الفيلسوفة التي لم تهب الموت (مكتبة الإسكندرية)

هيباتيا فيلسوفة الإسكندرية

هيباتيا فيلسوفة الإسكندرية

نشأة فيلسوفة الإسكندرية وتحول المشهد الديني للإمبراطورية الرومانية

الفيلسوفة وعالمة الرياضيات والفلك هيباتيا الاسكندرية
الفيلسوفة وعالمة الرياضيات والفلك هيباتيا الاسكندرية

في عام 355م رُزق عالم الرياضيات والفيلسوف الشهير ثيون السكندري وزوجته المنحدرة من أسرة مفكرة بهيباتيا؛ وذلك ما شجع والديها على تعليمها ونشأتها لتكون شابة فيلسوفة ورياضية مثقفة، حيث حظيت هيباتيا على تعليم مختلف تماماً عن التدريب العملي للمصريات في ذلك الوقت. تعلمت هيباتيا في البداية كيفية تصحيح القواعد النحوية وتطوير مهارة التعبير البلاغي بالإضافة إلى إجادة المحتوى الرئيسي لبعض الأعمال الأدبية الشهيرة للعصور الوسطى، وتعلمت الرياضيات على يد والدها وهو ما وسع مداركها واهتمامها لتشمل لتشمل صوراً أُخرى مثل الفلسفة. والدليل على تقدمها وإجادتها للغة والقواعد النحوية هو تفوقها على والدها نفسه، الذي اهتم بتعليم الرياضيات بشكل مركز. وتضمن تدريبها قراءة منهجية لمجموعة من النصوص الرياضية التي تم إعدادها بصورة خاصة بحيث تسمح لها باكتساب وتطوير المهارات الرياضية الأكثر تعقيداً.

وعلى الرغم من أن الرياضيات والفلسفة تختلفان بشدة في إطار التعليم الجامعي الحالي، إلا أنهما مرتبطين بشدة خلال العصور القديمة؛ فكان فلاسفة المدرسة الأفلاطونية يهتمون بشرح الرياضيات كمنهج تمهيدي بحيث يتم تهيئ التلاميذ لدراسة أرسطو وأفلاطون.

نشأت هيباتيا في بيئة مضطربة دينياً، حيث شهدت الإمبراطورية الرومانية تحولاً من الدولة الوثنية إلى مجتمع مسيحي وثني واحتلت الديانة المسيحية الأغلبية شرق الإمبراطورية وخاصة في الإسكندرية. نشأت العديد من الصراعات بين الطائفتين بمصر وحاولت كل منهما السيطرة لتسود عقيدتها على البقية سواء بطرق شرعية أم لا، وهو ما سنذكر فيه اغتيال هيباتيا فيما بعد.

أعمال هيباتيا في الرياضيات والفلسفة

لوحة فنية للفنان Robert Trewick تظهر فيها هيباتيا وهي تشرح لتلاميذها بالإسكندرية
لوحة فنية للفنان Robert Trewick تظهر فيها هيباتيا وهي تشرح لتلاميذها بالإسكندرية

أكملت هيباتيا دراستها في أثينا وأصبحت عميدة للمدرسة الأفلاطونية في عام 400 م، وكانت معروفة آنذاك بدفاعها عن الفلسفة والتساؤل، ومعارضتها للإيمان المجرد ولا يوجد مصدر يؤكد ديانتها. تناولت هيباتيا في منهجها الدراسي فلسفة أفلاطون وأرسطو وتميز فصلها الدراسي بتلاميذ من ديانات مختلفة مثل المسيحية، الوثنية والديانات الأجنبية. كانت هيباتيا محل تقدير وإعجاب تلاميذها المسيحيين واعتبرها بعض المؤلّفين المسيحيين في العصور اللاحقة رمزًا للفضيلة.

اشتركت هيباتيا مع والدها في معظم أعمالها نظراً  لندرة وجود أعمال أنثوية منفردة في العصور القديمة، ومن اسهاماتها:

علم الفلك: رسمت مواقع للأجرام السماوية، واخترعت مقياس ثقل السائل النوعي (الهيدرومتر) المستخدم في قياس كثافة ولزوجة السوائل.
الرياضيات: بعد الدمار الدامي لأماكن العلم مثل مكتبة الإسكندرية، وُجدت فقط البعض من أعمال هيباتيا وثيون من كتاب “الأصول” لإقليدس، وتعليقات هيباتيا على كل من كتاب “أريثميتيكا” لديوفانتوس، وكتاب الجداول – Handy Tables لبطليموس، وكتاب بليناس “القطع المخروطي – Conics” ولم يتم الحفاظ عليها إلا من خلال النسخ التي جلبها العلماء إلى مدن الشرق الأدنى؛ حيث تمت ترجمتها إلى العربية.

مصرعها
مصرعها

مصرعها

كانت هيباتيا تعتبر نفسها أفلاطونية محدثة، ومن أتباع أفكار فيثاغورس؛ وهو ما وجه أعين العديد من المنافسين الفلسفيين – وخصوصاً المسيحية – بالعداوة لها ورفض أقوالها الأفلاطونية. والذي زاد هذه العداوة وسبب حرجاً للكنيسة هو الجمهور التي حظيت به هيباتيا من المثقفين. وكانت الكنيسة وعلى رأسها وراعيها الأسقف “كيرلس الأول” الملقب بعمود الدين قد أدركوا خطورة هيباتيا الفيلسوفة على جماعة المسيحيين في المدينة، بالإضافة إلى صداقتها بوالي الإسكندرية «أوريستوس». كان أوريستوس يحترم ويقدر هيباتيا ومن أحد أحد تلاميذتها بالمدرسة الأفلاطونية، ومن الممكن أنه سبب آخر لاستياء البابا وقتها.

اتهمت الكنيسة هيباتيا بالإلحاد والسحر وتعارضها مع المبادئ المسيحية، وتشكل جيش من الرهبان بالكنيسة يكن لها العداوة ويراقب تحركاتها داخل المدينة. وفي عام 414 م تعقبها الرهبان وهي عائدة من إحدى الندوات واعتدوا عليها وجردوها من ملابسها وجروها عبر شوارع الإسكندرية عارية تماماً بحبل ملفوف على يدها. وفي مقرهم عذبوها بسلخ جلدها حتى الموت وحرقوا جثتها ليكون موتها إيذاناً بنهاية عصر  التنوير الفكري والتقدم المعرفي الذي شهدته مدينة الإسكندرية لمدة 750 عاماً وترك العديد من العلماء المدينة والتوجه لأثينا مراكز أخرى.

