مذبحة مروعة شهدتها سائر بلاد الشام ضربت الوجود المسيحي في جبل لبنان وزحلة واقضية بعلبك والبقاع وصعدت الى حلب وانتهت بدمشق خلال فترة قاربت العقد والنصف البعض من المؤرخين المعاصرين يقول بأنه بدأت فور انحسار الدولة المصرية بحملتها التنويرية على بلاد الشام اي في العام 1840 والبعض الآخر يقول انها كانت مع ثورة الفلاحين المارونية في جبل لبنان ضد الاقطاعيين الدروز، ولكن الحقيقة انها بدأت فعليا عام 1849 عندما تم ذبح زعماء المسيحيين في بيت مري بعدما تم جمعهم بخديعة المصالحة وسلموا اسلحتهم فتم ذبحهم وتقول سيرة الزعيم اللبناني الشهير يوسف كرم ان دم المغدورين الثلاثمائةزعماء المسيحيين في جبل لبنان خرج من شبابيك سرايا بيت مري…! وجالت في كل المناطق ولكن المجزرة بكل ثقلها قبل وصولها الى دمشق حطت في زحلة حتى نكبتها باستشهاد رعيتها المسيحية برمتها ودمارها…لنصل الى مجزرة دمشق الفادحة التي ادت الى فقدان نصف الرعية المسيحية الدمشقية ذبحا وهجرة الربع وبقاء الربع الباقي اقلية مرتاعة فقدت البيت والعمل والبستان وكل شيء!!!
كيف ولماذا حصلت مذبحة المسيحيين في بلاد الشام عموماً وفي دمشق عام 1860؟ ما هو دور روسيا وفرنسا وبريطانيا وتدخلها في شؤون السلطنة؟ هل كانت نتيجة للصراع بين العلمانية ومبادئها من جهة والشريعة وقوانينها من جهة أخرى؟ ما دور القوى الإقليمية والصراع بين محمد علي (مصر) وآل سعود (الوهابيين في شبه الجزيرة العربية) فيها؟ هل لعب الفارق الطبقي وازدياد الفقر دوراً؟ لماذا تآمر حاكم دمشق العثماني احمد باشا مع الإسلاميين المتعصبين على مسيحيي المدينة؟ ام كان ينفذ استراتيجية الدولة العثمانية بافناء مسيحييها للخلاص من طوق الامتيازات المذهبية الذي وضعته الدول الاوربية في عنقها ولتنهي هذه الذريعة لتدخل الدول الاوربية في شؤونها الداخلية من خلال ابناء الطوائف المسيحية الذين تدعي الدول الاوربية حمايتهم كونهم من ابناء ذات طائفتها؟
– هل لتتخلص الدولة مما فعله محمد علي باشا والي مصر بحملته على بلاد الشام من تساوي المسيحيين بالمسلمين في الحقوق والواجبات ( افتتاح المدارس و ترميم وبناء الكنائس بدون ترخيص وعدم اعتبارهم ذميين يتوجب عليهم ان يكونوا مواطنين من الدرجة الثالثة ويمارس المسلمون عليهم التحقير والضرب وعدم المشي على الارصفة بل في طاروق الحي الاسلامي “طورق وشّمل” وعدم حقهم بلبس الالوان الخضراء وسواها من الوان النبوة وفرض الجزية عليهم…
-هل قامت هذه الفتنة كما يتوهم البعض بأن وراءها الغرب دفاعا عن الحرير الصناعي المنتج لديهم مقابل الحرير الطبيعي الفاخر في بلاد الشام…؟
هل لارضاء المسلمين الذين وبالرغم من القهر على مواطنيهم المسيحيين الا ان المسيحيين كانوا اكثر غنى وتحضرا ووعياً وانفتاحاً على جيرانهم المسلمين ودماثة معهم بسبب من ارتباطهم بالغرب في ظل نتائج الثورة الفرنسية والحركات الدستورية وحقوق الانسان في العالم الغربي…
ام لمهارة المسيحيين ومعلميتهم في الحرف والصناعة اليدوية ومن ثم في ادخال المكننة عليها وبالرغم من الضيق والحصر في حاراتهم الا انهم بدأوا في اكتساب اللغات والعلوم واصبحوا يسيرون على دروب اوربه.؟
الصرح البطريركي الارثوذكسي والمريمية عام 1860
يعتقد كثيرون من المعاصرين والمتأخرين أن الوجود المصري في سورية 1831ـ1840 فتح سلسلة من التغييرات كان أهمها إدخال القناصل الأوروبيين، وفتح أسواق دمشق أمام التجارة المتوسطية، وظهور الملاحة البخارية. وقد تطور هذا الأمر مع إدخال إبراهيم باشا مفاهيم المساواة القانونية بين المكونات الدينية، التي نفذها بالفعل في مصر لكنها كانت غريبة على دمشق. كان محمد علي باشا قد أدخل التغييرات في مصر لفرض المسؤوليات المالية والعسكرية على الأقليات. وبحلول عام 1850 كانت فرنسا والنمسا قد دخلتا كشريكتين تجاريتين رئيسيتين في سورية، ما أدى إلى تضاعف إجمالي الواردات الأوروبية عبر مرفأ بيروت تقريبا بين عامي 1853ـ1857. وكان للتدفق المفاجئ للأقمشة القطنية والصوفية الرخيصة في سوق دمشق تأثير فوري على صناعة النسيج المحلية. وفي مواجهة هذا السيل من الأقمشة الأوروبية الرخيصة، أجبر النساجون (النويلاتية) على التوقف عن العمل. ترافق هذا التوسع في الحقوق القانونية للمسيحيين واليهود السوريين من خلال الفرص الاقتصادية المتنامية التي تمتعت بها مجتمعات الأقليات.
نرى دمشق في هذه الفترة وهي تعيش صراعا بين النخب والناس العاديين والسلطة المركزية حول هذه الإصلاحات، كما نرى النخب المحلية الدمشقية المسلمة وهي تندد بالإصلاحات العثمانية، كونها أتاحت مساواة أكثر بين المسلمين والمسيحيين. وكان السلطنة العثمانية سارت في هذا الاصلاح في ظل تدخل القوى الأوروبية بحقوق الأقليات لمنع المزيد من التدخلات الأوروبية.
ربما واكيد سيقول البعض منتقدا او ربما مهاجما حتى “لم نفتح هذا الجرح الغائر سواء بأحداث دمشق ومحيطها وجبل الشيخ… وجبل لبنان وزحلة والبقاع… من 1849 الى 1860 والخسائر المهولة بالارواح والممتلكات والقضاء على ثلاثة ارباع الوجود المسيحي في دمشق ومانسميه اليوم محافظة ريف دمشق” وقبلها مجزرة حلب الطائفية عام 1850 ومعها القلمون والبقاع وبعلبك وبعدها مجزرة جبل الشيخ وقلعة جندل مثالاً عام 1925 والهجوم على المسيحيين فيما تدعى الثورة السورية الكبرى ضد الفرنسيين وقد حصد مسيحيو دمشق ووادي العجم و… نتائجها الكارثية كونهم عند الثوار الجهلة على دين المستعمر الفرنسي فيجب الاقتصاص منهم…تماما كما حصل في كل حروب الحكم الاسلامي في سورية مع الجيران سواء كانت امبراطورية الروم او الفرس او الفرنجة او المغول فيكون الانتقام بمذابح ارتدادية قلصت الوجود المسيحي في بلاد الشام من نسبة 60% حتى مطلع القرن 14 الى الواقع المخيف حاليا مرورا بفترة احداث 1860 حيث كانت نسبة المسيحيين زادت عن نسبة 35% في دمشق وحدها.
اليوم ثمة اجماع عند جميع الاطياف المتنورة وخاصة عند المسلمين المتنورين حيث يقولون:
«ان مجازر اليوم الدينية بحق المسيحيين وبقية الطوائف ذات الاقلية العددية في مشرقنا عموما وسورية خير دليل على أننا لم نتعلم شيئاً من أحداث 1860، وما زلنا كما كنا في منتصف القرن التاسع عشر مجتمعاً قبلياً وقابلاً للانحراف نحو الهاوية».
ونضيف اننا وفي الذكرى 165 لأحداث الستين، يجب أن نقف عليها بشجاعة ونحاول فهمها بتمعن، بعيداً عن الشحن الطائفي والمذهبي، لبناء هوية وطنية حقيقية ومجتمع غير قابل للاختراق.
فهل تفتح هذه المكاشفة التاريخية وغيرها الباب أمام تحقيق أمنية المؤرخ الدقيق. حيث ليس مطلوباً التفاؤل أو التشاؤم، لعل العقلانية هي أكثر ما يحتاجه السوريون في مقاربة ماضيهم، وحاضرهم أيضاً.
فتنة 1860 او طوشة النصارى
تشكل الفتنة الطائفية الكارثية المدمرة التي وقعت في دمشق بتاريخ 1860 وحملت اسما مغلوطا وظالما للمسيحيين بتسميتها “طوشة النصارى” التي نرفضها لمدلولها العكسي فوفقا لهذه التسمية المغرضة بصور مطلقوها المسيحيين الشوام (بلاد الشام عموماً والدمشقيين وريف دمشق خصوصاً بأنهم سكان زعران شقوا عصا الطاعة على الدولة ومواطنيهم وثاروا على القانون فوجب اخضاعهم وتأديبيهم وعقابهم!!! بينما كانوا وعلى مر العصور مواطنين ودعاء لايحق لأي منهم حمل اي سلاح!!! حتى ان قواص البطريرك والمطران لايحق له ان يحمل السلاح كما تشير وظيفتهم المساوية لقواص القنصل الاجنبي… بالدفاع عن البطريرك…؟!
ان ماتسمى افتراءً”طوشة الستين” واحدة من جرائم الحرب الموصوفة تاريخيا بحق مدنيين ابرياء آمنين في بيوتهم ومصالحهم يتابعون ارزاقهم وحرفهم، ذنبهم الوحيد انهم مسيحيون وماجرى في دمشق أبشع ما جرى في مساحة بلاد الشام لا لجهة عدد ضحايا لجريمة الحرب الطائفية الكبيرة هذه فحسب (والتي بموجبها تم تشكيل لجنة على مستوى دولي معاصر للتحقيق والمحاكمة ورفع النتائج الى دولهم وكانت تضم الروس والفرنسيين والانكليز…) وحجم الضريبة الفادحة التي دفعها المسيحيون الدمشقيون من دمائهم اطفالا وكبارا نساء ورجال وقد نقص وجودهم بمقدار النصف وغادر ربع النصف المتبقي او مايزيد الى بيروت ومن ثم الى مصر والسودان والعالم الجديد وعيونهم تبكي مدينتهم المعشوقة دمشق المدمرة والمحروقة وفيها بيوتهم واملاكهم وكنائسهم وقبور ذويهم عبر التاريخ،
هل ننسى اضافة الى حوالي 12000 شهيد دمشقي من الجنسين ومن مختلف الاعمار عدا من جرح ومن اسلم للنجاة وعدا النساء والاولاد الذين بيعوا بعد اغتصابهم من قبل الاكراد بيد شمدين آغا وزعرانه وسواهم الى البدو حجم الدمار الذي لحق بالمدينة أيضًا، حيث أدت أفعال الرعاع إلى تدمير مئات البيوت التي فر أصحابها، فوقعت تحت أيدي اللصوص الذين نهبوا محتوياتها، وحرقوها، حيث تُظهر صور التقطت لبعض الأحياء الدمشقية في الوقت، مشهدًا مريعًا للبيوت المدمرة ثم استملكوها في مناطق البزورية والشاغور ومئذنة الشحم ومكتب عنبر والقيمرية والجورة وحتى منطقة باب السلام والعمارة الجوانية اضافة الى املاكهم وخاناتهم التي كانت منتشرة في تلك المناطق اضافة الى الشارع المستقيم غربا حتى باب الجابية.
