متروبوليت ابرشية زحلة والبقاع اسبريدون خوري
الوجه الأرثوذكسي الصبوح
مقدمة
وفي يوم عيد رفع الصليب الكريم المحيي 14 ايلول 2019، انتقل المطران اسبريدون خوري متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس السابق ( المستقيل) إلى الأخدار السماوية، عن عمر ناهز 93 سنة، أمضى 80 سنة منها في سلك الكهنوت، و49 سنة في سدة الأبرشية قبل أن يتقدّم من المجمع الإنطاكي المقدس، في حزيران 2015، بطلب إعفائه من رعاية أبرشيته بسبب الشيخوخة التي أقعدته عن القيام بمهامه، حافراً مكانة له في وجدان الزحليين الذين ظلوا يتذكرونه رغم غيابه عن الحياة العامة، وجهاً صبوحاً وأسقفاً متواضعاً ملتزماً حياة روحية وتعاليم إيمانه المسيحي الأرثوذكسي.
السيرة الذاتية(1)
“اسمه الأساسي سليمان. ولد بتاريخ 30 تشرين الاول عام 1926، في مدينة أوبرلنديا، التابعة لولاية ميناس جيرايس، في البرازيل، حيث كان والده، توما يعقوب الخوري، قد سافر إليها حوالى العام 1922 مع زوجته هيلانة عبد النور وسائر أفراد العائلة، وترتيبه الخامس بين شقيقيه كميل وخليل، وشقيقاته لوريس وليلى وجولي. عاشت العائلة في البرازيل حتى العام 1931، عندما آثر والده العودة إلى بلدته بينو، بسبب الضائقة الاقتصادية التي عانت كثيراً منها تلك البلاد، والعالم بأسره.
مع عودته إلى بلدته الأصلية بينو، التحق سليمان بمدرستها الكائنة على تلة دير مار سركيس، ليتمم دروسه الابتدائية. وكان يرافق، خلال الآحاد والأعياد والمراسم الدينية، جده لوالدته نقولا إلى كنيسة القديس ثاودوروس شفيع البلدة، حيث كان مرتلّاً فيها، ويساعد الكهنة، فكان سليمان يعيش روح الإيمان متأثراً بجدّه، لتظهر عليه علامات التقوى والميل إلى اتّباع سبل الرب يسوع، وكلما كبر زادت فيه قناعته، إلى أن دخل سلك الكهنوت.
كهنوته ودراسته الاولى
انتسب إلى مدرسة البلمند الإكليركية أواخر العام 1938، ليدرس اللاهوت وأُسس الطقوس الدينية والخدمة الكنسية. وبقي فيها أقل من سنة ونصف السنة، عندما أقفلت هذه المدرسة مطلع العام 1940 بسبب الحرب العالمية الثانية. انتقل إلى مدرسة “الآسيّة” الأرثوذكسية في دمشق وبقي فيها حتى نهاية 1941. ثم غادرها متوجها إلى دير القديسة تقلا في بلدة معلولا السورية وبقي هناك حتى نهاية العام 1942، لينتقل بعدها إلى المدرسة الغسّانيّة الأرثوذكسية في حمص، وينتظم طالباً في الابتداء في سلك الكهنوت.مع انطلاقه في الدراسة اللاهوتية كطالب ابتداء، اتخذ لنفسه إسم إسبيريدون تيمناً بالقديس العجائبي إسبيريدون. راح يجدّ في تحصيله العلمي، فنال الشهادة المتوسطة في عام 1945، وتابع تعليمه ليفوز العام 1947 بشهادة البكالوريا السورية، التي تسمى “الموّحدة”. ثم عهد إليه بتدريس مادة الجغرافيا ورسم الخرائط في المدرسة الغسّانيّة الأرثوذكسية للبنات.
موفداً الى باريس لدراسة اللاهوت
في خريف العام 1948، أرسله البطريرك ألكسندروس طحان إلى العاصمة الفرنسية باريس، ليدرس اللاهوت والفلسفة في معهد القديس سرجيوس الروسي وهو للروس البيض، مدة خمس سنوات، نال بنهايتها شهادة الإجازة في اللاهوت، ودرجة جيد على أطروحته التي كانت حول الكتاب المقدس بعنوان: “المصادر اليهودية- المسيحية لكتابات لوقا الإنجيلي في الإصحاحات الثلاثة الأولى من إنجيله، ومن أعمال الرسل”.