تخليد ذكرى هيباتيا

ذُكرت هيباتيا في العديد من النصوص التاريخية للقرن الخامس، والسابع، والعاشر. وقصة حياتها وموتها، وإسهاماتها في الرياضيات والفلسفة.
وفي عام 1851م، قام الروائي الإنجليزي تشارلز كينجسلي بتحويل قصة حياة واغتيال هيباتيا إلى عمل درامي في رواية “هيباتيا“، كما جاء وصف السيرة الذاتية لهيباتيا في العديد من كتب والقصص القصيرة المجمعة مثل كتاب “رحلات إلى بيوت معلمين عظام” للكاتب ألبرت هابرت في عام 1908.

يعيد كتاب “هيباتيا، حياة فيلسوفة قديمة وأسطورتها” للمؤرخ والكاتب إدوارد ج. واتس إحياء  النقاش حول الفيلسوفة  “هيباتيا” (355-415م)، ملأت أخبارها سجلات الفلسفة والكنيسة والمؤرخين للقرن الرابع الميلادي، وللأزمنة الوسيطة وصولاً إلى عصر الانوار والحديث والمعاصر. حيث يقول

ولدت هيباتيا حوالى عام 355م، في مدينة الإسكندرية المصرية، إبان الحكم الروماني وفي ذروة تمدد إمبراطوريته الممتدة من وسط آسيا الصغرى، وإلى أوربه عبر حوض البحر الأبيض المتوسط وبلدان الشرق المتاخمة لها. علماً أن مدينة الإسكندرية، على ما وصفه الكاتب واتس، كانت بمقام أثينا وروما توازيهما أهمية ونفوذاً وإشعاعاً ثقافياً. وكان والد هيباتيا فيلسوفاً بدوره يدعى ثيون، وكان يدرس العلوم المتاحة في زمنه، وأهمها؛ الرياضيات والفلك والفلسفة، ولا سيما الأفلاطونية منها. وكان أن تمثلت هيباتيا، منذ فتوتها، مكانة والدها، ودوره، وعزمت على أن ترسم سبيله في تعليم الرياضيات والفلسفة، حتى فاقته براعة في تعليم الشبان مبادئ الفلسفة الأفلاطونية والرياضيات المتقدمة. ولم تكتف بذلك، بل أنجزت أبحاثاً وتعليقات على “علم الحساب” لعالم الرياضيات ديوفانتوس الإسكندري، وعلى مصنف “المقاطع المخروطية” لأبلونيوس البرغاوي، وغيرهما، مما يوازي حصولها على الدرجة الأكاديمية العليا (الدكتوراه)، ولكن جل أبحاثها ضاعت بنسختها الحقيقية.

وبالاعتماد على آثار ثيون، والد هيباتيا، يتبين للباحث إدوارد واتس، أن الأخيرة كانت قد أسهمت في إعداد عشرة كتب من أصل ثلاثة عشر كتاباً في شرح كتاب “المجسطي” لبطليموس الإسكندري (100-168م) عالم الفلك والرياضيات والجغرافيا الشهير. وما يوازي علمها وبراعتها الفائقة في إقناع جمهور طلابها -وفي غالبيتهم ذكور-بصواب منطقها وعمق علمها، كان شخصيتها العصامية وحضورها الباهر اللذين خولاها أن تحظى بثقة مجتمع النخبة الحاكمة وعامة الناس المكونة من طوائف غير متجانسة أصلاً (اليهود، والمسيحيين، والوثنيين)، من دون أن تنحاز إلى جماعتها، الوثنية، أو توسل لها نفسها الانحراف إلى هذه الضعة.

وظيفتها ودورها

ولكن، رب سائل عن الصلة التي يمكن أن تجمع الفيلسوفة بالحاكم، بل الحكام المتعاقبين على سدة الملك في مدينة الإسكندرية؟ يجيب الكاتب واتس، بما مفاده أنه كان قد أُعطيَ الفلاسفة، في زمن “ثيون” والد هيباتيا، نوعاً من الوظائف الإدارية التي احتاجت إليها الإمبراطورية أو السلطة المدنية في كل مدينة، بعد تعاظم بنيتها الديموغرافية، ونزوح أعداد كبيرة من سكان الأرياف إلى الإسكندرية، للعمل في مرفأها الكبير، وبعد ازدحام المدينة بفئات متنافرة إيمانياً، مثل اليهود، والمسيحيين، والوثنيين، وطبقات ذات مصالح متضاربة. ولعل أهم عمل يقوم به هؤلاء الفلاسفة هو الإصغاء إلى مطالب الفئات المتنوعة المشار إليها أعلاه، ونقلها إلى الحكام باعتبارهم خير الوسطاء في المدينة بغية العمل على دوام الانتظام العام ونشر الأمان في صفوف الناس. إلى جانب النخب المكونة من زعماء الكنيسة والضباط العسكريين وأعضاء مجلس المدينة وغيرهم من الوجهاء فيها. ومنْ غير هيباتيا، المتفاعلة مع طلابها من الفئات كلها، أقدر على تولي هذه المهمة؟ وفي حين دأبت الإمبراطورية على اتباع سياسة التهديد والمكافأة حيال رعاياها بغية ضبطهم وحكمهم. إذاً، كان لهيباتيا وظيفة أساسية وهي تعليم الفلسفة والرياضيات، ومواصلة البحث والكتابة في فلسفة أفلاطون، وفي علم الفلك وغيرهما، وقد نالت من الأولى ما يعينها على العيش بكرامة. أما الوظيفة الثانية والرديفة، والتي تولتها طوعاً ومجاناً، فكانت إسداء المشورة للحاكم أوريستيس، في عز تضارب المصالح واضطراب حبل الأمن في البلاد، واشتداد التنافس بين أبناء المدينة، وأبناء الطائفة الواحدة، والمعتقد نفسه.

مصرعها
مصرعها

الجريمة والإشكال

ويروي الكتاب، الذي أعده إدوارد واتس نقلاً عن مصادر ومراجع كثيرة (230 مرجعاً)، الظروف التي أحاطت بمقتل الفيلسوفة هيباتيا، عام 415م؛ ومفادها أن تنافساً حاداً حصل بين مرشحين لمنصب رئيس كهنة (أسقف) لدى المسيحيين في الإسكندرية، وهما كيرلس وثيموثي، ونشب صراع عنيف بين الجماعتين انتهى بفوز كيرلس، مترافقاً مع اتهامات لهيباتيا بوقوفها إلى جانب الحاكم أوريستيس، وتحريضها الطرف المنافس (ثيموثي) على مواصلة النزاع والتسبب بالانقسام في الكنيسة. وفي هذه الأجواء، حدث أن انطلقت جماعة هائجة، بقيادة الراهب بطرس، قاصدة التعرض لهيباتيا، التي صودف وجودها في إحدى الساحات العامة، تعلم وتخاطب الناس. فما كان من الجموع إلا أن جردوها من ثيابها، ثم عمدوا إلى تقطيعها، ورمي أطرافها بالنار، عملاً بالعقاب الذي كان يناله السحرة والمشعوذون!