تاريخ مدينة دمشق
تعتبر مدينة دمشق واحدة من أعرق مدن التاريخ وهي تقع في الجنوب من دولة سورية الحديثة. وهي أقدم مدينة في العالم عاش فيها الإنسان بلا انقطاع، حيث أثبتت الدراسات الجيولوجية أن الإنسان عاش فيها منذ الألف السابع قبل الميلاد. كما وجدت آثار تثبت أن الإنسان عاش في حوض بردى القريب منذ الألف التاسع قبل الميلاد، مما يجعلها تنافس أريحا على لقب أقدم مستوطنة في العالم قاطبة.
وعُرِفت أول الشعوب التي سكنتها بالكنعانيين وتبعهم العموريون، وقبل مجيء العرب سكنها الآراميون. وبسبب موقعها الإستراتيجي تنازعت عليها إمبراطوريات العالم في كل الأحقاب. قبل الميلاد تناوبت حضارات ما بين النهرين والفراعنة والحثيين على إحتلالها. ثم جاء دور الحضارات الأوروبية (اليونانية مع الاسكندر الاكبر ثم قائده سلوقس طيلة ثلاثة قرون وجعل انطاكية عاصمته ودمشق تابعتها،حتى الحقها الرومان بامبراطوريتهم السنة 63 ق,م بيد القائد الروماني بومبيوس معتمدا انطاكية عاصمة الشرق الروماني ودمشق تابعتها ثم الامبراطورية الرومانية الشرقية ( الرومية) بدءا من براءة ميلان السنة 313م وتحديدا عام 320م عندما جعل القسطنطينية عاصمة امبراطوريته بعدما اباح حرية العبادة لمسيحيي الامبراطورية) ونتنافست مع الامبراطوريات الهلنستية والرومانية والرومية في السيطرة على بلاد الشام وغزوها بين الحين والآخر.
وجاء العرب المسلمين في القرن السابع للميلاد 635 م بدخول ابي عبيدة اليها مع ابن الوليد وواليها معاوية بن ابي سفيان،ليقيم امبراطوريته الاموية ودمشق الشامة الجميلة عاصمة الدولة الاموية أعظم امبراطورية في التاريخ في ذلك الوقت التي امتدت حدودها الى المغرب واسبانيا غرباً وإلى الصين شرقا. وعاشت دمشق أوج مجدها لحوالي قرن من الزمن قبل أن تنتقل الخلافة إلى بغداد في عهد الدولة العباسية ويخبو نورها الحضاري.
في عهد العباسيين تراجعت أهمية دمشق بشكل كبير لكن هذا لم يمنع الطامعين من محاولة السيطرة عليها. وخاصة في عهد ضعف الدولة العباسية وخلفائها الضعفاء. فحكمها الفاطميون والأيوبيون ومن ثم المماليك إلى أن جاء العثمانيون الأتراك مرتزقة بدأووا في خدمة هؤلاء الخلفاء لحماية عروشهم ليستولوا عليها بداية آل سلجوق ثم آل عثمان ليحكمها العثمانيون من 1516 الى 1918 لمدة نيف وأربعة قرون.
حكم المماليك دمشق إلى ما يقرب من قرنين ونصف من الزمن، ما عدا فترة قصيرة وقعت فيها دمشق في يد المغول الذين دمروا المدينة بشكل كامل وأحرقوا المسجد الأموي وكل الكنائس والاديار واقاموا برجا من رؤوس الدمشقيين عقابا لهم على الاستعصاء والمقاومة حيث قتلوا حوالي 50,000 من سكانها، منهم من مات في القتال ومنهم من مات في الحرائق التي افتعلها الغزاة.
الحياة الدينية
تأثر السوريون عامة والدمشقيون خاصة بديانات الدول التي احتلتهم. ففي البدء غلبت الديانات الوثنية مع بعض التجمعات السكانية التي آمنت بالديانة اليهودية ومن ثم المسيحية إلى أن اعتنقت الإمبراطورية الرومانية الديانة المسيحية حيث بدأت المسيحية بالإنتشار الواسع من دمشق تحديدا مع القديس بولس الرسول. وبعد انقسام الإمبراطورية الرومانية وسقوط رومة بيد البرابرة الجرمان السنة 476م بقيت الكنيسة الارثوذكسية الرومية هي الكنيسة الشاملة لكل بلاد الشام الذين ورثوا حكم بلاد الشام.
بعد مجيء العرب المسلمين في القرن السابع ودخولهم دمشق635م، بقي معظم السوريين على دياناتهم إذا كانت سماوية كالمسيحية واليهودية، بينما حارب المسلمون الوثنيين حتى قضوا على وجودهم في كافة أنحاء الدولة الإسلامية. سمح المسلمون لأصحاب الديانات المسيحية واليهودية بالبقاء على دينهم بشروط ومنها أن يدفعوا جزية سنوية باعتبارهم ذميين اي من اهل الذمة.
بعد إنشقاق الكنيسة في 1054م كان المسيحيون روميون ارثوذكسيون يتبعون لكرسي انطاكية العظمى في مدينة انطاكية ويرتبطون برباط العقيدة مع مسيحيي فلسطين وكرسيهم الاورشليمي ومسيحيي آسية الصغرى والاناضول وكرسيهم المسكوني وهو البطريركية الارثوذكسية الاولى في القسطنطينية وبعد سقوطها بيد العثمانيين صارت القسطنطينية بداية اسلام بول (مدينة الاسلام) ثم اسطنبول حيث مقر البطريرك الارثوذكسي الرومي الاول ( المسكوني) مع نسبة من اتباع المسيحية المشرقية كالسريان والآشوريين والارمن. وظل الأرثوذكس يشكلون غالبية سكان سورية حتى وقتنا الحاضر بالرغم من حملات الفرنج الكاثوليكية (الصليبية) وغيرت الرئاستين الارثوذكسيتين للكرسيين الانطاكي المقدس والاورشليمي المقدس واحل بطاركة لاتينيين بدلا من الروميين الارثوذكسيين وتم طرد هذه الحملات الاستعمارية والانتهاكية بحق مسيحيي المشرق بيد اخوتهم مسيحيو المغرب وملوكهم، وتتابعت الكوارث بحقهم بيد المماليك، فبعد سقوط انطاكية والمظالم التي الحقها بيبرس بالمسيحيين الروميين بدءاً من دمار انطاكية ونكبة اهلها الارثوذكس قتلا ثم تهجيرا لمن بقي.
لتتابع غزوات الرهبنات الكاثوليكية بدءا من القرن 16م وغزو الكثلكة للمسيحية الارثوذكسية والارثوذكسية الشرقية، وانشاء طوائف ( الطائفة جماعة عددية صغيرة) برئاسات مرتبطة بروما عاصمة الكثلكة وتحت رئاسة بابا روميه، لتلحق بهم ارساليات بروتستانتية مع بداية القرن التاسع عشر والتي كان مؤسساها الراهبان اليسوعيان الثائران على البابوية وتعاليمها في القرن 16م وهما مارتن لوثر وكالفن اليسوعيان (واليسوعية هي جنود البابوية التي قامت بنشر الكثلكة بين صفوف الارثوذكس في المشرق وفي اوربه الشرقية) ولكن اتباعهم البروتستانت (المحتجون على البابوية) وجهوا جهودهم بكل اسف وكما فعلت الرهبنات اللاتينية الكثيفة نحو الارثوذكس الفقراء فاستطاعوا انشاء اقليات بروتستانتية ولازالت البقية عرضة للهجوم من الجهتين وعلى الجبهة الداخلية وجبهة انتشارهم في التيه العالمي.
جاء الفاطميون المسلمون الشيعة في القرن العاشر وبدأت حملات التشييع، وازدادت أعداد الشيعة تدريجياً ونشأت الأقليات التي تأثرت بتعاليمهم كالدروز والعلويين والاسماعيليين إلى أن شكلوا الغالبية العظمى من المسلمين السوريين. وبعد أن جاء المماليك في منتصف القرن الثالث عشر بدأ المذهب السني من الإسلام بالإنتشار حتى اكتسح كل الديانات وبقية المذاهب الاسلامية، وساعد على ذلك القوانين الصارمة التي وضعها المماليك والتي حدّدت كثيراً من حرية غير المسلمين واضطهدت المسيحيين حتى في ممارسة طقوسهم الدينية منها منع استعمال النبيذ في الذبيحة الالهية. وأصبح الإسلام السني يستحوذ على الطائفة الاسلامية الأكثر انتشاراً في دمشق وسورية وظل كذلك حتى يومنا هذا متعززا لاحقا بالدولة العثمانية السنية الحنفية المذهب .
في منتصف القرن التاسع عشر شكل المسيحيون حوالي35% وفق المصادر التاريخية المسيحية من سكان دمشق، غالبيتهم من الروم الأورثوذكس. وكان هناك أقليات من كافة الطوائف الشرقية والغربية، حتى البروتستانت الذين شرعوا في حملاتهم التبشيرية في بداية القرن19. وكان هناك أيضاً أقليات مسيحية عرقية كالسريان والارمن والآشوريين .
وشكل السنّة غالبية مسلمي دمشق مع وجود أقليات من الطوائف الإسلامية الأخرى مثل الدروز، إلى جانب بعض الأقليات العرقية كالكردية التي كانت تدين بالمذهب السني.
كانت لدمشق أهمية كبيرة عند المسلمين وخاصة في عهد العثمانيين فهي “شام شريف” لأنها كانت مركز تجمع وانطلاق محمل الحج نحو الاماكن الاسلامية المقدسة مكة والمدينة في الحجاز مع القوافل الذاهبة إلى الحج ووالي دمشق هو امير الحج.. كما أصبحت قلعة دمشق قاعدة عسكرية هامة مزودة بكل الأسلحة والجنود لتأمين سلامة الحجاج وعادة ما تختار السلطنة خيرة ضباطها ليتولوا القيادة هناك.