خلال وجوده في باريس لم يكتف بدراساته اللاهوتية بل انتسب أيضاً الى المدرسة الوطنية للغات الشرقية الحديثة، ودرس اللغة والأدب الروسيين طوال ثلاث سنوات، وأتقنهما وترجم بعض المقالات اللاهوتية، ومنها كتابه “مائدة الرب”. بعد إنجازيه الدراسيين المذكورين، عرض عليه عميد المعهد آنذاك المطران كاسيانوس، وبإلحاح، أن يتابع تخصصه في “العهد الجديد”، فقبل ذلك وباندفاع. لكن غبطة البطريرك طحان رفض طلبه “بحجة الحاجة إليه في الكرسي الإنطاكي”، وطلب منه العودة إلى دمشق، فحزم أمتعته وعاد مطيعاً أوامر رئيس كنيسته أواخر العام 1953.
مديراً لاكليريكية البلمند
في العام 1954، تسلم إدارة إكليركية البلمند الصغرى، وبقي فيها مدة سنة واحدة الى جانب الارشمندريت قسطنطين بابا ستيفانو، الذي أصبح مطران بغداد والكويت وتوابعهما، ومعهما الأخ جورج خضر، أي المطران جاورجيوس خضر، لتبدأ مع الأخير صلة ودّ طيبة. مع مطلع العام 1955، تولى إدارة الإكليركية بمفرده لمدة سنة إضافية، وقد البطريرك الكسندروس الثالث (طحان) خلال ذلك العام شماساً إنجيلياً في دير سيدة صيدنايا البطريركي.
كاهناً راعياً لمرمريتا
ثم عاد غبطة البطريرك وكلف الأسقف ملاتيوس الصويتي في آذار 1956 برسامته كاهناً في الكاتدرائية المريمية بدمشق، ليقوم بخدمة رعية بلدة مرمريتا في وادي النصارى. كان لمسيرته حتى ذاك التاريخ أثرها لدى المسؤولين الكنسيين حائزاً ثقتهم وتقديرهم، فكان من نتيجة ذلك ترقيه السريع إذ إنه بعد شهر واحد على رسامته الكهنوتية رقيّ في نيسان 1956 إلى رتبة أرشمندريت.
خدم الارشمندريت إسبيريدون رعية مرمريتا بتفان حوالي 9 أشهر، ولم يكتف بواجباته الدينية بل تخطاها الى الخدمة الاجتماعية، فأسس جمعية نسائية أسماها “الجمعية الخيرية للسيدات” التي بنت مدرسة للبلدة. لكن الغصة أصابت أبناء هذه البلدة عندما طلبت منه رئاسته الروحية بأن يغادرها ويتوجه الى مدينة سان باولو في البرازيل ليخدم كنيستها العامرة بالعديد من الانطاكيين من ابناء سورية ولبنان والعرب من الكراسي الأرثوذكسية الأخرى. فقبل ذلك التعيين عملاً بقانون الطاعة الكنسية، لكن عراقيل كثيرة واجهته ما اضطره الى تأخير سفره، فعهد إليه بخدمة الرعايا، لا سيما في بيروت وجبل لبنان ثم في بلدة صوفر، وأسس “نادي صوفر الاجتماعي” التابع للكنيسة الارثوذكسية للشبان والشابات، لإيمانه بالشباب وضرورة العمل معهم، واستمر يشجعهم لا سيما خلال فصل الصيف ولسنتين متتاليتين.
لم ينس الارشمندريت إسبيريدون بلدته بينو- قبولا، فكان يزورها كل يوم جمعة، لا سيما بين عاميّ 1955 و1957، وكان يقوم خلال زيارته بمهام التعليم الديني، فساهم عمله ذاك في حضور السكان الدائم الى الكنيسة، ما أسبغ على بلدته جواً من الحياة الروحية وصلت أصداؤها الى مطران عكار وتوابعها آنذاك أبيفانوس زايد، فوجه الى الاشمندريت اسبيريدون الشكر والتقدير قائلاً “لن أنسى كل حسن صنيعك هذا أبداً”.
منتدباً بطريركيا في الكرسي الاسكندري
أواخر العام 1958، انتُخب الارشمندريت اغناطيوس فرزلي مطراناً على أبرشية سان باولو وتوابعها، وكان يتولى خدمة كنيسة سيدة النياح في الاسكندرية، فكلَّف البطريرك طحان الارشمندريت إسبيريدون رعاية “كنيسة العرب أو الشوام” حسب التعبير المصري او كنيسةسيدة النياح الأنطاكية، ومنتدباً لدى الكرسي الاسكندري، فانتقل إليها في كانون الاول وبقي يخدم هذه الكنيسة ورعيتها مدة 5 سنوات.
