في إشراقه نصف الليل للألفين و خمس عشرة سنة خلت، حل “ملء الزمان” و قَدِمَ كلمة الله الى ارضنا “مولوداً من عذراء .. مولوداً تحت الناموس، ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني…”
صارت لنا العذراء أرضاً مباركة فقبلت طلّا به ترطبت يبوسة جنسنا الذي كان قد شاخ…”
غدت لنا العذراء الطاهرة مريم أرضاً صالحة في البتولية ومنها تناولنا خبز الحياة الذي به شبعنا بعد جوع مزمن…

وقد أنبتته العذراء بدون بذار، إذ هو الذي زرع ذاته في حقلها، نبت الحق من تلك
الأرض العطشى بقوة الروح القدس وبنوع خارق، تماماً كما أفرخت عصا هارون
اليابسة أمام الرب في خباء الشهادة، وأخرجت براعيم وأزاهير وأنضجت لوزاً…
قال أحد الشيوخ : “لقد أزهرت عصا هارون اللاوي بغير سقي الزمان، كذلك ولدت العذراء مريم المسيح بدون آن تعرف رجلاً، فبأمر الله أفرخ اليابس وأنضج ثمراً، وكذلك العذراء، حبلتْ من الروح القدس، وولدت عجباً…”
في هذه الليلة المباركة، بينما كانت أجواق الملائك تصدح، وهي صاعدة إلى العلى ونازلة إلى الأرض بالنشيد السماوي الخالد:” المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام…”
وكان الرعاة الفقراء فرحين بمشاهدتهم هذا المشهد المعجز… والمجوس يسارعون النجم المضيء لتقديم هداياهم الى من كانوا يترقبونه، وفق عقيدتهم…!
نعم في هذه الليلة المقدسة، تصرّم عالم قديم, اكتنفته ظلمات الجهل والغواية، وبزغ فجر عالم جديد ماشى الله فيه أبناء جبلته البشرْ، ليعيدهم الى طريق النور، والحق والحياة.”
لم يعتلن بانتصار باهر في معركة حامية الوطيس، ولا بوليمة فاخرة جمعت أقطاب العالم حول ما لذ وطاب، بل اعتلن طفلاً جميلاً جداً، طفلاً وادعاً في عراء مغارة…
طفلاً الهياً ملفوفاً بأقمطة بالية، تدفئه الحيوانات بأنفاسها في ليلة قطبية، فكساها دفئاً وخضرة ويناعةً.
ما معنى الميلاد؟
لكي نفهم معنى الميلاد…يجب أن نميز بين ميلادين
– الميلاد الاول
هو ميلاد ” كلمة الله المولود من الآب قبل الدهور.”
وقد قال في ذلك أحد الآباء القديسين:” لم يكن يوماً بدون كلمة”، وعنما نقول” ابن الله” فإننا نعني هذه الولادة لاولادة كولادتنا. إننا لاننعني أن الآب يحبل وفق مفهومنا البشري… ويضع مولوداً بعد تسعة أشهر. إذن عنما نسمع كلمة ابن الله الوحيد نعني ان الله عز وجل لم يكن يوماً الا مع كلمته، كانت كلمته معه منذ الأزل، ومنذ البدء
كما يقول الإنجيلي يوحنا: ” في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، منذ البدء كان إلهاً. منذ البدء هو الذي كان يُسهم في عملية الخلق…
هذه الولادة يُعرفُ فيها الآب، فالسؤال من أين ولد الكلمة الإلهي؟
جوابه “ولد من الله الآب”. هل له أم ؟ كلا لا أم له.
إذن الولادة الأولى تتميز، أولاً: بأنها أزلية، ثانياً: أنها من أب دون أم.
– الميلاد الثاني
عيد الميلاد الذي نعيده اذن ليس هو عيد الولادة الأولى، بل هو عيد الولادة الثانية.
عن هذه الولادة الثانية يقول الكتاب المقدس:” عندما حان ملء الزمان أرسل الله ابنه الوحيد مولوداً من امرأة.”
في عيد الميلاد نعيد لولادة ابن الله الوحيد ربنا يسوع المسيح من امرأة، في هذه الولادة، الأم معروفة وهي العذراء الطاهرة التي حبلت به، من دون اب حكماً، لأنها عذراء دائمة البتولية قبل الولادة، واثناءها، وبعد الولادة، وهو السر المعجز.
الولادة الأولى حصلت من أب دون أم…!! بينما حصلت الولادة الثانية من أم دون أب..!!

