فاضلة وطنيّة جاهدت في خدمة الإنسانيّة في سبيل التعليم والتهذيب جهادًا ثابتًا متواصلًا خمسين سنة….
فما أولى مينرفا(٢) بنشر سيرتها. والآنسة ينّي تلميذة مدرستها. ما أولاها بجعلها إيّاها باكورة سِيَر الفاضلات تنويهًا بفضلها وحضًّا على التشبه بها. وما أولاني بتدوين هذه السيرة وصاحبتها مبيّضة وجه المرأة السوريّة بجهادها وثباتها من دون اعتماد على غير اللَّه ونفسها ومن عونهم على الإحسان.
وهي لبيبة ابنة إبراهيم جهشان من أسرة فلسطينيّة الأصل وأخواها مخائيل مترجم رواية جنفياف الشهيرة، ونجيب معرّب السبع روايات التمثيليّة لزهرة الإحسان. وأمّها أنسطاس داغر وأسرتها أصلها من لبنان اشتهر منها بالوجاهة والفضل في بيروتنا خليل مساعد جريدة حديقة الأخبار وبطرس نصير الأدباء والأديبات وجان الشاعر السوريّ الفرنسيّ. ومرجع الأسرتين بنو غسان وهما ذاتا جاه وشأن.
ولدت لبيبة في بيروت في مطلع سنة 1855 وتعلّمت في مدرسة الإنكليز ودير الناصرة سبع سنين. ومعلّمها في الأولى الأستاذ العالم سليم كسّاب والد الآنسة ماري منشئة المدرسة السوريّة الأهليّة.
وكانت من عهد مدرستها الإنكليزيّة بدأت تفكر في مواضيع سامية وتتخيّل أمالًا عظيمة ومن أمانيها في تلك الأيّام إنشاء مدرسة ورهبنة. ولم تكن مدرستها الفرنسيّة وهي في دير ومعلّماتها راهبات إلّا لتزيدها رغبة في الزهد في الدنيا تفرّغًا لخدمة الإنسانيّة .
فاستنكر ذلك آلها وحاولوا جهدهم تغيير أفكارها جريًا على العادة المألوفة. ووسّطوا عشيراتها وأقرابها ليساعدنهم عليها. ولكنّها أبت إلّا الإصغاء إلى صوت ضميرها وما كان منها إلّا أن نزعت عنها حلاها ولازمت الدير فأرسلتها الراهبات إلى دير مار يوسف في صيدا فاسترجعها والدها بواسطة قنصل روسية واعدينها بإتمام رغائبها. فاستمرّت في البيت بضعة أشهر تتنازعها الأفكار ثمّ عزمت على تكريس نفسها للتعليم والتهذيب.
وشرعت بذلك أوّلًا في مدرسة البنات الكبرى «الثـلاثة الأقـمـار» للجمـعيّة الخيريّة الأرثوذكسيّة السنة 1873 فعملت فيها أربعة أعوام وتعيّنت مديرة لها في العام الخامس واستمرّت على التعليم والإدارة معًا أربع سنين فالجملة ثمانية أعوام صرفتها في خدمة هذه المدرسة مجّانًا كما تثبت ذلك تقارير الجمعيّة الثمانية عن سنوات 1874 – 1881 وكلّها مطبوعة.
