من هم الروم الكاثوليك؟ (1724 – 2024)
الانحراف العقائدي البابوي
الفئة:عظات اﻷرشمندريت غريغوريوس اسطفان
من هم الروم الكاثوليك؟ (1724 – 2024)
نقلاً عن: https://www.saintgregorypalamas.org/blogPage/667e46f636ff997058b862fa
لكن لماذا انشقّ عن الكنيسة الأرثوذكسيّة، هؤلاء الذين تسمّوا بالروم الكاثوليك؟
الأمر الأكيد أنّهم لم ينشقّوا لأسباب عقائديّة، أي لأنّهم اقتنعوا أنّ العقيدة الغربيّة أكثر صحّة من تلك الأرثوذكسيّة، فهذا الموضوع لم يكن مطروحًا أبدًا. “إنّ القسم المتكثلك من الطائفة الأرثوذكسيّة لم يكن مقتنعًا بصحّة العقيدة الكاثوليكيّة، حتّى أنّ أكثر هؤلاء الاخوان ما كانوا يعرفون ما هي القضايا المختلف عليها بين الروم واللاتين؛ ولم يكن بين قسميّ الطائفة غير ثارات مغارم ودم مسفوك”1. أسباب انشقاقهم الأخرى والأهمّ، كانت الإغراءات الماديّة والمعنويّة الكثيرة التي أتى بها المرسلون اللاتين، في عصر من الجهل والظلمة والتعسّف والفقر والضغط العثماني. إنّ الإغراءات المعنويّة تكمن في دخول من يصير كاثوليكيًّا، في رعاية وحماية الدول الكاثولكيّة الكبرى كفرنسا، هذا شكّل إغراء كبيرًا بخاصّة للتجار والمثقّفين والمتملّكين2.
لكن هؤلاء، على الأغلب، لم يحسبوا أنّ دخولهم تحت سلطة البابويّة تحتّم عليهم القبول بكلّ عقائد وإيمان البابويّة، بكلّ ما فيها من استحداثات غريبة عن تقليدات آبائهم الشرقيّين؛ وإن كان قد سُمح لهم الإحتفاظ بطقوسهم وعاداتهم الكنسيّة. وقد عانى هؤلاء المنشقّون ما لا يُحصى من الضغوطات البابويّة عليهم لأجل التخلّي عن عاداتهم وتقاليدهم الشرقيّة واتبّاع الطقوس والعادات اللاتينيّة.
لكن لماذا اعتبرت الكنيسة الأرثوذكسيّة أنّ الذين خرجوا منها وتبعوا البابويّة أنّه قد أضلّهم “روح شيطانيّ مهلك غاش وشرّير”، كما قالت رسالة البطاركة الشرقيّين؟
لأنّ الروح التي عمل في أولئك الّذين أضلّوا أبناء الإيمان الأرثوذكسيّ كان حتمًا روحًا شيطانيًّا. الشيطان وحده يُريد أن يُقسّم كنيسة المسيح، وحده يُريد أن يُخرج أبناء الإيمان الحقيقيّ من كنيستهم الحقيقيّة، من إيمان آبائهم ليفترسهم في ضلالات البدع، والسكارى بحبّ السلطة وأمجاد هذا الدهر. خرجوا من إيمان كنيستهم الأرثوذكسية، لا لأنّهم وجدوا إيمانًا أفضل وأكثر حقيقة، إنّما لأنّهم خُدعوا برياء المرسلين البابويّين؛ ولأجل منافع أرضيّة. لقد أضلّهم روح شيطانيّ لأنّهم قبلوا الإنحرافات الإيمانيّة التي تبنّتها البابويّة بعد الإنقسام الكبير وتخلّوا عن الحقيقة الإلهيّة التي جاهدت الأرثوذكسيّة لأجلها، مقدّمة ما لا يُحصى من الشهداء والمعترفين. البابويّة انحرفت في الإيمان وما تبعه من انحرافات في الأسرار والحياة الروحيّة. والسبب الرئيسيّ هو سقوط البابوات في حبّ السلطة؛ وما عملوه في الشرق من المآثم ليس سوى سعي لإشباع هذا الهوى، عبر اخضاع الكنيسة كلّها لسلطتهم. فمن كبريائهم وحبّهم للسلطة بدأت تنشأ كلّ هذه الانحرافات في العقائدـ وأغلبها نشأ لأجل خدمة السلطة البابويّة. يقول القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم: “لا شيء يستطيع أن يشقّ الكنيسة مثل حبّ السلطة. ولا شيء يُغضب الله أكثر من انشقاق الكنيسة؛ وسبب ذلك حبّ السلطة”3.