بالطبع، أثارت الجريمة المقززة استنكاراً واسعاً من قبل الكنيسة، في الإسكندرية وفي القسطنطينية، لكونها مست شخصية لطالما أثرت عنها الحكمة والرزانة، والعفاف، على رغم كونها وثنية، وكانت وسيطاً صالحاً لمختلف الفئات الدينية والاجتماعية في المدينة، ولكونها هذه الجريمة أيضاً خالفت إحدى أخطر الوصايا الأخلاقية في الكنيسة، وهي وجوب عدم القتل ” لاتقتل”.

أياً يكن من أمر التضحية الكبرى التي ارتضته هيباتيا، فقد صارت “رمزاً لمجموعة من القضايا العادلة”(ص23)، وفيلسوفة موهوبة، وعنواناً لكل نضال تقوم به المرأة في العالم، وتحرز فيه اختراقاً للمحظور والتقاليد، والأعراف الظالمة، والمصالح القهارة، في عالمنا اليوم، وربما في الأزمنة الآتية. ويلحظ الكاتب، في هذا الشأن، أن هيباتيا التي أطبقت شهرتها الآفاق، في العالمين الشرقي والغربي، غطت على شهرة كيرلس باعتباره أحد اللاهوتيين البارزين في الكنيسة الكاثوليكية والأرثوذكسية والأقباط. وأحسب أنها لا تزال تمثل هذا التوق المديني إلى صوغ هذا التناغم البناء بين أبناء المدينة الكوزموبوليتية الواحدة، بعيداً عن التنافرات وحزازات الهويات القاتلة.

تنشئة هيباتيا المتسامحة

يحيط الكتاب الموسوعي لإدوارد واتس، بالكثير من الجوانب التي صنعت فرادة شخصية الفيلسوفة هيباتيا؛ ومنها طفولتها وتربيتها وتعليمها. إذ ينقل عن مؤرخين وباحثين أن ولادة هيباتيا من زواج فيلسوف يدعي ثيون، وزوجة لا تقل عنه مقاماً، كان أول خطوة في تربيتها لتكون فرداً فاعلاً في مجتمع النخبة. وعليه، تلقت الفتاة كل العلوم المتوافرة، في حينه، ولا سيما الفلسفة الأفلاطونية والرياضيات، والجغرافية والفلك، بدرجة أقل. وثابرت هيباتيا على تعلمها واكتسابها المعارف والكفايات حتى بلغت ما يوازي درجة الدكتوراه اليوم، بإعدادها رسائل بحثية في الفلسفة الأفلاطونية وفي شروحات كتاب المجسطي لبطليم

وفي هذا الشأن، كان للكاتب إطلالة على المكتبات الكبرى في الإسكندرية، حيث عشرات آلاف المخطوطات والكتب، وحيث أتيح لهيباتيا أن تتثقف وتزداد علماً وتبحراً من فلسفة أفلاطون، وأفلوطين وفرفوريوس وكتب الرياضيات المتقدمة وغيرها.

الفيلسوفة التي لم تهب الموت (مكتبة الإسكندرية)
الفيلسوفة التي لم تهب الموت (مكتبة الإسكندرية)

مثلما انطوى الكتاب على تفنيد ادعاء البعض بتعصب هيباتيا لوثنيتها، إذ دحض الكاتب هذا الزعم بإيراده أسماء الكثير من طلابها المسيحيين، أمثال الأرستقراطي سينيسيوس، وشقيقيه أوتروبيوس والإسكندر، والسفسطائي أثناسيوس، وأوليمبوس، وغيرهم ممن لا يتنافى معتقدهم، المفعم بالطوباوية، مع فلسفة أفلاطونية، تقوم على أشكال مجردة منبثقة من مثالات. وكان العديد من آباء الكنيسة قد وجدوا نقاطَ تلاقٍ عدة بين الأفلاطونية والمسيحية، لا سيما وأن كلتيهما تقوم على مثُل أو قيمٍ سامية مجردة. وكان من المعلوم أن الإسكندرية غدت، منذ عام 380م مدينة ذات غالبية مسيحية، إلى جانب أقلية يهودية فاعلة. ومع هذا ظلت الفلسفة، “جزءاً حيوياً من الميراث الثقافي” (ص83)، في الإسكندرية، مع بقاء الفلاسفة أكثر النخب تفكراً في واقع المدينة (إسكندرية)، وأقدرهم على توفير التواصل الفعال بين جميع فئات المدينة، تضمن عيشها بسلام، وتؤمن ازدهارها، وتعمل على نماء أفرادها بالمادة والروح. ولعل هذا ما أدركته الفيلسوفة هيباتيا، وحرصت على أن تجعل نفسها تقدمة كاملة لمدينتها الإسكندرية، فآثرت أن تبقى عزباء، بل عفيفة الجانب، حتى استشهادها، صوناً لنفسها من الرغائب والميول، عدوة الحكمة.

وههنا تجدر الإشارة إلى أن نشأة هيباتيا حصلت في خلال فترة أطلق عليها “السلام الصغير للمعابد” منتصف ثمانينيات القرن الرابع، حين فتحت المعابد الوثنية، طبعاً إلى جانب الكنائس المسيحية، والمعابد اليهودية. “وكانت فترة مواتية لتطور فلسفة غير طائفية تقدم طريقاً تأملياً للاتحاد مع الإله، من دون تحديد صريح للطابع المسيحي أو غير المسيحي لتلك القوة الإلهية”. (ص99)

تخليدها بتمثال
تخليدها بتمثال

أسطورة هيباتيا

لم يندثر ذكر هيباتيا من سجلات التاريخ، بل تعداها إلى سجلات الأدب، والفنون، والجدالات الفكرية والفلسفية، وصولاً إلى القرن العشرين، وربما بعده. ففي القرن السابع عشر، وضع المفكر الإيرلندي جون تولاند (1670-1722) رسالة عن هيباتيا، في مقالات أربع تسمى تتراديموس (وعنوانها “قتل هيباتيا من قبل القيادة المسيحية”). وكذلك فعل الأديب الفرنسي فولتير (1694-1778)، إذ أشار إليها في معجمه الفلسفي عام 1722، مقارناً مقتلها، بمقتل السيدة داسييه – لو حصل- وقد انتهت لتوها من ترجمة الإلياذة عام 1699، لسبب بسيط هو تفضيل عملها على ترجمة بيت شعري لأحد الرهبان.