وكان في مدرستها حينما باشرت تعلّم فيها ستّ معلّمات وماية تلميذة. فأبدت لبيبتنا من الغيرة والهمّة ما أغناهنّ عن معلمة السنة التالية مع استمرار عدد التلميذات 180 واكتفين بالخمس حتّى مع توالي ازديادهن الى أن بلغن بعد أربعة أعوام 230. وشعار اللبيبة مكتوب على باب غرفة تدريسها «دعوا الأولاد يأتون إليّ ولا تمنعوهم» وكانت هي تهتمّ بتلميذاتها اهتمامًا عظيمًا ولا سيّما اليتامى والبائسات فتغذيهنّ يوميًّا من أرغفة الموسرات وتموّل كثيرًا منهنّ طعامًا وثيابًا وموآواة وتربّيهنّ بنفسها كداخليّات. وذهبت العام 1875 مع أهلها الى سبنيه حذرًا من الهواء الأصفر وعلّمت بعض أميرات آل شهاب وعادت مسرعة الى المدرسة تعوّض تلميذاتها عمّا فاتهنّ منها في غيابها عنهنّ. ورأت إحدى مدارس الجمعيّة في حيّ القيراط بحاجة إليها فتولّت إدارتها أيضًا مع مدرستها في حيّ الصيفيّ فازدادت فيها البنات وبلغن 180 بنتًا وتجاوزت تلميذات المدرستين على عهدها الأربعمئة تلميذة.
وما اكتفت اللبيبة بالإدارة والتعليم مجّانًا كلّ هذه الأعوام بل مدّت يدًا كريمة إلى الإحسان ولها فيه أساليب مختلفة برهنت فطرتها على الخير فكانت بيدها تجمع فضلات الموائد وتطعمها الجياع وكثيرًا ما حملت محجوبًا بشالها الأسود الكبير طحينًا وعدسًا وحمّصًا وفولًا وغير مآكل تودّيها إلى المعوزين ومرارًا تزور الأكواخ الحقيرة متفقّدة بائسيها ولا تجد فيها ما تجلس عليه إلّا حجرًا أو دستًا صغيرًا يقلبونه لها ويغطّونه ببقيّة ثوب بال أو حصيرة مقطّبة. ومرّة داهمها الظلام بعيدة عن البيت في عيادة بعض البائسين فخافت متابعة السير في الليل فضافت منزل آل ينّي متحفينا بمنشئة مينرفا ونامت عندهم وآلها يظنّون أنّها نائمة عند الحاجّة أنجلينا صليبا رصيفتها في كثير من أعمال الخير حيث كانت أحيانًا تنام. ولمّا حدثت مجاعة في المدينة سنة 1874 جمعت أكثر من عشرة آلاف غرش من المحسنين توزّعت بمعرفة الجمعيّة الخيريّة على الجائعين. ولطالما اشتغلت خياطة وتطريزًا وصرفت ما تربحه من ذلك على التاعسين. وكان احترام جمعيّتنا لما تبديه لبيبتنا من الجهاد والتعب تعليمًا وإحسانًا بالغًا حدّه كما نوّهت بذلك في تقاريرها المطبوعة.
إنّما لم تكن تلك المآثر كلّ ما تصبو إليه بل ما زالت هادسة بإنشاء مدرسة ورهبنة حتّى استتب لها الشروع في العمل وسعت بجد ونشاط الى أن فازت بأمنيتها ولكن بعد عناء شديد.
فألّفت جمعيّة زهرة الإحسان من سيّدات الروم في 27 آذار سنة 1881 وهي في ربيعها السادس والعشرين وما تزال معلّمة ومديرة في الثلاثة الأقمار وبعد ستّة أشهر في 27 أيلول فتحت مدرسة الزهرة وأدخلت إليها 25 يتيمة بلا أجرة واقتصرت عليهنّ دون الموسرات عامين كافلة لوازمهنّ أكلًا ولبسًا مربّية معلّمة. ثمّ عمّمتها لبنات الغنى واليسر فتهافتن عليها واضطرّينها إلى اتّخاذ محلّ أوسع.
ولمّا رأت الملّة نجاح مشروعها وتأكّدت تعمّدها الثبات فيه أهدت إليها أرضًا لتشيّد فيها بناءً للمدرسة وجاءت بمساعدتها تنشيطًا لها واستفادة منها. وكان الحظّ جادها أيضًا بأعضاء جمعيّتها الغيورات ولا سيّما برئيستها حجر زاويتها إميلي سرسق وبمديرة مدرستها الفاضلة فريدة طراد.