الرسالة المجمعيّة: سنة 1895،
عام 1894، بمناسبة الإحتفال بيوبيله الأسقفيّ، وجّه البابا لاون الثالث عشر رسالة دعا بها الكنيسة الأرثوذكسيّة إلى الاتّحاد بالبابويّة، يقول فيها إنّ هذا الاتّحاد ممكن بمجرّد الإعتراف به أنّه “الحبر الأعظم والرئيس الروحيّ والمدنيّ الأعلى لجميع الكنائس، والنائب الوحيد للمسيح على الأرض، والموزّع لكلّ نعمة وموهبة”. البطاركة الأرثوذكس أجابوه برسالة مجمعيّة سنة 1895، يثبّتون فيها أنّ الكنيسة الأرثوذكسيّة هي “كنيسة المسيح الواحدة المقدّسة الجامعة الرسوليّة، “عمود الحقّ وقاعدته”. أمّا الكنيسة الرومانيّة فقد كثرت فيها البدع… ولهذا السبب نرفضها بحقّ وعدل، وسنبقى كذلك ما دامت مصرّة على ضلالها”. ويفنّدون في هذه الرسالة الطويلة مزاعم البابويّة وعقائدها التي استحدثتها بعد انفصالها عن الكنيسة الأرثوذكسيّة. وتقول الرسالة: “إنّ الطريقة المقرّبة إلى الاتّحاد هي رجوع الكنيسة الغربيّة إلى النظام القديم عقيدة وإدارة، لأنّ الإيمان لا يمكن أن يتغيّر مع الزمن ولا مع الظروف بل يبقى دائمًا هو نفسه”. وتتوجّه الرسالة في النهاية “إلى شعوب الغرب، الذين لجهلهم التاريخ الكنسي الصادق الحقيقيّ ينزلقون بسذاجة قلوبهم ويتبعون بدع المذهب البابوي المخالفة للإنجيل والخارجة عن القوانين كلّ الخروج، ويلبثون منشقّين بعيدين عن كنيسة المسيح الأرثوذكسيّة الواحدة المقدّسة الجامعة”4.
تقول هذه الرسالة إنّ الشرق والغرب حتّى القرن التاسع كان يُؤمن إيمانًا واحدًا، وإنّ الاتّحاد ممكن فقط إذا عدنا جميعنا إلى هذا الإيمان الواحد. فكلّ الخلاف العقائديّ بين الشرق والغرب مردّه العقائد التي استحدثتها البابويّة بعد القرن التاسع وبالتحديد بعد انفصالها عن الأرثوذكسيّة. وتذكر الرسالة هذه الأمور: زيادة عبارة المنبثق من الآب والابن على دستور الإيمان، إستعمال الفطير في الذبيحة الإلهيّة، عقيدة المطهر، المعموديّة بالرشّ بدل التغطيس، الحبل بلا دنس للعذراء مريم، عصمة البابا وسلطته المدنيّة.
