نَفسُ انطاكية في تدينها
تعسر معالجة العنوان اكاديمياً دون الغرق في السيكولوجيا الدينية او المقاربة العاطفية. هناك مع ذلك طابع للحياة الأنطاكية عبر تاريخها، نوع من الهوية التي تجعلنا – في وحدة استقامة الرأي- أصحاب نكهة خاصة لانستكبر بها.
أُريدَ بأنطاكيةَ الكنيسة الأرثوذكسية، حسب المصطلح الحالي الذي يميزها عن الكنائس التي اخذنا نسميها، في الاوساط المسكونية، الكنائس الشرقية الأرثوذكسية، وكذلك مايميزها عمن اتحد برومية. ليس لأن هذه الجماعات لاتتوافر فيها ميزات مشتركة حتى الحلم بوحدة انطاكية، غير ان هذا الحلم لم تجتمع فيه العناصر اللاهوتية التي تجعله قابل التحقيق اليوم. الا ان المحاولة الاصعب هي كيف تميز انطاكية عن شقيقاتها الارثوذكسيات غير العربية اللسان.
في رؤية عاجلة يُزَّينُ لي ان الارثوذكسيين العرب، أعاشوا في فلسطين التاريخية او مصر، متشاطرون الحياة الواحدة. انهم في التسمية القديمة، ملكيون. مامن شك في اننا والسريان على رؤيةٍ أساسيةٍ واحدة، لأن ثمة مسيحية مشرقية واحدة في خطوطها العريضة. ولعلنا في حاجة الى دراسات متعمقة في التراث السرياني المسمى غربياً والتراث المسمى شرقياً والكنيسة المارونية، لمعرفة مايجمَعُنا على رغم أننا تبنينا نحن، بسبب تهجير بطاركتنا الى القسطنطينية، الإرثَ البيزنطي كاملاً. غير اننا نقيم الليتورجيا البيزنطية باللسان السرياني، هنا وثمة، حتى القرن السادس عشر، ولو اخذنا نُعَّرِبْ في القرن الثالث عشر بعد استئذان بطريركنا ثيودور بلسامون المقيم في عاصمة الروم. ولكن لابد من التذكير به ان بيزنطية سورية الى حد كبير. إنها نشأت طقوسياً في دير مار سابا، كما نشأت منّا ليتورجياً بسبب رعايتها من غير بطريرك سوري النشأة.
الآباء الكبار كانوا من هنا ومن الاسكندرية. كذلك الروحانيون والنساك والموسيقيون. القسطنطينية، مدينةً، كانت مَصَبَّ الامبراطورية ماخلا وجوهّاً لامعة مثل سمعان اللاهوتي الحديث ومكسيموس المعترف. العواصم تتبنّى المدى الامبراطوري ويُنسَبْ اليها الخلق. لم يبقَ من معنى كبير، في الفضاء الأنطاكي، لأن نقيم فاصلاً حاداً بين المجال الأنطاكي الارثوذكسي والمجال السرياني. الى ايّ مجال ينتسب مثلا يوحنا الذهبي الفم؟ هل اللغة هي المعيار؟ اجل المقولات اليونانية الفلسفية سادت اللاهوت. لكن عند انفصالنا في القرن الخامس، نرى أن آباء الكنيسة المسماة خطأ صاحبة الطبيعة الواحدة، كتبوا باليونانية، وظل آباؤها اللاحقون عارفين باللغة اليونانية. ثم كتب معلمون كثيرون من كل كنائسنا بالعربية للدفاع عن ايماننا التوحيدي ضمن العقيدة الثالوثية وغيرها من العقائد في ظل الحوار الاسلامي المسيحي.
لقد اجمع علماؤنا في القرن الثاني عشر على ان كل كنائس الشرق على ايمان واحد. من هنا ان مداخلتي إن انحصرتْ في من نسميهم الروم الارثوذكس، فما ذلك الا من باب التركيزْ لا من باب الاقصاءْ.
