لقمة اليتيم المرة…
جلس الصبي الذي ناهز العشر سنوات من عمره لطعام الغداء مع عمه وولي أمره وزوجته الكهلة التي كانت تصب نظرها، على الصبي الصامت الشاحب الوجه، النحيل الجسم، وكان الطعام شهياً لكن الصبي فاتر النفس، الحائر النظرات، كان يمضغ لقمته بضيق وملل، ويحس بصعوبة في بلعها، فإذا شغل الزوجان بالحديث حاول ان يدس لقمته تحت رغيفه أو كرسيهن لولا ان امرأة عمه كانت بين فترة وفترة تلحظ حيرته ولا تحول نظرها عنهن فلما رأته يأكل غصباً وتخوفاً سألته:
– ألا يعجبك هذا الطعام؟ لقد حيرتني بأكلك…!
فرفع الصبي رأسه صامتاً واجماً، وأدار عينيه الذابلتين في وجه المرأة الضخمة التي ألحت عليه بالأكل…
كان يعلم أنها كاذبة في إشفاقها عليه، فهي السبب في إقصائه عن أمه، تخفي الحقد والكراهية له…!
وهو يعلم انها لو تسنى لها ان تركه جائعاً، لما قصَّرتْ.
لم يتحرك الصبي او يتكلم وبقي يلوك طعامه وكأنه يلوك من لحمه تحت أضراسه…
التفتت الى عمه الذي كان يلتهم الطعام بشراهة، وزجره بنظرة ساخطة وأغلظ له في اللوم والتقريع… وهي ما انفك مرجل حقدها يغلي في صدرها على الصبي، بينما قام العم البدين عن كرسيه، عندها وجد الصبي خلاصاً فقام مُطرقاً يضم شفتيه الصغيرتين…
فقالت امرأة عمه بسخريةوهي تنظر اليه:
– ياعيني، تكلم… مابك هل خرست ام أكل القط لسانك لم لاترد ياولد؟؟؟
كان الصبي هكذا يكاد كل مرة لا يتناول من طعامه الا القليل القليل، وهو ينتظر سماع هذا الموشح من هذه المرأة الباغية الى أن يذهب الى فراشه لينام، وهو يشعر في أكثر الليالي أن بطنه يقرقر من الجوع، وكان الهزال يأخذ منه حتى يوم الخميس فيتحول الى ولد آخر، يتنقل بخفة ويقل صمته وهمسه، فيأتي الى عمه الذي يكون عصر ذلك النهار متأهباً للخروج الى مقهى الحي القريب، فيأخذ الصبي يد عمه ويقبلها ببشاشة، ويصافح يد زوجته برياء، وهو يكرهها، ثم يلتفت صوب الباب منطلقاً الى البيت الذي فيه تقيم أمه، ولم يكن بعيداً، فهو في الزقاق الذي يفصل بين بيت عمه حيث يقيم ومدرسته…
أما امه فتفتح الباب، وتطل برأسها الملفف بالغطاء الأبيض نحو الطريق الذي يأتي منه كل خميس، فإذا أشرف الصبي من المنعطف، تهلل وجهها وتخطفه قلبها الذي احسته كأنه الباب فتح على مصراعيه ليتلقاه، فتضمه الى صدرها وتملأ خديه ورأسه بقبلاتها، ثم يأخذ بيدها الى دار أهلها وكانت تسكن عندهم، فإذا أقبل عليهم بالتحية والابتسامة وانطلق بمؤانسته الواعية، أحست أمه أن الدار تضحك في ذلك المساء، ورأت أولاد أخيها يحتفلون به وينتظرونه بشوق ليشاركهم في اللعب والطعام والفسحة يوم الجمعة، فلا تسمعها الدار على رحبها من فرحتها.