الشارع المستقيم في القرن 19
الإحتلال العثماني
وقعت دمشق وبلاد الشام تحت حكم العثمانيين منذ أوائل القرن السادس عشر بعد هزيمة المماليك 1516 بعد انتصارهم على المماليك في مرج دابق بحلب. واستمرت الإمبراطورية العثمانية في التوسع حتى بلغت أوج عظمتها في القرن السابع عشر حيث سيطرت على معظم العالم العربي وآسيا الصغرى وجزء كبير من أوربه الشرقية. لكن في نهاية القرن بدأت الهزائم تلاحق السلطنة وبدأت تخسر أجزاء هامة من أراضيها في أوربه لصالح الإمبراطوريات الأوروبية التي بدأت تزداد قوتها.
نتيجة لهذه الهزائم المتلاحقة، بدأت قبضة السلطنة تضعف على الولايات البعيدة وبدأت تزداد قوة الرجالات المحليين في هذه المناطق. شكل الوهابيون بقيادة الشيخ محمد بن عبد الوهاب من عسير في شبه الجزيرة العربية أول تهديد للسلطنة من الدول العربية،فاكتسحوا الحجاز وجنوب العراق وهاجموا سورية في عام 1810 وأصبحوا على مشارف دمشق. لكن تحالف قوات والي دمشق العثماني سليمان باشا مع قوات الأمير بشير الشهابي من جبل لبنان صدوا هجومهم ودحروهم.
وجاء أقوى تهديد لوجود السلطنة في العالم العربي من مصر التي أصبحت في حكم محمد علي باشا (1805 – 1848) من القوة بحيث أنه كان لها كل الفضل في القضاء على عصيان الوهابيين وثورة استقلال اليونان. لكن فيما بعد خرج محمد علي عن طاعة السلطان العثماني واحتلت جيوشه سورية وجزء من هضبة الأناضول وهددت اسطنبول نفسها. ولولا تدخل الإمبراطوريات الأوروبية وخاصة البريطانية لكانت سقطت السلطنة العثمانية.
علاقة الدول الأوروبية بالأقليات المسيحية
منذ بداية سيطرة العثمانيين على بلاد الشام بدأت الدول الأوروبية بالضغط على السلطنة بحجة حماية الأقليات. وكانت هذه الإمبراطوريات الاوربية قد أنشأت علاقات مميزة مع المسيحيين من اتباع مذهبها في سورية منذ ذلك الوقت.
كانت أهم علاقات الإمبراطورية الفرنسية التاريخية هي مع الموارنة. وفي القرن التاسع عشر وسعت علاقاتها مع الكنيسة الكاثوليكية الشرقية فشملت بحمايتها الروم والسريان والارمن والكلدان الكاثوليك المنشقين عن كنائسهم الاساس. أما الإمبراطورية البريطانية فشكلت علاقات قوية مع اليهود والدروز والمسيحيين البروتستانت في بلاد الشام.
ورثت الإمبراطورية الروسية عرش الكنسية الأرثوذكسية بعد سقوط الإمبراطورية الرومية 1453م . واصبحت عاصمتها موسكو تدعى (روما الثالثة) بعد أن سقطت القسطنطينية (روما الثانية) على يد العثمانيين. وحملت موسكو على عاتقها حماية الكنيسة الارثوذكسية الموجودة داخل السلطنةالعثمانية.
انتصر الاوربيون في كل حروبهم على “الرجل المريض” وازدادت شروطهم الحربية كي تعطي السلطنة حقوقاً أكثرلاتباع مذاهبهم ويزداد تدخلهم في شؤونها الداخلية. وأحياناً كانت تنشب الحروب بين الدول الاوربية بسبب هذه العلاقة. ومن أشهر هذه الحروب حرب شبه جزيرة القرم (1853 – 1856) بين الروس من جهة والعثمانيين والفرنسيين والبريطانيين من جهة أخرى ونشأ “نظام الامتيازات”. وكان سبب هذه الحرب هو الخلاف حول من يتولى إدارة الأماكن المقدسة المسيحية في فلسطين بين الأرثوذكس (حلفاء موسكو) والكاثوليك (حلفاء باريس).
محمد علي وابراهيم باشا
كان دخول جيش ابراهيم باشا (ابن محمد علي باشا وقاهر الوهابيين) إلى سورية عام 1831 إعلاناً غير مباشر لبدء الحروب الطائفية فيها، حيث أثار وقوف المسيحيين ممثلاً بالأمير بشير الشهابي حاكم جبل لبنان وقتاله إلى جانب القوات المصرية نقمة المسلمين والدروز على السواء. ثم جاءت القوانين المصرية الصارمة، من فرض الضرائب إلى الخدمة العسكرية الإجبارية إلى الأعمال القسرية، لتزيد الطين بلة.
وكان محمد علي أول حاكم مسلم يخرج على قوانين الشريعة ويقيم المساواة بين الأديان وخاصة فيما يتعلق بدفع الضرائب (الجزية). وخلال فترة احتلاله لسورية (1831 – 1840) أعطى صلاحيات إلى الأقليات المسيحية واليهودية ورفع المظالم عنهم وسواهم بالمسلمين في كافة حقوق المواطنة والجندية.
كل هذا أدى إلى حدوث بعض المناوشات بين الدروز والمسيحيين في مناطق متعددة من جبل لبنان والبقاع وكانت اشدها ثورة دروز حوران في عام 1838 . لكن المصريين وبمساعدة جيش من الموارنة وعلى رأسهم الأمير بشير اسكتوها.
لم تكن الإمبراطوريات الأوربية سعيدة بازدياد قوة محمد علي فقررت أن تتدخل. ولفترة قصيرة توحد مسلموا ومسيحييوا سورية الرافضين لنظام التجنيد الاجباري (ما عدا قوات بشير) تحت راية العثمانيين على هدف طرد المحتل. وبمساعدة الأوربيين، نجحوا جميعاً بالتخلص من المصريين الذين خرجوا بالقوة من سورية في عام 1840.
صعود محمد علي في مصر وظهور الحركة الوهابيية في شبه الجزيرة شكل نقطة تحول في الساحة السورية حيث بدأ الإنقسام يتجلى بصورة واضحة. إزدادت قوة التيار الوهابي في أوساط دمشق، وفي عام 1860 أصبح قوة فاعلة على الساحة سيظهر تاثيرها جلياً.
“التنظيمات” و”الإصلاحات” العثمانية
حكمت السلطنة العرب منذ البداية باسم الإسلام وأعطتهم الكثير من الصلاحيات طالما اعترفوا بقانون الشريعة الإسلامية وأعلنوا ولاءهم للسطان واحترموا قوانين السلطنة. وعاشت الأقليات الدينية في البداية بسلام محتفظة بحقها بممارسة دينها بشرط أن تدفع الجزية السنوية وهو ما نصت عليه الشريعة. لكن هذا لم يمنع المسؤولين الفاسدين من معاملة غير المسلمين كمواطنين من درجة ثانية ولم يمنع الإساءة إليهم في ظل العادات والتقاليد المتخلفة.
لكن في المراحل الأخيرة من عمر السلطنة بدأت الأمور والمفاهيم تتغير. فمن جهة، كان صعود الإمبراطوريات الأوروبية وتطورها العلمي والتقني وتقدمها في فنون الحرب وإلحاق الهزائم المتكررة بالسلطنة يثير رعب واهتمام الباب العالي على حد سواء. ومن جهة أخرى، بات نهوض حركات التحرر القومية في أراضيها وخاصة في البلقان يهدد وجودها بشكل عام وينذر بقلاقل في المناطق الأخرى أيضاً.
لقد شعرت السلطنة أن عليها أن تواكب العصر لترضي جميع القوميات التي تحت سيطرتها، وفي نفس الوقت عليها أن تلبي مطالب هذه الإمبراطوريات في إحداث تغيير جذري لسياساتها الداخلية وخاصة على صعيد مبادئ حقوق الإنسان التي جاءت بها الثورة الفرنسية وانتشرت في أورروبا كحقوق العدالة والمساواة بين المواطنين.
في 1839، أصدر السلطان محمود الثاني حزمة من القوانين الجديدة وسميت (التنظيمات). وتحت هذه القوانين حاول أن يساوي بين مواطني السلطنة بالحقوق والواجبات بصرف النظر عن دينهم أو عرقهم أو قوميتهم. وأصبح بإمكان غير المسلم أن يشارك في الحياة الثقافية والإقتصادية، وسمح له بالدخول إلى المدارس وتعلم اللغة العربية (التي كانت حصراً على المسلمين) واللغات الأجنبية.
تضاربت ردود الفعل على هذه القرارات. ففي حين رأى فيها المسلمون خروج على العادات والتقاليد وإذعان لرغبة الأوروبيين، لم يرضَ بها الأوروبيون وخاصة القسم المتعلق بالمساواة بين الأديان. فهي في فحواها لم تخرج عن قانون الشريعة.
لذلك وبعد حرب القرم، ولإرضاء حلفائه الفرنسيين والبريطانيين الذين ساعدوه على الروس، وضع السلطان عبد المجيد الأول تعديلات جديدة في عام 1856 وسميت (إصلاحات) أقامت المساواة الكاملة بين كافة مواطني السلطنة. فبالإضافة إلى ما سبق ذكره أصبح يحق لغير المسلم أن يتوظف في دوائر الدولة ويخدم في الجيش.
أما من ناحية القوانين المتعلقة بالدين فقد كانت أشبه بالثورة العلمانية، فقد رُفِعت الجزية الخاصة بغير المسلمين وأصبح من حق أي إنسان أن يتبع أي دين. لا يحق لأحد أن يُجبر غير مسلم على أن يصبح مسلماً وألغيت عقوبة القتل لمن يرتد عن الإسلام. وشملت الإصلاحات قطاع العدل والمحاكم الجنائية، فمنع التعذيب والعقوبات الجسدية، كقطع اليد.
رفض الإسلاميون المحافظون من مواطني دمشق كل هذه القوانين واعتبروها أنها معادية للشريعة الإسلامية وتخالف كلام الله وخاصة القسم المتعلق بمساواة غير المسلمين بالمسلمين. وبدأ التململ والإستياء يسود أوساطهم خاصة من أوربه المسيحية التي لم تتوقف عن الضغط على السلطان ومن مسيحيي البلقان الذين يحاربون من أجل استقلالهم ويوقعون خسائراً فادحة في جيش السلطنة.
الحالة الإقتصادية
على أثر إصدارالتنظيمات، نشأت علاقات تجارية متميزة بين الأوروبيين من جهة ومسيحيي ويهود سورية من جهة أخرى. وبرزت بيروت كميناء هام يؤمن للأوروبيين التواصل مع الداخل السوري وخاصة دمشق. واعتمدت الدول الأوروبية على المسيحيين واليهود من سكان دمشق لمساعدتها كمترجمين ووكلاء تجاريين. فأصبحوا هؤلاء من الأغنياء واكتسب العديد منهم حصانة دبلوماسية بحصولهم على جنسيات أوروبية.