ولم يكد القرن التاسع عشر يهل حتى أقبل الكاتب الإنجليزي شارلز كينغسلي (1819-1875) يعد رواية عن هيباتيا تحقق مبيعات طيبة، زمن صدورها. وأخيراً، وليس آخراً، قيام صانع الأفلام أليخاندرو آمينابار بإخراج فيلم “أغورا” عام 2009، وهو مخصص بكامله لإيفاء فيلسوفة الإسكندرية الشهيدة حقها. ولئن ألمح الكاتب إلى أن الجدال حول حيثيات مقتل هيباتيا، والمسبب الرئيس له، لا يزال مستمراً، وشديد الحمأة، بسبب يقظة العصبيات، وغلبتها على المشاعر العلمانية البانية فكرة الدولة والمدينة، فإن لموت هيباتيا أبعاداً رمزية تتخطى زمنيتها إلى آفاق تصنعها الكلمة الحرة من حرية الإنسان، رجلاً كان أم امرأة، ومن كرامته المطلقة، وعلمه.

التحول من الفلسفة إلى الدين: مقتل هيباتيا

لزمن طويل اعتبرت حادثة مقتل الفيلسوفة الإسكندرانية هيباتيا (370-415 بعد الميلاد) بمثابة نقطة “التحول من الفلسفة إلى الدين”، وبداية نزع رداء الوثنية القديم لصالح ثوب  المسيحية الجديد. لإفساح المجال أمام هذا التحول كان لابد من تدمير رموز المعتقدات القديمة، التي بالطبع كانت من ضمنها هيباتيا.هيباتيا ابنة ثيون، آخر أستاذة جامعة الإسكندرية (ذات الصلة الوثيقة بمكتبة الإسكندرية الشهيرة). ثيون عالم رياضيات نابغة انكب على نسخ كتاب “العناصر” لإقليدس وأعمال بطليموس، وبلغة يومنا الحاضر علم ابنته بالمنزل علم الرياضيات والفلسفة (ديكين في دورية ساينس/أوكهام). هيباتيا ساعدت والدها في كتابة الشروح لهذه الأعمال، ولما آن الأوان كتبت أعمالها الخاصة وحاضرت بكثافة لتصبح امرأة ذائعة الصيت في وسط ثقافي يهيمن عليه الكتاب والمفكرون الذكور.

غير أن تأثيرها على الطلبة الذكور لم يروق لرئيس أساقفة الإسكندرية كيرلس (لاحقًا القديس كيرلس) الذي رأى فيها عقبة أمام قبولهم بالمسيحية. وقد ارتاب منها كيرلس بصفة خاصة بسبب صداقتها مع المحافظ أوريستيس خوفاً من تأثيرها البالغ والخطير عليه. ويرجح الكتاب الأوائل بقوة أن يكون كيرلس هو من حرض الغوغاء على مهاجمة هيباتيا وقتلها في نهاية المطاف، ليطهر المدينة من تأثيرها الوثني النفاذ.

 

هيباتيا فيلسوفة الإسكندرية
هيباتيا فيلسوفة الإسكندرية

الإسكندرية في زمن هيباتياظلت مدينة الإسكندرية المصرية (منذ تأسيسها على يد الإسكندر الأكبر) ولزمن طويل منارة للعلم ومزاراً للفلاسفة والمفكرين من كافة أنحاء العالم القديم. كانت المكتبة الكبرى هناك تزخر بما يربو على 20.00 مخطوطة وكتاب، يقصدها المثقفون، ومعظمهم من ميسوري الحال، من كل مكان. لهذا كانت الإسكندرية مدينة وثنية مزدهرة في العام 415 بعد الميلاد، لكن سرعان ما تبدلت أحوالها خلال الخمسة عشر سنة الأخيرة من تلك الأعوام المزدهرة لتتحول إلى مدينة منقسمة يتناحر في شوارعها اليهود مع الدين المسيحي الجديد ومع الوثنيين، بينما المسيحيون بدورهم ينظمون الصفوف ويحشدون استعداداً لمعركتهم الخاصة.

في عهد الملك ثيودوسيوس الأول (379-395 بعد الميلاد) تم تجريم الممارسات الوثنية وتشجع الزعماء المسيحيون لاستئصال شأفة التأثيرات المنافية للمسيحية والسابقة للمسيحية في أحيائهم. دمرت المعابد اليهودية أو تم تحويلها إلى كنائس، ولاقت نفس مصيرها ضرائح العقائد المنافسة مثل عبادة أنتينوس الشعبية، وتعرض كل من وعظ أو درس المبادئ الوثنية للملاحقة والاضطهاد. ثم في عام 391 بعد الميلاد فرض ثيوفيلوس المسيحي الإسكندري سياسات ثيودوسيوس الأول في المدينة وأغلق المعابد، لتتفاقم التوترات أكثر بين الأحياء الوثنية والمسيحية.

أوريستيس وكيرلس

تتفق كل الروايات على أن هيباتيا كانت امرأة جميلة وعفيفة وذكية.

انعكست هذه التوترات على العلاقة بين المحافظ الوثني أوريستيس ورئيس الأساقفة المسيحي كيرلس. ومن جهته حاول أوريستيس المحافظة على السلم في المدينة بينما اتجه كيرلس إلى تحريض الغوغاء المسيحيين ضد يهود الإسكندرية، لينهبوا معابدهم وفي النهاية يطردونهم من المدينة شر طردة. وبمجرد أن فرغ المسيحيون من سحق اليهود وإسكاتهم بدرجة أو بأخرى، حولوا انتباههم ورعبهم جهة الوثنيين.

رغم ذلك بقي أوريستيس متمسكاً بعقيدته الوثنية في وجه هذا العنف المسيحي بل ووطد علاقته أكثر مع هيباتيا، التي ألقى كيرلس عليها باللائمة عن رفض أوريستيس الإذعان للعقيدة ‘الحقة‘ واعتناق المسيحية. وتصاعدت حدة التوترات بين الرجلين وأنصارهما لدرجة تنذر بالخطر، لكن كل منهما ظل على موقفه ورفض مبادرات الآخر للجنوح إلى السلم والمصالحة. كان الرجلان على قناعة تامة بصحة عقيدتيهما ورفض كل منهما حتى الاستماع لوجهة نظر الآخر. ثمة اختلاف وحيد، وهو أن أوريستيس لم تكن له مصلحة في إيذاء أو قتل الآخرين لنشر عقيدته الدينية بينما شعر كيرلس أن العنف كان مبرراً لإعلاء كلمة الله بين البشر.

