيوس ترانيم وألحاناً تفتقدها الكنيسة. إليك هذه الرسالة، أتمنى أن تسلمها الى المطران جورج متروبوليت جبل لبنان جورج خضر، وتعمل معه للتنسيق والمصالحة، وتعميم المحبة بين أصحاب السيادة مطارنة الكرسي الانطاكي.
حملتُ الرسالة وأنا أطير فوق أرض الشام من الفرح، وقصدتُ مقر المطرانية الأرثوذكسية لجبيل والبترون جبل لبنان، وأودعته إياها، ثم اتجهتُ الى بيروت واتصلت بالمتروبوليت بولس ليعود من العاصمة الثالثة صيدا الى العاصمة الأولى بيروت.
في اليوم الثاني التقيتُ المطران جورج في مكتب صديق له قرب الجامعة الأميركية في بيروت، وقال لي: إن هذا أهم عمل ينتظرنا.
وجرى الاتصال بالمطران بولس وتم الاتفاق على لقاء يجمعه والمطرانين أبيفانيوس وجورج بعد ثلاثة أيام.
دارت المعركة يومئذٍ حول مرشحين اثنين هما اغناطيوس هزيم وباسيليوس سماحة المعتمد البطريركي الأرثوذكسي في موسكو. وصار لكل منهما فريق يؤيده ويؤازره.
بعد مدة تفاقمت الأزمة وامتدت الى معظم مدن الكرسي الانطاكي في لبنان وسوريا وسط أكثرية تؤازر سماحة وأقلية تؤيد هزيم. وكان من أبرز الوجوه التي تؤيد المعتمد البطريركي لدى الكنيسة الروسية مطارنة جبل لبنان كرم وزحلة نيفن سابا وبيروت ايليا الصليبي وبولس الخوري صيدا وأبيفانيوس زائد عكار.
بعد مدة تضاءلت نسبة الأكثرية، بوفاة المطارنة نيفن سابا وكرم وانتقال مطران بيروت ايليا الصليبي الى جناح الأقلية مقابل انتخاب نسيبه غفرائيل الصليبي بعد وفاته مكانه.
وهكذا رجحت كفة الأقلية، وخسرت الأكثرية سيطرتها على المجمع، وحدث التغيير وجرى انتخاب مطارنة وانتخاب مضاد لمطارنة آخرين، حيث اختار المجمع الرسمي الياس قربان من أبرشية نيويورك التي كان يرئسها المطران بشير مطراناً على طرابلس، ثم جرى انتخاب فيليب صليبا على أبرشية أميركا الشمالية بعد وفاة المطران بشير، واغناطيوس هزيم على اللاذقية، في حين انتخب الفريق الآخر أنطوان الشدراوي مطراناً على حمص، وجورج الحاج على الريو دو جانيرو والياس نجمة مطراناً على جبل لبنان.
كان فريق سماحة يتكئ على دعم وزير الداخلية السوري محمد رباح الطويل، لكن بعد الحركة التصحيحية التي قادها الرئيس حافظ الأسد، اتخذ مواقف داعمة للجناح المؤيد للمطران هزيم الذي لم يستطع الدخول الى سوريا ولا الى أبرشية اللاذقية المنتخب عليها، وأبعد الآخرين عن الأبرشيات المنتخبين لها.
استطاع المجمع الانطاكي المقدس، بأكثريته خصوصاً بعد انتخاب المطران جورج خضر مطراناً على جبل لبنان واسبيريدون خوري على زحلة، والياس عودة على بيروت، وتعيين غفرائيل الصليبي على أوروبا أن يعزز مواقعه، وبعد انتخاب الياس الرابع بطريركاً أن يقطع الشركة الروحية مع المطارنة المؤيدين لجناح سماحة، مما يعني عدم المشاركة في الصلاة معاً، وقطع الحوار معه.
المصالحة بعد القطيعة
كان أول ما فعله البطريرك اغناطيوس الرابع هزيم، هو المبادرة الى المصالحة مع المطرانين أبيفانيوس زائد وبولس الخوري، الذي كان ينزل في أحد فنادق بيروت عندما كان يتردد على العاصمة اللبنانية.
ذهب المطران جورج خضر الى زيارته في فندق كوليزه وتمت المصالحة وفقاً لرسالة البطريرك الجديد الى مطران جبل لبنان، وبعد أسبوع توجه المطرانان أبيفانيوس وبولس الى دمشق، وتمت المصالحة التاريخية في المقر البطريركي.
وتمّ الاتفاق على إلغاء قطع الشركة الروحية، في أول اجتماع يعقده المجمع الانطاكي المقدّس، وعلى ان تتم تسوية أوضاع الأسقف غفرائيل فضول، واعادته الى الكنيسة وإلغاء قرار تجريده من الكهنوت، وتصفية كل جذور الأزمات السابقة.