أدى ذلك إلى ازدياد غنى التجار المسيحيين واليهود على حساب التجار المسلمين وخاصة صغار الكسبة. كما تأثرت صناعات النسيج والحرير المحلية مع إزدياد الواردات الأوروبية والمنافسة على السوق المحلية. وانخفض الإنتاج المحلي منها إلى الربع تقريباً وأغلق العديد من الورشات.
وفوق كل هذا جاء الكساد الإقتصادي الذي أصاب أوربه في عامي 1857 – 1858 ليزيد الطين بلة، فكثرت جرائم السرقة ولم تسلم حتى قوافل الحج القادمة من بغداد. ولجأ الكثير من التجار الدمشقيين المسلمين إلى الإقتراض من التجار ورجال الأعمال المسيحيين واليهود في دمشق وبيروت. حتى أن المسيحيين واليهود أصبحوا دائنين للحاكمين العثمانيين.
وفي عام 1858 وضعت السلطنة قانوناً يسمح للأوروبيين وأعوانهم في سورية بشراء الأراضي من نبلاء دمشق المسلمين ليخفف عنهم عبء الديون. كل هذه التغيرات الإقتصادية لعبت دوراً في زيادة غنى الأغنياء وفقر الفقراء وكان اللوم كله ينصب على الأوروبيين وحلفائهم في المدينة من الأقليات الدينية.
مسيحيو دمشق بعد “التنظيمات”
منذ مجيء الإسلام إلى بلاد الشام استطاع المسيحيون أن يتأقلموا مع القوانين الجديدة التي فُرِضت عليهم. ولما كانوا يشكلون الأغلبية من سكان سورية في ذلك الوقت، لم يشكل دفع الجزية عبئاً ثقيلاً. وظل معظمهم على دينه إلى أن جاء المماليك في القرن الثالث عشر. فيما بعد، بدأ عددهم ينقص تدريجياً حتى باتوا من الأقليات. وكلما نقص عددهم كلما أصبح دفع الجزية أصعب، خاصة على الفقراء منهم. لذلك لا غرابة أن يستقبلوا خبر صدور التنظيمات (1838) وبعدها الإصلاحات (1856) بالفرحة العارمة. وأحياناً كانت ردة فعلهم مبالغ بها، فقد رأوا في هذه القوانين تحرراً من القيود التي كبّلتهم لقرون عديدة.
وبدأ المسيحيون بممارسة حقوقهم التي أعطتهم إياها هذه القوانين وخاصة في ما يتعلق بالمساواة مع المسلمين. دخلوا المدارس التي كانت ممنوعة عنهم والتحقوا بوظائف الدولة. وفوق ذلك أصبحوا يجارون المسلمين في عاداتهم التي كانت حكراً عليهم مثل ارتداء أنواع الملابس والألوان التي كانت حصراً على المسلمين من قبل. وإذا ما نشب شجار بين مسيحي ومسلم، لم يتردد المسيحي برد الصاع صاعين من الشتائم بعد أن كان يسكت على مضض.
وصلت سذاجة وجهل بعض المسيحيين ونشوتهم بحقوقهم الجديدة إلى درجة تحدي السلطات المحلية والتذرع بالقوانين الجديدة. فلم يحترموا حتى ذوي المكانات الرفيعة. ولم يدركوا أن هذا التغيير المفاجئ في مجتمع محافظ يحمل أخطار وخيمة وأن قلب العادات والتقاليد الإجتماعية بهذه السرعة سيغذي العداء الطائفي ويجر عليهم الويلات. لقد كانت هذه الممارسات تثير حنق المسلمين.
بعد إصدار الإصلاحات، أصدرت السلطنة قراراً يخص شباب الأقليات الدينية الذين لم تكن ترغب بهم في الخدمة العسكرية يُلزمهم بدفع ضريبة خاصة كبدل. رفض المسيحيون دفع هذا البدل، بعضهم بحجة الفقر خاصة أنهم يدفعون ضريبة سنوية للدولة، والبعض الآخر بحجة المساواة مع المسلمين حيثوا طلبوا عوضاً عن الدفع الذهاب للخدمة. كانت الدولة تحاول بشتى الوسائل أن تمنع المسيحيين من الخدمة العسكرية بحجة أنهم ضعفاء وجبناء.
وظل المسحيون يرفضون دفع بدل الجندية لسنوات رغم محاولات البطريركية بدمشق ووجهاء المسيحيين الوصول إلى حل وسط بين الناس والحاكمين. حتى جاء عام 1860 عندما أصدر أحمد باشا حاكم دمشق العثماني قراراً بأنه على كل مسيحي دفع البدل عن السنة الحالية والسنوات السابقة. وكان هذا عبئاً كبيراً خاصة على الفقراء منهم وأشبه بالقرار التعجيزي.
لقد كان توقيت هذا القرار في أوج الحرب الطائفية في الجبل مثير للشبهة. فارتفعت أصوات الإحتجاج ضد الحاكم الذي انقلب على المسيحيين بكافة شرائحهم. فدعا عدد من وجهائهم إلى مكتبه وطالبهم بجمع الأموال من المخالفين وإلا سيسجن هؤلاء الوجهاء. وتم توقيف العديد منهم فزادت النقمة ومارس نفس الضغط على رؤساء الكنائس كالوكيل البطريركي في دمشق مع عدم مراعاة الكرامة له..
كان رد شيوخ المسلمين وعلماء الأمة على هذه الإحتجاجات أن أصدروا الفتاوى إعتماداً على الشريعة دون أي إعتبار لقوانين التنظيمات والإصلاحات الصادرة عن الباب العالي. فأصدر إمام المسجد الأموي ومفتي دمشق فتاوى تؤكد أنه لا يوجد مساواة بين المسلمين والمسيحيين في الشريعة. وخرجت بعض الفتاوى تبرر للمسلمين قتل المسيحيين إذا لم يدفعوا الجزية لأنهم خارجون عن قانون الشريعة.
كانت هذه الفتاوى هي آخر ما يحتاجه الجهلة والمتعصبون من مسلمي دمشق لإعلان حربهم على مسيحييها، بل وحتى على كل مسيحيي سورية. وبات من الحلال قتل رجالهم وسبي نسائهم والسطو على أملاكهم. أصبحت الجموع في حالة تأهب دائم للحظة إطلاق النفير العام الذي سيعلن بدء الهجوم الأخير على الحي المسيحي والقضاء على وجودهم في دمشق وإلى الأبد وتجميع الاكراد بقيادة شمدين آغا وعصابات الرعاع من قرية ركن الدين وقرى القابون وبرزة وبقية قرى الغوطة ووادي بردى…
الصراعات الطائفية في سورية
بدأت تظهر الصراعات الطائفية في سورية على عهد ابراهيم باشا على شكل حوادث صغيرة متفرقة في مناطق تواجد المسيحيين. ففي عام 1840، استنزف اليهود البادري توما بجنسيته الفرنسية وخادمه ابراهيم امارة واوقف والي دمشق من طرف ابراهيم باشا بقتلهما في أحد طقوسهم الدينية. واعتقلت 13 يهودياً واعترفوا بقتله واستنزافه حيث مات منهم 4 تحت التعذيب قبل أن يفرج عن البقية بامر محمد علي باشا تحت ضغطزعماء اليهود وتقديم الدعم المالي لمحمد علي والدعم المعنوي في حربه ضد الدولة العثمانية.
مذبحة حلب الطائفية
وفي عام 1950 ولأول مرة في تاريخ مدينة حلب، هجمت جموع من أغلبية المدينة المسلمة على مسيحييها الأغنياء وقتلت منهم العشرات وجرحت المئات. كان ذلك نتيجة لنقمة التجار المسلمين الذين عانت أشغالهم بسبب تفضيل الأوروبيين للمسيحيين في تعاملاتهم التجارية.
فتنة جبل لبنان واستباحة زحلة والبقاع
لكن أشد الخلافات كانت في جبل لبنان، حيث كانت الأمور تغلي على نار هادئة بين الدروز المعارضين والموارنة الداعمين لإبراهيم باشا، إلى أن ظهرت إلى العلن بعد خروجه من سورية. فكان عام 1841 بداية النزاعات الطائفية بين الجانبين التي استمرت بشكل متقطع إلى عام 1849 حيث تصاعدت أن تأججت بحرب شعواء في عام 1860.
بدأت حرب الجبل في 1860 على شكل ثورة شعبية قام بها الفلاحون الموارنة ضد إقطاعييهم الدروز “ثورة الفلاحين”. لكنها تحولت تدريجياً إلى حرب طائفية بين الموارنة والدروز. لم ترق هذه الثورة للعثمانيين. رأوا فيها تحد لسلطتهم في الجبل ومحاولة من الموارنة بدعم من رجال الكنسية لإعادة حكم الشهابيين (الأمير بشير) الذي انتهى بعد خروج المصريين بقليل.
وفي فترة ثلاثة أسابيع، بين 28 أيار و18 حزيران، قام الدروز ، وبتشجيع من العثمانيين، بحملة إبادة كاملة ضد مسيحيي الجبل والبقاع. فارتكبت المجازر في حوالي 200 – 380 قرية، من أشهرها مجازر بيت مري دير القمر وفيها بدأت الفتنة بحصر زعماء المسيحيين في السرايا وتسليم السلاح للدولة وتم ذبح 300 زعيم حتى خرج الدم من شبابيك السرايا وجزين وراشيا وحاصبيا وزحلة. وقتل على أثرها ما بين 10,000 – 20,000 مسيحي (تختلف المصادر في عدد المدن والقتلى). وسرقت ونهبت البيوت والكنائس، ودُمِّرت كل كنسية حتى بلغ عددها حوالي 560 كنيسة وقتل كل الرهبان الذين لم يستطيعوا النجاة.
خلال كل هذا، لعب العثمانيون دور المتفرج، إذ لم يحركوا ساكناً لمحاولة وأد الفتنة. وحين لجأ الفارون من الموت إلى محمياتهم طلباً للحماية، لم يكتفوا بأخذ السلاح منهم بحجة أنه لا داعي له وأنهم سيحمونهم، بل لم يقاوموا الدروز حين هجموا عليهم، وتركوهم يعيثوا قتلاُ بالموارنة المحصورين بلا مفر. أما الذين نجوا فكانوا قد احتموا عند الدروز البسطاء بعيداً عن عيون الجنود. وكان المهاجمون يقتحمون بيوت الأمراء حيث لجأ المسيحيين ويقتلون الأمراء الذين حموهم ويسرقون وينهبون بيوتهم ثم يحرقونها. كما مدت القوات العثمانية العون للدروز في حربهم الحاسمة على زحلة التي كان سقوطها عبارة عن النقطة الفاصلة في هذا الصراع الدموي.