هيباتيا فيلسوفة الإسكندرية
هيباتيا فيلسوفة الإسكندرية

هيباتياتعصب كيرلس، الذي قلده فيه أتباعه، سيسفر في النهاية عن مقتل هابيتيا في مشهد مأسوي بشع. كانت هابيتيا مشهورة ومحبوبة وسط الوثنيين والمسيحيين لكن إصرارها على استعمال العقل وما قد نسميها بلغة اليوم “المنهجية العلمية” في كل الأمور استفز قناعة كيرلس بمدى خطورة تأثيرها والتهديد الذي تمثله للمسيحية. وعن ذلك يقول العلامة مانجاساريان:

كانت هيباتيا امرأة ذات موهبة لافتة، والنموذج الذي تجسده يظهر كيف تستطيع الإرادة القوية تذليل كل الصعوبات. ولأنها فتاة، وممنوعة على خلفية تقاليد ذلك الزمان من الاشتغال بالأنشطة الذهنية، كان بمقدورها التعلل بحجج كثيرة للنأي بنفسها عن ويلات الفلسفة وتركها لأصحاب العقول الأكثر حرية ورزانة من الرجال. لكنها كانت مسكونة بروح شغوفة بمخاطر الحياة العقلية، وهو ما ساعدها في التغلب على كل عقبة اعترضت طريقها. (4)

راشيل وايز تجسد دور هيباتيا الإسكندرانية
راشيل وايز تجسد دور هيباتيا الإسكندرانية

تتفق كل الروايات على أن هيباتيا كانت امرأة جميلة وعفيفة وذكية. حتى خصومها، والمدافعون المتأخرون عن كيرلس، اعترفوا أنها كانت فيلسوفة فاضلة وحكيمة ونبيلة. واعتبرها المؤرخ الشهير ويل ديورانت “الشخصية الأبرز في العلم في ذلك العصر”، مضيفاً أنها “كانت مفتونة بحب الفلسفة لدرجة أنها كانت تتوقف في الشوارع وتشرح، لكل من يسألها، النقاط الصعبة في أفلاطون أو أرسطو” (ديورانت، 122). لكن، في المقابل، كان ثمة من له رأي آخر في الفيلسوفة نفسها:

وفي تلك الأيام ظهرت في الإسكندرية فيلسوفة أنثى، وثنية تدعى هيباتيا، وكانت تكرس كل وقتها للسحر والشعوذة ومجون الموسيقى، وغررت بالكثيرين من خلال حيلها الشيطانية. وكان محافظ المدينة [أوريستيس] يجلها كثيراً، لأنها غررت به بسحرها. فتوقف عن حضور الصلاة في الكنيسة كعادته…. ولم يكتفي بذلك، بل سحب معه مؤمنين كثر إليها، وهو نفسه كان يستقبل المشركين في بيته (تشارلز، LXXXIV.87-88).

لا يعنينا أن هذا التقرير عن السحر والحيل الشيطانية لم يكن صحيحاً، ولا أن أوريستيس كان وثنياً، لا مسيحياً، ولا يعنينا ما تمتعت به هيباتيا من نبل وفضيلة. في أحد الأيام من سنة 415 بعد الميلاد، “بينما كانت هيباتيا عائدة إلى بيتها هاجمتها [ثلة من الغوغاء المسيحيين] أخرجوها بالقوة من عربتها وجروها إلى كنيسة، حيث جردت من ثيابها ورجمت بالحجارة حتى الموت، ‘وبينما كان جسدها الهزيل لا يزال ينبض بالحياة، فقعوا لها عينيها واقتلعوهما من مكانهما‘. ثم بنشوة جنونية مزقوا لها أعضائها من جسدها ولملموا الفتات المتناثر إلى خارج الكنيسة، وأحرقوه” (ديكين في دورية ساينس/أوكهام)

ويضيف مانجاساريان

يحكي بعض المؤرخين أن الرهبان طلبوا منها تقبيل الصليب واعتناق المسيحية والالتحاق بالراهبات، إذا أرادت إنقاذ حياتها. لكنهم على أية حال، تنفيذاً لتعليمات الذراع الأيمن للقديس كيرلس، بيتر زا ريدر، جردوها من ثيابها بطريقة مخزية وهناك، بجوار المحراب والصليب، كحتوا لحمها المرتعش من عظامها بأصداف المحار، ليكتسي رخام أرضية الكنيسة حمرة خجلاً من دمائها المراقة، ويدمي لها المحراب والصليب من شدة العنف الذي مزقت به أعضائها، بينما أيادي الرهبان المخضبة ممدودة في مشهد يأبى على الوصف لفظاعته. (8)

 

Hypatia
هيباتيا

العاقبة

يذكر ديورانت ومعه كتاب آخرون كثر أنه عقب وفاتها حدث نزوح جماعي من المدينة. “بعد مقتل هيباتيا بحث أساتذة الفلسفة الوثنيون عن الأمن في أثينا، حيث كان التدريس غير المسيحي … يتمتع بحرية نسبية” (ديورانت، 123). ولم تقتصر موجة النزوح من مدينة الإسكندرية على الفلاسفة فقط، بل شملت كل المثقفين. وتحكي بعض المصادر عن تدمير معبد سيرابيس في ذلك الوقت (كان عم كيرلس، ثيوفيلوس، هو من دشن عملية تدمير السيرابيوم وأشرف على تنفيذها إلى حد كبير قبل نحو 25 سنة)، وإحراق المكتبة الكبرى والجامعة بكل ما حوته رفوفها من مخطوطات (مانجاساريان).

تصالح أوريستيس مع كيرلس وتحول إلى المسيحية، ليضع نهاية لحرب الشوارع المشتعلة بمدينة الإسكندرية بين أنصارهما. ولم يُتهم كيرلس نفسه قط بقتل هيباتيا لكن، وفقاً لتابعه المخلص جون نيكيو: “[بعد مقتل هيباتيا] أذعن كل الناس للبطريرك كيرلس وأطلقوا عليه اسم ‘ثيوفيلوس الجديد‘؛ لأنه قضى على آخر بقايا الشرك والوثنية في المدينة” (ديكين في دورية ساينس/أوكهام). وفي النهاية تحول كيرلس إلى قديس وأصبحت الإسكندرية مركزاً مهماً للعقيدة المسيحية. هكذا وكما يقول ديورانت، اكتمل “الانتقال من الفلسفة إلى الدين، من أفلاطون إلى المسيح”؛ أو على الأقل يمكن تأكيد ذلك في الإسكندرية بعد مقتل هيباتيا.

