أعدنا كتابة هذه التدوينة بتاريخه بعد خروج موقعنا الاساس عن الخدمةبكل اسف لاسباب خارجة عن ارادتنا
توطئة
تخوننا الكلمات إن أردنا الحديث عن السيرة الشريفة المتقدسة لهذا الراعي الجليل الذي عرفناه في دمشق وكيلاً بطريركياً خلال ثلاث سنوات وتعلمنا منه جميعنا معنى التواضع والمحبة ونكران الذات والتضحية والجود بمافي جيبه الخاوي في معظم الاحيان لصالح المحتاج والمستورة واليتيم…
السيرة الذاتية
هو قيصر اسكندر بندلي مواليد الميناء بطرابلس 1929 والميناء مع طرابلس والكورة يشكلون ابرشية طرابلس والكورة وتوابعها وهي ابرشية ارثوذكسية تمتع بالغيرة الايمانية على الكنيسة، مر ثلاثة بطاركة من سدتها الاسقفية هم غريغوريوس حداد 1906-1928 والكسندروس طحان1931-1958 وثيوذوسيوس ابو رجيلي 1959-1969 وماهوالا دليل على شدة ايمان ابنائها الارثوذكس وتمسكهم بكنيستهم وبايمانهم القويم، اضافة الى كوادر عظيمة الحضور من مؤسسي ومتابعي حركة الشبيبة الارثوذكسية ولايزالون كان منهم المشهور كوستي بندلي شقيق علمنا…
توفّي والده المرحوم اسكندر عام 1941 وكانوا يومها خمسة أولاد أكبرهم كوستي وهو في السادسة عشر من عمره.
نشأ في بيئة مؤمنة وعائلة مجاهدة ككل ابناء هذه الابرشية الانطاكية العزيزة.
توفي شقيقه الصغير مرسيل عن عمر خمسة وثلاثين عاماً.
دراسته
حصّل علومه الابتدائيّة والمتوسّطة والثانويّة في مدرسة “إخوة المدارس المسيحيّة” أي الفرير.ثم حاز الاجازة الجامعية في الفيزياء.
كان من الذين اجتمعوا مع المطران جورج خضر ابتداءاً من 1944 حين بدأت حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة تنتشر في الميناء بعد عامين على تأسيسها. وكان قيصر يومها في أواخر تحصيله العلمي في المرحلة التكميليّة.
انخرط في العمل النهضويّ في حركة الشبيبة الأرثوذكسية، واضطلع بالعديد من المسؤوليات.
الكهنوت
نتيجة لعشقه للكنيسة وللكهنوت دخل الحياة الكهنوتيّة متأثراً بأجواء النهضة الأنطاكيّة وشرطن شماساً عشية 28 آب 1959 في دير القديس جاورجيوس – دير الحرف
شرطن كاهناً لله العلي في كنيسة القديس جاورجيوس الميناء في 6 أيلول 1959 على يد المطران المطوّب الذكر ايليا كرم مطران جبل لبنان، الذي كان قد شرطنه شماساً أيضاً.
مارس مهنة التعليم المدرسي وهو كاهن في مدرسة مار الياس ثمّ استلم ادارتها عام 1957.
انتسب الى معهد القديس يوحنا الدمشقي اللاهوتي في السنة الاولى لتدشينه بيد مثلث الرحمات البطريرك الياس الرابع عام 1971 وحصل على اجازة في اللاهوت عام 1975 بتميز وقد شغل المسؤول الداخلي في المعهد فحاز محبة كل الطلاب والاكليريكيين لصفاته.
في الوقت ذاته خدم كاهناً في ماركبتا ، قارابش ثم رعيّة الميناء في طرابلس.
اسقفيته
في عام 1980 انتخبه المجمع المقدّس أسقفاً،وكيلاً بطريركياً في دمشق خلفاً لسيادة المتروبوليت الياس عودة الذي انتخب متروبوليتاً على ابرشية بيروت وتوابعها ، فخدم إلى جانب غبطة البطريرك أغناطيوس في الصرح البطريركي وكان بمثابة ملاك المحبة في ابرشية دمشق وتوابعها.
ونظراً لفضائله وورعه وتقواه وعظيم اطلاعه ومعارفه فقد انتخب بالاجماع متروبوليتا على ابرشية عكار وتوابعها المترامية الاطراف بقسميها السوري واللبناني خلفاً لراعيها مثلث الرحمات المتروبوليت ابيفانيوس زائد. وكان ذلك في 26 كانون الثاني 1983 دخل ابرشيته بمعية مثلث الرحمات البطريرك اغناطيوس ومطارنة حمص وحماة وحلب واللاذقية وجرى له استقبال عز نظيره حتى ان الجماهير حملت سيارة غبطته وكان معه فيها في مدخل بلدة الحواش واكتسى الوادي الجميل بلافتات الترحيب مبارك الآتي باسم الرب وكان عرساً لدى ابناء هذه الابرشية بعريس ابرشيتهم المطران المغبوط بولس بندلي.
نبذة من ذاكرتي عنه
تقضي الامانة ان نذكر هذا الانسان الملاك عندما تعرفنا عليه في دمشق، لست انا فقط بالرغم من مرافقتي له في الكثير من خدماته الكنسية والاجتماعية (في حال طلب ان أكون برفقته)
لقد تأخرت في الكتابة عنه، وانا اخذت على عاتقي توثيق اعلامنا، ربما ما سأكتبه عنه في شهادتي هنا، يعرفه كثيرون، وقد لايرى فيه كثيرون مجالاً للمديح والاطناب، لكن من عاش مع هذا البار يدرك كم هو بار…
هو الواجب الذي يملي علي توثيقه بحق ذكرى هذا البار، وانا كنت من الموجودين في البطريركية منذ تنصيب مثلث الرحمات البطريرك الياس الرابع اي عام 1970 متطوعاً للخدمة بأي شيء وكوني كنت قائداً للفوج الكشفي الارثوذكسي الدمشقي/ الفوج الثاني جاورجيوس
وبالتالي كانت رغبتي الجامحة اعتناق الكهنوت الشريف وخاصة عند وفاة غبطته وتنصيب البطريرك اغناطيوس الرابع 1979… لذلك كان وجودي مستمراً في البطريركية حتى كان عام 1987 وقتما كلفني مثلث الرحمات البطريرك اغناطيوس الرابع بأمانة الوثائق البطريركية والمكتبة. وكنت قبل الظهر في الوظيفة العامة.
ماقصدته بكلامي هو وجودي الدائم تقريباً/ وحتى الآن/ في الصرح البطريركي ومعرفتيبكل نزلاء الصرح البطريركي، فالاكليريكيين جميعهم اصدقاء واخوة ومنهم من ارتقى الى الاخدار السماوية ومنهم اليوم من هو متروبوليتاً و… واعرف دار البطريركية ببنائها القديم ومكاتبها البسيطة… في حين كان فقط البناء الجنوبي مع جزء شرقي وجزءغربي، الذي بناه البطريرك الكسندروس الثالث 1953 وفيه كان مكتب البطريرك واقامته وصالون الاستقبال، وفيها كان مكتبي رفيقي علمنا، مثلثي الرحمات الاسقفين اثناسيوس صليبا (خال المتروبوليت الياس كفوري) رئيساً للديوان البطريركي والاوقاف، وغفرئيل فضول (الذي كان اسقفاً في تشيلي في زمن الازمة الانطاكية والانشقاق الذي انهاه بحكمته مثلث الرحمات البطريرك اغناطيوس الرابع وتمت تسوية القضية والمصالحة وتسوية اوضاع الاساقفة الذين تمت رسامتهم بمعزل عن موافقة البطريرك الياس والمجمع الانطاكي) كان منهم المطران فضول معاوناً بطريركياً رئيساً للمكتب البطريركي. وكان مكتب كل منهما في البناء الحديث على مقدار من اللياقة.
فيما كان مكتب المطران بولس البار الذي اولي الوكالة البطريركية بكل ثقلها في البناء القديم الجناح الغربي المتداعي …كان مكتباً بسيطاً شكلاً واثاثاً بكل المقاييس واقل من كل مكاتب البطريركية رغم كونه الوكيل البطريركي ويرفض بلباقة وتواضع اي حديث عن ضرورة ان يكون مكتبه لائقاً، “إذ الافضل ان تُخصص النقود لخدمة المحتاجين”، وهو مترفع عن البيروقراطية كأنه يعيش في زمن سابق لعهده او كأنه كاهن او راهب بسيط…
لم يكن المطران بولس بندلي يميز بين احد، بل كان المقام الاكبر عنده للفقير والمحتاج.
كان يبدأ دوامه اليومي الساعة 8 صباحاً بعد ان يدخل الى الكاتدرائية المريمية او كنيسة القديس يوحنا الدمشقي الساعة 7 صباحاً ليصلي ثم يجتمع والاسقفين مع غبطة البطريرك اغناطيوس يومياً لتبادل المعلومات وتلقي التوجيهات البطريركية، ويعود الى مكتبه، وكان بابه مفتوحاً على الدوام لجميع الناس وبدون شماس او سكرتير لتنسيق المواعيد والزيارات… مستقبلاً الجميع بكل محبة وتواضع وخاصة ذوي الحاجات، ويستمر حتى الساعة11 صباحاً، ثم ينطلق في تجواله الرعائي والاجتماعي لخدمة الناس، ليعود لاستقبال الناس من الساعة 3وحتى آخر الليل، وكم زار بيوت فقراء سراً واعطاهم مابجيبه من نقود قليلة…وخاصة في الاعياد، لم تكن لديه سيارة ولم تكن لديه القدرة على اقتناء سيارة لضعف الموارد فقط كانت ثمة سيارة لغبطته، واخرى للمطران اثناسيوس احضرها معه من اميركا حيث خدم كاهناً قبل انتخابه اسقفاً معاوناً بطريركياً.