وكيلاً لأبرشية طرابلس والكورة
في مطلع العام 1964 استدعاه البطريرك ثيودوسيوس أبو رجيلي، وكلفه التعليم في إكليركية البلمند مجدداً، يوم كان الاسقف إغناطيوس هزيم رئيساً لها. راح يزاول مهامه بكل اندفاع وتقوى، فلفت نظر مطران طرابلس والكورة وتوابعهما الياس قربان، فآثر الاستعانة به في أبرشيته، وطلب منه أن يكون وكيلاً عاماً، فاستلم شؤون تلك الابرشية من آذار 1964 حتى تشرين الاول 1966.
متروبوليتاً لأبرشية زحلة والبقاع وتوابعهما
في 17 أيلول عام 1966، شغرت كرسي أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما بوفاة المثلث الرحمات المطران نيفن سابا. فانتخب المجمع الانطاكي المقدس، الذي التأم في دير مار الياس شويّا، بالإجماع الارشمندريت إسبيريدون خوري مطراناً عليها، وتمت سيامته في 9 تشرين الاول من العام 1966.
خصاله وانجازاته
قبل احتفال الرسامة وجّه إليه المطران جاورجيوس خضر، الذي كان لا يزال في حينها أرشمندريت، كلمة الى المطران المنتخب الذي تجمعه به زمالة عريقة، عنوانها “إلى راعٍ” يدعوه فيها الى الاستمرار على ما هو عليه من “اللطف والعفّة والتواضع… والفقر… متعطشاً الى الرحمة، حافياً، عارياً، كأنك إزاء عتبة السماء”، وبهذه الخصال عرفه الزحليون طيلة توليه سدة الابرشية، متواضعاً، متخلياً عن مظاهر الترف، يقابلهم دوماً بوجهه البشوش، يتصبحون به يومياً خلال رياضة المشي التي دأب على ممارستها في شوارع زحلة، حتى أقعده المرض.
ويسجل للمطران الراحل إنجازات عديدة منها
إنجاز المبنى الجديد للمطرانية بجوار كاتدرائية القديس نيقولاوس ضمّ الى جانب أقسام المنامة والاستقبال والمنافع، قاعة محاضرات، قاعة لقاءات واجتماعات، مكتبة عامة، مركزاً لمكتب النشاطات الروحية ومركزاً لجمعية حاملات الطيب النسائية الخيرية.
إطلاقه نهضة روحية فاعلة بين الشباب وتنشئتهم على التعمق في فكر الكنيسة الارثوذكسية وعيش روحانيتها المشرقية، وقد عرفت هذه النهضة باسم “مكتب النشاطات الروحية”.
إنشاء مركز مار نقولا الاجتماعي للاطفال الفقراء، واستقدم الى المركز عدداً من المعلمين والمعلمات للاضطلاع بمهمة تعليم هؤلاء المحتاجين من أبناء رعيته.
تعريب كتاب “مائدة الرب” لمؤلفه المتقدم في الكهنة نيقولاي أثثناسييف.
إطلاق مشاريع عمرانية على مساحة الابرشية من استحداث صالات للرعايا، وترميم كنائس، استحداث رعايا جديدة وبناء كنائس جديدة. كما كانت له مقالات في نشرة “كنيستي”.
كان المتروبوليت إسبيريدون عضواً فاعلاً في مجلس أساقفة زحلة والبقاع الذي تأسس العام 1977، والذي يعكس خصوصية زحلة لجهة تداخل طوائفها وتشاركها الاحتفالات الدينية في كنائس بعضها البعض، وتنظيم العادات والممارسات الاجتماعية للمعتقدات الدينية. وخلال سنوات الحرب اضطلع الى جانب أساقفة المدينة بمهمات إنقاذ المدينة وبث الطمأنينة في نفوس أهاليها، وتأمين حاجياتهم وإعادة بناء ما تهدم جراء القصف، سواء خلال حوادث العامين 1975 و1976 من خلال “اللجنة الزحلية العليا” أو من خلال مجلس الاساقفة في خلال حصار زحلة العام 1981 حين قطع رحلة الى أميركا الشمالية بغرض جمع التبرعات لترميم المطرانية وعاد “الى المدينة المحاصرة بالحديد والنار في يوم الشعانين في 19 نيسان”، ثم في شباط 1984 وإرساء “الحلّ الزحلي”.
انتهى الاقتباس من كتاب “المتروبوليت إسبيريدون خوري سيرة صالحة ورعاية مباركة”
استقالة المطران اسبيريدون خوري
تلقى المجمع الأنطاكي المقدس للروم الأرثوذكس أثناء انعقاده في البلمند2015-06-26 رسالة من صاحب السيادة المطران اسبيريدون خوري متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما يطلب فيها إعفاءه من رعاية أبرشيته بسبب عدم قدرته على متابعة عمله الرعائي بسبب الشيخوخة. وافق المجمع المقدس على الاستقالة مثنيًا على الجهود التي بذلها سيادته أثناء رعايته الطويلة المخلصة والمثمرة للأبرشية.