بعد سقوط زحلة،زين المسلمون دمشق فرحاً بما اسموه “فتح زحلة” وانتشرت الحروب في كل أنحاء سورية وانضم المسلمون السنة والشيعة إلى الدروز في حربهم ضد المسيحيين بكافة أطيافهم وأين وجدوا. فاقتحم مسلمو بعلبك بشقيهم السني والشيعي بيوت المسيحيين في القرى المجاورة وعاثوا قتلأً ونهباً وحرقاً للممتلكات. ووصلت الفتنة إلى مشارف صيدا وجبل عامل واعتنقت الإسلام قرى بكاملها في الجليل الأعلى و محيط صيدا وصور خوفاً من الإبادة وكذلك فعل العديد من المسيحيين في دمشق وقرى الريف الدمشقي خاصة كالغوطة ووادي بردى وأرياف سورية عامة.
تابع مسلمو دمشق أخبار سقوط القرى المسيحية في جبل لبنان، الواحدة تلو الأخرى، بسعادة غامرة ولم يشعروا بالأسف على الأرواح المزهوقة. كان اعتقادهم أن مسيحيي الجبل كانوا متعالين على الدروز وأنهم هم من بدأوا بالتعدي حين استغلوا وجود المصريين لمد سلطاتهم على حساب الدروز والإستيلاء على أراضيهم.
أخبار سقوط زحلة
وجاء سقوط زحلة في 18 حزيران 1860 ليحدث ضجة هائلة في دمشق. كانت تعتبر زحلة المعقل الأخير للمسيحيين في سورية. كان سقوطها هو نهاية أي أمل في النجاة من الموت. وكتبت الشعارات على جدران الكنائس تدعو إلى قتل المسيحيين. وعم الخوف كل تجمعاتهم. وبقدر حزنهم وقلقهم، كانت فرحة المسلمين والدروز في كل أنحاء سورية حيث عمت الإحتفالات مع تزيين المسلمين لدمشق فرحاً.
بعد سقوط زحلة تابع الدروز مع من انضم إليهم من المسلمين بغزوهم لقرى الجنوب وريف دمشق. فهرب الكثيرون من المسيحيين من جبل الشيخ ووادي العجم ووادي بردى والغوطة الشرقية والقلمون ومحيط صيدنايا إلى دمشق وبدأ الحي المسيحي داخل سور دمشق يغص بهم وقدرت أعدادهم بين 3,000 – 7,000. وامتلأت البيوت والأديرة والكنائس بهم. ولأنه لم يكن هناك أمكنة كافية لاستيعابهم أضطر معظمهم مع نسائهم وأولادهم أن يفترشوا الطرقات ويتلحفوا السماء.
وما زاد الطين بلة أن القرويين الذين كانوا في دمشق لم يعد بإمكانهم العودة إلى ضيعهم في تلك المناطق لغياب الأمن في الطرقات، مما أدى إلى ازدحام المدينة بالناس. وشكلت عبئاً على سكانها الذين لم يُقَصّروا في مساعدة اللاجئين. حتى نبلاء دمشق ومحلة الميدان من الأغنياء المسلمين مدوا يد العون بالمسكن وبالطعام.
وتحول الكثير من اللاجئين إلى شحاذين في الطرقات، وأصبحوا هدفاً سهلاً للإعتداءات والإهانات وسوء المعاملة من قبل المتعصبين الجهلة من المسلمين والدروز والأكراد. لم يحمل هؤلاء أي شفقة لهؤلاء المساكين. ولم يسلم حتى مسيحيي المدينة الأصليين من هذه الإعتداءات.
الامير عبد القادر الجزائري
استشعر الأمير عبد القادر الجزائري، الذي كان منفيا من الجزائر واختار دمشق وكان أحد وجهائها، الخطر المحدق وأخذ في إجراء المشاورات مع والي دمشق احمد باشا ومع قادة المدينة ومجالسها و مشايخها وعلمائها لمنع امتداد الفتنة الكارثية الى دمشق، لكنه مع ذلك أخذ بالتحضير للأسوأ. فقام بتجهيز 1000 من المقاتلين المتطوعين الأشداء معظمهم من رجاله الجزائريين لحماية الحي المسيحي في حال فلتان الأمن. وشجعه على ذلك القنصل الفرنسي، الذي كان أيضاً يستشعر الخطر، ومَوَّله بكل ما يلزم لتجهيز الفرقة بينما كان دور والي دمشق سلبيا بتصريحه للأمير بعد القدرة العسكرية عند جنوده في حماية المسيحيين وطلب من الامير اعداد رجاله وابدى استعداده لتزويدهم ب (400) بندقية، ولكنه هو من كان ضالعا في مقتلة مسيحيي جبل لبنان وتشجيع الدروز ومدهم بالسلاح وهو من كان نصيرهم الاساسي في نكبة زحلة والبقاع بماقدمه للدروز من مدد عسكري وتجهيزات.
ضغط قناصلة الدول الأوروبية على حاكم دمشق ليزيد الإجراءات الأمنية في المدينة لكن بلا فائدة. فبدلاُ من أن يحاول إسكات المتمردين وضع عدد من المدافع عنددرج الاموي ووجهها الى الحي المسيحي مبررا انها لحماية المسلمين المصلين من غدر النصارى( وهنا يتهكم العلامة محمد كردعلي في كتابه “خطط الشام” على هذا الفكر والقول بقوله ان المسيحيين لايملكون اي سلاح وهم يبحثون عن امانهم من الغدر فكيف بهم يغدرون وفق ادعاء الوالي وان الوالي كان يشحن البغضاء لدى مسلمي دمشق بحق المسيحيين
كما امر والي دمشق احمد باشا بنصب المدافع على اسوار قلعة دمشق وفي محيطها ليوهم المسلمين بأن الخطر المسيحي قادم. ثم وضع عدد من الحراس في الحي المسيحي بدعوة حماية الحي ليكتشف الناس فيما بعد أن معظم هؤلاء الجنود كانوا قد شاركوا في مذابح الجبل وهم من حمى الرعاع القتلة والذين احرقوا البيوت ونهبوها وقادتهم باعوا المقتنيات الثمينة لليهود المجاورين المقيمين في حي اليهود بأبخس الأثمان.
وفي أخر أيام حزيران قبيل عيد الأضحى، لما رأى المسيحيون كيف كان والي دمشق واعوانه في الولاية وعسكره ومسلمي دمشق المتعصبين يحتفلون بالنصر بإضاءة المشاعل وإشعال الحرائق وتزيين البيوت والمحلات في السوق وفي الأحياء المسلمة، أخذوا يرتعشون رعباً لشعورهم بأن المسلمين يكنون أشد العداء لهم وأن السلطات لن تحميهم. خاصة بعد أن وصلت أخبار تآمر الجنود العثمانيين مع المهاجمين في مناطق الجبل وزحلة والبقاع، فاعتكفوا في بيوتهم خوفاً على أرواحهم.
وخلال أيام تخلى مسيحيو دمشق عن حرياتهم وحقوقهم وعن كل المكتسبات التي حصلوا عليها منذ “التنظلمات”. لم يعودوا يردوا على الإهانات وسكتوا عن التعديات عليهم في الأزقة وتوقفوا عن الذهاب إلى القهاوي أو زيارة الحدائق والمتنزهات. وتوقفوا عن المطالبة بديونهم من المتدينين المسلمين وأهملوا أعمالهم. وامتنع موظفو الدولة عن الذهاب إلى العمل فتوقفت وظائف الدولة لأنهم كانوا يشكلون نسبة جيدة من الموظفين.
الهدوء الذي سبق العاصفة
دام اعتكاف المسيحيين في بيوتهم كل أيام العيد وفي اعتقادهم أن المسلمين سيهجمون عليهم في أي لحظة وقبل أن ينتهي العيد. وفي الوقت نفسه، أخذ العديد من مواطني الدول الأجنبية بمغادرة المدينة ومن بينهم رهبان البعثات التبشيرية والمرسلين البروتستانتيين من الانكليز والايرلنديين و…. وغادر معهم وبحمايتهم بعض من ابناء طوائفهم وبعض تراجم القناصل.
أما العامة منهم فلم يكن باستطاعتهم الهروب لأن الموت كان بانتظارهم في كل أنحاء االمعمورة وجميع طرقاتها. وأخذ سكان الحي بتأمين أماكن للإختباء في حال بدأت الغزوة. ولجأ بعضهم إلى بيوت أصدقائهم ومعارفهم من المسلمين الأتقياء.
لكن العيد مر بسلام ولم يحدث شيئاً. وخيم الهدوء على المدينة في الايام الأولى من شهر تموز. وتنفس المسيحيون الصعداء وبدؤوا الخروج من بيوتهم. وأمرت الحكومة الموظفين بالذهاب إلى أعمالهم. لم يستشعر المسيحيون المكيدة التي كانت تحاك ضدهم.
بدأت حجافل الدروز المقاتلين تصل من كافة الجهات لتتجمع حول دمشق وبعضهم دخل إلى وسط المدينة. أثار وجودهم المخاوف من جديد لكن مسؤولي الدولة والعلماء والنبلاء أكدوا للأمير عبد القادر ولوجهاء المسيحيين بأن شيئاً لن يحصل.
وفي صباح يوم الإثنين 9 تموز ذهب الموظفون إلى أعمالهم بينما ذهب آخرون إلى السوق للعمل أو لقضاء حاجياتهم بشكل طبيعي. كما ذهب الطلاب إلى المدارس.
إشعال الفتنة
تضاربت المعلومات حول ما حصل في يوم 9 تموز والليلة السابقة والذي كان السبب في اشتعال الأزمة لكن معظم الروايات تكاد تجزم على ضلوع أياد شريرة في افتعاله.
استيقظ المسيحيون في صباح ذلك اليوم ليجدوا أبواب منازلهم وجدرانها وأرضية الأزقة مليئة بإشارات الصليب وكان قد رسمها بعض المشاغبين خلال الليل. فسّرها البعض على أنها محاولة لإثارة حماس المسلمين بأن الصليبيين قادمون.
لكن تبين فيما بعد أنها من صنع مجموعة من الأولاد الزعران بغرض التعريض بالمسيحيين ودفعهم للسير فوق صلبانهم. فما كان من حاكم دمشق إلا أن أحضر هؤلاء الأولاد وقرر أن يلقن المسلمين درساً. أو هكذا أراد للناس أن يعتقدوا. لكن في الحقيقة كان يحاول إثارتهم ضد المسيحيين.
فكبّل هؤلاء الأولاد بالسلاسل وأعطاهم مكنسات الزبالين وساقهم في موكب عبر طرقات دمشق إلى الحي المسيحي بغرض تنظيفه مما فعلوه في الليلة السابقة. لم يرق هذا العقاب للحشود المسلمة التي تجمعت حولهم. وكان مجرد رؤيتهم للأولاد وهم مهانين، ولمثل هكذا جرم، قد أشعل فكرة أن المسيحيين قد تجاوزوا حدودهم وأنه قد حان وقت تأديبهم.
وعندما وصل الموكب إلى سوق باب البريد المجاور للجامع الأموي ثار غضب الجموع وهجموا على الحراس القلائل وقاموا بفك قيود المساجين. خرج المصلون من الجامع على الضوضاء ولما علموا بما حصل بدؤوا بالهتافات الموجهة ضد المسيحيين. وعلى التو هجمت الحشود على الحي المسيحي ومعهم تجار السوق الذين أغلقوا محلاتهم.