وكانت رواتب الاكليروس في البطريركية، وعائدات الخدمات قليلة جداً ذاك الزمن، فيذهب علمنا سيراً على الأقدام الى الطبالة والدويلعة والقصاع، فإن تأخر عن الموعد على غير عادته، كان يستقل سيارة اجرة على الماشي، ولايشعر بحرج ان استقل شاحنة صغيرة سوزوكي ليصل في الموعد… وكان بكل الطريق يسلم بتواضع واحناء الرأس على كل الناس يعرفهم او لايعرفهم، حتى الصغار فيتسابق الناس الى السلام عليه والوقوف معه محاولين تقبيل يمينه وهو يتمنع، وخاصة في الشارع المستقيم من البطريركية الى باب الشرقي، كان هذا المشهد مألوفاً عن هذا البار ويُشعرنا بتواضعه وبشموخه بآن. في وجوده بالشام التي احبته جداً عائلات ورعايا ومؤسسات وبادلها المحبة فقد اعطانا دروساً في التواضع ونكران الذات وكيف يتوجب ان يكون الاكليروس عامة والاساقفة خاصة.
كان يضع المشاركة في خدمة الجناز في أوّل سلّم أولوياته وقبل اي واجب آخروخاصة للفقراء، وكثيراً ماكان يرأس صلوات الجنازات بدون اي تكليف او دعوة، ويعتبر ذلك من واجبات الكهنة، لذا كان يزور المحزونين مقدماً لهم التعزية باسم غبطته وباسمه شخصياً لذلك صار مضرب المثل بحسه الرعائي المتميز.
وكان يذهب مع قاصديه من ذوي الحاجات الى اصحاب القرار في اي موقع كانوا، متوسطاً لتحقيق مطالبهم ويتبناها، بقوله للمسؤول “ان هذا الانسان المحتاج هو ابنكم كما هو ابننا” (وكم قالها لهم امامي) ولذلك كان مصير وساطاته النجاح…
اما لجهة الخلافات الزوجية فكان قد حد منها كثيراً بمحبته ومتابعته بجمعه الزوجين المختلفين في مكتبه مع كاهن الرعية وزيارته المتكررة لهما لأنه كان يقول دوماً “ان ماجمعه الله لايفرقه انسان”.
لم يتأخر للحظة عن اي واجب رعائي مهما كان وفي اي وقت كان حتى ولو في ساعة متأخرة ليلاً.
ذات مرة وقع حادث لأحد الشباب في جوقتنا، وقد صدمته سيارة مسرعة وتأذى كثيراً، وخسر ساعة يده، فقمنا بجمع ثمن ساعة جديدة، فطلب مني ان اذهب معه انا والشباب لعيادته في بيته، وسألني عما يأخذ بيده، فقلت له عن مشروعنا بجمع ثمن ساعة جديدة بديلة، فأجاب على الفور انه هو من سيدفع ثمنها، وطلب مني ارجاع ماجمعناه الى الشباب لكنهم رأوا ان نقدمه لزميلنا للشاب الذي تعطل عن
الملفت انني من غير ان ينتبه، لاحظت ان لانقود مع المطران بعدما انتحى جانباً وبحث في كل جيوبه بدون نتيجة، لم استغرب ذلك لتكرر هذا الموقف مرات ولم اكن اعلم كيف كان يتدبر المبالغ ويقدمها للناس المحتاجين، ومنهم هذا الشاب الذي كانت فرحته وفرحة اهله ان المطران بولس اتى لعيادته على رأس الجوقة، وقدم له الساعة.
كان راعياً محباً لكل مؤسسات الكنيسة وبخاصة للشباب من كشافة ومدارس الاحد واخويات السيدات ومدارس الآسية ويوحنا الدمشقي والجالية اليونانية، ويتفانى في رعاية انشطتها واجتماعاتها بشكل لم نشهده قبلاً لذلك كان الالم كبيراً على انتقاله مطراناً لأبرشية عكار ولكنه كان موازياً لفرحة الجميع له بتوليه ابرشية مستقلة وخاصة ابرشية عكار المحتاجة لحنانه ورعايته.
بعدما استلم ابرشيته اقمنا مخيم الفوج في اراضي دير مار الياس الريح في الصفصافة اواخر صيف 1983، بعد الحصول على اذن من رئاسة الدير، فبادرت للاتصال بسيادته لأعلمه بذلك كون الدير تابعاً له، ولم استغرب وخاصة انا من يطلب ذلك منه ان اجد ترحيباً كبيراً
حديث روحي مع الكشافة
منه، ورجوته حضور حفلة نار المخيم التي ستكون تحت رعايته بحضور اهالي الاولاد الذين سيحضرون يومها من الشام فوعدني.
في الساعة المحددة وصل سيادته، وجرى له استقبال حافل بالموسيقى من الفوج ومن الاهالي، وفي ختام الحفلة القى كلمة ترحيبية بنا في ديره، وتحدث بحديث روحي اخاذ عن دور الكشافة والشباب في الكنيسة الارثوذكسية، وشكرنا على تخييمنا في هذا الدير وفي ابرشية عكار، وماقمنا به من خدمة عامة في اراضي الدير (كعادتنا في كل مكان نخيم به)، وخصني رحمه الله بالشكروبالبركة واصفاً اياي بالصديق.
الملفت ان سائق سيادته اقسم لي باليمين الحاسمة ان لهما ثلاثة ايام لم يناما والمطران يتنقل من مكان لآخر في عكار بين القسمين السوري واللبناني لتفقد الاحوال والرعاية وانه اصر على تلبية دعوتي بهذه الحفلة معتبراً انها من اصول الرعاية والضيافة…
هذه بعض من شهادتي وخبرتي الشخصية مع مثلث الرحمات المطران بولس ايقونة انطاكية الحديثة.
اعماله في ابرشية عكار
أسّس العديد من المؤسسات والجمعيّات الصحية والاجتماعية منها المدرسة المهنية الأرثوذكسية، ومركز القديس بولس للخدمات الشاملة، ومركز القديس جاورجيوس للخدمات الصحيّة والاجتماعيّة، ولعلّ المشروع الأبرز هو اطلاق المدرسة الوطنيّة الأرثوذكسيّة عام 1984التي أمست بمدّة قياسيّة الأولى في عكار ومن كبريات مدارس لبنان.
عرفت عكّار في عهده نهضة روحيّة وفكريّة وثقافيّة، وكان مرافقاً لانطلاقة حركة الشبيبة الأرثوذكسية فيها وكان راعياً لها، كما أسّس وأطلق مجالس الرعايا ورافق اجتماعاتها ونظّم أعمالها.
عند الساعة التاسعة من صباح يوم الخميس 5 / حزيران / 2008 ترأس صاحبي السيادة الأساقفة الكرام سيادة الأسقف باسيليوس منصور ” أسقف طرطوس وصافيتا للروم الأرثوذكس ” وسيادة الأسقف يوحنا يازجي ” أسقف الحصن للروم الأرثوذكس ” معاوني سيادة المطران بولس رحمه الله قداس خميس الصعود بمشاركة عدد كبير من كهنة الأبرشية , وبعد انتهاء القداس بدأت خدمة جناز رؤساء الكهنة حتى الساعة الثالثة بعد الظهر, من ثم تم نقل جثمان صاحب السيادة إلى قاعة عصام فارس في المدرسة الوطنية الأرثوذكسية , حيث تبدأ عند الساعة الرابعة خدمة الجناز ويترأسها صاحب الغبطة سيادة البطريرك اغناطيوس الرابع هزيم بطريرك إنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس ويعاونه السادة أعضاء المجمع المقدس ” المطران الياس قربان والمطران الياس عودة والمطران اسبيريدون خوري والمطران جورج خضر والمطران الياس كفوري والمطران جورج ابو زخم والمطران بولس صليبا والمطران ايليا صليبا والمطران بولس يازجي والمطران يوحنا منصور والمطران سابا اسبر، وبمشاركة الأخوة الكهنة وعدد كبير من أبناء الأبرشية في سوريا ولبنان وحضر التشيع ممثلون عن رئيس الجمهورية اللبنانية ( العماد ميشيل سليمان ) ورئيس مجلس النواب اللبناني ( نبيه بري ) ورئيس مجلس الوزراء ( فؤاد السنيورة ) والسكرتيرة الأولى في السفارة اليونانية في بيروت , وممثلون عن كافة الأحزاب والكتل السياسية اللبنانية وممثلون عن الطوائف المسيحية في لبنان وسوريا , وبعد نهاية الصلاة تم نقل جسده الطاهر إلى المقبرة المخصصة لرؤساء الكهنة في المغارة تحت المذبح المقدس في كنيسة المطرانية ليوارى الثرى .
في سر الافخارستيا الملاك بولس يحمل كأس القربان
خلال الجنازة القى صاحب ا لغبطة البطريرك اغناطيوس الرابع بطريرك انطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس كلمة قال فيها
“أيها الأحباء، يختلط اليوم المعزّي والمعزى، يختلطان لأن الذي نفقده اليوم كان مع المعزي ومع المعزى، المطران بولس الذي عرفناه سنين طوالا، عرفناه صغيرا، وأستاذاً واكليريكيا وعضوا في المجمع المقدس ومطراناً لأبرشية مهمة. عرفناه في هذه الأمور كلها وكنا دائما نلتفت إلى بعض الأمور التي كان يتميز بها. أقول بعضاً لأنه لا يمكن أن نحتضن كل الأمور التي كانت له والصفات التي كانت عنده.
لقد عمل معي في بيروت والبلمند وعملنا معا في مدارس الميناء وكان دائما في غاية الصبر. المطران بولس كان شديد الصبر والتحمل، وما كان وقت من الأوقات يتذمر، والذي لا يتذمر هو إنسان في كل الأوقات يعبّر عن الشكر لله، أما المتذمر الدائم فكأنه لا يرى بماذا يشكر الله عز وجل، كان هذا الإنسان يشكر الله ومتواضعاً، ليس تمثيليا بل متواضع بالفعل، تكاد لا تسمع صوته عندما يتكلم وخصوصا لا يمكنك أن تشعر ذرة واحدة انه كان يحمل لك شيئا من العنف في كلماته أو في أقواله أو في وجهه أو في طريقة تحدثه إليك.