انبثاق الروح القدس
بالنسبة إلى انبثاق الروح القدس من الآب والابن التي أُضيفت على دستور الإيمان، كان البابوات حتّى القرن التاسع ضدّ هذه الزيادة، لما لها من مخاطر عقائديّة على لاهوت الثالوث. لهذا حين بدأ البعض المناداة بهذه الزيادة في الغرب، بدعم من الأباطرة الجرمان، قام البابا لاون الثالث بنقش دستور الإيمان، كما هو في نصّه الأصلي بدون الزيادة، على لوحين من الفضّة، باليونانيّة واللاتينيّة وعلّقها على باب كنيسة القدّيس بطرس على مرأى الجميع، وذلك “ليسهّل على كلّ واحد أن يتعلّم الإيمان الحسن بلا زغل، ولا يدع سبيلاً للمزيّفين السريّين وذوي البدع أن يُفسدوا حُسن إيماننا نحن المسيحيّين ويُدخلوا الإبن علّة ثانية غير الآب، للروح المنبثق من الآب بكرامة واحدة له وللإبن المولود من الآب”. وقد كتب البابا على هذين اللوحين هذا العنوان: “أنا لاون قد وضعت هذه حفاظًا على الإيمان الأرثوذكسيّ”5.
في رسالة للكاتب الياس بن فخر، الشهير بابنِ الفخر الطرابلسيّ، موجّهة لأحد الّذين أضلّهم اللاتين، كُتبت سنة 1728، يقول عن هذا الموضوع: “وبينما قد توهَّمتُم وبه تماحِكون أيضًا مِن حيث قول المسيح، “إذا جاءَ المعزّي الذي أُرسلُه أنا إليكم” (يو15: 26)، بأنّه إن كانَ الابنُ يرسِل الروحَ القدس فهو إذًا منبثقٌ منه أيضًا، فنقول لكم إنّ الانبثاقَ لم يأتِ بمعنى الإرسال، وهو شيءٌ آخر غيره. لأنّ الانبثاقَ هو بروزُ أقنوم الروح القدس من أقنومِ الآب وحدَه ووجودُه منه، وهو فعلٌ أزليٌّ لا يحوطه زمانٌ البتّة، كما بَيّنّاه من آبائنا المعلِّمين فيما مَرَّ من القول. وأمّا الإرسال فهو إرسالُ نِعم الروح القدس ومواهبه المرسلة من الابن للرسلِ ولكلِّ من يستحقّها، وهو فعلٌ وقتيٌّ زمنيّ مشاع للثلاثةِ أقانيم الإلهيّة، كما قُلنا، الآب والابن والروح القدس… الروح القدس منبثق من الآب، كما يقول المسيح في الإنجيل: وذلك لامتناعِ أن يكون مبدآن وعلّتان في الثالوث الأقدس. وإنّما العلّة واحدة هي التي في الداخل وهو الآب وحدَه علّة الابن والروح القدس. وأمّا العلّة التي في الخارج هي مشاعة للآب والابن والروح القدس في إبداعِ المخلوقات وإفاضة النعم وإرسال المواهب”6.
المعموديّة
أمّا بالنسبة للتعميد بالرشّ بدل التغطيس، فإنّه يُبطل مفهوم المعموديّة كموت وقيامة مع المسيح. وتقول الرسالة، حتّى القرن الثالث عشر كانت المعموديّة بالتغطيس ثلاث مرّات منتشرة في كلّ الغرب. لكنّهم أبطلوها واستبدلوها بالرشّ. قوانين الكنيسة منذ القديم تحرم الكاهن الّذي لا يُتمّم المعموديّة بثلاث غطسات.
الخبز الفطير
أمّا استعمال الخبز الفطير في الذبيحة الإلهيّة، الذي أدخله الغرب بدل الخبز المخمّر، فكان نتيجة فهمهم المغلوط للعبارات الواردة في الأناجيل الإزائيّة، والتي يظهر فيها أنّ المسيح الربّ استعمل الفطير في العشاء السريّ. بينما الحقيقة أنّ كلمات الأناجيل تُشير إلى العشاء الّذي يُقام في الليلة السابقة ليوم الفصح، حيث يؤكل فيها الخمير ثمّ يُعزل؛ وهو يُعتبر كجزء من الفصح، أو التهيئة التي تسبق الفصح، أو حتّى كاليوم الأوّل من الفصح.