وبسرعة البر ق انتشرت أخبار التمرد في أحياء المدينة وحتى الواقعة منها خارج السور. فهرع المتعصبون المسلمون من الشاغور والميدان، والأكراد من الصالحية، والدروز من جرمانا وكثيرون آخرون جاؤوا من أماكن بعيدة وهجموا بغزارة على الحي المسيحي. وقدر عدد الغزاة بين 20,000 – 50,000.
وخلال ساعات قليلة، غص الحي المسيحي بالمعتدين مما أعطى الدليل بأن الفتنة لم تكن عفوية وأن الجميع كانوا جاهزين. لم يكن العداء للمسيحيين هو الدافع الوحيد، بل كان هناك من يسعى لغنيمة فقط، حيث كان الجميع يعرف بغنى هذا الحي وفخامة محتوياته وخاصة كنائسه وأديرته. لذلك انضم الكثير من قطاع الطرق والبدو، وحتى النساء والأولاد شاركوا في الهجوم.
الامير عبد القادر الجزائري ينظر الى حريق دمشق المسيحية بحسرة 1860
اليوم الأول من المذبحة
استخدم المهاجمون كل أنواع الأسلحة كالعصي والسيوف والفؤوس والخناجر والسكاكين وبعضهم كان يحمل البواريد. بينما كان المسيحيون عزل إلا من أسلحة المطبخ والقليل منهم كان يحمل طبنجات. لم يحترم المهاجمون حرمة أي منزل أو كنيسة أو دير. كانت لديهم أوامر بقتل كل شاب ورجل وكاهن يرونه أينما كان وعدم قتل النساء والأطفال.
سرقوا ونهبوا كل ما وقعت أيديهم عليه من مال وممتلكات. وبعد إفراغ البيوت و الكنائس من محتوياتها بالكامل أشعلوا النيران بها. وأحضر المهاجمون الجمال والحمير والبغال والأحصنة ليحملوا كل ما اغتنموه من البيوت والكنائس ليتقاسمونه فيما بينهم لاحقاً. وبيعت الكثير من المنهوبات لليهود باسعار بخسة، علما ان اليهود بحكم مجاورة محلتهم لمحلة المسيحيين كانوا يدلون الرعاع على بيوت المسلمين الذين قاموا بحماية جيرانهم المسيحيين في بيوتهم وكم تعرض هؤلاء الشرفاء للانتقام من الرعاع.
لم يرحموا أحداً حتى الشيوخ، ولم يستثنوا حتى الذين لجؤوا إلى دمشق هاربين من الموت في ضيعهم. وأحياناً كانوا يقتلون الأولاد ممن هم فوق العاشرة. أما من هم تحت العاشرة فكانوا يتركونهم على قيد الحياة بعد أن يختنونهم عنوة، حتى أنه مات عدد منهم لاحقاً من شدة النزيف. وكانوا يأخذون النساء الفتيات وخاصة البكارى ويغتصبوهن.
كانوا أحياناً يعطون المسيحيين فرصة للأسلمة وإعلان الشهادة وإذا رفضوا يقتلونهم. لكن إذا شكوا أنهم غير صادقين في أسلمتهم كانوا يقتلونهم أيضاً. قطعوا الرؤوس والأطراف ومثلوا بالجثث وأحرقوها. كما خطفوا عدد منهم لإستخدامهم كعبيد عند الدروز والبدو.
وما هي إلا ساعات حتى بدأ جنود الحرس الموكل بحماية الحي المسحي بالإنضمام إلى المهاجمين وبعد فترة انضم إليهم جنود من فرق أخرى. وغاب كل الضباط عن المشهد ولم يبق أحد ليرد المهاجمين عن هؤلاء المساكين. والأسوأ من هذا كله هو أن جميع السياسيين وعلماء الأمة وأعضاء االمجالس الحاكمين إختفوا من الساحة ولم يحاول أحدهم إيقاف التمرد.
من الأماكن التي نُهبت كانت دار البطريركية الرومية الارثوذكسية والكاتدرائية المريمية وكنيستي مار نقولا وكبريانوس ويوستينا وامطوش دير القديسة كاترين في سيناء وجميعها كانت في الصرح البطريركي، وكذلك كنيسة القديس يوحنا الدمشقي الارثوذكسية المجاورة للصرح البطريركي ومعها صرح مدارس الآسية وكنيسة القديس جاورجيوس في المدفن والمدافن كلها، والبطريركية الكاثوليكية في حارة الزيتون وكنيسة السريان الكاثوليك والكنيسة الأرمنية (وكانت اساسا للسريان الارثوذكس ومنحها والي دمشق للارمن نتيجة ندرة عدد السريان بدمشق وكان ذلك عام 1892 وكان الارمن يصلون فيها وتزايد عددهم فطلبوا من الوالي ان يسمح لهم بكنيسة ارمنية والسبب ايضا ان الارمن والسريان من الكنائس الشرقية الواحدة في العقيدة فمنحهم كنيسة السريان ومعها دار المطرانية الحالية بجانب الباب الشرقي) والمؤسسات الخيرية المسيحية كلها. كما أُحرقت ثلاث حظائر لمرضى الجزام بدمشق، كانت تمولها الكنائس الارثوذكسية والكاثوليكية والمارونية، مع مرضاه جميعاً. ودخل المهاجمون دير الأرض المقدسة الإسباني وقتلوا رهبانه الثمانية وكلهم من الجنسية الإسبانية والاخوة المسابيكيين الموارنة. أما الدير الفرنسي فاستطاع عبد القادر وقواته أن ينقذوا رهبانه لكنهم لم يستطيعوا منع حرقه كاملاً. كما نُهبت وأُحرقت كل البعثات التبشيرية الأوروبية والأمريكية.
ولم تسلم القنصليات الأوروبية منهم. فكانت القنصلية الروسية، ألد أعدائهم وخاصة بعد حرب القرم، أول قنصلية هوجمت ونهبت وأحرقت وقتل مترجمها بينما احتمى القنصل في بيت عبد القادر. وجاء بعدها دور العدو اللدود الثاني وهي القنصلية الفرنسية التي احتمى موظفيها في بيت عبد القادر لكن القنصلية لم تسلم. وهوجمت القنصليات الهولندية والبلجيكية والنمساوية والأمريكية واليونانية. ونجا كل القناصل ما عدا القنصل الأمريكي والهولندي. ولم يسلم من القنصليات إلا القنصلية البريطانية، حليف السلطنة الأول، إلى جانب القنصلية البروسية (الألمانية).
ونجا من الموت غالبية موظفي الدولة وعمال البناء والحجارين وأصحاب ومستخدمي المحلات الذين كانوا في الأحياء المسلمة. فرغم محاولات المهاجمين النيل منهم لكنهم احتموا إما في قلعة دمشق، المحمية من قبل جنود هاشم آغا (الذي يقال أنه كان معارضاً لما يحصل، على عكس قادة محميات راشيا وحاصبيا)، أو في القنصليات البريطانية والبروسية. وبعضهم لجأ إلى بيوت اصدقائهم أو شركائهم من المسلمين أو بيت الأميرعبد القادر.
الامير عبد القادر الجزائري
مساعي وقف الفتنة
حاول الأمير عبد القادر منذ البداية التفاوض مع والي دمشق احمد باشا الذي رفض مد اليد له لحماية المسيحيين، كذلك فاوض سلطات المدينة وشيوخها وعلمائها محاولاً إقناعهم أن ما يفعلونه هو ضد الإسلام لكنهم لم يستمعوا إليه ومنعوه من أن يقاتل المتمردين الا بعض المشايخ العقلاء الذين تعاونوا مع الامير للتهدئة وكذلك فان الامير ذهب الى الدروز وتفاوض مع عقلائهم لوقف المجزرة قبل وقوعها. ويبدو ان التشنج ضد المسيحيين كان قد وصل للذروةفاقتصرت مهمته ومهمة شرفاء دمشق من المسلمين على المساعدة في مد يد العون للمسيحيين وإنقاذ ما أمكن منهم. فشرع رجالات عبد القادر وغيره من النبلاء بالطواف في طرقات الحي المسيحي من المدينة والبحث عن اي شخص، رجل أو امرأة أو طفل، وجلبه وإدخاله إلى بيت احد المسلمين الأتقياء، فغصت بيوتهم بأبناء مدينتهم الهاربين من جحيم الموت.
أما ما حدث في حي الميدان الواقع خارج السور فكان أقوى وقفة في وجه هؤلاء المتمردين. لقد اجتمع وجهاء الحي وقرروا أن يدافعوا عن المسيحيين الذين يسكنون الحي. لم يستطع اي متمرد من الإقتراب منهم خلال أيام المذبحة كلها. وسَلِم جميع المسيحيين الساكنين هناك الا عائلة مسيحية واحدة قضت بالزرنيخ بفعل احد الجيران الذي كان يعمل كويفاتي ( صانع حلو عربي) فقدم للعائلة صينية هريسة معجونة بالزرنيخ فقضت العائلة برمتها وكان نصيب القاتل الاعدام بامر مشايخ الحي. وأكثر من ذلك قام رجال الحي الشرفاء بالذهاب إلى الحي المسيحي داخل السور وإحضار ما أمكن منهم وحمايتهم في بيوت الحي وخاصة في ساحة المغاربة وسط الميدان. ونجحوا في إنقاذ المئات منهم.
عدد كبير من مسيحيي الباب الشرقي للمدينة، مع مطران كنيسة السريان الكاثوليك، هربوا إلى ضيعة صيدنايا ولجأوا إلى ديرها الحصين حيث كان يتحصن فيه جميع مسيحيي صيدنايا والضيع المجاورة. وكان هذا الدير قد بني على شكل قلعة حصينة. أما خارج اسوار الدير فقد نشب قتال حام بين الشباب المسيحيين من جهة وبين مسلمي الضيع المجاورة المدعومين بفرقة من الخيالة ارسلتها الحكومة لمساعدتهم من جهة أخرى. لم يفلح الغزاة في هجومهم وتراجعوا بعد فشل عدة محاولات لإقتحام الدير، ولكن تضرر الدير بفعل ماتساقط عليه من حمم المدفعية وحجارة المنجنيقات فتدمرت كنيسة الدير وغيرها، وكذلك تدمرت بقية كنائس البلدة ومعرة صيدنايا ومعرونة وممعلولا ويبرود وديرعطية وقرى القلمون المسيحية.
اليومان الثاني والثالث
هدأت الأمور بعض الشيء في اليوم الثاني لكن النهب والسرقة لم يتوقفا. فتعرضت كل محلات المسيحيين في الأسواق إلى النهب. بينما لم يبقى شيء في الحي المسيحي. إلا بعض الرجال المختبئين في مخابئهم يخافون الخروج ومنهم من اختبأ في ابار بيوتهم المدمرة وسط المياه ومجاري المياه الآسنة والصرف الصحي، حيث اختبأ البعض في غرف سرية والبعض الآخر في الآبار أو المجاري الصحية. ونجح بعض الشرفاء من المسلمين ورجال الامير عبد القادر من الوصول إليهم ونقلهم إلى أحد البيوت في الأحياء المسلمة.