المطران الذي نحن الآن أمامه وهو أمامنا، الذي رحمه الله وصار عند ربه، كان متواضعا لا قوة عنده عنيفة ولا كلمة عنيفة ولا تصرفاً عنيفاً كان يعرف أن يكون إنساناً مع كل إنسان. كان يتصل مع الجميع. لم يكن يحاول أن يختلق عدواً إنسانياً على الإطلاق، كثير من الناس حتى عندما يشكرون يقولون ذلك بلغة عنيفة وقوية وهجومية تريد الآخر أن يسكت وان يزول ويبتعد. لم يكن المطران بولس كذلك، كان كل الناس، الذي يتفق معه أو لا يتفق معه، كان يحدثه ويسمع حديثه مرات عديدة. كان البعض يظن انه ضعيف، ما كان أقواه، مشهور رحمه الله بأنه في الحق قوي قوي قوي، لم يكن يساوم على حق، ولا يتهرب من المسؤولية على الإطلاق، مسؤول هو في أبرشيته يلتزمها في كل الأحوال مع كل الظروف. كان هنا مزوجا نفسه جسديا وروحيا لأبرشيته، ما أصدقه، ما كان ممثلا في أي شيء. انه قدوة لنا في كثير من الأشياء، أحفظه كيف يكون في المجمع، عنده رأي. نعم عنده رأي، يتمسك به، لا تتصوروا انه إذا تمسك فإنه يتمسك برخاء، ليس صحيحا، إنما إذا تمسك بحق بقي عليه في كل حال دون ان يتوصل إلى شتم احد أو أن يبادر بالصراخ في وجه احد. كان يحافظ على الأخوة وعلى الاحترام للأخوة، وهي إخوة تحفظه هو لأنه هو المصون بالطريقة ذاتها، كان يقدس الأخوة ولو خالف الرأي، ما كان أحبه.
كان عنده الإنسان أولا، نحن نقول بأن الله أرسل ابنه الوحيد ليكون كفارا لنا عن كل إنسان بينما نعامل الإنسان كأن الله لا يحبه وكأن الله، يمكنك أن تجعله يبتعد عن خليقته وينسى خليقته ولا يحترم خليقته، هذا خطأ. فكيف تحب الله وتكره الذين خلقهم، كيف؟
اذكر أيضا أيها الأحبة، كيف أن المسيحيين الأول في الهنيهات الأولى لوجودهم لا كانت هنالك هوية ولا كتب، ولكن قال بعض غير المسيحيين فيهم: هؤلاء فئة من نوع غريب، أنهم يحبون بعضهم بعضاً. يقول الواحد يحب الآخر وبعدئذ كان يقول، جماعة تعتقد أن هناك من انتصر على الموت. كيف ينتصر الإنسان على الموت؟ ينتصر بالحياة، وأين مصدر الحياة؟ مصدر واحد هو الذي قال انا هو الطريق والحياة، هذا هو الطريق الذي فتحه لكل إنسان على وجه الأرض.أيها الأحباء، أشكركم جميعا باسم أخوتي هؤلاء الذين هم كلهم إخوة لهذا الراقد، أشكركم لمشاركتكم إيانا في هذه الصلاة، اشكر فخامة الرئيس ودولة رئيس المجلس النيابي ورئيس الحكومة الذين تفضلوا بأن أرسلوا ممثلين لهم إلى هذا المكان في هذا الوقت. اشكر إخوتنا، واشدد على كلمة إخوتنا في الكنائس الأخرى، نحن لا نرضى أن يكون باسم الكنائس من يقاتل واحد واحدا، هذا غير مقبول ولم نرضه على الإطلاق ولن نرضاه، إننا نشكر إخوتنا وأحباءنا وأبناءنا الذين هم أسرتنا من أين كانوا من أي دين أو عقيدة كانوا، اشكرهم جدا جدا ولولاهم من كان يصلي معنا عندما نقول فليكن ذكره مؤبدا؟ من كان يرددها معنا؟
أيها الأحباء الذي نفقده المطران بولس، مطران نتمثل به وسنبقى سنين طويلة ونحن نذكره واسأل لأبرشية عكار التوفيق الذي أراده الله لها عندما انتخب لها المطران بولس بندلي، عسى أن نرى هذه الأبرشية يمكنها أن تقوم بأفضل ما يمكن لخدمة هذا البلد ولخدمة كل واحد في هذا البلد. البلد ليس التراب وليس الجدران، البلد هو كل واحد خلق وبقي على هذه الأرض، هذا هو البلد، ويجب أن يحترم ككائن مقدس، خلق الله الإنسان على صورته ومثاله، لا ننسين هذا.
أيها الحزانى لا تحزنوا، أيها الأحباء لنحب بعضنا بعضا ولنصلي لأجل راحة نفس أخينا المطران بولس، الله يعرف أن يريح خلائقه أكثر منا بكثير فهو ينتقل عنا على رجاء القيامة والحياة الأبدية وهذا ما دفعنا أن تسمعوا اليوم تهازيج القيامة في هذه المناسبة، بارككم الله وحفظكم يا أحباء إن شاء الله دائما بخير”.
رئس خدمة الجنازة مثلث الرحمات البطريرك اغناطيوس الرابع وشارك في تشييعه المطارنة اسبريدون خوري، يوحنا يازجي، وبولس يازجي، وسابا اسبر، باسيليوس نصور…وكل الاكليروس في ابرشية عكار وحمل جثمانه الطاهر في نعش مكشوف من قبل الكهنة الى مدفن المطارنة في مطرانية عكارحيث وري الثرى
المطران بولس مسجى في يوم الجناز بلباسه الحبري كالعادة
فليكن ذكره مؤبداً
شهادة احد اصدقائه به هو السيد أنطوان ألفرد حبيب في ذكرى رحيله
“تؤكد شهادتي وخبرتي معه:
لقد عرفته منذ صغري في مدينة الميناء التي ننتمي اليها، وتعمقت معرفتي به عندما أصبح مطراناً لعكار وتوابعها، وكنت آنذاك مديراً عاماً لمؤسسة عصام فارس.
ولا بد لي من تسجيل واقعة حية حصلت معي قبل عدة سنوات، حتى تتكون في أذهاننا ماهية هذا الرجل الكبير الذي كان رمزاً للمحبة والتواضع والايمان، وقد رواها أحد الاصدقاء، جهاد نافع، في احدى الصحف المحلية والتي أذكرها كما يلي:
ألمت وعكة صحية بالمطران بندلي، وشئت ان أعوده في دار المطرانية، دخلت مع صديقي جهاد الى غرفة نومه حيث كان يرتاح، وكان المشهد مفاجئاً لنا.
غرفة نومه عبارة عن سرير حديدي اكل الدهر عليه وشرب، تكاد تتساقط أطرافه، خال من اي مظهر حديث.. يهتز يمنة ويسرة، والى جانب السرير طاولة قديمة جداً صغيرة وضع عليها أدويته وبعض أغراضه الخاصة..
ما عدا ذلك تخلو غرفة النوم من اي اثاث، حتى من السجادة التي تحتاجها اي غرفة نوم في فصل الخريف..
دخلنا.. ورغم مرضه ابى الا ان ينزل عن سريره ليقف مسلّماً بمسحة من خجل رسولي، فكان العجب العجاب.. انه يرتدي ثوب نوم مهلهلاً ممزقاً على جانبيه، وباتت المزق واضحة كأن الثوب الذي يلبسه منذ عهده الاول في الكهنوت..
كان السؤال، فكان الجواب المفحم: “أتريدني ان أصرف من مال المطرانية والكنيسة وهناك من أحوج اليهم مني؟ أنا مرتاح الضمير والنفس، وليس المهم أين أنام وكيف أنام بل المهم ان أخدم الرعية وكل انسان محتاج”.
علماً ان دولة الرئيس عصام فارس، الذي يكن للبنانيين جميعاً، وخصوصاً لأهالي عكار، وبالتحديد للمطران بندلي، محبة مميزة، كان يطلب مني دائماً ان اضع بتصرفه جميع امكانيات مؤسسة فارس حتى يستطيع ان يخدم من خلالها.
وكلمة حق تقال ان المطران بندلي لم يميّز أبداً بين انسان وآخر، وشملت محبته الابوية أبناء الشمال وبالتحديد عكار ومن جميع الطوائف المسيحية والاسلامية.
هكذا عاش المطران بندلي حياته، وهكذا رحل كبيراً، متواضعاً ومحباً الجميع.
سنفتقدك يا “أبونا بولس”، كما أحببتَ دائماً ان أدعوك، عندما كنت في مينائنا العزيزة، وسيفتقدك رجل الكرم والانسانية دولة الرئيس عصام فارس الذي أحبّك وعلّمنا ان نحبك ونخدمك بدون اي منة.”
(انتهت الشهادة)
مما قيل في وداعه
بيان صادر عن بطريركية أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس
أيها الصالح. لقد أمتّ الموت وأبدت الجحيم بدفنك ذي الثلاثة الأيام. ولما نهضْتَ كما يليق بالله. أنبعتَ الحياة للذين في العالم يا يسوع ملكي” (من الخدمة الليتورجية الأرثوذكسية ليوم 12 كانون الأول)
كوستي بندلي الذي تودعه كنيسة أنطاكية اليوم على رجاء القيامة هو واحدٌ ممن ملَّكوا الرب على حياتهم وكيانِهم فأفاض لهم الحياة. والحياة مع الرب، عند من نودّعه اليوم، تجلّت إبداعاتٍ ورحيقَ أتعابٍ لمن كرّس نفسه لخدمة كنيستِه ولتربية أجيالها.
كوستي بندلي، الذي انضم اليوم إلى مصفِّ أخيه وأبينا المطران بولس بندلي، هو الذي رافَقَنا أطفالاً ويُفعاءَ وشباباً وشيوخاً ليرشدَ خطانا على درب الحبيب وليعطيَنا من خبرته التي انسكبت على صفحات قلوبنا بُعيد انسكابها على صفحات الكتب التي دونَتْها يراعُه.