والكلمة المستعملة في النصوص الإنجيليّة، والتي تُشير إلى الخبز، تعني بوضوح خبزًا مخمّرًا Άρτος. على هذه الخبرة عاشت الكنيسة من بدايتها، في الشرق والغرب، خبرة استعمال الخبز الخمير في ليتورجيا سرّ الشكر، إلى أن بدأ التغيير في الكنيسة الغربيّة، ابتداء من القرن التاسع. لقد أكل المسيح العشاء الخمير، ثمّ عُزل الخمير، ولمّا أتى موعد ذبح حمل الفصح، كان المسيح نفسه هو الحمل الّذي لا عيب فيه، المُقدّم من أجل حياة العالم وخلاص البشر. إن كان المسيح قد أكل الخبز الفطير، الّذي يُؤكل في موعد ذبح الحمل الفصحيّ، لما كان هناك حاجة لتقديم ذاته ذبيحة. ففي الوقت الّذي كان ينبغي أن يُقدّم فيه الحمل الفصحيّ، قدّم المسيح نفسه كحمل لا عيب فيه، ذبيحة عوضًا عن حمل الفصح.
تقديس القرابين
بالنسبة إلى تقديس القرابين وتحويلها إلى جسد ودم المسيح، كانت الكنيسة كلّها تؤمن أنّ هذا التحويل يتمّ بعد استدعاء الروح القدس، لكن البابوات استبدلوا هذا التقليد باعتقاداتهم أنّ التقديس يتمّ فقط بالكلام التأسيسيّ: “خذوا كلوا هذا هو جسدي… إشربوا منه كلّكم هذا هو دمي…”. في الحقيقة من دون عمل الروح القدس لا يمكن أن يتمّ أيّ تحوّل أو تقديس أو تحقيق لأيّ من الأسرار الإلهيّة. المسيح نفسه، في كلّ العمل الّذي أتمّه على الأرض، تمَّمه بقوّة الروح القدس.
المطهر
أمّا عقيدة المطهر، فقد أعلنها البابا سيكتوس الرابع سنة 1477، عقيدة أساسيّة. لكن فكرتها كانت قد بدأت تنتشر في الغرب منذ القرن الثاني عشر، وكانت في البداية كتغطية عقائدية لصكوك الغفران. تلك الصكوك التي كانت البابويّة تمنح بها المقاتلين، الّذين يشتركون في الحملات الصليبيّة غفراناً للخطايا التي ارتكبوها والتي سترتكب؛ وتشجعهم للاشتراك في هذه الحملات. لكن فيما بعد أصبحت تباع بشكل مستقل عن تلك الحملات. لقد وجدت البابويّة في عقيدة المطهر حافزاً للناس لشراء صكوك غفران، والهدف تخفيف مدّة العذاب في المطهر.
المطهر، بحسب تعاليم الكنيسة البابويّة، هو مكان عقاب مؤقت يحوي نار مادّيّة تتعذب فيه أنفس الذين رقدوا لفترة محدّدة من الزمن، بحسب خطاياها، لتتطّهر من بقايا الخطايا غير المميتة التي اقترفتها هذه النفوس، قبل أن تصير مستحقّة الدخول إلى السماء. لكن الإنسان يمكنه أن ينجو من نار المطهر، أو تخفيف مدّة العذاب، بواسطة شرائه صكوك الغفران، الناتجة عن استحقاقات القدّيسين الزائدة في الكنيسة البابويّة.
بالنسبة إلى الكنيسة الأرثوذكسيّة، موضوع “المطهر” هو من نتاج اللاهوت السكولاستيكيّ، الذي يسعى لتفسير أسرار الإيمان عبر المنطق العقلانيّ المجرّد. لقد دمّر اللاهوت الكاثوليكيّ فاعلية الصلاة لأجل الموتى واستبدلها بالسجن، المطهر، حتّى يوفوا الفلس الأخير (حسب تفسيرهم لمتى 5: 25-26). لكن يبقى السؤال اللاهوتيّ: لماذا قدّم الربّ ذبيحته إذًا؟ ألم تكن كفارةً عن خطايانا؟ وهل يقتضي العدل الإلهيّ أن يدفع ثمن الخطيئة مرّتين: مرّة على الصليب من قبل الله نفسه ومرّة في المطهر؟ فعمل الله الفادي الّذي محا به خطايانا هو كامل لا يحتاج إلى مطهر متمّم لهذا العمل. والكتاب يتكلّم بوضوح عن عدم وجود مكان للتعذيب أو التطهير، إذ يقول بوضوح: “وضع للناس أن يموتوا مرّة ثم بعد ذلك الدينونة” (عبر 9: 27).