ويتلفت بين هنيهة وهنيهة من كلامه من لداته من أهل أمه ليطل على المطبخ الواسع الذي تفوح منه رائحة الطعام، فتنفتح نفسه وينسل الى والدته التي تساعد امرأة أخيها في إعداد المائدة للعشاء، فيشد بيدها ويقبلها برقة وحنان، فإذا نظرت الى هزال جسمه وقد ناهز العاشرة، دعت على نفسها ودمعت عيناها ثم صبت في سمعه همساً تبسم له وجهه وابتهل قلبه، ورفع الاثنان رأسيهما الى السماء متمتين بدعاء ورجاء…
على ان الصبي كان يأبى ان يأكل مع الكبار، فينضم الى أولاد خاله في طعامهم، ويلتهم اللقمة بعد اللقمة من الخبز الذي كان يحبه، مجارياً رفاقه في الضحك والكلام على المدرسة حتى ينهض شبعان مردداً كلمات عمه:
“الحمد لله، كفاها الله…”
فتسمعه أمه ضاحكة الوجه والقلب، وتلح عليه بالزيادة فلا يقبل، ويتعطف أهلها عليها، وهم يرونها سعيدة بوحيدها، وهو ملتصق بها، فإذا انسحب صوب الأولاد لحظات عاد اليها ممرغاً خديه بكفيها وصدرها وينام في تلك الليلة عندها مشمولاً بعنايتها حتى يصبح السبت ويستيقظ باكراً ليرتد الى بيت عمه، فتتلقاه المرأة الضخمة المترهلة بسخريتها، إذ تراه مشرق الوجه مرح الخطوات، فلا يتبين ذلك عمه الذي يكون إذ ذاك مشغولاً بجمع اوراقه ليحملها الى الشركة التي يعمل فيها محاسباً، وإنما تلحظه زوجته الغاشمة التي تلح على الولد الصامت المتخوف ان يستعجل للمدرسة فقد أعدت له طعامه الا يوم الثلاثاء فإنه لايأخذ غداءه بل يكون معللاً نفسه بطعام طيب يتناوله أمام رفاقه، فيمضي الى المدرسة متمهلاً متلفتاً خلفه، ولا يطول قلقه ودورانه فان امراة ربعة محتشمة في الأربعين من عمرها تمشي على استحياء، وتتحاشى أن يلقاها الجيران في طريقها اليه، تقبل عليه بشوق ولهفة ثم تقف بجانبه وكانها في سمتها ووقارها بنت الستين، وهي لم تتجاوز الأربعين، فقد ألقى الحزن المبكر على ملامحها وردائها ظلالاً من الكمد والحداد.
كانت أمه تمسح على خدي ولدها بأناملها، ثم تفتح كيس أوراقه وكتبه فتجد لفافة خفيفاً تضم رغيفاً جافاً تجمعت فيه بعض حبات من الزيتون الأخضر والأسود، وقد دستها امرأة عمه بين دفاتره، ولا يتكلم الولد وأمه، وانما تتلاقى أعينهما عند الرغيف واللفافة، ثم تمس الأم لفافة ثانية فيها أقراص من لحم وحلوى مجففة، ثم تمس كتفه وتدفعه برفق وحنان فيمضي متلفتاً خلفه، متلمساً قروشه في جيبه حتى يصل الى المدرسة قبيل الموعد.