وبعد ذلك، انصرف البطريرك هزيم الى اقامة المؤسسات في الكنيسة، وتشجيع العمل الرعوي والى استثمار الأملاك والأراضي التابعة للكنيسة في خدمة أبناء الأبرشية.
وفي المقدمة مساهماته في توطيد أسس مجلس الكنائس العالمي، بالتعاون مع الكنائس الأخرى، ومجلس كنيسة طوائف الشرق الأوسط الذي كان يعقد اجتماعاته في ليماسول في جزيرة قبرص.
برز اغناطيوس الرابع هزيم حاذقا ولاهوتيا كبيرا، في المؤتمرات التي شارك فيها في العواصم العربية والدولية، وكان صوتاً مدوياً في الدفاع عن لبنان والذود عن فلسطين.
وأدهش العالم في مؤتمر انعقد في منتجع الطائف السعودي، عندما تحدث بإسهاب على الترابط بين لبنان وفلسطين في عدالة القضية وانسانيتها، وجعلها محور الصراع والتفاهم بين الشعوب.
إلاّ أن هاجسه الأساسي كان إرساء مرافق الطائفة الأرثوذكسية على مؤسسات لا على أشخاص، مع حرص على جعل الأكفياء أساساً لكل نجاح في أي عمل اداري أو انساني.
ويروي الوزير السابق ايلي سالم الذي انتقل من نيابة رئاسة الحكومة ووزارة الخارجية الى رئاسة جامعة البلمند، كيف كان البطريرك الأرثوذكسي يحارب في سبيل نيل حقوق الطائفة.
ويورد تفاصيل لقاء جمعه بالرئيس أمين الجميّل، بعد الترخيص لجامعة البلمند في عهده، كيف راح يحثّ رئيس الجمهورية على أن يكون عادلاً في اعتباراته الطائفية في ما يتعلق بالتعيينات، ويقول في كتابه من محردة الى عرش انطاكيا ان الرئيس كان يعين موارنة في مناصب كانت مخصصة للأرثوذكس.
فردّ بأن رئيس الجمهورية راح يردّد بأن أقرب مستشاريه هم من الأرثوذكس.
ويقول انه في حقبة الأربعينات إلتحق بجامعة بيروت الأميركية، ثم انتقل من باريس الى موسكو، ويكتب دراساته الفلسفية بين بيروت وباريس، الى ان استقرّ في دير البلمند وعندما وصل الى البلمند كان الدير في أسوأ أحواله، لكنه جعله أرضا معطاء بعدما كانت جدباء، فقاد مرحلة التغييرات وشقّ الطرق الحديثة اليها، مكان القديمة. وأسّس معهد اللاهوت باقتراح من متروبوليت أميركا الشمالية الراحل أنطونيوس بشير.
ويروي ايلي سالم كيفية تأسيس جامعة البلمند، وضمّ اليها بعض الفروع الجامعية وفي مقدمها جامعة الألبا.
ويتابع: كانت مفاجأة لي عندما طلب منّي البطريرك هزيم وصديقي عصام فارس ان أتولى رئاسة الجامعة بعد جورج طعمه وغسان تويني، فقبلت العرض فوراً، وهكذا منذ أواخر سنة ١٩٩٣، وأنا المؤسس التاريخي في ترجمة أحلامه الى حقيقة. كان عدد الكليات قد ازداد فمن ثلاث الى تسع، ومن أصل مبنيين ونصف مبنى صار لدينا خمسة وثلاثون، أما المدينة الجامعية فقد توسّعت من حيث الانضمام الطالبي اليها، كأروع انجاز من انسان جاء من محردة الضاحية المتوسطة لمدينة حماه في سوريا الى تخوم الثورة الخضراء.
من نحن؟
وسأله مرة ايلي سالم: من نحن، صاحب الغبطة؟
وأجاب: نحن انطاكيون، ذرّية الكنيسة الأصلية التي أسسها القديس بولس. نحن كنيسة الشرق، شرقيون مئة بالمئة، نحن هنا في الشرق في بيتنا. آمالنا هي آمال منطقتنا، ومأساتها مأساتنا، إن كان هناك من مأساة. نحن المسيحيون الأصليّون. الآخرون أتوا كضيوف لنا. نحن نرحّب بهم. نعمل معهم، ولكننا لا ننسى أصالتنا، وفرديّتنا. من المؤكد ان الماضي كان قاسيا علينا. أتت الامبراطوريات، توعّدت وهدّدت، ثم رحلت. ونحن بقينا ثابتين بايماننا، متواضعين، ولكن فخورين، وجريئين بقناعاتنا.