تنعي بطريركية أنطاكية وسائر المشرق في هذه الفترة الميلادية المباركة واحداً ممن أخذ الوزنة وردّها أضعافاً مضاعفة وتُودِعُ سيّدَها وبارئَها ابناً باراً أودَعَها غزير أتعابه. وهي إذ تتقدم معزيةً عائلته الصغيرة تعزّي نفسها، وهي عائلته الكبيرة، بمثل هؤلاء الرجال الذين سقَوا كرمة الرب يسوع بعرق جبينهم وتذوّقوا، منْ على هذه الفانية، حلاوة العيش بظلّ سَنَاه.
“استيقظ أيها النائم وقم من بين الاموات فيضي لك المسيح”
ايها الاحبة
يذهب عنا كبيرٌ، كان كبيراً بيننا وكان كبيراً في قومه.
الامر اللافت في الرؤية عند كوستي انه لم يكن يعرف الا الله. علوم وفلسفة ومباهج فكرية اخرى ما كانت تحجب عنه انه من الله، ما علم الا الله! ولكن قصد وجوده وجهاده هو الرب يسوع، وخدمتكم بالرب…
كوستي لم يرى وجوهكم، رأى وجه المسيح في وجوهكم!
كان يقرأ وعرف الفلسفة والاداب، ولكن لما كنا نتذاكر في كل ذلك لم اكن اشعر الا انه يسعى الى المسيح، هذا كان معشوقه!
لذا اثر فينا كثيرا وفي الاجيال الصاعدة لانها عرفت ربها من خلاله. الربٌ ساكن في السماء بعد قيامته بات محجوبا عنا ولكنه بقي فينا. كوستي بندلي كان يترجم الله، تعرف الرب من كلماته وسلوكه.
كل من تفلسف كثيرا يعرف اشياء عن المسيح، ولكن لا يعرف بالحق الا من ذاقه بالحب، كوستي كان رجل حبّ، ولذا كان ينقلك الى الله، ليس فقط بما يقول ولكن بما كانه.
كوستي المتواضع ابن كنيسة الميناء كان اعظم من ذلك المفكر الذي كانه.
اراد نفسه بسيطاً محباً واحداً من هذا الشعب العادي، في هذا الميناء، ولكن الميناء رآه متصاعداً طوال حياته طائقاً الى السماء والعلى والحب.
لم يكن باستطاعتك ان تفهم هذا الرجل، الا اذا عرفته بسيطاً شفافاً خجولاً لانه كان يحترمك ولا يقتحم احداً.
لا يقتحم لان الحبّ لا يقتحم، يعطى ويسفك!
اذا فتشت عنه بعقلك وتحليلك ترى انه كان يعرف اشياء كثيرة ولكن ان رأيته بقلبك تفهم انه كان قلباً كبيراً.
ما سيبقى من كوستي، الكتب ستفنى، ما سيبقى المحبة فقط.
العلماء متواضعون، السفهاء مستكبرون!
عندما كنتُ القاه، ولقيتُه كثيراً، كان يبدو انه فهيم جدا ولما كنت اتعمّقه بتّ افهم انه طفل طيّب حلو جذّاب، يجلس مع العظماء في كنيسة الله يجالس الرسل والقديسين لانه عند الناس كان مفكرا، وعندي كان حبيبا ليسوع، هذا ما سيبقى منه، ونحن على خطاه
وهو زعيمنا في الحب وسيبقى!
شيئا كبيرا، كوستي بندلي ، وسنذكره كثيرا ان اردنا بذل نفوسنا، سنذكره متحابّين لنسير على خطاه.
يجب ان تقرأوا ما كتب كوستي لتفهموا شيئا من هذه الكنيسة.
لايجوز ان نبقى على العاطفة، هي حسنة لكن يجب ان نفهمه ونقرأه بعدما احتجب عنا،
ونحن اذا ودعناه اليوم سنعاهده اننا سنسير على خطاه …
كوستي جاء الى كنيسة قاحلة فيها طقوس فقط وجعل فيها فكر.
الحب وحده لا يكفي يجب ان تفهم من تحب،
هو قال لنا ان نحب الرب يسوع المسيح.
اقبلوا مني هذا، اننا طلبنا قداسته، لم يكن فكرا اكاديميا فقط، ولكن بات قلبا كبيرا انسانا متواضعا بسيطا كبيرا في آفاقه، عظيم التطلعات لانه اتى من يسوع المسيح.
اعرف من احبوه وكنا في هذا الميناء جماعة صغيرة حلوة سيبقى كوستي وسنتكلم عنه وننشر كلماته.
من القلائل بين من عرفته الذي كان يوحّد بين كلامه وسلوكه.
لم يكن في شخصيته انفصام، كان دماغه وسلوكه وقلبه واحد.
ليس لي ان اطوّب القديسين، ولكني افهم ان من عاش القداسة والفكر معا، كوستي كان يعقل بعقله ويحب بقلبه وهذان كانا يشكلان شخصيته الواحدة.
هناك كائن في المغترب، قال لي مرة، انا ان فكرت بكوستي بندلي اعود عن خطأي.
المتواضع لا يعرف شيئا عن ذاته
كان يكفي ان تفكر بكوستي ساعة التحربة لكي لا تخطئ!
اذا ودعناه اليوم، نعاهده ان نقتدي به لان المحبة ليست بشيء، ان لم تقودك الى السلوك.
اذهب الى ربك الذي اعد لك مكانا جميلا!
ان مسيح الله ، روح افواهنا، كما قال ارميا، كان المسيح روح فم كوستي بندلي.
والسلام.
المطران أفرام كرياكوس
من يستطيع أن يتكلّم على سيرة هذا الرّجل؟ من يستطيع أن يتكلّم على كوستي بندلي؟ هذا المُربّي بكلِّ معنى الكلمة، هو المُعلّم لا بل الأب. كثيرون يتكلّمون على الكهنوت الملوكي لكن قليلون يعيشونه، كان هو الكاهنَ بامتياز. لماذا؟لأنّه كان صادقاً، إيمانُهُ كان حياتَهُ. هو المُصلّي.. هو الباحث.. لقد جمع بين العقل والقلب.. تكلّم على الأطفال لأنّه كان يحسّ معهم.. تكلّم على الشّباب لأنّه كان يعيش معهم.. لكن كيف عرف كلّ ذلك؟ كيف تممّم كلّ ذلك الإرث الضّخم الذي تَركهُ؟ أنا أقول لكم كيف: لقد حصل على نِعَمِ الله الغزيرة، لأنّه اكتسب فضيلةَ التّواضع. الكلّ يَشهدُ كيف تصرّف في الحرب الأهليّة..ويَعرفُ كيف حَرِصَ أن يبقى في بلدهِ في الأوقات العصيبة.. الكثيرون يعرفون كيف كان يعملُعَمَلَ راعٍ في رعيّته. هو الذي أنشأ نظامَ الاِشتراكاتِ في الرّعيّة.. هو الذي شجّع السَّهراتِ والإجتماعاتِ الإنجيليّة.. كان أميناً لربِّه حتى النّهاية، مُنكبّاً على الدّراسة، ومُنكبّاً على العمل، مُجاهداً في ما بين شَعبهِ. أين الذين يُنادون بالعيشِ المُشتَرك؟ خُذُوا هذا الرَّجُلَ مِثالاً..أُحْذُوا حَذْوَهُ في مُمارسَةِ العقيدةِ القويمة.. خُذُوا نَهْجَهُ سبيلاً لإنقاذِ الوَطَن. لقد تكلّم سِفرُ العبرانيّين على الإيمان الحقيقيِّ عند الأنبياء والقدّيسين والشُّهداء. تكلّم على موسى بقولهِ: “بِالإِيمَانِ مُوسَى لَمَّاكَبِرَأَبَى أَنْ يُدْعَى ابْنًا لِابْنَةِ فِرْعَوْنَ،مُفَضِّلاً الشَّقاءَمَعَ شَعْبِ اللهِ عَلَى التَّمَتُّعِ الوَقْتِيِّ بِالخَطِيَّةِ،وَمُعتَبِرًا عَارَ المَسِيحِ غِنًى أَعْظَمَ مِنْ كُنُوزِ مِصْرَ،لأَنَّهُ نَظَرَ إلى الثَّواب.” (عب 11: 24-25-26). نعم كان بإمكان هذا الإنسان الدكتور في التّربية وفي علم النفس، كان بإمكانهِ أن يذهبَ إلى أوروبا وأمريكا ويتبوَّأَ أعلى المراكز، وَيَحصُلَ على أوفر المُقتنياتِ والثَّرَوات، لكنّه فضّلَ أن يعيش فقيراً مُتواضعاً بين شعبِه، فضّل أن يَحمِل عارَهُ، أي أن يحمِل صليبَهُ، كما يشرح آباؤنا. كُلّها فعلها بصَمتٍ، كان يتجنّب المآدب، يرفضُ حفلات التّكريم، وحتى النّدوات الشعريّة. انظُرُوا إلى كُتُبِه الغزيرة، اسمعوا أحاديثهُ، كان يُفضِّل في الاجتماعات أن يَسمَع آراءَ الآخرين قبلَ أن يُبديَ رأيَهُ، أن يسمَع صوت الآخرين لأنه كان يَعشق صوت الله، لا بل كان يَعشق إطاعة كلماتهِ المقدّسة. المُشاركة مع الآخَرين كان يُحبّها، يُحبُّ الآخَرَ أكثر من نفسِه، يتجنّب حبّ الظّهور. أيّها الأحبّاء اسمعوا، أيّها النّاس انظُروا وافقَهوا كَمِ اغتَذَيْنا بهذا الرّجل الذي يُغادِرُنا في موسم الميلاد، موسِمِ مَجيءِ ربّنا بالجسد بتواضُعٍ سحيق. إلى أين تذهَب الآن يا كوستي؟ هل تلتقي بالمطران بولس الحبيب؟ هل تلتقي بمارسيل المُجاهد؟ هل تلتقي بكلّ الإخوة الأحبّاء الكبار والصِّغارِ مِنَ الحَرَكِيِّينَ الأوفياء، الذين غادرونا بعد أن جاهَدْتَ معَهم طِيلَةَ حَياتِك؟ نِعِمّا لكَ لِكُلِّ ما فَعَلْتَهُ، لكلِّ ما عِشتَهُ، يا مَنِ آمَنْتَ بالرَّبِّ يَسُوعَ إيمانًا صادِقًا، مُتجسّداً في حَياةٍ حَقّة.. فَتَمتَّعِ الآنَ بِفَرَحِ الفِردَوس، لا بل بفرح الملكوت. كُنت أميناً على القليل فسيُقيمكَ الربُّ على الكثير. اُدخُلْ إلى فَرَحِ سَيِّدِك. آمـــــين.
