من اخبار الاديار عند العرب
روى المؤرّخون العرب الكثير من أخبار الأديار في منطقتنا بلاد الشام او سورية الكبرى (سورية ولبنان وفلسطين والاردن) والعراق إلى مصر. وتتضمّن تلك الأخبار الكثير من التفاصيل في شأن مناهج حياة الرهبان وعباداتهم وانقطاعهم عن الدنيا ومفاتنها. دونكم مقتطفات من دواوين العرب عن بعض الروايات الطريفة التي تسرد لنا بعض المهمّات التي كانت تؤدّيها الأديار للوافدين إليها.
كانت الأديار تقوم بواجبات إنسانيّة كبيرة، وأعمال حميدة، عبر احتضان المسافرين وعابري السبيل، لتقدّم لهم الزاد والماء والعلف لدوابّهم. يحدّثنا ابن جبير عن المسيحيّين المجاورين لجبل لبنان فيقول إنّهم “إذا رأوا بعض المنقطعين من المسلمين جلبوا لهم القوت وأحسنوا إليهم، ويقولون هؤلاء ممّا انقطع إلى الله عزّ وجلّ فتجب مشاركتهم”. أمّا ابن بطّوطة الرحّالة المشهور فيقول: “وبخارج اللاذقيّة الدير المعروف بدير الفاروص ( الفاروس حيث وُجِدَ فيه انجيل الفاروس) وهو أعظم دير بالشام ومصر، يسكنه الرهبان، ويقصده النصارى من الآفاق. وكلّ مَن نزل به من المسلمين فالنصارى يضيفونه، وطعامهم الخبز والجبن والزيتون والخلّ”. وثمّة رواية عجيبة عن دير في مصر يتحدّث عنه أبو القاسم السبتي قائلاً: “وعاينّا في سقف هذا الدير جملة حبال معلّقة منه. فسئل الرهبان عنها ما المراد بها؟ فزعموا أنّهم يربطون بها شعور عبادهم المصلّين خيفة أن يغلبهم النوم، ولمّا هممنا بالخروج من هذا الدير، قدّم بين أيدينا بعض رهبانهم طبقاً من كسيرات من خبز الشعير ووريقات من هندبا، ويسير خلّ، وقليل ملح، وزعم أنّ من ذلك هو عيش الساكنين بهذا الدير”.
وقصد الناس الأديار طلباً للعلاج من بعض الأمراض الجسمانيّة. فالشابشتي يخبرنا قائلاً: “فتحت دير الأعلى عين كبيرة تصبّ إلى نهر دجلة، ولها وقت في السنة يقصدها الناس، فيستحمّون به، ويذكرون أنّها تبرئ من الجرب والحكّة، وتنفع المقرّعين (المصابين بالقرع وهو مرض جلديّ فطريّ) والزَّمنى (المصابين بأمراض مزمنة)”. ويخبرنا ابن فضل الله العمريّ في كتابه “مسالك الأبصار” عن دير القيارة (على ضفاف دجلة في منطقة الموصل) فيه عين وتحتّه حَمّة عظيمة (الحَمّة ينبوع مياهه حارّة متقطّعة فوّارة) يقصده مَن به علّة أعيت الأطباء فيقيم فيه خمسة ايّام مستنقعاً في مائها، فيبرأ من علّته، ويشفى من النقرس (داء المفاصل)، ويبسط التشنّج، ويزيل الأورام، ويلحم الجراحات. كما كانت بعض الأديار مأوى للمجانين، وأشهر الأديار في هذا الباب دير “هزقل” (حزقيال) بالقرب من البصرة. فأبو المنصور الثعالبي في كتابه “ثمار القلوب في المُضاف والمنسوب” عندما يذكر دير “هزقل” يقول عنه: “يُضرب به المثل لمجتمع المجانين، ويقال للمجنون كانّه من دير هزقل، وذلك أنّه مأوى المجانين يُشدّون هناك ويداوون”.
ومن الناس مَن كان يقصد الأديار للتفرّج على معالمها وزخارفها وصورها. فالإصفهانيّ يتحدّث في كتابه “أدب الغرباء” قائلاً: “في حمص كنائس عظيمة وآثار قديمة ترتاح النفوس إليها، ويشتهي مَن ينزلها ألاّ يرتحل عنها… وفيها من عجائب الصور”. ويصفّ الثعالبي كنيسة في الرها قائلاً: “إنّها كانت إحدى عجائب الدنيا… وفيها من العجائب والتصاوير والتزاويق والطلسمات (الخطوط المبهمة) والقناديل التي تتّقد من غير اتّقاد”. وياقوت الحموي يقول عن دير الرصافة: “فأنا رأيته وهو من عجائب الدنيا حسناً وعمارة”. ويخبرنا شمس الدين محمّد بن علي عن دير القصير في مصر قائلاً عنه: “بناه أبو الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون، وكان كثير الغشيان (التردّد) لهذا الدير معجباً بالصور التي فيه”. أمّا دير الباعوث على شاطئ الفرات فيذكر العمري صوره قائلاً: “في هيكله صورة دقيقة الصنعة عجيبة الحسن، يقال إنّ لها مئين (مئات) سنين، لم تتغيّر أصباغها ولا حالت ألوانها”. ويورد ياقوت الحموي عن دير باعنتل في بلدة جوسية بالقرب من حمص أنّ فيه عجائب منها “أبواب فيها صور الأنبياء محفورة منقوشة فيها، وهيكل مفروش بالمرمر لا تستقرّ عليه القدم، وصورة مريم في حائط منتصبة كلّما ملت إلى ناحية كانت عينها عليك”.
يصف ابن فضل الله العمري “دير كفتون” قائلاً إنّه دير في بلاد طرابلس مبنيّ على جبل، وهو دير كبير، وإنّ بناءه “بالحجر والكلس في نهاية الجودة وبه ماء جار…”، ويقصده كثير من أهل السياحة “للتفرّج به والتنزّه به”. ويرجّح المؤرّخ محمّد كرد علي في كتابه “خطط الشام” أنّ هذا الدير هو المعروف اليوم بـ”دير كفتين”. ويصف العمري أيضاً ديراً اسمه “دير المصلبة” وصفاً ينمّ عن الإعجاب، فيقول: “هو دير روميّ قديم البناء بالحجر والكلس، محكم الصنعة… وهذا الدير دخلت إليه ورأيته. وفيه صور يونانيّة في غاية من محاسن التصوير وتناسب المقادير”.(دير المصلبة او الصليب المقدس من اوائل القرن الخامس الى تدميره بيد هولاكو 1402 وقتل رهبانه الاثني عشر وحرث ارضه واقامة برج من رؤوس الدمشقيين بجواره وفيهم رؤوس رهبانه وهو التي اقامت البطريركية الارثوذكسية بدمشق كنيسة الصليب المقدس 1932 في موقعه)، والعمري نفسه يذكر دير صيدنايا قائلاً إنّه “من بناء الروم بالحجر الأبيض، ويُعرف بدير السيّدة، وبه ماء جار في بركة عُملت به… وطوائف النصارى تقصده وتأتيه للزيارة”.
تكثر الأخبار والروايات والأحاديث عن الأديار العربيّة التي طواها النسيان، وتلك التي ما زالت بنعمة الروح القدس مستمرّة ويقصدها المؤمنون لالتماس البركة وتوسّل كلمة حياة من القائمين عليها. بيد أنّنا أردنا عبر هذه العجالة أن نضيء على بعض صفحات تاريخ كنيستنا الشاهدة لربّها في هذه المنطقة.
عن نشرة رعيتي 2005 بتصرف
اترك تعليقاً