هيباتيا فيلسوفة الإسكندرية
هيباتيا فيلسوفة الإسكندرية

المعلومات عن هيباتيا جدّ شحيحة تقتصر على إشارات عابرة من جانب بعض اللاهوتيّين المسيحيّين؛ أهمّها سبع رسائل موجَّهة إلى هيباتيا كتبها رجل الدين المسيحي الليبي سينسيوس القوريني (370 – 412م) عندما كان من أتباع الأفلاطونية المحدثة وتلميذاً لها، قبل أن يعتنق المسيحية. واللافت أنّ هذا المطران المسيحي بقي على احترامه لمعلّمته “الوثنية” وذكرها في رسائل أُخرى؛ منها رسالته القصيرة عن “الهدية”، وهي عبارة عن كرة فضّية تُجسّد حركات الكرة الأرضية قدّمها لضابط بيزنطي يُدعى بايونيوس.

كما تناولها بشكل عابر المؤرخ الكنسي الشهير سقراط سكولاستيكوس القسطنطيني (380 – 439م)، والذي تحدّث عنها باختصار، ولكن بشيء من الاحترام، وأدان قتلتها واعتبرهم لا يمثّلون المسيحية، وقد عُدّت شهادتُه مادّة للدفاع عن المسيحية في فترات لاحقة. وتناول قصّتَها أيضاً المؤرّخ الكنسي القبطي يوحنا النقيوسي، من أبناء القرن السابع الميلادي، ولكن من منطلق أنها كانت تستحق الموت، مؤيّداً خصومها.

غير أنّ المصدر الأهمّ حول قصّة هيباتيا هو ذلك الذي كتبه الفيلسوف الدمشقي داماسكيوس (458 – 538م)، في تاريخه الفلسفي الذي جرى إنقاذ أجزاء منه، من ضمنها شذرات في موسوعة “سودا” الرومية من القرن العاشر الميلادي.

هيباتيا فيلسوفة الإسكندرية
هيباتيا فيلسوفة الإسكندرية

عالمة فلك ورياضيات

يقول داماسكيوس: “هيباتيا؛ وُلدت وترعرعت وتعلّمت في الإسكندرية، وكونها موهوبةٌ بطبيعة أنبل من أبيها، لم ترض عن التعليم الرياضي الذي قدّمه لها أبوها. ولكنّها أشغلت نفسها بالتميّز في الفروع الأُخرى للفلسفة”.

إذن، كانت هيباتيا عالمة فلك ورياضيات تتلمذت على يد والدها ثيون السكندري (335 – 405م)، آخر العلماء الذين جرت تسميتهم على رأس مكتبة الإسكندرية، وهي منشأة بحثية مشهورة كانت تحظى بدعم وتمويل السلطات الرسمية. ويبدو أنّها تعلّمت من والدها الرياضيات والفلك، ولكنّها تفوقت عليه بالفلسفة، كما يقول داماسكيوس.

هيباتيا فيلسوفة الإسكندرية
هيباتيا فيلسوفة الإسكندرية

وإذ يُشير المؤرّخ الكنسي سقراط سكولاستيكوس إلى أنّ الراغبين بالاستماع إليها أتوا من كلّ مكان، ثمّةَ تأكيداتٌ بأنّ بعض طلّابها كانوا مسيحيّين، وأشهرهم سينسيوس القوريني، الذي درس على يديها الفلسفة وعلم الفلك في العقد الأخير من القرن الرابع الميلادي. ويقول داماسكيوس: “وإذ لفّت نفسها برداء الفلاسفة، انطلقت في البلدة تفسّر أعمال أفلاطون وأرسطو أو أي فيلسوف آخر لمن أراد أن يستمع. وكونها أيضاً معلّمة موهوبة فقد بلغت ذروة الفضائل الأخلاقية، فكانت عادلة وحصيفة”.

ويرى بعض الدارسين المعاصرين بأنّ إشارة داماسكيوس هذه مثيرة للجدل، وتحمل معنى فيه انتقاص من هيباتيا، فهو يقول إنّها لم تشغل منصباً أكاديمياً مموّلاً من السلطات الرسمية. وقرأ بعض الدارسين صياغة الفيلسوف الدمشقي لجملة أنها “كانت تفسّر أعمال أفلاطون وأرسطو أو أي فيلسوف آخر لمن أراد أن يستمع” بأنها صياغة تنطوي على السخرية، كما رأوا أنّ عبارة “رداء الفلاسفة” تنطوي أيضاً على سخرية مرّة. وقد استنتج هؤلاء الدارسون بأن داماسكيوس كان يرفض ظهور هيباتيا العلني، وأنّه كان ضد تدريس الفلسفة في الأماكن العامّة، لأنّه ينبغي أن يكون نخبوياً للطلّاب المؤهّلين بشكل مناسب.

هيباتيا في مكتبة الاسكندرية
هيباتيا في مكتبة الاسكندرية

قراءةٌ مُعاصرة

لكن هذه القراءة المعاصرة لا تنسجم بأي شكل من الأشكال مع رأي داماسكيوس الذي أشاد بها في أكثر من مناسبة، وعدّها متميّزة في الفلك والرياضيات والفلسفة، وأنّها بلغت ذروة الفضيلة. وربما استندت استنتاجات الدارسين المعاصرين إلى حقيقة أنّ هيباتيا كانت تُعطي تلاميذها تعليمات سرّية مخصَّصة لدائرة أضيق من الطلّاب. وهذا ما لمسناه في رسائل تلميذها سينسيوس القوريني، الذي يذكِّر صديقه وزميله هيركوليانوس بالوصية السرّية لمعلّمتهما عدّة مرّات، ويتّهم هيركوليانوس بعدم الاحتفاظ بها. وهو أمر يتناقض مع ما جاء عند داماسكيوس كما يرون.

وبالإضافة إلى ذلك، ثمّة إشارة لدى المؤرّخ الكنسي سقراط سكولاستيكوس إلى أنّها كانت موظّفة حكومية، وأنّها كانت تظهر بصحبة كبار المسؤولين، وتنتمي لدائرة الحكم. وأيضاً رأى الدارسون المعاصرون بأنّ هذه الإشارة تدحض رأي داماسكيوس المتحامل على الفيلسوفة.