حاولت في هذه العجالة، على رجاء تدقيق أعظم، ان اتلمس الثوابت عبر العصور وفي النفَس الشعبي. واعتقادي ان الكنيسة في هذا الجيل كما في كل جيل تمكث في مكان حائر متقلب بين المفروض انها تؤمن به وبين المعيش. فالكلام في النفَس الانطاكي لايسعه أن ينبسط حصراً في الكتب. يحتاج الى سيكولوجيا الملة كما يمكن ان نتبينها، والى سوسيولوجيا الملة وتتَّبع احوالها في مظاهر نهوضها ومظاهر كبوتها، ولاسيما ان الكبوة رافقت النهضة. على ضوء هذا التوتر بين القائم في النفس والمثال الذي تتوق، سوف أحاول أن آتي ببعض الصور التي تنقل اليكم مانحن عليه. على سبيل المثال يبدو لي ان هناك هوة سحيقة بين الايمان بالقيامة وآداب الموت. من جهة يقيم الناس المواسم الجنائزية في أوقاتها، ومن جهة أخرى لايملي عليهم ذلك أي سلوك قيامي فيتفجعون كما تفجع القدماء على فقد تمّوز وكأنهم بلا صلة بالذي قام من بين الاموات، كأن المسيح لم يقتل تموز.
وثنية النفس عندنا لاتلغي الاغراء اليهودي فيها.يسودنا اله اليهود الذي يسحر الناسَ بآية، الاله الشديد في القتال، رب القوات الذي يُسّخِّرنفسه لنا بالمعجزة، القائم لصحّتنا، المغدق علينا البركات الوافرة، الواعد ايانا بهذه الأرض، المستخلفُنا دائماً بأولاد أصحاء ناجحين في العمل. هذا الاله تكلم بالوصايا العشر. هي، لا العظة على الجبل، قاعدة السلوك.
هذا كله لايمنع فريقا مترفاً عقلياً من ان يهدم العهد القديم في حركة مركيونية متجددة بسبب من الميثولوجيا المترائية في سفر التكوين ومايظن انه دعم للصهيونية.
غير اني أعرف أن ثمة من رفض العهد القديم وهو غريب عن هذه الدوافع. هذا الفصام بين العهدين لا يقوّي عند هؤلاء بالضرورة جدّةَّ الانجيل. خارجاً عن الرعاية الانجيلية، او طلاب المدارس الانجيلية، قبل جيل او جيلين، لست ارى الكتاب الالهي عزيزاً عند الناس. ربما عرفوا شيئاً عن عظة الجبل وعن العجائب في الاناجيل الازائية بخاصّة الجِدّيّون في حقل الكتاب المقدس هم الموارنة.
اخشى عليهم فقط سيطرة الغلو في النهج النقدي وانقطاع شراح الترجمة اليسوعية الجديدة عن الآباء القديسين انقطاعاً كاملاً.
على أيّة ارض تنبعث انطاكية مجتمعة في اغتذائها من الكتاب؟ تصوروا أن فهما لاهوتياً بيبلياً عميقاً، تراثياً، لايهمل العلم الحديث، وهو مبعثنا الأول في حركة التجدد.
الى جانب هذا اظن ان هناك ديانة شعبية واحدة يعتنقها الكثيرون تحت سطح المذاهب، أشرنا اليها في ذكرنا هاجسَ المعجزة، وقوامها النذور في سبيل صحة المريض، كأن الانسان والله في حركة مقايضة.
الاعجوبة تتطلب النذر أو ايفاءه كما النذر يبتغيها. وفي هذا المناخ الموقفُ إزاء الحدث مستنِدٌ الى القضاء والقدر. والله سبب ما يحيينا وما يميتنا. في هذه النظرة كل شيء إطلاقاً من فوق. وكما ان الانجيل يحسّونه تنزيلاً كذلك الطارىء تنزيل، وانت تطيع الحدثَ للتعبير عن طاعتك لله.
إزاء سيئات الفولكلور الديني والديانة الشعبية، ماذا يحرك المؤمنَ عندنا، أعني به هذا الذي يمارس علاقته بالرب في تناوله الجسد الالهي والدم الكريم؟ المواظبون عندنا لايتجاوزون 8% أو 10% وقد يصبحون 25% في المواسم الكبرى.