الولادة الأولى تمت منذ الأزل…!! الولادة الثانية تمت “عندما حان ملء الزمان…” وفيها حصلت الحادثة التاريخية التي غيَّرَتْ كل مجرى التاريخ، حصلت منذ نيف والفي سنة تقريباً.
نعرف أن هذه الولادة الثانية قد حصلت لأنها الحادثة التاريخية الفريدة، نعرف مكان وزمان حصولها.
ما معنى هذه الولادة؟ هذه الولادة قالها الكتاب المقدس بلسان أشعياء النبي قبل حصولها بألف سنة تقريباً، وكان وقتها يرى صورة المسيح مولوداً، وقد قال:
“ها إن العذراء تحبل في البطن وتلد ابناً هو عمانوئيل وتفسيره أن الله معنا.”
وفق تصور أشعياء هذا صار ابن الله في حال جديدة هي انه أصبح “عمانوئيل” أي الله معنا.”
اليوم نعيد لولادة يسوع المسيح الشخص، يسوع المسيح ابن الله الوحيد من العذراء مريم، وهو المولود من الآب قبل كل الدهور، نعيد له لأن صار معنا ” عمانوئيل”، نزل الله الينا وصار معنا.
إذن لم تعد هنالك حدود بين السماء والأرض…!
في عيد الميلاد نعَّيد لهدم الحدود بين السماء والأرض. لم تعد من حواجز بين الله وبين الإنسان خليقته… بل بالعكس، فقد هدم يسوع بمولده حائط العداوة بين الله والانسان…
نعيد في الميلاد لمشاركة هائلة بين الله العلي الخالق، والإنسان الأرضي المخلوق، الذي عاد الى صورة خالقه.
الميلاد هذا ما معناه؟ ما هي قوة هذا الميلاد؟ ما هي فاعلية هذا الميلاد؟
لنرجع إلى آدم وحواء قليلاً فنجد أن آدم لم يولد من ام، كما حواء لم تولد من أم . إن هناك شيئاً غريباً في بدء الخليقة، هو أن كل شيء قد خرج مباشرة من الله لذلك فالله هو خالق.
– في الميلاد نعيد لعملية جديدة في حياة الإنسان والكون، هذه العملية الجديدة هي أن يد الله التي اشتغلت في بدء الخليقة أنجزت عملاً جديداً اليوم…
في بدء الخليقة جعلت الإنسان تعبيراً عن إرادة الله هو والكون الذي فيه نعيش، وفي الميلاد نعيد لنفس الارادة الالهية التي تعطفت من جديد لتلف الانسان والكون بحنانها ويبرز الكون خليقة جديدة.
هذه الأجراس التي تنطلق في ليلة الميلاد، وتنطلق أنغامها الصداحة عبر الأجواء بين أطراف العالم… مدى هذه الليلة… تتغنى بتلك البشرى بالخليقة الجديدة.
فيا أيها المضجع في مذود في عراء المغارة، أيها الطفل الإلهي الناظر إلينا بعين الإنسان نظرة الله.

أيها الذي يذود بمذوده عن حياضنا في الملمات، أيها الذي أطل علينا بابتسامة مشرقة فحَّلا بها كآبة الكون، اسكب على كل نفس عطشى اليك، فيضاً من سلامك يا أمير السلام، فتتلاقى القلوب في فرحة ذكرى ميلادك وتلهج الألسن بتسبيحك وحمدك.
نسألك من اجل أبناء مشرقك، الذين باتوا لا يعرفون من الحياة إلا وجهها المتجهم الحالك، هؤلاء الذين يعانون التشرد والحرمان في عراء الصحراء، والتهجير والخطف والذبح والاغتصاب، واغتصاب وتدمير الأرض والبشر والحجر بعدوان ولا أشر، وكما علمتنا: “…ولكن نجنا من الشرير.”
يا طفل المغارة الوديع الرائع في حسنه، أرجوك، أعد أولادك إلى أوطانهم،
اسكب في قلوب كل ذوي وأمهات الشهداء والمفجوعين بفلذات أكبادهم الصبر والسلوان.
لقد أصبح مشرقنا، سوريتنا، فلسطيننا، عراقنا، لبناننا… كل مشرقنا المتألم مسرحاً للعبث والطغيان، من إله الشر والالحاد المعاصر…
وما قدستْهُ أقدامُك وأنفاسُك الطهرية، وجسدُك المقدس مدى حياتك الأرضية… أصبح محروقاً مدمراً، بقايا مبعثرة من أزيز المدافع وفحيح الصواريخ… وعويل الثكالى، وبكاء الأيتام، ولكم من أم في عيد الفرح هذا، تبكي ولدها الشهيد أو الجريح أو المفقود والمغيب…كما بكت راحيل يوم ميلادك باستشهاد اولادها… اطفال بيت لحم…”وقد أبت أن تتعزى لأن أبناءها ليسوا في الوجود.” (متى18:2)
مشرقنا وأوطاننا يا رب اليوم في “الظلمة وظلال الموت” مشلولة الأمل والرجاء، محفوفة بالهلع، حائرة المصير، مدمرة في أقصى أركان انسانيتها.

تأتينا يا يسوع طفلاً وادعاً، ولكننا في ليلة ميلادك نحن في سورية للسنة الخامسة نتشح يا رب بهذا الوشاح الفاجع، فميلادك ليس مجرد ذكرى نستعيدها، أو تمثيلية نشهدها، أو شجرة خضراء نزيَّنها وزينات ننصبها أو قصة نردد معناها، أو اسطورة نكرر مغزاها. هي الحادثة التاريخية الفريدة التي غيرت الكون التي بها بدأ التقويم، وهي الرجاء المتجدد في بلسمة الجراح بيدك ياطفل المذود الوديع من خلال دموعنا على مشرقك، وشهدائه وجرحاه ومخطوفيه ومهجريه ولاجئيه، بالرغم من الظلمة التي تلف مصيرنا، ومع أن كل شيء في مشرقنا اليوم، هو مشرقك، الذي ارتضيته وطناً ارضياً، وكأنه يتصدى لمجد الله وسلام الأرض ومسرة الناس… أعطنا نحن شعبك وخليقتك الجديدة أن نهتف مع الملائكة بنشيد ميلادك الخالد، وبلسان الثكالى والأيتام والمعذبين والمشردين والمحزونين وأن نقول:
” المجد لله في العلى و على الأرض السلام وفي الناس المسرة “
ميلاد مجيد وسلام في عيد السلام في أرض السلام، آمين