سلوان موسي متروبوليت بوينس آيرس وسائر الأرجنتين
مقتطفات من رسالة المتروبوليت سلوان إلى الدكتور كوستي بندلي (رحمه الله)
أبا إسكندر، المربّي العزيز بالربّ يسوع،
سلام وفرح وامتنان بالربّ يسوع للحياة التي من لدنه!
لم تصلك رسالتي التي كتبتها لك قبل مغادرتك إلى المساكن العلوية، لذا أكتفي هنا ببعض ما جاء فيها، تاركاً للربّ يسوع أن يودعك ما كتبتُ وما لم أستطع كتابته.
(…) ولو أنه مضى زمن لم نلتقِ فيه وجهاً لوجه، فإن هذا الأمر لم يلغِ تواصلاً قائماً بأشكال أخرى وعلاقة رافقتَ فيها درب نموّي واكتشافي لذاتي وللحياة، وللخدمة، وطبعتَ فيها، من دون أن أدري، معالم قويّة ترافقني كما أشعر اليوم هنا وثمّة خاصة في رعايتي في الأرجنتين. ولقد سبق لي، عبر الهاتف، أن عبّرت لك عن هذه المعيّة الجديدة والمعزّية بآن بالنسبة لي، ولا أشكّ أنّها كذلك بالنسبة لك، وإن كانت الظروف لم تسمح بعد بأن أشاركك بعضاً من حضورك الخفيّ المرافق لي، وللآخرين أيضاً من خلال اتصالي بهم والعمل معهم.
لربّما الغربة في مكان بعيد جدّاً عن مصادر حياتي وبيئتي (…) تجعلني أكثر حاجة للتواصل مع وجود إنسانيّ يبلسم هذا الانتقال الخارجي والداخلي بآن إلى عالم وخدمة جديدة بالكليّة عليّ. هذه الغربة تدفعني بالعمق إلى التفتيش عن معيّة حقيقيّة، أجد بعضها بالمطالعة، وبعضها الآخر بالتواصل المباشر، وبعضها الآخر بالحديث أو الكتابة، وأخرى بالصلاة التي أرجو أن ألج رحابها، كما يحصل معي في إصغائي لأترابي البشر (…).
عربوناً لكلّ ما يحصل معي، أودّ أن أهديك كلّ هذه اللقاءات العجائبية التي تحصل معي، سواء في المنازل أو اللقاءات العامّة، الخلوات أو المخيّمات التي تجري في الأبرشيّة، التي تحتوي كلاً منها على نكهة فريدة، لا يعطيها إلاّ الخالق وحده، والقادر على إبداع مثل هذه الأمور. أودّ أن أهديك أمراً يليق نوعاً ما بأتعابك الكثيرة، على مرّ السنين، بالإضافة إلى كلّ ما غنمتُه من خلالك عبر أحاديث ومطالعات حفرت فيّ معالم الخدمة وكشفت لي بعضاً من سرّ الإنسان والاصغاء والحوار والتربية والالتزام والإيمان، وهي بشائر لنموّ حثيث يتطوّر على غفلة منّي، وبتعجّب أيضاً، ولكن أراقب وجوده بفرح وامتنان. هبة الاصغاء أمر عجيب بالفعل، والدخول في سرّ البشر، معيّة تسمح بها الخدمة، بالإضافة إلى فتح باب أن يتشارك الناس بالإصغاء إلى بعضهم البعض والوقوف على أمر مشترك بينهم، لربما فيها بدايات لتقريب معنى الكنيسة الحية إلى قلوب الناس، ولو كانت المسافة لا زالت بعيدة جداً. (…)
هذه الهديّة بالذات تعني بالنسبة لي أن أقدّم لك أمراً يفرحك بالحقيقة، ولا أتحدّث عن نجاح فهو ليس بيت القصيد هنا (وإذا كان هناك شيء إيجابي، فيجب أن يتزكّى مع الزمن)، إنّما هذه الهديّة هي صدى لصوت صرخ في البريّة وقد وصل صداه إلى غير مكان. لا بدّ أن لهذا الصدى تردّد مختلف عن المصدر ومتمايز عنه، بالقوة والحدّة والنبرة والمفعول، ولكن، لا يغني عن القول أنّه صدى لصوت سُمع في مكان ووصل إلى مكان آخر. إنّه ليفرحني هذا المقصد الذي لك فيه حصّة وافرة، كما ومشاركتك إيّاه (…).
فيما كتبت سابقاً أشرت إلى كلمة – عجيبة – في معرض الحديث عن اللقاءات التي تجري معي. بالفعل، أودّ لو تسجَّل لما فيها من عناصر تدفع بالمجتمعين إلى لقاء بينهم، فيه يتجلّى الحوار، الاصغاء، والوحدة بصور تدهشني وتجعلني شاهداً لأمور مستغربة. إنّها لعطيّة أن يبني المرء بين الناس، أحياناً بين أفراد العائلة الواحدة، أحياناً بين أبناء الرعية الواحدة، أو المجتمعين من مناطق مختلفة، السلام والوحدة… أو بالأحرى، أن يساهم ببناء ما يكتشفونه بين بعضهم من عناصر لقاء حيّ، فعّال، محيي. لكم أشكر الربّ على تجلّي هذا الأمر بين الجماعة وفيها. وأنا أعرف كم تقدّر أنت هذه الأمور، وأنها تفرح قلبك العطش دوماً إلى الرجاء الحيّ، وأنت دوماً متوثّب إلى تبيّن معالم هذا الرجاء الفاعل في العالم ومشاركتك إيّاه أترابك في الإيمان والانسانيّة.
لقد تبلورت في حياتك رسولية وتلمذة عكستَ من خلالهما قراءة للإنسانية وللإيمان المسيحي ولمعطيات العلم الحديث والخبرة الإنسانية بعامة، وسعيتَ أن ترى فيها بذور الحياة والرجاء والقيامة، وعملتَ على كشفها للآخرين والدخول في حوار ولقاء ومكاشفة بشأنها، ولا زلتَ تدعونا إلى أن يكون التفاعل حيّاً وبنّاءً ومحييٍ للجماعة الكنسية وللشركة الانسانيّة بعامة.
لا شك أن الأمور تتبلور بقدر ما للمعاناة من دور وقوة واحتدام، عندما تأخذ هذه مجراها الحسن. لا شك أنك انبريتَ أمامها بصدق النفس والقلب العطش والإرادة الثابتة والذهن المتيقّظ والعقل الباحث والفاحص، بالإضافة إلى نور الإيمان الكاشف أمامك معارج الأمور ووجوه الأشخاص وبساطة الخليقة وتعقيدها بآن. هذه اللمسة التي لديّ عنك يستكملها استلهامك الحياة ببساطة كلية، باحترام وتقدير لها، حيث البساطة والعجيبة سيّان، إذ هما وجهان لعنصر واحد، هو عودة الكلّ إلى الله وتجسّد الكلمة بيننا. فقد جعل الربّ هذَين البُعدَين متماشيَين ومتمايزيَن بآن، ولكن بمتناول أحبّته البشر في مسعاهم على معارج الحياة.
كلّ هذا يعني بالنسبة لي رغبة في استلهام مسار انسان اكتشف الحياة وعاشها بالجديّة والتفاني اللذَين يميّزان مسيرة عمر، مسيرتك الشاقّة والحلوة بآن. ولكم أنا اليوم بحاجة أن أضيف على ثوب النعمة الذي يوشّح خدمتي، ثوب الصلاة الإيمان الحقيقي والتواضع والمحبة والبساطة. إنّها أمور توشّح بها شفيعي، القديس سلوان الآثوسيّ، والتي تعبّر عنها إحدى طروباريّاته: “بصلواتك اقتبلت المسيح على سكّة التواضع، والروح القدس شهد في قلبك لخلاصك، لذلك تفرح كلّ الشعوب المدعوّة إلى الرجاء وتقيم تذكارك…”. هذا كلّه رغم وجود النعمة الإلهيّة في حياتي الذي جعل من خدمتي أمراً وحياة عجيبة، وحوّلتني إلى شاهد لعملها بين الناس.
إذ تكتمل الصورة أمامك عمّا يخالجني (…) أقف موقف الشاكر لشهادتك ومعيّتك وحضورك. وأودّ لو استلهمها كلّها والحصول على القوة والنور والرجاء عبرها وفيها، كما أفعل مع غير شخص، كيما أجد مرتكزات في طريق الإيمان والحياة والخدمة الحقيقية والصادقة والبنّاءة (…).
كم أودّ أن يتجدّد لقاؤنا، وأستطيع أن أشاركك أكثر معارج الحياة التي تنكشف أمامي. لا شكّ أن هذا اللقاء سيأخذ منعرجاً آخر غير الذي اعتدتُ عليه سابقاً. وأقصد بذلك الصلاة التي طلبتها منّي. إنّي لأرجو أن أتعلّم هذه الخدمة الجديدة واللقاء الجديد الذي يجمع المتفرّقين إلى واحد.
(…) لا شكّ أنك ستحمل في خلجاتك ما بدر منّي، وفي هذا استكمال لدعائك عند سيامتي أسقفاً وذهابي إلى الأرجنتين، دعاء حمل معه أدعيّة الرجاء ووعد القيامة ونوراً بهياً “لقدس مجد الله الآب الذي لا يموت، السماويّ القدّوس، الغبوط، يسوع المسيح…”، تلك الترتيلة التي طالما كنتَ تختم بها لقاءات وأحاديث في بيت الحركة، التي أحملها مع أطياب أخرى في هذا العالم.