لكن في اليوم الثالث شاع خبر بأن مسيحيين مختبئين في بيت رجل مسلم أطلقوا النار على رجال مسلمين يحاولون إطفاء حريق قريب من بيت مسلم آخر. تبين فيما بعد أنه سوء فهم وأن المسيحيين ظنوا أن الرجال جاؤوا ليقتلوهم. لم يمت أحد من الرجال المسلمين بينما قُتِل هؤلاء المسيحيون كلهم في الإشتباك. رغم ذلك هبت الجموع المسلمة والكردية من أهل حي الصالحية بقيادة شمدين آغا زعيم قرية ركن الدين الكردية والرعاع الاكراد بغزو محلة المسيحيين وابلوا بما لايوصف في سفك دماء المسيحيين ومعهم ضباط وعساكر عثمانيين وبتحريض من السلطات كما وهجموا على بيوت المسلمين الذين حموا المسيحيين.
هددوا المالكين بأن يسلّموا من في داخل البيت وإلا سيدخلون بالقوة وإذا رأوا شخصاً مسيحياً سيحرقون البيت. على اثر هذا التهديد، اضطر عدد من المسلمين البسطاء إلى تسليم ضيوفهم فقتل المئات منهم، بينما لم يستطع المهاجمون التأثير على النبلاء الذين رفضوا تسليمهم ومن بينهم الأمير عبد القادر الذي هددهم بالقتال إن تجرؤوا وتعدوا على المسيحيين في بيته.
الأيام التالية
انخفضت وتيرة القتل والسرقة والنهب في الأيام التالية. وبعد أسبوع لم يعد هناك ما يسرق أو ينهب، بينما استمرت الحرائق لأسبوعين.
قتل في المذبحة ما بين 5,000 – 12,000 وبلغ عدد الشهداء في الصرح البطريركي الارثوذكسي والمريمية 6000 من الحي واللاجئين من اقليم البلان وجبل الشيخ، وبعضهم قضوا بسبب الحرائق واغتصبت أكثر من 400 امرأة و ونهبت كل البيوت والمحلات والكنائس والأديرة والمدارس والبعثات التبشيرية واحرقت جميعها. وتحول حوالي 1,500 – 3,000 بيت و200 محل وخان عمل إلى ركام. وسَلِم حوالي 200 – 300 بيت من الحريق لأنها كانت قربية من بيوت المسلمين، لكنها لم تسلم من النهب. ودُمِرت 11 كنيسة و3 أديرة. وقتل حوالي 30 كاهناً منهم كهنة المريمية السبعة وفي مقدمهم القديس يوسف الدمشقي و10 مبشرين واستولى مسلمو كل محلة على عقارات المسيحيين الشهداء في مناطق باب الصغير والشاغور ومئذنة الشحم حيث لاتزال معظم البيوت في تلك المنطقة تحمل الرموز المسيحية المحفورة في الحجر كالصلبان والايات الانجيلية دليلا على اصول اصحابها المسيحيين.
أما من بقي منهم على قيد الحياة فقد جُمِعوا في القلعة، حيث نصبت لهم بعض الخيام وبقي معظمهم في العراء لكثافة العدد. كانوا معظمهم من النساء والأطفال وكانوا في أشد حالات البؤس والجوع. ولم يتوقف خوفهم، خاصة وأنهم لم ينسوا ما فعله الجنود العثمانيون في الجبل عندما ادعوا حماية الهاربين قبل أن يقدموهم لقمة سائغة للمهاجمين. وكذلك لم يغادر الدروز المنطقة بعد، فهم ما زالوا يتربصون خارج أسوار المدينة.
لم يعد المسيحيون يشعرون بالأمان في دمشق رغم تطمينات القناصلة الأوروبيين وشرفاء المدينة. وبعد اسبوع بدأ نقل معظمهم إلى بيروت على دفعات وتحت حماية مشددة من رجال عبد القادر، ومن هناك هاجر العديد إلى فرنسا وأوروبا. وكانت بيروت من المدن التي لم يتعرض مسحيوها للإبادة بسبب وجود سفن الإمبراطوريات الأوروبية على شواطئها والتي حمتهم من هجمات دروز الجبل. ولم يبقَ في دمشق إلا بضعة آلاف فقط، بعد أن كان عددهم يفوق ال 30,000. وكان من بقي حيا بعد انقشاع المجزرة يأوي الى آبار البيوت او ببيوت جيرانهم من المسلمين وقد تعرض هؤلاء الى الوشاية عليهم من اليهود الدمشقيين والتنكيل بهم من الرعاع.
مجزرة المسيحيين الطائفية في دمشق 1860
محاكمات فؤاد باشا
عندما وصلت أخبار المجازر إلى الباب العالي ثار غضب السلطان لأنه خاف من تدخل الدول الكبرى التي ملأت اساطيلها الساحل السوري وخاصة بيروت وقام الاسطول الروسي بضرب هذا الميناء . ربما كانت هناك تعليمات بإخماد الفتنة في الجبل باي ثمن، لكن ما حصل لم يخطر ببال أشد رجال السلطنة عداء للمسيحيين، وخاصة ما حصل في دمشق. فعلى عكس مسيحيي الجبل الذين بدؤوا الحرب هناك، لم يقم مسيحيو دمشق بأي عمل عسكري ولم يرتكبوا أي جريمة بحق السلطات العثمانية إلا تمنّعهم عن دفع بدل الخدمة العسكرية.
وسارع السلطان لاستدراك الأمور، إذ لم يشأ أن يدخل حرباً جديدة مع الأوروبيين. خاصة وأن باريس قد أرسلت قطعاً بحرية إلى شواطئ سورية لتقصي الحقائق وتدخلت ونزل المشاة الفرنسيون وامتدوا ووصلوا الى البقاع. فأرسل السلطان وزير خارجيته المحنك فؤاد باشا مع صلاحيات غير محدودة لإعادة الإستقرار وإحقاق العدل.
وفور وصول فؤاد باشا إلى دمشق قام باعتقال 800 شخص وأقام محاكم استثنائية بحقهم بوجود قضاة عثمانيين أحضرهم معه من اسطنبول. حكم على 57 من المعتدين وبينهم بعض موظفي الدولة بالشنق وعرض جثثهم لأيام في أسواق دمشق. كما حكم على 110 من الجنود رمياً بالرصاص في الساحات العامة. وحكم على 168 بالسجن مع الأشغال الشاقة وحكم بالنفي على 145. وحكم على 83 بالموت غيابياً. وافرغ ثلاث حارات اسلامية من سكانها لاسكان المسيحيين المنكل بهم بشكل مؤقت ريثما يُعاد اعمار بيوتهم
وتتابعت الإعتقالات والمحاكمات في الأسابيع والأشهر التالية. فحكم على 270 آخرين بالأشغال الشاقة و190 بالموت و146 بالنفي مدى الحياة. كما حكم على المدينة بأن تقدم 2,000 من شبابها للخدمة العسكرية في أماكن بعيدة من السلطنة.
عدا عن الجنود، كان أغلب المحكومين من الطبقة الفقيرة والعاطلين عن العمل وصغار الكسبة والتجار. وجاؤوا من كل أحياء دمشق الشعبية الفقيرة داخل وخارج السور وجاء بعضهم من الريف الدمشقي. وكان هناك عدد قليل ممن جاؤوا من القرى الدرزية في الجبل والبقاع كحاصبيا وراشيا.
كما كان بينهم بعض ميسوري الحال ومن هم محسوبين على الأغنياء، إلا أنهم كانو مديونين لبعض المسيحيين، مما أعطى الإنطباع لوجود اسباب شخصية لديهم للقتل.
بعد أن انتهى من التحقيقات مع الطبقة الفقيرة والوسطى، اعتقل فؤاد باشا 230 من الوجهاء والشيوخ وجميع أعضاء المجلس الحاكم وأهمهم إمام المسجد ومفتي دمشق الذين اعتُبِرا المحرضين الأساسيين للمذبحة بفتاويهما. وحكم على 13 من أهم وجهاء دمشق ومن ضمنهم الإمام والمفتي بالنفي إلى قبرص مع الأشغال الشاقة مدى الحياة. لم يكن بمقدور فؤاد باشا أن يكون أكثر صرامة معهم لمكانتهم الإجتماعية.
وحكم على والي دمشق أحمد باشا بالموت رمياً بالرصاص ونفذه بدمشق ولم يرض ان يرسل الحكم الى الاستانة خوفا من التدخلات والوساطات لذا يعد بنظر الاتراك شهيدا (أحمد الشهيد) مع علي بيك قائد الفرقة التي كانت منوطة بمهمة حماية الحي المسيحي. كما حُكم بالموت على عدد من الضباط الآخرين ومن بينهم المسؤولين عن مذابح الجبل وغيرها ونفذت هذه الأحكام بعيداً عن أعين العامة لعلو مراكزهم في السلطنة.
مرحلة إعادة البناء
طالب فؤاد باشا المسلمين بإطلاق سراح الأسرى المسيحيين الذين أجبروا على الأسلمة وكان عددهم 500 وسمح لهم بالعودة إلى دينهم. كما طالبهم المحكومين بإعادة المسروقات والتي أعيد الكثير منها. وأمرهم أيضاً بتزويد المسيحيين بكل ما يحتاجونه من عفش كالأسرّة وغيرها.
أمر بإخلاء 3 حارات للمسلمين في منطقة الفحامة خارج باب الجابية وأسكن فيها المسيحيين إلى أن يعاد بناء بيوتهم وخصص بيت من بيوتها ليكون كنيسة حيث تشارك باستخدامها كل المسيحيين من كافة الأطياف.
شكل مجالساً خاصة لشؤون المسيحيين ونظم جداول بأسماء المسيحيين وفق طوائفهم للتعويض عليهم عن طريق رئاساتهم الروحية وهذه كانت بعنوان “تضمينات تعويضات النصارى بدل محروقات ومنهوبات نصارى دمشق”شرع في مشروع إعادة بناء الحي المسيحي، حيث استخدم اليد العاملة المسيحية والمال من خزينة الدولة. وتكفلت السلطنة بدفع تعويضات للمتضررين وجاء جزء كبير منها من مسلمي ويهود المدينة نفسها على شكل ضرائب، وأعفت منها الرجال المسلمين الذين ساعدوا المسيحيين خلال الفتنة والذين بلغ عددهم 2,000 رجل ومن بينهم رجال عبد القادر.
وحَصّلت الضرائب لهذا الغرض من كل مناطق ولاية دمشق الأخرى. وكانت ضريبة دروز الجبل والسهل أعلى من ضريبة المسلمين الدمشقيين لدورهم في مذابح الجبل وفي مذبحة دمشق على السواء.