ورغم أنّ بعض المصادر تتحدث عن أنها تزوجت الفيلسوف إيزيدور السكندري، معلّم الفيلسوف الدمشقي الذي ألف كتاباً عن سيرته الفلسفية، يؤكّد داماسكيوس بأنّها: “بقيت عذراء، ولكنّها كانت جميلة وجذّابة بشكل لافت، فوقع في حبّها أحد طلّابها، وكونه لم يتمالك مشاعره، فقد باح بحبّه لها. ويحكي الجهلة عن أسطورة بأنّ هيباتيا قد عالجته من مرضه بالموسيقى، ولكن في الحقيقة أنها وعند فشل الموسيقى بالعلاج، قدّمت له فوطة ممّا تستعمله النساء ملوّثة بالدم، عارضة أمامه رمز حيض الولادة، فقالت له: هذا هو ما أنت واقع في حبّه يا فتى، وليس بالشيء الجميل. فاجتاح الخزي والاندهاش روحه من المنظر الصادم، فتبنّى موقفاً أكثر عقلانيةً”.

الندّاهة

ثمّة إشارة غير مفهومة في نص داماسكيوس حول تشبيه هيباتيا بـ”الندّاهة”، والنداهة معروفة في مصر حتى اليوم بوصفها مخلوقاً من الجنّ يخيفون به الأطفال. ولكنّه يعود ليقول: “وعلى اعتبار هيباتيا كانت من هذه الطبيعة، ماهرة وفصيحة في الخطاب، حكيمة ومحنّكة في السلوك، فقد أحبّتها كلّ المدينة واحترمها الجميع احتراماً استثنائياً، وقدّمت السلطات احترامها لها بالدرجة الأُولى، كما كانت العادة في أثينا. حتى إذا كانت الفلسفة بذاتها قد ماتت فقد كان اسمها بحدّ ذاته يستحق الاحترام والإعجاب من قبل القائمين على المدينة”.

الصورة
مكتبة الإسكندرية - القسم الثقافيالافلاطونية المحدثة
رسم لمكتبة الإسكندرية القديمة (Getty)

كانت شقّة الخلاف تتّسع بين الأفلاطونية المحدثة والمسيحية، وكان ثمّة تناقُضٌ جوهري من الصعب جسره؛ إذ باستثناء سينسيوس القوريني، الذي كان مسيحياً وأفلاطونياً محدثاً في الآن نفسه، نجد أن تكفير الفلاسفة من جانب المسيحيّين كان سمة المرحلة، إذ كانت ممارسات الأفلاطونيّين المحدثين السرانية، بما فيها طقوس تلقّي الوحي عن الآلهة، تُعدّ من وجهة نظر مسيحية شعوذة وعبادة للأصنام وتعازيم شيطانية. ولم يكن المسيحيون الراديكاليون على استعداد للتغاضي عن مثل هذه الممارسات، معتبرين أنّها استخدامات خبيثة للسحر.

وقد أسفرت أعمال الشغب والصدام بين الطرفين إلى سقوط ضحايا، إضافة إلى تدمير معبد السيرابيوم على يد البطريرك ثيوفيلوس السكندري (330 – 412م)، وبناء كنيسة على اسم يوحنا المعمدان في المكان نفسه. حيث ترافق ذلك بانحسار أتباع الفلسفات الهلنستية في معازل لهم داخل الإسكندرية، حاولوا خلالها أن يوحّدوا أنفسهم ضمن فلسفة توفيقية جمعت الأفلاطونية المحدثة، مع الفيثاغورسية، مع الأرسطية، واستبعدوا كلّياً التعاليم الأبيقورية بسبب ماديتها وتمجيدها للغرائز الدنيوية.

نقطة تحوُّل

نقطة التحوّل في هذا الصراع حدثت عندما وصل كيرلس السكندري (376 – 444م)، إلى سدّة البطريركية عام 412م خلفاً لخاله ثيوفيلوس، فواصل مسيرة الجهاد الديني بعدما شكّل مليشيا من رهبان الصحراء، زاد عدد أفرادها على الخمسمئة. وكانت فاتحة جهاده تصعيد التوتّر مع يهود المدينة، وصولاً إلى شنّ هجوم شامل أدّى في ما أدّى إليه إلى إحراق بيوتهم ومعابدهم، وتهجيرهم خارج الإسكندرية، بحسب رواية المؤرّخ يوحنا النقيوسي.

وبعدما فرغ من اليهود، انتقل البطريرك كيرلس للهجوم على هيباتيا التي كانت هدفاً مناسباً له، كونها الشخصية الأبرز في الجماعة الهلنستية التي تُسمّى بحسب الأدبيات المسيحية بالجماعة الوثنية. وبدأت الشائعات تنتشر بأنّها تعمل مستشارة لمحافظ المدينة أوريستس، وبأنّها كانت تحرّضه ضد المسيحيّين.

ويتحدّث داماسكيوس عن دافع مباشر للجريمة قائلاً: “حصل في أحد الأيام أن قام كيرلس، وهو الشخص المسؤول عن طائفة مضادّة (يقصد المسيحيّين) بالمرور أمام منزل هيباتيا، فوجد تجمّعاً كبيراً أمام الباب، خليط من الرجال والأحصنة. البعض قادم والبعض غادٍ والبعض الآخر يقف جانباً، وعندما سأل عمّا يجتمع له الناس، أجابه مرافقوه بأنّهم يقدّمون فروض الاحترام للفيلسوفة هيباتيا كونه منزلها. عندما سمع ذلك احتقنت الغيرة في روحه لدرجة أنّه قرّر التخطيط لقتلها، وكانت أنجس جريمة على الإطلاق”.

وحول تفاصيل الجريمة يقول: “عندما غادرت منزلها كالمعتاد، هاجمها ثلّة من الرجال، المقيتين فعلاً، من أولئك الذين لا يلقون حساباً للعقاب الإلهي أو للانتقام البشري، فقاموا بقتل الفيلسوفة. وفيما كانت تحشرج استجداءً للهواء، اقتلعوا مقلتيها، فكانت بذلك أشنع نجاسة وعار ارتُكب في المدينة”.

تفاصيل الجريمة

يذكر المؤرّخ سقراط سكولاستيكوس تفاصيل محدَّدة، واسم قائد الهجوم، وكان يُدعى بطرس، ويحمل رتبة قاض في الكنيسة، نصب لها كميناً هو ومجموعته، وقبضوا عليها واقتادوها إلى كنيسة قيصرون، وجرّدوها من ملابسها وقتلوها “بشظايا البلاط المحطّمة”، ثم قطَّعوا الجثة، وأخذوا أجزاءها إلى مكان يُدعى كينارون وأحرقوها هناك.

وتتّفق رواية يوحنا النقيوسي مع رواية سقراط سكولاستيكوس من حيث تسلسل الأحداث، ولا تختلف عنها إلّا قليلاً في التفاصيل. وبحسب قوله: “اقتيدت هيباتيا إلى كنيسة قيصرون، لكنّها لم تُقتل هناك، بل جرى سحلُها عاريةً في شوارع المدينة قبل أن يحرقوها”. ويقول النقيوسي: “كان كلّ الشعب يحيط بالبطريرك كيرلس ويسمّونه ثيوفيلوس الجديد لأنه أزال باقي الأوثان من المدينة”.