وقرر
1- اعتبار صاحب السيادة مطراناً فخريًا من مطارنة الكرسي الأنطاكي، يقيم في دار المطرانية بحسب طلبه محتفظاً بكرامته.
2- اعتبار أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعمهما أبرشية شاغرة. هذا وسيعين صاحب الغبطة معتمداً بطريركياً للأبرشية يتولى رعايتها ريثما يتم انتخاب مطران أصيل لها؛
كرر آباء المجمع المقدس شكرهم للمطران اسبيريدون على الجهود التي بذلها في رعاية أبرشيته وفي العمل الأنطاكي والأرثوذكسي المشترك وتمنوا له مديد العمر سائلين السيد أن يعطيه شيخوخة صالحة مقبولة لدى الرب.
تم تعيين متروبوليت عكار المطران باسيليوس منصور معتمداً بطريركياً على الأبرشية بناء على قرار من غبطة بطريرك إنطاكية وسائر المشرق يوحنا العاشر الذي أوصى، بإستمزاج آراء أبناء الابرشية حول من يرغبون في أن يكون راعياً لأبرشيتهم. وتم انتخاب الارشمندريت نقولاوس الصوري متروبوليتاً على الابرشية
انتقاله الى الاخدار السماوية
انتقل المطران اسبيريدون إلى رحمة الله تعالى، مساء السبت الرابع عشر من أيلول 2019 ونعاه غبطة البطريرك يوحنا العاشر.
وفي 30 ايلول 2019 زار غبطة البطريرك يوحنا العاشر مدينة زحلة وأقام صلاة الشكر في كاتدرائيّة القدّيس نيقولاوس مستذكرًا سيرة ومسيرة المثلّث الرحمات المطران اسبيريدون (خوري) قائلًا:” الكنيسة هي سيّدة الخلاص في هذا العالم الذي يتخبّط بالتحدّيات وعامود السلام والحق”. كما نقلت صفحة البطريركية وموقعها
كلفه البطريرك ثيوذوسيوس السادس بتصفية تركة الخوري العلامة ايوب نجم سميا راعي رعية القصاع بدمشق ومؤرخ دمشق والكاتدرائية المريمية، بصفته من بلدة قب الياس البقاعية التابعة لأبرشية بعلبك فأنجز مهمته خير قيام و خير عدالة بما يرضي الله وعائلة المرحوم.
واتذكر في حوالي 1997 ان مثلث الرحمات المطران اسبريدون زارني في المكتبة البطريركية وبيده وثائق تتعلق بتصفية التركة، وسألني عن التركة الوثائقية من دراسات ومخطوطات وكتب للمرحوم آلت الى البطريركية واعلمني ان جزءاً من هذه الوثائق محفوظة في مطرانية زحلة، وأثنى على عملي في حفظ واظهار الذاكرة الانطاكية حيث كنت قد كتبت عن المرحوم الخوري ايوب في النشرة البطريركية ولا أنسى فعلاً هذا الوجه الصبوح واللطف والايناس في كلامه في تلك الفرصة الحميدة بتشريفي بزيارته للمكتبة وفي كل لقاء التقيه في البطريركية، وفي دير سيدة البلمند ومعهد اللاهوت، حيث يبادر الى تقبيلي دون السماح لي بتقبيل يمينه.
لقد كان حقاً وجهاً انطاكياً خالصاً صبغه الروح الالهي فكان ايقونة لسيد الكنيسة متواضعاً محباً لقد كان وجهاً ارثوذكسياً صبوحا حقاً كما وصفه الجميع وانا اقلهم.
رحمات الله عليه…
حواشي البحث
1- السيرة الذاتية الزاخرة للمطران الراحل، كما جاءت في كتاب “المتروبوليت إسبيريدون خوري سيرة صالحة ورعاية مباركة”، الذي جرى إعداده ونشره لمناسبة تكريم الأبرشية للمتروبوليت الراحل، في ذكرى مرور 42 سنة على خدمته لها، في احتفال رعاه وحضره المثلث الرحمات البطريرك الرابع.
* الصورمن كتاب “المتروبوليت إسبيريدون خوري سيرة صالحة ورعاية مباركة”.
2- موقع وصفحة البطريركية والمركز الاعلامي لبطريركية انطاكية وسائر المشرق للروم الارثوذكس
3- التجربة الذاتية
اترك تعليقاً