ينقض المطهر أيضًا سرّ الكهنوت والسلطان المعطى بواسطته إلى الرّسل وخلفائهم على حلّ الخطايا وإمساكها، فأيّة فائدة تبقى من سرّ الإعتراف والتوبة.
يُعطي المطهر أبشع صورة عن إلهنا الحيّ؛ إنّه يُحوّل الله من أب لا يُريد سوى توبة أبنائه، إلى قاضٍ لا يهمّه سوى تطبيق قانون عدالته.
الحبل بلا دنس
أمّا بالنسبة إلى عقيدة الحبل بلا دنس، أي أنّ العذراء مريم هي نفسها حُبل بها من والديها بدون دنس الخطيئة الجديّة، فقد أعلنها البابا بيّوس التاسع عقيدة سنة 1854، وهي لها علاقة بتبنّي البابويّة لمفهوم الخطيئة الأصليّة، وانتقالها بالوراثة إلى كلّ إنسان يولد من نسل آدم. وهذا كان نتيجة لاهوت التبرير الّذي ورثوه من لاهوت المغبوط أوغسطينوس. فالعقيدة المنحرفة تنتج عقائد أكثر انحرافًا. إنّ قبول عقيدة انتقال الخطيئة الأصليّة بالوراثة ألزمها أن تُنتج عقيدة الحبل بلا دنس للعذراء، إذ كيف يمكن لمريم أن تحبل بابن الله وهي تحمل خطيئة شخصيّة؟
أخطر ما في هذه العقيدة هي أنّها تفصل العذراء عن بنيّ جنسها، فقد جعلتها من طبيعة بشريّة مُخلّصة مُسبقًا، ونوعيّة جسدها غير نوعيّة جسدنا. ومهما برّروا هذه العقيدة المستحدثة، فإنّ جسد المسيح، الّذي أخذه من العذراء لم يعد هو ذاته جسدنا، المريض والمنهك بضعفات الأهواء والخطيئة، المحتاج إلى الشفاء والخلاص، الّذي أعاد المسيح خلقه من جديد بموته وقيامته.
منذ تبنّي السكولاستيكيّة نهجًا للتفكير اللاهوتيّ الغربيّ، بدأ منذ القرون الوسطى الغربيّة يُروّج للاهوت خاطئ عن مريم العذراء. فقد اعتبروها أقرب إلينا من المسيح، وانتشرت صورة عن المسيح أنّه الديّان العاتيّ الّذي لا يرحم، وأنّه نار آكلة كما يصفه الكتاب، بينما العذراء هي المملوءة بالرأفة والرحمة، لأنّها من جنسنا. هذه الصورة جعلت المسيح غريبًا ومُخوّفًا من أبنائه البشر.
ونتج عن هذه العقيدة الخاطئة، عن علاقة مريم بابنها وبسرّ الفداء، عقيدة أخرى تختصّ بمريم وهي عدم موتها. هكذا سنة 1950 أعلن البابا بيّوس الثاني عشر، عقيدة، أنّ العذراء مريم غلبت الموت على غرار إبنها وصعدت إلى السماء بالنفس والجسد. الكنيسة الأرثوذكسيّة تعتقد أيضًا بصعود العذراء إلى السماء بجسدها، ولكن بعد أن ذاقت الموت ككلّ كائن بشري. إذ لا بدّ لكلّ جسد أن يموت لكي يستطيع أن يلبس عدم الفساد في القيامة العامّة. يقول القدّيس يوحنّا الدمشقيّ من القرن الثامن: “نحن نحتفل برقادها ولا ندعوها إلَهة… لأنّنا نعلن موتها”.