نحن نعيش كارثة رهيبة، مايعني ان الكلمة الالهية لاتصل الى معظم شعبنا وأننا رعاةً، نرعى بلا ثمر منظور. مايلفتني منذ سنوات اننا ضحايا خدعة تقول إن كل الفهم وكل الحياة في الخدمة الالهية.
السؤال هو: بأي مقدار نفهم او نتمثل مايتم في الخدمة؟ لست متأكداً من ان الشعب قرأ حقاً الكتاب منذ ان كان الكتاب!
تصوُري أن الآباء كتبوا لنخبة ووعظوا ذلك الفريق الذي كان يشارك، وان معظم الناس كانوا في غفلة. ومهما يكن من أمر التقصي التاريخي يزيَّنُ لي اننا منذ اكثر من الف سنة لم نقرأ الكتاب، وهو يتحرك مباشرة في النفوس بحيث لايمكن ان تصير الليتورجيا بديلا عنه.
انا لست في معرض الفحص عمّن يخلص وعمّن لايخلص. دينونتي اني لم استعمل اداةً للخلاص أساسيّةً أعني كلمة الله المباشرة كما خرجت من فم السيد.
المسيحية الكاملة، معطاة حسب مشيئة الله، مرجأة أو تبدأ اليومَ مع وعينا للموت الذي تَأَكَّلَنا دهراً طويلاً.
عندي شعور واضح انه توالت علينا أحقاب طويلة جدّاً، بدأت منذ الاحتلال الفرنجي في أواخر القرن الحادي عشر حتى عصر متأخر جداً، عشنا فيها مقهورية كبيرة، انقطع فيها شيء من التراث أو كثير من التراث، أو انقطع اسهامنا بالابداع، فحافظْنا بمعنى أننا اجتررنا القديم. استهدَفَنا الغربُ في شطريه الكاثوليكي والانجيلي، واستعملنا كما في بقية العالم الارثوذكسي حججَ كلّ منها ضد الآخر، أي اننا عشنا الارثوذكسية ليتورجياً لا لاهوتياً، وكانت العمارة اللاهوتية الكاملة في الضباب. حددنا الارثوذكسية على انها ليست الغرب، ولم نُحِطْ بها بجمالاتها المتكاملة. ولكن لم يكن عندنا الكاهنُ مرجعيةً. الكاهن عرفناه إمامَ طقوسٍ، وحتى اليوم ليس عندنا قناعة كافية بأنه رجل المعرفة، ولايبدو اننا نريد ان نعد مئات من الكهنة المراجع. لذلك سيطر علينا مناخ الاستمتاع بالصوت الجميل. هذا ماعَنَته لنا حلاوة الخدمة. واكتفينا بالشريعة الموسوية نمدُ بها ابناءَنا، ماجعل لنا اجيالاً متصلبةً مناقبياً تهتم للقوانين الكنسية، والاطعمة الصيامية، وتراقب الرعاة بصرامة، وتحاول مصادرة السلطان منهم لتمارس السلطانَ عليهم.
على هذا أُدِيَتِ الشهادةُ، وتَقدّسَ الكثيرون وذاقت قلوبٌ كثيرة طراوةَ يسوع، وكدتُ أقول على رغم شلل المسؤولين الروحيين. الكنيسة كانت فقط معبداً ودراما طقوسياً وتربيةً عائلية نقية. عرفنا أنّ العالم الذي حولنا ليس لنا وأنه لم يُكتَب لنا أن نسهم في سياسته الا قليلاً أو في خَفَر.
لعل هذا جعلنا نمتد الى الدهر الاتي والى الليتورجيا السماوية في توق الى حرية النفس، الأمر الذي أقامنا في فرادة لايعرفها أحد في البلدان الارثوذكسية الكبرى وهي استقلال الكنيسة عن كل اندماج بالقومية. وهذا كله لايناقض شعورنا بانتمائنا الى هذه الارض، ولايناقض تجنُدنا لها ووعينا مسائلها اذ التزمناها بحُرّيّة منها. في عصور الظلم كلها رأينا الكنيسة عروساً بهية غير مرتبطة الا بعريسها. ومن المؤكد أن هذا لايتوافر في اية بقعة من الدنيا ارثوذكسية كما يتوافر عندنا.
لعل استقلالنا هذا أعطانا شعوراً بالاعتزاز ليس فيه انتفاخ التعصب. اعتزازنا مصدره يقينا بأننا استمرار الكنيسة الاولى. التعصب يتضمن دائما كراهية وقهراً
لست اظن ان جمهورنا الممارس وغير الممارس عرف هذا. هذا الافتخار لم يمتزج يوماً بالعنصرية. وان لاح لبعض اننا نستعلي فما ذاك الا من باب ردة الفعل على ارادة الغيرلِمَحوِنا من الوجود. وقد مارس الصليبيون فعلياً محو رئاستنا الروحية طيلة إقامتهم عندنا.
رافق شعورنا بالاعتزاز أننا عشنا الخوف اقل مما عرفه سوانا. انت لاتخاف إن وعيت انك مُعَدٌّ للشهادة، كان لك في معية القديسين أن تأكل جسد الرب الذي يقيمك من كل ميتة، بقينا مع أن كل شيء بشريٌّ كان يؤذن بزوالنا. أظن أننا تربينا على الفصح الذي لم يكن لنا عيداً وحسب ولكنه كان قيامةً دائمةً من وطأة أزمنة كانت دائماً رديئة.
كنا دائماً نعرف سر أبديتنا واننا كنا في قلب الله قبل ان يكون الدهر.
الشعور بالذاتِ الارثوذكسيةِ بلغ ذروة الفهم والعمق في “حركة الشبيبة الأرثوذكسية” لكونها رأت الى الكنيسة الارثوذكسية قائمةً بذاتها، مشعةً، معطيةً، لا تحدد نفسها على انها مجرد نفي لكنائس الغرب. كذلك رأت أنها فكر لاهوتي وعبادات، ورأت أن الفكر والعبادة والمسلك النسكي والصوفي والتنظيم في الكنيسة واحد، وأنها، مجتمعةً في القلب والعقل معاً، متفاعلين متشاركين، تنتج الشهادة. ولعل غذاء الشهادة كان في شيئين
1- في معرفة الكلمة الالهية
2- وفي الاقبال على القرابين الالهية.
للمرة الاولى فهم الارثوذكسيون (انهم واحد) لكونهم يأكلون الخبز السماوي الواحد، وأدركوا بسبب من هذا الغذاء الحق، أنهم يتحولون من افراد طائفة، الى كنيسة واحدة ينبسط المسيحُ فيها وتكون هي اياه. وفهم القوم جميعاً أن الكنيسة هي كل هؤلاء معاً إذا ساروا في الله. ودليل النهضة التي حصلت عندنا، أن حركة الشبيبة الارثوذكسية، أدخلت لغة جديدة تخاطب القلوب فتنجلي لها كنيستها حيةً، قادرةً على إنعاشِ أعضائها والإسهام في توعية المسيحيين الآخرين.
في ظل الصحوة الارثوذكسية الحديثة ازداد الوعي للروح المجمعية أو الجماعية حيث لايعمل الأول أي البطريرك شيئاً دون الاخوة، ولا الاخوة مجتمعين شيئاً دون الأول، على ماجاء في القانون 34 للرسل.
ان بعض الكنائس الارثوذكسية يشذُ عن هذا التوازن على حساب المجمع او على حساب الأول.
الكنيسة الارثوذكسية ليست جماهيرية ولا هي اوتوقراطية. هي جسم عقائدي شُورْيٌّ فوق أُفهومة العددْ ولكنه يتحرك ضمن روحية الأخوة والحب.
اجل ليس من وضع بشري يخلو من خلل النزوة، أو غير معرض للكيدْ والتحالفات النفعيةْ. غير أني أَزعمْ أن النظام المجمعي مرعي في الكرسي الأنطاكي بقربى كبيرة من النصوص التأسيسية القديمة.
هذه التآلفية والتناغمية التي تتصف بها الممارسة الانطاكية تُعاشُ أيضاً على الصعيد العالمي بحيث تشعرُ كنيستنا بأنها على مسافةٍ واحدةٍ من كل الكنائس المستقلة، ماجعلها تقوم بدور وساطة بين الكنائس التي يبدو اختلاف بينها في المجالس التي يعقدها الأرثوذكسيون اذا اجتمعوا. إذا شئتم لغةً دنيويةً أقول ان الكرسي الأنطاكي خارج عن سياسة المحاور الكنسية اذا ظهرت.
لا يكتمل الحديث عن انطاكيةَ بلا ذكر الرهبانية فيها وخصوصيتها لكونها دَمَغَتْ الشعبَ وحفظته حتى مغادرة عبد الله الزاخر ورفقائه هذا الديرَ بسببٍ من رغبتهم الاتحاد برومية. لابد من رؤية خاطفة للرهبانية السورية القديمة على انحسارها بانشقاق البلمند، من حيث إنها انبعثت انبعاثاً باهراً منذ اواسط الخمسينات من هذا القرن على نمطٍ قد يكون اقرب الى النهج الآثوسي، لكن على رجاء عدم الانحصار في هذا النهج، اذا ما اقتبسنا من جديدٍ ماكان عليه آباؤنا في النسك.
خشونةٌ إزاء الذات، طراوةٌ مع الناس والتهابٌ لله. هاكم من أدب الرهبان مثلاً هذا القول الذي يبدو من عصرنا: “ما الانسان سوى هذا النقص الصغير الذي يتلاشى في اللحظة”، أو هذا: “كلَّما اخذ المرء المعرفة يعطش ويحترق كأنه يشرب لَهَباً فإن الالهي لايُدركْ. يبقى الانسان على عطشه”، أو هذه القولة في جرأتها: “من خلال الأخ الله نفسه يحتاج الينا ويصبح لنا مَدِيناً”.
يستطيع الفقير ان يسألك شيئاً ويعيش ولكنك بلا شفقة لاتقدر أن تعيش وتَخْلُصْ”. والأكثر منها ذهولاً هذا: “إن لم نزهد بالحياة الحاضرة والحياة الآتية من اجل القريب كما فعل موسى والرسول كيف نُثبت له أننا نحبه؟”.
وعلى فترات تقطّعت حيناً وتواصلت حيناً، بين القرنين الرابع والثالث عشر الميلاديين (زمن الاجتياح المملوكي لأنطاكية)، نمت الرهبانية السورية وتعددت أنماطها وتبلورت ملامحها. ولعلها بلغت الأوج مابين القرنين الخامس والثامن الميلاديين. بعض ميزاتها ارتسم آنذاك وبان ما لها من خصوصية. مُناخان، بعامةٍ، شاعا: مُناخ مصريّ أثّر في وجهة الرهبنة الفلسطينية والجنوب السوري، ومناخ فراتيّ أثَّر في وجهة الرهبنة في الشمال السوري. في جبل لبنان يبدو أننا دُرنا، بالحريّ، في فلك الرهبنة الفراتية السورية الشمالية، أخْذاً بدور رهبان تلك الانحاء في نشر الكلمة عندنا، وكذا انتشار إكرام القديسين المستوردين من هناك. دونك بعضَ ما استبان، يومذاك، مكثفاً وماتَوَزّع، هنا وثمة، على امتداد التاريخ الأنطاكي.
الحياة الرهبانية المشتركة وكذا الحياة النسكية التوحُّدية ازدهرتا في القرون الخامس الى السابع سواء بسواء. قلما خلت قرية في الشمال السوري، بخاصة من دير فيها، أو في جوارها، ومن ناسك أو مجموعة نسك. في جبل باريشا، مثلاً، توصلت الاكتشافات الأثرية الى التعرف على 63 ديراً في رقعة لاتزيد مساحتها عن 210كم2. نسبة الرهبان كانت اربعة في الكم2 الواحد، ونسبتهم الى سكان الجبل واحد في المائة. كان الدير، آنئذ، في الوجدان، من العناصر المكوِّنة للقرية.
برزت في النسك أنماط مستحدثة متطرِّفة. الرعيان كانوا نَمَطاً. كانوا يعيشون في الجبال. اعتادوا المشي على أيديهم وأرجلهم واقتلاع العشب بأسنانهم، والصلاة اثنتي عشرة ساعة بلا توقف. الوقّافون كانوا نَمَطاً آخر. يسبحون الله كل حين وقوفاً. لايجلسون ولايستلقون. حتى النوم اعتادوه وقوفاً. زبيناس كان أحد الذين ذكرهم تيودوريتوس القورشي من اصحاب هذا الخط.
من الأنماط أيضاً الصامتون. أكبسيماس حَجَرَ على نفسه ستين سنة لايتكلم. ومنهم ايضاً نساك العراء كمارون ويعقوب القورشي. منهم من كان يقف باستمرار ويداه مرفوعتان الى السماء. ومنهم ايضاً المتبالهون في المسيح مثل يوحنا وسمعان الحمصيان والعموديون ونساك الابراج والرهبان الذين لاينامون (الكسندروس ومركلس الأفامي…)… اما المتوحدات فكان عددهن بين القرنين الرابع والخامس كبيراً، ولم تقلَّ حياتهُن عن حياة الرهبان والنساك قسوة.
دور رعائي للعديدين منهم، حتى النساك. الرهبان الذين لاينامون كانوا يتناوبون السهر ليرفعا السبح لله ليلَ نهارَ، ثم يصرفون بقية أوقاتهم في خدمة الفقراء وعمل الرحمة. وعن القديس تيموثاوس الكاخشتي، زمن هارون الرشيد، قيل إنه كان يعظ اهلَ القرية ويرشدهم الى طريق الله حتى جعلهم كمثل الرهبان كثيري الحَسنات. وقد اهتم بحاجاتهم وفض خلافاتهم والتضرع لدى الله من أجلهم.الناس كانوا يلوذون بالرهبان، نساكا ورهبان َشركة، بصورة عادية. يأتونهم بمرضاهم ويعرضون مشكلاتهم ويأخذون بنصائحهم، حتى بات للرهبان الأثرُ الأكبر في نفوس العامة.
دورٌ بشاريٌّ رسوليٌّ لاشك فيه. الرهبان- والامثلة عديدة- كانوا ينخرطون في هداية الوثنيين.
حتى النساك، أحياناً، كانوا يتركون مناسكهم، ولو لبعض الوقت، للكرازة بالسيرة والكلمة.
دور القديس سمعان العمودي الكبير في هداية بعض القبائل العربية معروف، وكذا دور القديس أفتيميوس الكبير. القديس أبراميوس الرهاوي نزل عند رغبة اسقفه واهتم بهداية الوثنيين اربع سنوات. فلما اهتدوا سلَّمهُم الى الاسقف وعاد الى منسكه. القديس الكسندروس مؤسس دير الرهبان الذين لاينامون(400راهب) تولى ومائةً وخمسين من رهبانه التبشير بالانجيل في تدمر وبلاد مابين النهرين.
القديس ابراهيم القورشي أتى الى لبنان، فيما يبدو، في القرن 5م. بشر بالانجيل وثنيي أعمال مجرى نهر ابراهيم، قرب العاقورة، وباسمه تسمى النهر.
القديس رافولا السميساطي قَدِمَ الى لبنان في القرن 6م. أنشأ ديراً قريباً من بيروت بمساعدة اسقفها يوحنا. جمع الى الحياة الرهبانية هاجس البشارة.
هدى سكاناً وثنيين. ولعل المكان الذي أقام فيه هو دير القمر أو بلاد المتن.
اما في حقل الكتاب المقدس فقد تجلت عبقرية أنطاكية في أنها آمنت بالكتاب كما هو أي نصاً يقارب من منظار تاريخي. ماذا يريد كاتب النص دون ان نلقي نحن عليه خيالنا الشخصي. فالمهم كلمة الله كما جاءت لأن في هذا الذي كُتب رجاءَنا وخلاصنا.