فشيّدت صرحًا كبيرًا في الأشرفيّة يبرهن فضلها في الجهاد وينشر عبير زهرة الإحسان وبنت مصيفًا في سـوق الغرب للاستراحة من التعب وتجديد القوى لمتابعة الجهاد. واستوقفت بعض المحسنين أبـنـيـة ذات ريـع ثـابــت وأول الواقفات سوسان عرب.
وما برحت مدرستها تنمو وتنجح داخليًّا وخارجيًّا الى أن أصبحت تضم زهاء ثلاث مئة تلميذة وتتّخذ نحو عشرين معلّمة بعضهنّ راهبات والبعض من بنات اليونان والسويس والبلج والفرنسيّات فضلًا عن الوطنيّات. واختصّ جناح منها باليتامى وذوات البؤس كميتم مجّانيّ وأيّدت لبيبة جهدها أركان المشروع ولا سيّما الرهبنة التي أنشأتها باسم زهرة الإحسان في 25 تشرين الثاني 1897 وشفيعتها القدّيسة كاترينا وسمّيت هي رئيسة لها باسم مريم وبلغت راهباتها 19 راهبة، وعندها اليوم مبتدئتان من راهبات الزهرة الأخوات أفدوكيا منشئة مدرسة تهذيب الفتاة ورفيقتها أغابي وروزا والأخوات أنسطاسيا مؤسّسة الرهبنة الملائكيّة في حلب وماري مديرة المدرسة الأرثوذكسيّة في اللاذقيّة وبلاجيا المعلّمة في مدارس فلسطين.
وضمنت مريمنا نفسها لدى إحدى الشركات بمبلغ من المال وقفته على زهرة إحسانها. ولم تذخر وسعًا في كلّ ما يؤدّي الى إنماء زهرتها وقد استطاعت جعل إيرادها في اثنتين وأربعين سنة نحو ثمانين ألف ليرة فرنسيّة ذهبًا أي ستّ مئة ألف فرنك، وعلى معدل عملتنا السوريّة اليوم نحو 250 ألف ليرة أو خمسة ملايين فرنك أي 25 مليون غرش صرفتها في سبيل التربية والتعليم لنفع بنات سوريّتنا العزيزة.
وقد حجت إلى أورشليم مرّتين وسافرت مرّة إلى الإسكندريّة. ونالت وسام الشفقة من السلطان محمّد رشاد وصليب القبر المقدّس من البطريرك ذميانوس.
وامتازت الحاجّة لبيبة والأخت مريم بثباتها في جهادها. وتعويدها الناس على الإحسان بالمال في سبيل التعليم والتهذيب. واعتمادها على بنات جنسها في الجهاد وحدهنّ.
كتبت عنها من دزّينة أعوام في فتاة الشرق والحسناء أنّها أوّل سوريّة تستحقّ نصب تمثال لها فكانت هي أوّل ساعية لنصب التمثال الأوّل لسوريّة من تسع سنين وتمثال إميلي سرسق من خلف مآثرها. وتمنّيت في ختام خطابي في حفلة هذا التمثال أن أرى بجانبه تمثالًا لها فاليوم وقد كادت الأخت مريم جهشان تكمل عامها الخمسين دائبة في خدمة المرأة السوريّة خدمة متتابعة بالجهد والإخلاص ولم يبق لإكمالها هذا العام إلّا فصل الصيف. والفرصة سانحة للاحتفاء بيوبيلها الذهبيّ في الخريف. وهي الأيّام تمرّ مرّ السحاب. فلنغتنم فرصة بضعة أشهر نهيّئ فيها معدات الاحتفاء إتمامًا لواجب عرفان الجميل. داعيًا الى هذا الواجب جميع تلميذات زهرة الإحسان أوانس وسيّدات. وما اولاني بهذه الدعوة وما أولى مينرفا بنشرها وما أولاهنّ التلميذات جميعًا بإتمام واجبهنّ.
اترك تعليقاً