الرئاسة البابويّة
أمّا بالنسبة إلى خضوع الكنيسة كلّها لسلطة بابا رومية، خبرة الكنيسة تشهد على عكس هذا الإدعاء. الكنيسة كانت دائمًا مجمعيّة، أسقف رومية كان له شرف التقدّم في المجامع لأنّه كان أسقف عاصمة المملكة. لهذا حين انتقلت العاصمة إلى القسطنطينيّة، انتقل شرف التقدّم إلى أسقف هذه المدينة. مع هذا بقي البطاركة الشرقيّون يقدّمون لبابا روما الإكرام الشرفيّ الأوّل بسبب مكانة روما التاريخيّة. وكانوا يلجئون إليه كأخ أكبر في القضايا الصعبة. في ردّ البطاركة الأرثوذكس على دعوة البابا للخضوع له يقولون: “إذا راجعنا ما قاله أبناء الكنيسة ومجامعها في القرون التسعة الأولى، نجد أنّ أسقف روما لم يُعتبر ولا مرّة رئيسًا أعلى ورأسًا معصومًا في الكنيسة. وإنّما كلّ أسقف هو رأس كنيسته المحليّة، خاضع لأوامر وأحكام مجامع الكنيسة الجامعة، بما أنّها وحدها سليمة من الخطأ. ولا يُستثنى من هذا القانون أسقف روما مُطلقًا، كما يوضح التاريخ الكنائسيّ، وأنّ رئيس الكنيسة الأبديّ ورأسها السرمديّ إنّما هو يسوع المسيح ربّنا، لأنّه هو رأس جسم الكنيسة، وهو قال لتلاميذه ورسله، “ها أنا معكم كلّ الأيام وإلى منتهى الدهر”7. فالكنيسة لا تقوم على بابا رومية كنائب المسيح على الأرض، لا تقوم على أساس شخص مائت، بطرس أو غيره. إنّما على المسيح نفسه، الإله-الإنسان. المسيح هو الصخرة التي يشهد عليها العهدان القديم والجديد؛ وعلى هذه الصخرة بُنيت الكنيسة على أساس الرّسل والأنبياء كلّهم. هذا الأمر شدّد عليه الكتاب المقدّس، يقول بولس الرسول إلى الأفسسيّين: “فلستم بعد غرباء ونزلاء بل رعيّة مع القدّيسين وأهل بيت الله، مبنيّين على أساس الرسل والأنبياء ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية” (أف19:2-20). من مجمع أورشليم كان يظهر أنّ الكنيسة كانت دائمًا مجمعيّة. وقول المسيح “حيثما اجتمع اثنان او ثلاثة باسمي، فهناك أكون في وسطهم” (مت20:18)، يُظهر أنّ السلطة في الكنيسة هي مجمعيّة، وليست مُطلقًا في يد إنسان واحد.
في كلّ الكتاب المقدّس، لا المسيح ولا بطرس تكلّما عن نواب لهما على الأرض. بطرس لم يكن أبدًا متسلّطًا على الرّسل الآخرين. أمّا قول المسيح “أنتَ بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي” (مت18:16)، كلّ الآباء القدّيسين، حتّى الغربيّين، فسّروا هذا المقطع بأنّ المسيح سيبني كنيسته على صخرة الإيمان الذي اعترف به بطرس، أي أنّه هو “المسيح ابن الله الحي”، وليس على شخص بطرس كإنسان، الذي يدّعي البابا أنّه وريث شرعي له. “وهكذا شرح بولس الرسول هذه الآية الإلهيّة شرحًا صريحًا حيث نطق بروح الوحيّ وقال: بحسب نعمة الله المعطاة لي كبنّاء حكيم وضعت أساسًا وآخر يبنيّ عليه… إذ لا يستطيع أحد أن يضع أساسًا آخر غير الموضوع، الّذي هو يسوع المسيح” (1كور11:3).