الأمير عبد القادر الجزائري
كان المناضل الجزائري المنفي إلى دمشق لنضاله المشرف ضد الإحتلال الفرنسي للجزائر رجلاً يحمل مثلاً عليا. كان أقوى مدافعاً عن قيم الإسلام المثلى ولم يرضه ما كان يحرض عليه بعض الشيوخ المسلمون المتعصبون. كان من المعارضين الأشداء للفكر الوهابي التكفيري ومن مناصري الحداثة والإنفتاح.
بذل الأمير المستحيل لمنع هذه المجازر بمحاولاته المتكررة مع المسؤولين السياسيين والدينيين للتدخل أو حتى إصدار فتوى تحرم هذا القتل. لكن كل محاولاته باءت بالفشل. ورغم ذلك، لم يمنعه هذا من القيام بواجبه الإنساني، حيث عمل ليل نهار مع رجاله الأشداء على إنقاذ ما أمكن من المسيحيين. ويقدر عدد الذين أنقذهم هو ورجاله حوالي 11,000 شخص حسب تقديرات القنصل الفرنسي.
وفي اليوم الثالث حين حاصر المهاجمون بيته في منطقة العمارة الجوانية وطالبوه بتسليم الذين لجؤوا إليه، وقف أمامهم وقال لهم أنه لن يسمح لهم بالمرور إلا فوق جثته وتجهز مع رجاله لقتالهم. فما كان أمام المهاجمين إلا التراجع. وبعد انتهاء الأزمة تكفل مع رجاله بمرافقة كل الذين اختاروا الذهاب إلى بيروت وإيصالهم بالسلامة، رغم مخاطر الطريق الذي يمر وسط أراضي دروز الجبل.
بعد إنتهاء الأزمة، انهالت على الأمير رسائل الشكر والهدايا لموقفه المشرف وأعماله البطولية. وكان من أهمها رسائل شكر خاصة من ملكة بريطانيا فكتوريا ورئيس الولايات المتحدة الأمريكية إبراهام لنكولن. لكن أهم تقدير له جاء من عدوته اللدود فرنسا التي نفته إلى دمشق، فقد منحته أعلى وسام للشرف في الإمبراطورية (وسام الصليب العظيم للشرف) واعتبرته صديقاً للعالم المسيحي.
القديس يوسف الدمشقي
القديس يوسف مهنا الحداد ( الشهيد في الكهنة القديس يوسف الدمشقي)
اساس آل الحداد ومهنتهم الحدادة وجدهم شرفان الحداد من ازرع
وُلِد القديس يوسف مهنا الحداد في دمشق1793 لفضائله وعلمه وتجرده في خدمة ابناء البيعة وتعليمهم، اختارته دمشق اكليروساً وشعباً بالاجماع كاهناً، فرسمه البطريرك سيرافيم شماساً ثم قساً بعد أسبوع بالرغم من أنه لم يبلغ بعد 25 عاماً لخصاله الحميدة، أي دون سن الكهنوت القانوني، وكان ذلك سنة 1817 ، وبطلب من رعية دمشق لما رأوا فيه من ذكاء وفطنة وعلم وهو في سن الشباب.
كان الأب يوسف معروفاً بأعماله الخيرية وخدماته للبؤساء وإعانته للمرضى. ولمّا تفشّى الهواء الأصفر في دمشق سنة 1848، أظهر غيرة كبيرة في خدمة المرضى، غير مبال بإمكان التقاط المرض. وكان أحد أولاده قد مات من المرض. وكان يُعرف عنه أنه فقير. فقد كان يخدم الكنيسة بدون مقابل وكل مصروفه كان يأتي من أولاده ومن شغل أيديهم.
من منجزاته إحياء المدرسة البطريركية الأسية التي ذاع صيتها حينئذ. كان عالم باللغتين العربية واليونانية وقام بترجمة الكثير من الكتابات بين اللغتين. كان حكيماً وصاحب حجة وكان يقارع أكثر العلماء فقهاً بجدالاته معهم.
حين هجم المسلمون المتعصبون على الكنيسة المريمية وأحرقوها، ذهب متستراً بعباءة في أزقة الحي ليقدم للجرحى القربان المقدس متمماً واجباتهم الدينية إلى أن وصل إلى مكان يسمى (مأذنة الشحم) يبعد بضعة مئات من الأمتار عن الكنيسة. رآه مجموعة من الأشرار فعرفه زعيمهم محمد باشا العظم وصرخ برفاقه أنه “إمام النصارى ان قتلناه نقتل كل النصارى” فضربوه بالرصاص في ظهره وبالبلطات في صدره كمن يحتطب، ثم سحلوه في الازقة من مئذنة الشحم حيث استشهد الى المريمية المهدمة وكانت لاتزال تشتعل النار فيها فألقوا جثمانه الطاهر مع جثامين 6000 شهيد …
في 8 تشرين الأول 1993، قام المجمع الإنطاكي المقدّس للروم الأورثوذكس بإعلان قداسته. فأصبح يعرف بالقديس الشهيد يوسف الدمشقي. ويُحتفل في عيده في العاشر من تموز في كل عام وهو يوم استشهاده.
لابد من القول قبل الختام
تلقى الاقتصاد السوري في العصر الحديث ضربات عديدة، بينها ضربتان قاصمتان أصابتا الصناعة الدمشقية، وجرى إثرهما ترحيل عدد كبير من الكوادر والخبرات الصناعية إلى خارج سورية ومعظمها ان لم نقل كلها من المسيحيين الدمشقيين،
كانت الضربة الأولى عندما غزا تيمورلنك في العام 1401 دمشق وقام بعد نهب المدينة بإفراغ البيوت بشكل منظم اعتماداً على قوائم (حصل عليها بمخادعة أهل دمشق بادعاء النوايا السلمية في بداية الحرب) واقتيد غالبية السكان أسرى عبيداً، بدءاَ بالحرفيين المهرة من معماريين وصياقلة، ومصنعي الفولاذ والزجاجين ومعهم أولادهم الذين تزيد أعمارهم على خمسة أعوام، وقد اقتيدوا كلهم تقريباً إلى سمرقند، وبعد السلب والنهب اشتعلت النار في المدينة ولم يبق من الجامع الأموي والأسواق والخانات سوى جدران بلا سقوف.
أما الضربة الثانية فهي هذه الفتنة ومذبحتها في 10 تموز 1860، التي نتجت بشكل رئيس بعد إدخال الأنوال الميكانيكية لإنتاج الحرير التي أدخلت في العام 1850 وكانت تجربة رائدة لمكننة صناعة الحرير في سورية وأجهضت بسبب الخراب والدمار الذي أحدثته مذابح 1860 حيث تعرضت دمشق إلى انهيار صناعي وتجاري كان وراءه الحكومة العثمانية والفرنسيون، وسبب هجرة أصحاب الصناعة إلى لبنان ومصر وفرنسا، وتدفق الإنتاج الأوروبي الذي غطى السوق لعدم وجود منافسين له واضطرار الدمشقيين إلى تغيير لباسهم وزيهم التقليدي الأصيل والبدء بارتداء اللباس الأوروبي. وكان الغرب والشركات الغربية المستفيد الأول من تلك الحوادث لتوطيد سيطرتها الاقتصادية والسياسية في سورية، وما تبع ذلك من ارتباط اقتصادي وتبعية شبه مطلقة للغرب الأوروبي ودخول النمط الاستهلاكي.
كلمة أخيرة
تركت هذه المذبحة آثاراً عميقة عند الدمشقيين، إذ لم تشهد هذه المدينة، وهي إحدى أعرق مدن التاريخ، مثل هذا الحقد بين أبنائها من قبل. لم تكن هذه المرة الأولى الذي يحدث فيها قتل ودمار، لكن المجرمين عادة ما يكونون من الغرباء أو الغزاة. أما أن تقوم جماعة دينية من نفس المدينة ضد جماعة أخرى، على مرأى من الأجنبي، وبهذه الوحشية، فهو غير مسبوق.
استفاق المسلمون الأتقياء من الصدمة في حالة نفسية يرثى لها. كانت الدلائل على حدوث المذبحة موجودة منذ زمن، لكنهم لم يفعلوا شيئاً للحيلولة دون ذلك. كيف سمحوا للجهلاء والمتعصبين أن يشوهوا سمعة دينهم ويلطخوا وجه هذه المدينة المعروفة بتعدد ثقافاتها ودياناتها. كان يشكل الأتقياء غالبية مسلمي دمشق لكن صمتهم شجع الجهلاء على المضي في مخططهم بدون رادع. قال الفيلسوف الأيرلندي إدموند بورك: “أن لا يفعل الخَيِّرون شيئاً هو كل ما يحتاجه الشريرون لينتصروا”
أما المسيحيون فقد فقدوا ثقتهم بجيرانهم وبالنظام الحاكم. ورفض جُلّ من رحل منهم العودة إلى دمشق لفترة طويلة. وظلوا بعيداً حتى عام 1864 حين بدأ بعضهم بالرجوع وانضم إليهم بعض مسيحيي القلمون. كما سعى العديد منهم إلى الهجرة. وكانت هذه المجازر الدافع الأكبر وراء الهجرة الكبيرة من قبل السوريين إلى الأمريكييتين حيث بلغ عددهم أكثر من 100,000 مع حلول القرن الجديد.
ستظل هذه المذبحة وصمة عار في تاريخ هذه المدينة الفاضلة إلى الأبد. يقال بأن الشعوب التي لا تتعلم من أخطاء التاريخ تكون عرضة لتكرارها. فهل تعلم الدمشقيون خاصة والسوريون عامة من هذه التجربة المريرة؟ قد يأتيك الجواب في المثل الدمشقي الشهير الذي، كما يقال، وُلِد من رحم هذه المجزرة: ” فهل تنذكر ونتعظ؟
حواشي البحث
1-يوجين روغان هو أستاذ مادّة تاريخ الشرق الأوسط الحديث في جامعة أكسفورد، ومؤلّف كتبٍ عدة، من ضمنها: (العرب: من الفتوحات العثمانية إلى الحاضر) الصادر عن منشورات بايزك بوكس وبنغوين، الطبعة الأولى في العام 2019، والطبعة الثانية في العام 2012، من كتاب(سقوط العثمانيين: الحرب العظمى في الشرق الأوسط، 1914-1920) الصادر عن منشورات بايزك بوكس وبنغوين، 2015، ومؤخرًا (أحداث دمشق: مذبحة العام 1860 ونهاية العالم العثماني القديم) الصادر عن منشورات بنغوين في العام 2024.
المراجع
الوثائق البطريركية وثائق ابرشيتي دمشق وبيروت
زيتون، جوزيف سيرة الشهيد في الكهنة القديس يوسف الدمشقي / موقعنا اعلام ارثوذكسيون، قديسون، كنيسة انطاكية
روغان ، يوجين أوراق مشاقة المجهولة:”طوشة 1860 في دمشق” ديوان
مبيّض، سامي كتاب “نكبة نصارى الشام أهل ذمة السلطنة وانتفاضة 1860” المجلة