إن روح انطاكية هي روح رسولية، تختمر كالخميرة في العجين. نحن خميرة هذه الأرض، نحن نشكّل النوعية، والقيمة، نحن لسنا كمّيات.
إن روح انطاكية تنفُذ الى الانسان بصفته حامل الحقيقة الإلهية، وموضع إقامة الحب اللامحدود واللامشروط.
نحن مسيحيون عرب. كنّا هنا في فلسطين، وسوريا، ولبنان، قبل الاسلام بوقت طويل. عندما احتلّ العرب الحاملون رسالة الاسلام هذه الأرض، تعاونا معهم، وساهمنا كثيرا في بناء الحضارة العربية الاسلامية التي ازدهرت في العصر الأموي ٦٥٠ – ٧٥٠، والعصر العبّاسي ٧٥٠ – ١٢٥٨. كنّا الوسيط الفكري والعلمي بينهم وبين العالم الاغريقي. لكننا لم نكن فقط وسطاء، بل كانت لنا مساهماتنا في شتّى الميادين.
اللغة العربية لغة الليتورجيا عندنا منذ قرون. وقد لعبنا دورا في التاريخ العربي الكلاسيكي، كما قمنا بدور بارز في حركة الاصلاح العربي التي بدأت في القرن التاسع عشر، على أثر التنظيمات العثمانية.
ويضيف صاحب الغبطة، قبل رحيله الى مستقبل القدس هو مستقبل الشعب الفلسطيني والمسيحيين العرب الذين يشاركون وإياهم بماضٍ طويل ومستقبل لامحدود.
بالنسبة الينا، القدس هي رمز انعتاق الانسان مع القمع والصّلب. من بين كل شعوب العالم، نحن أكثر الشعوب انتماء الى القدس. في المعنى الأعمق للكلمة، القدس لنا، ولكنها ترزح تحت الاحتلال الاسرائيلي، وبسبب الكبت، تضاءل عدد مسيحيي القدس كثيرا.
المأساة التي حلّت بالقدس، حلّت بفلسطين ككل تحت الاحتلال الصهيوني. وكمسيحيين أرثوذكس، نحن لا نشهد فقط مأساتنا، ولكننا نشهد مأساة إخواننا المسلمين أيضا في فلسطين. أقلّ ما باستطاعتنا أن نفعله، هو الشهادة للحق وللعدل، القيمتين العالميتين اللتين انتهكتا بعنف في فلسطين.
وبالنسبة الى نظرة البطريرك للديانة، والمسيح، والآخر، كان لديه الكثير ليقوله في عظاته.
لا يستطيع أن يستحوذ شعب واحد على الله. الله هو خالق الجميع، أبو الجميع، ومخلّص الجميع. أن تدّعوا أنتم اليهود أنكم وحدكم أبناء ابراهيم، فهذا خطأ. لو أراد الله لصنع من الحجارة أولاداً لابراهيم.
حياة البطريرك وسيرته تظهرانه كرجل انجازات. إنه مسيحي حق في هذا العالم الحقيقي الذي نعيش فيه. يبرز كإصلاحي وكبنّاء، وقد طلب إعفاءه من العمل في البطريركية من أجل أن يعيد الى كنف الكنيسة ديرا وقع ضحيّة للإهمال. وجد البطريرك دير البلمند مرتعاً للغنم والرعاة، فأصلحه وأعاده الى أمجاده كصرح للصلاة والتعلّم. لقد قضى عمره بقبول التحديات، وكلما كان التحدّي أصعب، كان التجاوب معه أقوى.
خلال عملية البناء، كسر البطريرك رتابة النماذج التقليدية، فبنى جامعة وليس فقط مدارس ودور عجزة. كانت هذه الخطوة هي الأولى من نوعها في التاريخ الأرثوذكسي، وعملاً شجاعاً أدخل الأرثوذكسية في فلك التعليم العالي، وأمّن لها اعترافا دوليا، إن فكرة إقامة جامعة جعلت عددا كبيرا من الأرثوذكس والأصدقاء يسهمون معه في تحقيقها، إنه عمل غير مسبوق. إلاّ أن البطريرك لم يبن حجراً فقط، على أهميته، بل أوجد بنية أكاديمية بدأت بعد سنوات قليلة بتخريج آلاف الطلاب في شتّى الحقول.
البطريرك هو رجل اصلاحي، وقد يصحّ وصفه بالثائر، فلكي نستطيع تقدير دوره في حياة الكنيسة، علينا أن نفكّر ملياً بكل عظاته، وخطاباته، ومقابلاته، وكتاباته، ونختار منها المساحات الفكرية الجديدة.
/ فؤاد دعبول الأنوار
اترك تعليقاً