“وأمّا إن كان دُعيَ بطرس المغبوط أساسًا فالرسل كلُّهم أساسات. وكلُّهم معادلون بالكرامةِ والسلطان أيضًا من فحوى قول بولس الرسول، “إنّكم قد بُنيتُم على أساسِ الرسل والأنبياء” (أفسس 2: 20). ويوحنّا الرسولُ الإنجيليّ يقرّ في الرؤيا أنّ الرسلَ الاثنيّ عشر هُم أساسات، بقولِه هكذا، “ولِسورِ المدينة اثنا عشرَ أساسًا فيها أسماءُ رسلِ الحمَل الاثنيّ عشر” (رؤ 21: 14). وبولسُ الرسول يوضحُ معادلتَه لبطرس في الكرامة، كما يقولُ في رسالتِه إلى أهلِ غلاطية هكذا، “لأنّ الذي عَمِلَ في بطرس لرسالةِ الختان عَمِلَ فيَّ أيضًا للأمم. ولمّا عَرفَ يعقوبُ وصفا ويوحنّا النعمةَ المعطاةَ لي، والمُعتَبرون كأعمدة، مَدّوا إليّ وإلى برنابا يُمناهُم للشركة” (غلا 2: 8-9). وهناكَ يَذكر مقاومتَه لبطرس مواجَهةً في أنطاكية “لأنّه كان مخدوعًا وللتوبيخ أهلًا”، كما يقولُ في رسالتِه تلك (غلاطية 2: 11). والذهبيّ الفم في تفسيرِه هذه الرسالةَ يقولُ: “إنّ المغبوطَ بولس كان مساوٍ لبطرس في الكرامة”8.
العصمة البابويّة
أمّا بالنسبة إلى عصمة البابا، هذه أقرّت عقيدة في المجمع الفاتيكانيّ الأوّل سنة 1870. فالقرن التاسع عشر، كان قرن المستجدات السلبيّة على البابويّة، سياسيًّا ودينيًّا، إذ استقلّت الإمارات الأوروبيّة التي كانت تخضع للبابا، وبدأت بمعادات ومحاربة المملكة البابويّة. إضافة إلى المشاكل التي نتجت عن حركات الإصلاح البروتستانتيّة، والأفكار المناهضة لسلطة البابا المطلقة، حتّى من داخل الكنيسة البابويّة. هذا كلّه أدى إلى تقهقر السلطة الثيوقراطية البابويّة وتزعزع مركز البابا. إنّ ردّ الاعتبار له ورفع الشأن البابوي، كان السبب في طرح فكرة العصمة البابوية، كعقيدة ضرورية للخلاص، بواسطة مخطط صاغته الرهبنة اليسوعيّة، وعمل على تحقيقه البابا بيوس التاسع، فجعل كهنة كثيرين من الموالين له أساقفة، وفرض هذه الفكرة عقيدة في المجمع الفاتيكاني الأوّل (1870). لكن كيف يكون البابا معصومًا عن الخطأ في الأمور العقائديّة وهناك في تاريخ الكنيسة، على الأقل أربع بابوات حكم عليهم بالسقوط في الهرطقة9، والبابوات الذين أتوا بعدهم قبلوا أحكام المجامع هذه وثبّتوها. حين دعا أحدهم المسيح، “أيّها المُعَلّم الصّالح”، أجابه يسوع قائلاً: “لِماذا تدعوني صالِحًا؟ لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحًا إلَّا واحِدٌ وهو اللهُ”. بالطبع رفض المسيح هذه التَّسمية كإنسان، ليقول له أنّه ما من إنسان على الأرض يمكن أن يُدعى صالحًا أو معصومًا.
وفي النهاية، في ردّهم على مبدأ تطوّر العقيدة، لتبرير هذه العقائد الجديدة كلّها التي أضافتها البابويّة على إيمان الألف الأوّل، تُشدّد رسالة البطاركة “أنّ الكنيسة هي واحدة على الدوام وليست كثرة ولا تنوّع مع امتداد الزمن، لأنّ الحقائق الانجيليّة لا تقبل تغييرًا ولا تطوّرًا مع الزمن، كالفلسفات المتنوّعة، “لأنّ المسيح يسوع هو هو أمس واليوم إلى الأبد”.