كان صباح الثلاثاء موعداً للقاء أمه في الطريق، إذ كانت لا تصبر على فراقه اسبوعاً فتتمهل في خطاها نحو منعطف قريب حتى يقبل عليها أو تقبل عليه وتعطيه ماتيسر لها من قروش يفرح بها او طعام يحبه، وقد راعها أن تأتي كعادتها في الصباح الباكر ولا تلقاه، فأخذت تتفرس في وجوه التلاميذ المتزاحمين في طريقهم الى الباب الكبير، ولما انقطع صوت وصولهم وبدأ الدرس سألت امه بواب المدرسة وكان يعرفها:
– أين ابني؟ هل رأيته؟ أرجو أن تسال عنه رفاقه…
وغاب البواب قليلاً ثم عاد اليها وقال:
– يظهر أنه غائب، سألت عنه المراقب والمعلم…
وما كانت الأم الملهوفة تسمع هذا الجواب حتى ارتدت من حيث جاءت، وكانت تسارع في درب ضيق طويل، قلق الحجارة حتى وصلت الى الحي القريب، ووقفت بباب بيت عم ابنها حيث يقيم…
كانت الأم الملهوفة تخشى ان تدق الباب وتفتحه المرأة الضخمة الفحلة التي حرمتها الحياة مع ابنها، فأخذت تجمع شجاعتها، وتصغي الى الصوت الذي كان يزعق من بعيد، فانتظرت حتى هدأ الصوت وغاب، وقد أبت أن تعود خائبة مضطربة، فتأهبت من جديد لطرق الباب، وأمسكت بحلقة واسعة وكأنها جمرة من نار، وجعلت تدق الباب ووقفت بجسمها الممتلىء الرهل ووجهها المتهدل الخدين المكحول العينين، وكأنها بنظراتها المبهوتة تقول لمن وقفت وجهاً لوجه أمامها وكانت ترفض لقاءها:
– ماذا تريدين في هذا الصباح؟
كان عبوسها لا يشجع الأم الملهوفة ولا يدعوها للدخول. لكن الأم لم تدر كيف تكلفت الهدوء وسألتها:
– اين ولدي؟ قلبي يقول انه مريض…
فأجابتها سلفتها بجفاء:
– يافتاح ياعليم، الولد مزكوم من يومين…
ولا تحس الأم القلقة إلا ان قدميها تتخطيان العتبة وقد أزاحت بمنكبها الهزيل منكب المرأة الضخمة، وقالت لها:
– أريد أن أراه، اين هو؟
وصعدت في درجات السلم الخشبي مستعجلة قلقة، ولو لم تمسك بمقبض الحائط حين بلغت أعلى السلم لهوت الى أسفله، فإن رجليها كانتا تهتزان كالقصب الواعي تحت قدميها المضطربتين.
دخلت الغرفة وهي تسترد أنفاسها فوجدت ولدها مستلقياً على فراش رقيق وعليه لحاف خفيف، فلما سمع ابنها صوت امه فتح عينيه، ورفع رأسه عن المخدة، وقال لها:
– لاتخافي يا امي، أنا اليوم احسن من الأمس…
– هل تسعل؟
– قلت لاتخافي، هي تسمعنا…
فلمست الأم يده وخديه وأحست لهيباً، لكن أنامله كانت باردة، وقد ألح عليها بكأس ماء، فإن حلقه جاف، كان كالمحموم يرتعش ويشكو الصداع فقال لأمه هامساً:
– اريد أن تبقى معي… لكني…
وماكاد ينطق باسم امرأة عمه التي تكرهه حتى دخل عمه، ورحب بأم اليتيم وقد عطف قلبه على الاثنين، فحنا على الضيفة الخائفة ودعاها للبقاء الى جنب ولدها حتى يشفى،تغسل ثيابه وتسقيه الدواء والحساء وتنام عنده.
ولم تمض ايام معدودة حتى أخذت الأم تقدم لولدها الخبز الذي كان يحبه عند أهلها، فيأكله من يدها فتاتاً بالحليب ويأكله من غير أدام فيحسه شهي المذاق طيب الطعم وتعجب المرأة الضخمة المتعضة إذ راته يلتهم اللقمة بعد اللقمة في غير مهلة ولا فتور، فتحط على عينه سؤالها…
– أراك تأكل الخبز، ولا تدسه بعد تفتيته تحت الرغيف أو الوعاء؟
فرفع الولد الى ظالمته عينين فارقهما الذبول ولاحت فيهما الطمأنينة، وأخذ ينظر الى أمه، وقد تجلد وأراد أن يكون شجاعاً فقال لها:
– كنت كلما ذقت الخبز لا استطيع أن أبلعه…
فأجابته المرأة الضخمة متهكمة ناقمة:
– كيف تأكله اليوم وتبلعه بشهية؟
فسبقته أمه الى الكلام، وقالت للظالمة العقيم:
– لا تأكل الا العافية، ولا تنسي أن لقمة اليتيم مرة…
(وداد سكاكيني: “اقوى من السنين”، مجموعة قصصية)
(بتصرف…)