لا شكّ أن مسيرتك حملت معها، عبر هذه السنين التي غبتُ فيها عنك، انعكاساً آخر لما أعرفه سابقاً، ومرافقتك إيّاها لن تكون سوى بهذا الاستسلام الوديع والبسيط في الصلاة الحارّة، ليبارك الربّ خطواتك على طريق القيامة.
(…)
مع كل امتناني ومحبّتي، وذكري الدائم لك ولكل أفراد العائلة في الخدمة الإلهية،
رينيه انطون – أمين عام حركة الشبيبة الأرثوذكسية
الأخوة رؤساء المراكز والفروع الحركية المحبوبين بالربّ
الأخوة أعضاء حركة الشبيبة الأرثوذكسية في الكرسيّ الأنطاكي الاحبّاء
المسيح قام،
فجر هذا اليوم افتقدنا الله، جماعةً وأشخاصاً، بانتقال الأخ المعلّم كوستي بندليّ الى الاقامة في وهج وجهه ونور قيامته….
عاش الاخ كوستي، حاملاً ما سكبه الله عليه من ضياء فكر، بمحبّة الرسل وبساطة الانجيل. جَهد كبيرنا وجاهدَ في سبيل أن يزرع الكلمة في قلوبنا لتُحجب عن عقولنا الظلمة وتُعمّد بنور الربّ. شغله أن نعشق طريق الخلاص ونرتقي لنكون شهوداً لجمال هذا الطريق في العالم. أنهض الكثيرين من قيود الجهل والميوعة واللامبالاة ليرفعنا الى قامة التزام المسيح بحرّية الأبناء. حملنا، جميعاً، صلاةً كيّ لا يُحجب عنّا فرح المُفتدين.
لهذا جئت، وفاءً للمحبّة الالهية التي تجلّت في حياته، أدعو كلاً منكم الى المشاركة في الصلاة لراحة نفسه لنصدحَ سويّةً، حيث كنّا، بصرخة الانتصار على الموت، المسيح قام حقاً قام، فتزهو روحه فرحاً.
ألا حفظكم الطفل المولود في فرح محبّته وخلاصه أبداً.
الأمين العام
++++
كوستي بندلي
اليوم أعلنك مجمع الأوفياء، بإمامة شيخهم، زعيماً قديساً في الحبّ.
اليوم سامتك الجماعة وجهاً إنجيلياً في المرايا الالهية.
الكلّ يا معلّمي كان مشاركاً في مراسم التنصيب.
كلّهم أعلنوا اشتياقهم الى الفداء. …
أتوا قياميين لُيبدعوا لوحة الصلاة،
ليمسحوا دموعهم بالرجاء الفائض من فم مَن اعتادوا التعزيّة من وجهه بينهم.
لم يكسفهم الشيخ، نظر الى السماء ورفرف الروح، من فمه، فوقهم كلمات.
رفرف الروح من فم الشيخ ليحملهم في رحلة سجود للعيّنة، الأثمن، من حبّ مسيحهم.
فانحنت الأعناق وأعلت شأن الانحناءة الأجمل في القلوب،
شأن إنحناءتك إلى حيث يشخص العلماء في الحبّ، إلى حيث يرتفع البُسطاء.
فكان أن عمّ الوفاء وخيّم طيف القيامة فعبَرت باب السماء وساد فرح الانتصار.
كوستي بندلي، أبداً ستبقى فينا منحنياً، وإن من فوق.
++++
ختاماً يا أحبّة، وبعد أن أودعناه لطف الربّ
كيف يكون وفاؤنا لكوستي بندلي باللغة والبساطة التي أحبّ:
بأن نقرأ الكتاب المقدّس يومياً سبيلاً الى اكتساب فكر الانجيل وعشق يسوع والتمثّل به.
بأن نلتزم المشاركة بالقداس الالهي دون تلكؤ مهما كانت الأسباب عدا الأسباب الصحيّة….
بأن نلتزم الصلاة الفردية اليومية ونسعى الى التزام صلوات الكنيسة الجماعية.
بأن نلتزم الأصوام ولا يكون لصومنا البُعد الحرفيّ أيّ بأن نصوم ونحن نعي أبعاد الصوم العميقة.
بأن نلتزم حياة رعيتنا ونهتمّ بشؤون أبنائها.
بأن نلتزم المشاركة في كلّ الاجتماعات واللقاءات التي تعنينا.
بأن نضع مواهبنا الشخصيّة في خدمة الأخوة دون حساب
بأن نغذّي ثقافتنا الايمانية بقراءة ما أنتجه آباء الكنيسة وبعض ما يُنتجه الفكر الايماني اليوم.
بأن نغذّي ثقافتنا العامّة بالمطالعة لنتعر ف عمّا يطرحه علينا الفكر الحديث.
بأن لا نهاب أمراً ونتحلّى بجرأة الشهادة و الفكر والطرح ونكون أبناء ثورة الانجيل.
بأن لا نهاب الدفاع عمّا نراه حقاً أياً كانت الصعوبات.
بأن نواكب أحداث مجتمعنا ومنطقتنا وعالمنا لنتبيّن مواضيع شهادتنا فيها وسبلها.
بأن نحيا بالفضائل وداعةً وصدقاً ولطفاً وأمانةً وعفّة.
بأن تتحلّى حياتنا الشخصية بالبساطة الكلّية.
بأن يفرحنا أن ننقص ليزيد المسيح.
بأن ننظّم وقتنا ونستثمره بجدّية.
بأن نُعنى بكافة جوانب حياة من نُرشده.
بأن نحبّ حقاً الفقراء والبسطاء والمظلومين.
بأن نكون دعاة عدالة من أجلهم وسعاة اليها.
بأن نمقت العنف ونكون من دعاة السبل اللاعنفية لتحقيق أيّ هدف كان.
بألا نحدّ الآفاق الايمانية بحدود.
فبعيداً عن العاطفة الانسانية، هكذا كان كوستي بندلي وهكذا شاء أن نكون وهكذا يستمرّ قينا.
+++
النائب نضال طعمة
“في ما تشهد الساحة الشرق أوسطية تكريسا للمفاهيم الفئوية، وحمل جماعات دينية، ومذهبية، ودفعها بالترغيب تارة، والترهيب طورا، إلى خطابات متطرفة، لا تخدم فكرة قيام دولة القانون والمساواة، خسرت الكنيسة الأرثوذكسية الأنطاكية، عمودا من أعمدة الفكر المستنير، الذي طالما تحدث عن أن الناس جميعهم، بغض النظر عن انتماءاتهم ولونهم ودينهم، هم إخوة، متساوون، ومخلوقون على صورة الله ومثاله. إنه ابن ميناء طرابلس الدكتور كوستي بندلي، رحمه الله، الذي حرض مسيحي الشرق على الانخراط في العمل العام، ودعاهم إلى بناء شراكة حقيقية مع شركائهم المسلمين، ملتزمين قيم الحق والعدالة، التي أرساه الفادي، مقدما فلسفة مشرقية جديدة للاهوت التحرير، واضعا الإنجيل على دروب العصر، ترجمة محبة خادمة. نعزي كل المشرقيين الشرفاء برحيل مرجع ملهم لمسرى شهادتهم في هذا العالم، وندعو أنفسنا وكل الساعين إلى بلورة مستقبل أفضل، إلى الاهتداء بفكر كوستي بندلي الذي صاغه بأسهار وأصوام وصلوات وشهادات حية، من أجل خير الإنسان ورقيه”
القاضي طارق زيادة نائب رئيس المجلس الدستوري
بانطواء صفحة المعلم والمربي والمفكر كوستي بندلي تنطوي صفحة ناصعة من صفحات المحبة والإخلاص والتضحية وسمو الأخلاق ورفيع القيم… شخص جسّد في سلوكه مناقبية مثالية وإيماناً عميقاً وثقافة واسعة جهِد ما وسعَه الجِهدُ لنقل ذلك كله الى طلابه وتلامذته، فأكبروا فيه تلك المثل، وأحلّوه مكان الصدارة بين معلمي الأجيال، حتى صار مضرِب المثل في التفاني والدقة والانضباط.
رقيق الحاشية، تكاد قدماه لا تلامسان الأرض حتى لا يحدث جلبة ولا ضوضاء، لم يسمعه أحد يعلي نبرة صوته، ولم يسمعه أحد يوجّه ملاحظة لأحد، وجهه الصافي وابتسامته الخفيرة وسكوته المهيب يكفي بحد ذاته لإشاعة الهدوء في قاعة يتواجد فيها ستون من الطلبة، يستمعون إليه وهو يلقي عليهم دروساً في لغة فرنسية راقية تسيل من فيه كالجدول الهادئ، وهم ينصتون إليه، ومعظمهم لم يعتَد على مثل ذلك الإلقاء.
عميق قي معرفته الأدبية، بعيد الغور في العلوم الإنسانية، صاحب لغة عربية صافية لم يعتدها أساتذة الآداب الفرنسية، مما أتاح له أن يكتب أبحاثاً ودراسات مهمة في قضايا الشباب والجنس لاقت أحسن القبول.
يتركنا كوستي مودّعاً هذه الدنيا، ولم يبقَ في قلوب محبيه ومقدريه وعارفي قيمته إلا الذكريات الطيبة لمعلم مثال جسّد المحبة المسيحية فعلاً لا قولاً.