كانت الجريمة صعبة على محافظ المدينة أوريستس، فقد شعر بأنها استهدفته شخصياً، إذ لم يستطع حماية الفيلسوفة التي كان ينظر إليها بأنّها صديقته، ولذلك سعى إلى معاقبة الجناة، ورفع دعوى قضائية ضدّهم، ولكن من دون نتائج تُذكَر.

ويقول داماسكيوس إنّ القضاة والشهود تلقّوا رشوة. وبعد ذلك توجّهت سفارة من البطريرك إلى بلاط الإمبراطور ثيودوسيوس الثاني في القسطنطينية لوصف الأحداث هناك من وجهة نظر كيرلس. وبعد عام ونصف العام على الجريمة، تمكّن معارضو البطريرك من توجيه ضربة قاسية له، وأكّدوا قوّتهم في القسطنطينية، إذ صدرت مراسيم إمبراطورية في شهرَي أيلول/ وتشرين الأوّل/  416م على أنّه لن يُسمح بعد الآن بإرسال بعثات مستقبلية إلى الإمبراطور لتجاوز المحافظ، وأنّ مليشيا البطريرك سيجري تقييدها، ومن ثمّ ستوضع تحت سيطرة المحافظ. وبناءً على ذلك، فقدت هذه القوّة صفة المليشيا التي يمكن للبطريرك أن يستخدمها متى شاء، بل ويستخدمها ضدّ المحافظ نفسه. ومع ذلك، فإنّ هذه الإجراءات الإمبراطورية لم تدُم طويلاً، حيث تمكّن البطريرك كيرلس من استعادة قيادة اتباعه عام 418م.

مثال_لهيباتيا_السكندرية_في_ساحة_الماسة،_العاصمة_الإدارية_الجديدة،_مصر
تمثال_لهيباتيا_السكندرية_في_ساحة_الماسة،_العاصمة_الإدارية_الجديدة،_مصر

المؤلَّفات والمدرسة

يجادل بعض الدارسين المعاصرين حول المدرسة الفلسفية التي كانت هيباتيا تتبع لها، ولنا في رواية داماسكيوس حول تدريسها لفلسفة أفلاطون وأرسطو وغيرهما دليلاً على أنّها كانت من الفلاسفة التوفيقيين المنهمكين بتوحيد الاتجاهات الفلسفية المختلفة باستثناء الأبيقورية، رغم أنها كانت من أتباع الأفلاطونية المحدثة كما يقول سقراط سكولاستيكوس. وثمّة من يذهب إلى أنّها كانت تحديداً من أتباع يمليخوس، أي أنّها كانت تمارس طقوساً سرانية، في حين ظهرت دراسات أكّدت أنها من أتباع بوفيريوس الذي كان يرى أنّ خلاص الروح لا يتمّ من خلال الطقوس، بل من خلال الجهود الفردية والسعي الروحي للمعرفة.

وتنسب موسوعة “سودا” الرومية إلى هيباتيا العديد من الأعمال ذات الطبيعة الرياضية أو الفلكية، مثل: “تعليق على كتاب علم الحساب” لديوفانتوس السكندري من أبناء القرن الثالث الميلاد، و”تعليق على كتاب القطوع المخروطية” لأبولونيوس البرغاوي (262 – 190 ق.م)، وأطروحة بعنوان “القانون الفلكي”.

والآن لا يوجد كتاب محدَّد يمكن أن يُنسَب إلى هيباتيا، ومع ذلك يذكر والدها ثيون في أقدم مخطوطة من شرحه لكتاب المجسطي لبطليموس، أنّها نسخة “جرت مراجعتها من قبل ابنتي الفيلسوفة هيباتيا”، ومن غير الواضح ما إذا كان هذا يعني أنّها تحقّقت من نصّ مخطوطة المجسطي، التي استخدمها ثيون لكتابة شرحه بحثاً عن أخطاء، أم أنّها اكتفت بتصحيح النص ومراجعته.

هيباتيا في تعليمها للتلاميذ في مكتبة الاسكندرية
هيباتيا في تعليمها للتلاميذ في مكتبة الاسكندرية

موضوعٌ للتجاذب الفكري

منذ مقتلها المأساوي، تحوّلت قضية هيباتيا إلى موضوع للتجاذب بين التيارات الفكرية التقليدية والإصلاحية، وقد كانت تلك القضية إحدى الحجج التي لطالما ردّدها الأريوسيون حول تعسّف الكنيسة الرسمية. كما استعادت الكنيسة البروتستانتية قضية هيباتيا للحديث عن إجرام البطريرك كيرلس من منظور الصراع بين البروتستانت والكاثوليك في القرنين السابع عشر والثامن عشر. ولم يغفل عنها مفكّرو وأدباء عصر الأنوار، وخصوصاً فولتير، إذ وظّفوا قضية هيباتيا كأنموذج معبّر عن الصراع بين العقل والتنوير من جهة، وبين الدين ورجاله من جهة أُخرى. وعلى صعيد مناقض، ظهرت دراسات وأبحاث من أتباع الكنائس المختلفة، بما فيها الكنيسة الإنجيلية، حاولت تبرير سلوك البطريرك كيرلس بدعوى وثنية هيباتيا وسلوكها الوقح.

ومع ظهور الفكر النسوي المعاصر، عُدّت هيباتيا ضحية للعقلية الذكورية التي كانت ترفض فكرة وجود فيلسوفة أنثى، ومثالاً على تفوّق المرأة من الناحية الفكرية، حيث استندت وجهة النظر هذه إلى تلك الإشارة التي تحدّثت عن تفوّقها في الرياضيات والفلك على والدها. وحتى الأدب والفن وجدا في قصّتها موضوعاً مغرياً، فقد رُسمت العديد من اللوحات التي تمثّل قتلها والتمثيل بجثّتها، وجرى تأليف القطع الموسيقية حول مأساتها، وظهرت عشرات الأعمال الأدبية المكرّسة لقصتها، وليس آخرها رواية يوسف زيدان “عزازيل”، كما أُنتج عنها فيلم سينمائي، وأُطلق اسمها على كويكب جرى رصده في 1 تمّوز 1884 من قبل فيكتور كنوري في مرصد برلين. وثمّة حفرة قمرية تحمل اسمها.

هيباتيا في مكتبة الاسكندرية
هيباتيا في مكتبة الاسكندرية

 

مراجع

ويكيبيديا

اندبيندت عربية

انطون ابو زيد

تيسير خلف

ضفة ثالثة

 

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *