القديسان قسطنطين وهيلانة
القدّيس قسطنطين الكبير هو أوّل إمبراطور اعتنقَ المسيحيّة، فدَعَته الكنيسة “رسول الربّ بين الملوك”. وُلِدَ حوالي العام 280م، والده جنرال روماني لامع اسمه قسطانس كلور ووالدته القدّيسة هيلانة. ترَعرَعَ في ساحات المعارك وأخذَ عن أبيه فنون الحرب وأيضاً أن يَسوسَ بحكمة الخاضعين له، والرأفة بالمسيحيين. ممّا يُنقَل عن أبيه أنّه عندما كان حاكماً لبلاد الغال وبلاد الإنكليز جاءته توجيهات أن يبطش بالمسيحيين، ولكنّه لم يحكم على أيّ إنسان بالإعدام لأنّه مسيحي رغم أنّه لم يكن مسيحياً، واحتقرَ وأعفى من خدمته عدداً من ضبّاطه المسيحيين الّذين آثروا مصلحتهم في أن يُضَّحوا للأوثان كي لا يخسروا وظائفهم. وأبقى لديه الّذين تمسّكوا بإيمانهم ومسيحهم وهؤلاء أمنّهم على نفسه وعلى حكمه.
أمّا أمّه هيلانة فهي الابنة الوحيدة لـكول الملك الإنكليزي، وهي الزوجة الأولىَ لـ قسطانس كلور، وقسطنطين هو ابنها البكر ولم تُصبح مسيحيّة إلاّ بعدَ أن حقّق قسطنطين ابنها النصر العجيب على أعدائه. وقد سلَكَت في الكمال المسيحي بجدّ كبير لا سيما في التقوى وعمل الإحسان فكانت تتناسىَ قدرها كإمبراطورة فتبادر إلى مؤازرة الكنائس وتسلك بين الناس بلباس عادي متواضع، بنَت الكنائس وأغنَتها بالزينة والأواني الثمينة وصارت أمّاً للمحتاجين والمضنوكين.
في كنَف هذين الأبوين الفاضلين نشأ قسطنطين فكان ذو مزايا نبيلة وكريمة ورحابة صدر، عادلاً عطوفاً بالإضافة إلى الرأفة بالمسيحيين وذلكَ قبل أن يعرف المسيح فلّما عرفه ازداد كلّ هذا. كان مهيباً صنديداً في المعارك، أخلاقه القويمة حبَّبت به كلّ الّذين عرفوه. وعندما توفي والده أعلنه العسكر إمبراطوراً سنة 306م فدخل في صراع مع الطامعين من الأباطرة والقياصرة وأهمها كان مع مكسنتيوس الّذي حكمَ في رومية وكان ظالماً ماجناً فاستنجد أهل رومية بقسطنطين فوصل إلى ضواحيها مع قوّات كان عددها ضئيلاً جدّاً نسبة إلى قوّات مكسنتيوس.
يذكر التاريخ المسيحي أنّ قسطنطين صعدَ إلى مكان عالٍ وعاينَ أعداءه وعرفَ تفوّقهم فارتبكَ فإذا بصليب هائلٍ يظهر في السماء عندَ الظهيرة مؤلَّف من نجومٍ نيّرة وحوله ظهرَت الكلمات التالية باللغة اليونانيّة: “بهذه العلامة تغلب”. وفي الليلة التالية ظهرَ له الربّ يسوع نفسه وأوصاه بإعداد صليب مماثل للصليب الّذي عاينه في الرؤيا وأن يرفعه بمثابة رايةٍ على رأس جيشه. عندها تلألأت علامة الغلبة من جديد في السماء فآمَنَ قسطنطين أنّ يسوع المسيح هو الإله الأوحد، الّذي يُعطي النصر للملوك ويُرشد الكل.
شرعَ قسطنطين في إعداد صليب كبير من الفضّة وأعطى الأمر أن يوضع على رأس العسكر عوض النسور الملكيّة وكعلامة للإنتصار على الموت ونصباً للخلود. وحقّق قسطنطين بنعمة الله وقوّة الصليب نصراً كاسحاً وغرق مكسنتيوس وضباطه وعسكره في نهر التيبر. دخلَ قسطنطين رومية دخولاً مظفّراً فحيّته الجموع بمثابة محرّر ومنقذ ومحسن. رفعَ راية الصليب فوق النُصب الرئيسيّة في المدينة كما أُقيم له تمثال حاملاً في يده الصليب بدلَ الرمح وكُتبَ عندَ قاعدة التمثال: ” بهذه العلامة الخلاصيّة التي هي علامة الشجاعة الحق، أُنقذَت مدينتكم من نير الطاغي”. وقد أعاد قسطنطين للمسيحيين كلّ الممتلكات التي سبقَ وصودرَت منهم وأرجعَ المنفيين وحرّر الأسرى وأوعزَ بالبحث عن رُفات الشهداء الّذين سقطوا أثناء الاضطهاد الكبير فتمكّن المسيحيون بعد هذا الانتصار من الخروج من الظل إلى النور ويتمتّعوا بحماية الحاكم.
بعدَ ذلكَ بأشهر التقى قسطنطين الإمبراطور ليسينيوس امبراطور المشرق فوقّع الاثنان مرسوماً وضعَ حدّاً لاضطهاد المسيحيين وسمحَ لهم بممارسة إيمانهم بحريّة في كلّ أرجاء الإمبراطورية. لم يكتفِ قسطنطين بإطلاق حريّة العبادة فقط بل أخذ في ترويج المسيحيّة. منحَ الكنيسة مساعدات نقديّة لبناء كنائس جديدة وتزيين أضرحة الشهداء، كذلكَ ردَّ للأساقفة اعتبارهم وساندَ المجامع المحليّة في إحلال السلام والوفاق. أمّا ليسينيوس، الّذي سبق له أن أبرمَ اتفاقاً مع القدّيس قسطنطين فما لبثَ أن انقلبَ عليه فعاد إلى اضطهاد المسيحيين من جديد، وكان ما يرمي إليه هو التخلّص من قسطنطين ليكون هو الامبراطور الأوحد في الشرق والغرب. ففرضَ على الأساقفة في الشرق القيود وأغلقَ الكنائس ونفىَ المسيحيين وصادر ممتلكاتهم وفرضَ على موظفي الدولة الكبار تقديم الذبائح للأوثان فساد العنف والظلم في كل مجالات الدولة. وحينَ بلغَ قسطنطين تغيّر الأحوال في المشرق وما يلاقيه المسيحيون من عنف وتعسّف جمعَ جيشاً قوياً تحتَ راية الصليب واتجّه صوبَ الشرق، فدحرَ ليسينيوس وكان ذلكَ في العام 324م.
هكذا ارتفعَ كابوس الاضطهاد عن الكنيسة في الشرق كما كان قد سبقَ وارتفعَ في الغرب. وفي مرسوم أصدره قسطنطين وأذاعه في كلّ الإمبراطورية أعلنَ أنّ الله وحده هو صاحب انتصاراته وأنّه هو مَن اختارته العناية الإلهيّة ليكون في خدمة الصلاح والحق. اختار قسطنطين مدينة صغيرة في ذلكَ الزمان اسمها بيزنطية وكانت تشغل موقعاً مفصلياً بين الشرق والغرب وأوعزَ إلى مهندسيه أن تُجهَّز بكل النصُب والطرق العامة لأنّه شاءها أن تفوق بعظمتها ومجدها سائر مدن العالم العظيمة. وضعَ حجر الأساس للمدينة الجديدة في العام 324م وأُعطيَت اسم القسطنطينيّة وكُرِّسَت فيما بعد لوالدة الإله. في وسط القصر الملكي ارتفعَ صليب هائل مُزيَّن بالحجارة الثمينة، وفي الميدان وُضِعَ على قمة عمود تمثال لقسطنطين أوُدِعَت فيه بقايا مقدَّسة، وعند أسفل العمود سلال قيلَ أنّها التي استُعملَت في أعجوبة تكثير الخبز. وبمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لتوَّلي قسطنطين الحكم احتُفلَ بتدشين العاصمة الجديدة. انصرفَ قسطنطين إلى تثبيت أساسات الإمبراطوريّة المسيحيّة ومؤسساتها، فشجّع بكل الوسائل انتشار المسيحيّة وحوّل في العمق القوانين الرومانيّة بحيث أخضعها لروح الرأفة الإنجيليّة. أزالَ عقوبة الموت صلباً ومنعَ ألعاب المصارعة وعاقب بشدة جرائم الاغتصاب وعدم الحشمة. حدَّ من الطلاق وأدان الزنىَ وسنَّ قوانين جديدة بشأن حقوق الإرث. شجعّ على الرهبنة واحترمها. وعندما انتقلت الإدارة إلى القسطنطينيّة سنة 330م منعَ الاحتفال بالأعياد الوثنيّة.
اهتمَّ بالأرامل واليتامىَ واهتمّ أيضاً بحماية الفقراء من ابتزاز الأقوياء، وأراد ازدهار شعبه فخفّف الضريبة السنوية بنسبة الربع لكي يعيش الناس في بحبوحة. عام 325م دعا كل أساقفة المسكونة إلى نيقية إلى أوّل مجمَع مسكوني مقدّس للبحث في هرطقة آريوس الكاهن المصري. فعمدَ المجمَع إلى إدانة آريوس وأتباعه، كما تقرّر الاحتفال بالفصح المجيد في كل البلاد، في تاريخ واحد وذلكَ علامةً لوحدة الإيمان. في السنة التالية أي عام 326م تعمدَّت الإمبراطورة هيلانة والدته وقامت برحلة حجّ إلى فلسطين، وقد تسنّى لها خلال رحلتها أن تكتشف موضع الجلجلة وأن تُخرج الصليب المقدّس من تحت الرُكام وبنىَ قسطنطين بازيليك كبيرة وفخمة في هذا المكان سمّاها كنيسة القيامة. كما أن هيلانة بَنَت كنائس في بيت لحم وجبل الزيتون. قيلَ أنّها كانت دمثة الأخلاق، طيّبة المَعشر، لطيفة، وَدودة وخاصة لمن كانوا في خدمة الكنيسة. وبعدما أكملَت سعيها رقدَت في الربّ عن عمر ناهزَ الثمانين سنة. دُفنَت في القسطنطينيّة وفيما بعد نُقِلَ جسدها إلى رومية وهو الآن موجود في متحف الفاتيكان.
بعدَ أن احتفلَ قسطنطين بتبوئه العرش للسنة الثلاثين في العام 335م، حملَ شابور الثاني ملك الفرس على المسيحيين في مملكته وإذ تنكَّر لتحالفه مع قسطنطين اجتاح أرمينيا. أعدَّ الإمبراطور جيشاً قوياً وخرجَ بنفسه للدفاع عن المسيحيين لكنّه مرضَ فنُقِلَ إلى ضواحي نيقوميذية حيث جرت عمادته، ففي ذلكَ الزمان كان المؤمنون يؤجلون معموديتهم إلى سنّ متقدمة.
توفي في يوم العنصرة المجيدة من العام 337م. نُقِلَ جسده إلى القسطنطينيّة ثمّ أُودعَ كنيسة القدّيسين الرسُل وسط الأضرحة الحجرية الفارغة للإثني عشر رسولاً.
تعيّد لهما الكنيسة في اليوم الثالث من شهر حزيران.
اترك تعليقاً