ابنُ بيت ولا أتقى، وولدُ أمٍ ولا أنقى، وشقيق أخوة ولا أوفى… في ذمة الخلد يا معلم
ريمون رزق – بيروت
مرّة أخرى رحل عملاق من الذين أطلقوا النهضة الحديثة في الكنيسة الأنطاكيّة ورسّخوها في نفوس شباب لا تُحصى أعدادهم. كان كوستي بندلي متواضعًا إلى أقصى درجات التواضع، لا تعرف إن رأيته، دون سماعه، أنّه صاحب فكر مميّز وأعمال التهمها شبابنا، وتعلّموا عليها كيف يواجهون العالم المعاصر بأمانة كلّيّة لفكر الإنجيل وتعلّق ثابت بالربّ يسوع وتجذّر في كنيسته مع انفتاح تامّ على كلّ ما أعطى الربّ أبنائه أن ينتجوه، إلى أيّ ملّة أو مشرب انتموا. علّهم …يكتشفون في طيّات هذا العالم المسيح الذي ينير كلّ إنسان أتى إلى العالم. تعلّمنا على كوستي بندلي، إلى التواضع الفكريّ والحياتيّ، ميزة الاصغاء للآخر، الذي مارسها بامتياز، مريدًا دومًا في أحاديثه أن ينطلق ممّا سمعه شخصيًّا من الشباب،
ومن التساؤلات التي يطرحونها عليه. لذلك ابتعد نهجه عن ضبابيّة بعض أهل العلم الذين يدّعون المعرفة، ليضع أصبعه على الجروح التي لا تشفيها إلاّ كلمة الحق المتجسّدة والمنحنية إلى آلامها. كان كوستي مقتنعًا أنّ الإنسان “عندما يرى أخاه إنّما يرى الربّ إلهه”، على حدّ قول الآباء شيوخ البريّة. لم أعرف إلاّ قلّة عزيزة تميّزت بمثل هذه الموهبة، إذ غالبًا ما تدغدغ الناس أفكارهم، فلا يسمعون ما يُقال لهم، لأنّهم بدل السماع يهيّئون غالبًا الجواب الذي به يعتقدون أنّهم ينتصرون على الآخر!
علّمنا كوستي إذًا الإصغاء والانتباه التام إلى قريبنا، لأنّ الله يكلّمنا أيضًا بواسطة الأخ – وكلّ إنسان هو أخينا – لأنّ المسيح يسكن فيه. في عالم يملؤه اليأس والقلق، علّمنا كوستي” أنّ الحياة ليست عبثيّة”، بل يجب أن تكون”تقدمة وخدمة ومشاركة وورشة للملكوت الآتي”. يمكن قول المزيد على كلّ ما أعطانا الله أن نكتسبه من خلال هذا الإنسان الذي اختار أن يُمحى لكي يبرز من خلال معرفته الخفرة المتواضعة نور مقتبس من النور الإلهيّ.
لكن لا يسعني، وأنا أكتب هذه الكلمات، والغصّة في قلبي، إلاّ أن ألاحظ غياب وجوه النهضة، الواحد تلو الآخر، وأطلب من المخلصين في أنطاكية، وهم الأغلبيّة الحيّة فيها، والذين يفتقدونهم، أن يترحّموا عليهم ويطلبوا من الله أن يحفظ إلى سنين عديدة المطران جورج (خضر) الذي هو آخرهم، والذي لولاه لما كانت أنطاكية على ما هي عليه من إشراقات من الروح. فليحفظه الربّ الإله، وليجعل ذكر كوستي مؤبّدًا
كريستو المر – كندا
في بدء شباب الحركة كان كوستي كلمة، كان كلمة تجاه الله، وكان تلميذاً للكلمة
هذا كان في بدء شباب، أمام الله
كلّ حبّ، فيه تجسّد، وكلّ حرّية،
به كانت الحياة تفيض، والحياة فرح الناس
النور أضاء في فمه، والعبوديّة لم تدركه…
كان إنساناً مرسلاً من الله، إسمه كوستي
هذا جاء للشهادة ليشهد للنور في زمن الموت،
لكي يؤمن الرقيقون بواسطة الكلمة في كلماته
لم يكن هو النور بل شاهدا للنور
وشهادته حقّ
كان شاهدا للنور الحقيقيّ الذي ينير كلّ إنسان آتياً إلى العالم
إلى حركته جاء، وحركته قبلته والحسد لم يقبله
وأمّا الذين قبلوه فولدهم في البهاء والحرّية، إخوة للكلمة
مولودون من الله إله الحبّ الحرّية
عُلّقَ غريبا فوق صليب الكلمة، وأحيط بالأحبّاء والأصدقاء
منهم من عُلَّقَ معه ومنهم من تمريم عند قدميه ومنهم يوحنّائّيون
بين كلماته وفي عينيه، صار الكلمة وجهاً وحلّ بيننا، ورأينا مجده،
ومن ملء الكلمة في حبّه المكسور، أخذنا، ونعمة فوق نعمة
لأنّ ناموس العبيد أرضعنا إيّاه العالم، أمّا نعمة الحرّية والحبّ الحقّ فبيسوع المسيح صارا،
وبأحد أنبيائه لنا، كوستي، تدرّبنا على الحبّ في الصليب وبهجة القيامة…
هذا الذي كان من بدء، هذا الذي سمعناه، الذي رأيناه بعيوننا، الذي شاهدناه، ولمسته أيدينا، من جهة كلمة الحياة في وجه كوستي
+++
سلام عزيزي كوستي
تركتنا ولم تتركنا. ومسيحك رافقنا. والرفقة غدت حبّاً. والحبّ صار حياة.
عرفناك ولم نعرفك.
وعرفناك دليلاً إلى بابٍ. وخلف الباب حديقةٌ، والحديقة تفتيشٌ، والتفتيش فرحٌ، والفرح هواءٌ، والهواء لعبٌ، واللعب لقاءٌ، واللقاء حبٌّ، والحبّ حرّيةٌ، والحرّية حرّية.
وكنتَ تزرع. لا تقهر بذوراً بماءٍ، ولا غرسةً بنورٍ؛ وكنتَ تنام وكنتَ تقوم، ولا تعرف كيف ينمو مَنْ ينمو. وكان الصبية يفرحون، وكانت الصبايا يفرحن، والقمحُ يتلوّح، والحنونةُ الشمس تَفْرَحُ وتُفْرِحُ. وكانت صلباننا ثقيلةً، ومراهقتنا مليئة بالله وبالمسامير، وأنتَ تسمع وتشيرُ إلى الدروب. وكانت الدروب مرسومة في وجوهنا، وتنضح بياسمينٍ غريبٍ. وكان الوردُ فيها يميل، وكان ماءُ الزهر ينضجُ فوق نار الرحيل، فيبلّلُ نكهة الوليمةِ ورقصةَ النهار.
وخلف ثقوبِ الأيدي كان القمح يتكاثر، والحبُّ يطحنُ. وكنّا فُرادى، وصرنا واحداً، وصرنا كثيراً، وصرنا أصدقاء، وصرنا جسداً موجوعاً، وصرنا بشراً، فوقع الحصى من القلب، وذاب جليد الاختباء، ونبَضَ التراب عن نبعٍ عميقٍ.
واليوم نفتقد وجهك، وفي ليل القوافلِ يُفتَقَد الضوءُ، والضوءُ تحت الجلد خبيئٌ، فالشمس أشعلَتْه، وأنت وزّعته، فكثُرَ بين يديك.
واليوم نفتقد وجهك، واليوم نجدُ وجهك، فالضوء رفيقٌ، والغياب سيفٌ يجتاز ما يجتاز، والصمتُ جسرٌ في القلبِ فوق الغياب.
إنّنا اليوم قافلة أصدقاء… تراجعَ الليلُ وتفتّح النهارُ. الحديقةُ تغنّي، والشمس تشعل الضلوع، والقلب يستدفئ، وفي أشجار الوجه يستظلُّ كلُّ عصفورٍ صغيرٍ. وفي سلوان الدموع نغتسِلُ، ونفركُ كلُّ غربةٍ فينا، ليبصرَ جوعُنا خبزَ العودةِ إلى الحبيب. والحبيب قمحٌ، والحبيب نبيذٌ، والحبيب واحدٌ، والحبيبُ فيك بدا، هبوباً في أشرعة كثيرة.
إلى اللقاء كوستي إلى اللقاء. إلى اللقاء الآنَ ثمّ الآنَ ثمّ الآن. واللقاءُ غيابٌ في الحضور، واللقاءُ حضورٌ في الغياب، واللقاء رحيلٌ في الحبيب الممتدِّ على خشبة أو خشبتين، واللقاء حياةٌ في الحبيب المضيء في الكأس… في قلب الغياب.
نجيب كوتيا – لندن
أبا اسكندر
ستلتقي من كنت دائماً تطمح للقائهم. كنت دائماً تقول لي ان أوصل سلامك للمتروبوليت انطوني في إنكلترا وان اطلب منه ان يصلي لك وأنك تحب يوما ما انت تقابله. أنتما الآن على مائدة الفرح. صليا من اجلنا.
سلم على الذين سبقونا.
ربما تقول لماري ان ترتاح ولكنها تأبى فهي قائمة ابدا في الخدمة. تقول لرمزا الا تقلق فالمائدة حافلة والعجل سمين وافر.
ويا له من ميلاد مجيد تقضيه مع أحبابك ومعنا.
ها انت تبتهج مع بولس ومرسال وغلوريا ومتري واليف وايلي عبيد والياس مرقص وغبريال سعادة والبير لحام وميشال خوري وكل من شرّف حياتنا وزرع فينا بذار الأمل والصدق والعمل.
ترتلون في صمت الملائكة مرافقين رقصة الثالوث الأبدية.
ستظل تعزّينا نحن قليلي الايمان وتشددنا:
كان في الماضي بكاء كان في الماضي ألم
أشرق النور فهيا
لن ننام لن ننام
فجرنا الحلو تكحل باناشيد السلام
ربنا رب السلام
لن ننام لن ننام
الله معك انت معه انت معنا هو معنا
عمّانوئيل
نيقولا لوقا – الميناء
اليوم الأحد “بكّرنا الى القبر”، “الحجر لم يكن قد دحرج” في الحقيقة “لم نكن نحمل معا طيباً” أشعلنا بخور وشمعة ورتّلنا : لتستقم صلاتي .