واذا كان التركيز الانطاكي في معرفة المسيح هو على المتجسد كما تحرك في ارضنا فإننا نصعد منه الى الله، واذا كان ناسوته المقدس لايُحجَب فاننا نذهب من ناسوته الى لاهوته. وبهذا نتوب. كما أننا في النسك نعمل على الانسان لنطلع الى الثاوريا. مع ثيوذورس الطرسوسي وثيوذورس المصيصي وثيوذوريتوس القرشي ومع يوحنا الذهبي الفم يَحكُمُنا الأسلوب النصي التاريخي، وهذا وما اكتشفته من جديد المدرسة النقدية الحديثة.
قد ينحو هذا الى الرعاية والوعظ في تفسيره مثل الذهبي الفم، وذاك قد ينحو نحو العلم مثل المصيصي، ولكن المنهج المشترك هو في تقصي اللغة ومعاني المفردات وخلفية النصوص.
ليس المجال هنا لأبين لكم الفرق مع المذهب الاسكندري الاستعاري أو التأويلي، وكان بينهما غيرُ لقاء بعد الحقبات الاولى. مايهمني طرحه ان المذهب الانطاكي كان شديد التركيز على يسوع في تاريخيته، وأننا فيه نَلقى الاله الشخصي، ولانلقى إلها مجرداً.
هَمَّ آبائنا الشهادات الاولى حول يسوع التاريخي مصلوباً وقائماً، حياً،حاضراً وكل ذلك موجه الى بنيان النفوس.
مَهَّدْتُ بهذا الذي تعرفون لأصل الى ان هذا الخيط الذهبي انما استمرَ في المواعظ المكتوبة عندنا من اواخر القرن 19الى يومنا هذا. لكن فيما هو تفسيريٌّ محض، وبعضه على أعلى مستوى اكاديمي في العالم، لم نقطع الصلة مع اسلوب القدماء ولو تتلمذنا على مدرسة النقد الحديثة. تبنينا الأدوات العلمية للبحث لنبقى امناء للتراث.
كل هذا من شأنه ان يقدم دعما لرجائنا حوار الاسلام والمسلمين. لسنا وحدنا فيه غير اننا لسنا نأتي الشرق العربي من خارجه، ولسنا محسوبين بدءاً على الغرب. واذا عاشت غير امة ارثوذكسية نزاعاً حربياً مع المسلمين، او اتخذ التحررُ من العثمانيين طابع المواجهة المسيحية للاسلام، فنحن لم نكن في هذا الخندق إزاء المسلمين زد على ذلك أن لغة القرآن لغتُنا والفنون الاسلامية في بيوتنا وآذاننا. فنحن والمسلمون على اصالة واحدة في انتمائنا التاريخي مذ وَعَينا هذا الانتماء، الامر الذي ييسر اللقاء بما هو بشريٌّ، بحيث يصح القول إننا كنيسةٌ عربيةٌ قادرة على تقرأ التراث الاسلامي من الداخل بلا خوفٍ ولا جَبْهٍ ولعلها قادرةٌ لكونها كانت حاضرة في جاهلية العرب.
وفي بلاد الشام عشيةَ ظهور الاسلام وعند انتشاره، لعلها قادرة على ان تلقي على تشوء هذه الدعوة أضواءً تؤهلها لتفسير جوانبَ من القرآن لم يقدر عليها المفسرون المسلمون، او ان تضع في الاطار التاريخي بعضا من تعاليم القرآن كما لم يأتِ به المسلمون.
لقد قيض لنا أن نخوض غمار بحوث كهذه ليس فقط لضلاعتنا في العربية، ولكنْ لعلم المسلمين اننا لسنا في موقع عداء تاريخي لهم. ولقد استطاع غير باحث ارثوذكسيّ انطاكيّ ان يخوض في شأن الاسلام من غير زاوية.
لكن الرجاء ان يتحقق في انطاكية وامتداداتها ان لم يكمل لنا الله دينَنا ويَتِّمَ علينا نعمتَه ويجدِّد هذا القطيع الصغير بانسكابِ الروح.
(مداخلة المطران جورج خضر متروبوليت جبيل والبترون وتوابعهما
المطبوعة في كتاب “تاريخ كنيسة أنطاكية للروم الارثوذكس: أية خصوصية”
بين ص97-107
منشورات جامعة البلمند 1999)
.