1 نشاة الروم الكاثوليك، ص 124.
2 كتب نيوفيطس القبرصيّ، من رهبان القبر المقدّس، عن “الروم الكاثوليك”، القول: كان هؤلاء اليسوعيّون يتجوّلون في سوريا كلّها وفلسطين خفية يصطادون الفقراء ويُفرّقون هبات على المحتاجين، معلّمين الكثلكة والبابويّة إلى جانب هذا… ولقد استطاعوا أن يجذبوا عدداً إلى مذهبهم ومن الخارجين عن الكنيسة بالزيجة الرابعة. ولمّا رأى رؤساء الكهنة في الأبرشيّات عمل اليسوعيّين قاموا يُكافحون لطرد الذئاب، فلم يستطيعوا طردهم لأنّ القناصل كانت تحميهم، كما كان يحميهم الذهب الوهّاج الّذي كانوا يُفرّقونه”
خريسوستمس باباذوبولس، تاريخ كنيسة إنطاكية، تعريب الأسقف استفانوس حدّاد، منشورات النور 1984، ص 788.
3 تفسير رسالة أفسس، 11.
4 تاريخ كنيسة إنطاكية، خريسوستمس باباذوبولس، تعريب الأسقف استفانوس حدّاد، منشورات النور 1984، ص 826-845.
5 القدّيس فوتيوس الكبير، رسالة إلى مطران أكيليئيّة، 5، 3. أنظر: تاريخ كنيسة إنطاكية، ص 831-832.
6 نُسخ هذا الكتاب في هذه السنة، 1744، عن الكتاب الأصليّ المكتوب سنة 1728؛ وهي مخطوط غير منشور. تجدر الإشارة إلى أن الياس بن فخر كان ذا شهرة واسعة، وكان علّامة عصره، وكتبه موجودة في مخطوطات عديدة وفي عدّة أماكن.
7 ردّ البطاركة الأرثوذكسي على دعوة البابا سنة 1895. أسد رستم، كنيسة مدينة الله أنطاكية العظمى، ص 265.
8 رسالة الياس بن فخر، الشهير بابنِ الفخر الطرابلسيّ (مخطوط غير منشور).
9 أما البابوات فكان منهم الكثير من الهراطقة كما في باقي البطريركيات. عدّة بابوات أدينوا قبل الإنشقاق لقبولهم عقائد هرطوقية:
– البابا مركلينس (293-303) تردّى الى عبادة الأوثان فى هيكل أفروديتي بغية أن ينجو بنفسه من الإضطهاد خوفاً من الموت مِمّا أدّى إلى تَعثير عدد كبير من المؤمنين.
– البابا يوليوس (243) حرمه مجمع سرديقية.
– البابا ليباريوس (352-366)، وقّع دستور الإيمان الآريوسي. كان أرثوذكسيًّا لكن نفاه الإمبرطور وبقي سنتين في النفي، بعد ذلك خارت قواه بعد النَّفي فوقّع على صورة مقرّرات خاطئة ووقّع على إدانة القديس أثناسيوس.
– البابا فليكس الثاني، قال عنه القديس أثناسيوس في “تاريخ الآريوسيّة” (فصل 73) بأن ثلاثة من الخصيان انتخبوه وثلاثة آخرين من جواسيس الأمبراطور قد ساموه… كما كانت ابتداعاته معروفة لدى الجميع… في سائر تصرّفاته حسب “المسيح الدجال”.
– البابا أونوريوس قَبِلَ التعليم الهرطوقي بالمشيئة الواحدة سنة 625، حكم عليه المجمع المسكوني السادس (الجلسة 13)، وأيّد خلفاؤه هذا الحكم عليه (لاوون الثاني وأونوريوس الثاني).
اترك تعليقاً