“لم يكن القبر مضبوط” خالجني شعور بأن “أسرق جسد الحبيب المعلّم”، فهِم أحد الإخوة الأحبّاء ما يجول بخاطري، فقال لي بلطف: لا حاجة لذلك فالقيامة قد دُشّنت مرة واحدة ولا حاجة لأخرى. ثمّ نظرت الينا أختٌ حبيبة وقالت أيعقل أنّ القدّيسين سينتظرون أيضا المجيء الثاني؟ وهل من العدل أن يبقوا هم أيضاً في حالة الإنتظ…ار مثلنا نحن المثقلين بالخطايا؟ إلتبست عليّ الأمور وإختلطت في رأسي فبادرتُ بترتيل: “أيها النور البهي”، وإذا بنور الشمس يدركنا في المكان الذي كنا نقف فيه، حيث أننا كنا قد إخترنا مكانً في ظلِّ قبّة الكنيسة. غزا النور “جمَعْتَنُا” وعمّ في ما بيننا شعورٌ غريب. لم نقل شيئاً. حتّى أنّ أحداً منّا لم ينظر الى الآخر. ولكن جميعنا فهِمَ أنّ الحجرَ كان قدّ دُحرج، وأنّ الحبيب المعلّم لم يعد موجوداً في القبر. ولكنّه رأفةً بنا إستوقف الملاك، وطلب منه أن يختم الحجر من جدي،د لكي لا تُنَتهك حرّيتنا. كيف لا وهو كمعلّمه لا يرضى إلا أن نبقى أحراراً الى الأبد.
قررنا أنّ نتمشى في الغد على طريق البحر، ربّما يتبعنا رجلٌ لا نعرفه ويسائلنا ما لنا حزانا، ونقول له أأنت غريب عن الميناء؟ فندخل قهوة بجانب البحر لنشرب ما يدفءُ عظامنا، فيدخل معنا، وننظر اليه وإلى بعضنا البعض، لا أعلم، ربّما مستائين، فهو غريبٌ عن الميناء، وقرّرنا أن لا ننظر اليه وأنّه غير موجود.
بلطافة متجاهلةٍ استيائنا، بداْ يحدّثنا عن المحبّة، واللطافة، والعمل، وقبول الآخر، ونبذ العنف، وأنّ الجنس مع الحبّ مقّدس، وأنّ الله يحبّنا ويفتح لنا يديه، وأنّه لا يقتحمنا، وأنّه يودّ لو نناجيه حتى في عليّة… هنا تنفتح قلوبنا وبسرعة نستدير نحوه فلا نجد سوى ريح تلوّح في ستائر المقهى فنحزن من قساوتنا ونفرح بأنه معنا ولا زال يرشدنا…
·
الاب جورج مسوح
كوستي بندلي… القلب والعقل معاً
جريدة النهار18 كانون الأول 2013
رحل كوستي بندلي. رحل اللاهوتي الذي لم يحز شهادة في اللاهوت الا انه تفوّق على الكثيرين ممّن حازوا درجات عليا في اللاهوت الأكاديمي. وإذا كانت سائدة في التراث الأثوذكسي مقولة “اللاهوتي الحق هو الذي يصلي”، فيسعنا أن نقول، آخذين كوستي بندلي عبرة، “اللاهوتي الحق هو مَن يحيا الإنجيل، بما فيه الصلاة، مقتدياً بالمسيح يسوع في كل شيء”.
كوستي بندلي جمع القلب والعقل معاً، جاعلاً التناغم بينهما قاعدة لممارسة الإيمان. لم يجعل تضاداً ما بين “الحياة الروحية” وشؤون هذه الدنيا. أدرك أن المسيح بطبيعتين إلهية وإنسانية، فكرّس لكل منهما ما تقتضيه من واجبات والتزامات. لم يسقط في تجربة إيلاء الحياة الروحيّة الأهمية على حساب إهمال الواقع الإنساني، ولا في تجربة إيلاء الخدمة الاجتماعية الأهمية على حساب إهمال الحياة الروحية. أرانا بندلي، في حياته، أن الأمرين صنوان متلازمان، إذا سقط أحدهما سقط الآخر حتماً.
ثمة، في الممارسة، بدعتان لدى المسيحيين استطاع بندلي أن يقهرهما. البدعة الأولى هي الاهتمام بما هو لله فقط، أما الثانية فهي الاهتمام بما هو للإنسان فقط. وهاتان البدعتان هما من آثار البدعتين اللتين حاربتهما الكنيسة في القرن الخامس الميلادي، بدعة النسطوريّة التي أنكرت الطبيعة الإلهيّة للمسيح، وبدعة الطبيعة الواحدة التي أنكرت الطبيعة الإنسانية في المسيح. المسيح إله تام وإنسان تام، وهذا يعني أن التجسد الإلهي يفرض على المسيحي أن يهتمّ بأخيه الإنسان، لا أن يكتفي بالصلاة والصوم والعبادات وحسب.
قضيّة بندلي التي بذل حياته في سبيلها هي قضية الإنسان الذي أحبّه الله، الإنسان المعذَّب في الأرض، فكان مثال المثقّف المسيحي الملتزم شؤون الأرض والناس. وكانت العدالة شغله الشاغل، فوضع كتاباً مرجعاً عنوانه “نضال عنفي أو لاعنفي؟ لإحقاق العدالة”، لم يكتفِ فيه بالاستناد إلى الفكر المسيحي، بل عاد إلى المهاتما غاندي متبنياً تعاليمه في هذا الشأن. وتبنّى قضايا الشعوب المقهورة في فلسطين وأميركا اللاتينية، وسواها من البلدان التي شهدت ثورات ضد الاحتلال وضد الظلم الاجتماعي الذي مارسته الأنظمة الديكتاتورية. وفي هذا السياق أبغض الطائفية التي اعتبرها نوعاً من أنواع التمييز العنصري.
وكان كوستي بندلي رائدًا في استخدام العلوم الإنسانية، وفي مقدّمها علم النفس الذي اختص به، في سبيل تربية مسيحية حق تحارب التقوقع والانغلاق والخوف من العالم، تربية منفتحة على العصر تأخذ في الاعتبار محورية الإنسان في الكون، وعمادها الحرية والمعرفة، “تعرفون الحقّ، والحقّ يحرّركم”. كما تناول موضوع الجنس، وبخاصة في كتابه “الجنس ومعناه الإنساني” من منظور مسيحي ومن منظور علم النفس في الوقت عينه، دعا فيه إلى تربية جنسية سليمة تقضي على الجهل السائد والأفكار الخاطئة التي تحيط بهذا الموضوع.
كوستي بندلي، ابن الكنيسة الأنطاكية، ابن حركة الشبيبة الأرثوذكسية، ابن مدينة الميناء (طرابلس)، الإنسان، المعلّم، المربي، الأب، الأخ، المناضل، كان صيّاداً للناس، لبّى دعوة يسوع الذي قال للرسل: “سأجعلكم صيّادي الناس”، فترك كلّ شيء وتبعه… لكن مَن يريد أن يكون صيّاداً للناس عليه، قبل ذلك، أن يرضى بأن يصطاده يسوع، أن يكون سمكة في شباك يسوع. طوبى لك، فقد اصطادك يسوع من مينائك ليجعلك في بحره حيث ماء الحياة.
الأب جوزف عرب – الكويت
ترعبني وتقلقني جدا ً كلمة ” كبارنا يرحلون ” .
لأنهم كبار لا يرحلون ، فلم يرحل بولس الرسول ولم يرحل يوحنا الذهبي الفم ، وهل سيرحل كوستي بندلي ؟
يرحل الجسد ويبقى سبب الكبر ، ويبقى الحب .
إن رحل كبارنا فلأننا نكون نحن قد رحلنا عن أنفسنا قبل أن نرحل وقبل أن ننقل سبب الكبر … والحب .
خاتمة
يامثلث الرحمات
لن أقتبس شعارات التبجيل والرفعة بحقك وفعلاً تستحق لقب مثلث الرحمات أيّها السيّد العزيز، لأنّك ما آثرت يوماً غيري التواضع والمحبة، وعشت على غرار السيدله المجد تنفذ وصية المحبة، ولولاها لما اختارك الروح القدس راعياً لابرشية عكار الخزان الشعبي الارثوذكسي المهمل رعائياً وروحياً ربما لقرون مضت، فكنت انت الزارع والساقي، واليوم بدأ موسم الحصاد فيها من خلال هذه النهضة الروحية التي قمت بها في هذا الوادي الجميل وصافيتا وطرطوس وسهل عكار اللبناني…كنت في جلساتك الروحية معنا ايها البار تذكرنا دوماً بأن:
“المسيح هو الحقّ والحياة… لا يضلّنكم أحدٌ ولا تقهرنّكم ضيقاتٌ أو تجارب… لا مفرّ من كأس الموت حتى نتلذّذ بالحياة الأبديّة… وطبعاً إيماننا باطل إن لم نؤمن بالقيامة…”
سيدنا بولس البار انت كنت اميناً على القليل في كل مكان خَدمته وخاصة في السنوات الثلاث في ابرشية دمشق العطشى الى تعاليمك ياعاشق المسيح، فحملت بمحبّةٍ وصمتٍ صليبنا وصليبك مع المسيح… تألّمت لأتراحنا، كما لم تغفل عن أفراحنا فعمّدتنا وكلّلتنا وانا كنت من المباركين برفع اكليلي بيمينك المقدسة على رأسي ورأس زوجتي فكنا مباركين طيلة هذا العمر على اسم الآب والإبن والروح القدس.
أنت ذاهبٌ اليوم إلى حيث لا يضيع حقٌّ… إلى حيث لا يُهلّل لك إلا مَن الصديقين لحماً ودماً… فادخل إلى فرح السيّد حيث ستكون أميناً على الكثير…
صلِّ لأجلنا ايها البار…
لقد اعتدنا ان يقدم قديسونا دماءهم شهادة نقية لأجل الرب يسوع، ولكن ايضاً ثمة قديسون كثر فعلوا مافعلت انت ولكن الفارق اننا في عصر المادة الاجوف وانت كنت تعيش بالروح النقية التي سحقها الروح القدس فصيرها نقية لانسان قديس هو بولس بندلي…
اترك تعليقاً