انا ودمشق… ذكريات الطفولة…
انا ودمشق… ذكريات الطفولة…
دمشق ياحبيبة ، انت الحب والهوى انت مسرى الطفولة والحياة والى ترابك الطاهر الإياب…
تأصلت يادمشق محبتك في قلبي مذ وعيتك…
عندما بدأت قدماي تحملاني متجولاً بين أزقتك وحواريك، عندما بدأ يدغدغ سمعي خريرماء عين الشرش قرب بيتنا في دخلة عين الشرش بالقصاع، والمعروفة بدخلة الفاعور (نسبة الى تاجر البناء الحمصي الذي بناها بيوت عربية متلاصقة وأجَّرَّها الى العائلات المستورة في عشرينات القرن الماضي)… وأصلُ الى آخر هذه الحارة الشعبية المتعانقة، ليس فقط بيوتاً، بل وأيضاً سكاناً بكل الحب والتآخي والعيش الواحد، رغم ان فيهم نسبة كبيرة وفدوا من مناطق اخرى من حوران وحمص واللاذقية ولبنان ولواء الاسكندرون ولبنان بمناطقه، ومن اليونانيين الوافدين من كيليكيا، ولكنهم كانوا منصهرين جميعاً في بوتقة هذه الحارة الحنونة…ولا أزال اذكرتلك الدعة التي كنا فيها مع الجميع…
أصل الى آخر حارتنا التي لاتزال الى الآن، وطولها ليس اكثر من 200 متراً الى ماهي عليه الآن “ساحة جورج خوري”، حيث كان في جانب منها بيوت شعبية أمام كل منها حديقة بسيطة ولكنها جميلة… في بعضها شجر صفصاف وتوت ومشمش وحور،( كانت هذه المنطقة الشعبية تشبه الريف المتمدن) ويقابل البيوت في الجانب المقابل بستان الورد الرائع بألوانه في فصل الصيف، الذي كان لتاجر الورد المعلم افتيموس، والذي تنبع من آخره عين الشرش الباردة والعذبة، كما نقول بدارج الكلام الشعبي الشامي مثل عين الديك، وتمر مياهها في ساقية بطول البستان الى خارجه تحت الدك الطيني السميك المعروف في غوطة دمشق، تمر تحته تلك الساقية. وبجانب الدك مصرف مائي كان السكان قبل إدخال ماء الفيجة الى بيوتهم يشربون منها فهي عذبة ونقية. وفي عهدي كان بعض فلاحي جوبر ومزرعة نصري يعبؤون بيدونات منه الى بيوتهم. ثم تنصرف مياه الساقية الى سقاية بعض القطع المزروعة في تلك البيوت… وفي عز الصيف الحار كنا وأقراني ندلف تحت الدك وقد خلعنا صنادلنا ونخوض في مياه الساقية الممتع لبرودته حتى آخر هذا البستان الرائع الذي كان صاحبه يزرع فيه الورد وربما كان هو وعائلته أول من امتهن مهنة بيع الورود في دمشق كلها، وبتصرف الأولاد ( الولدنة) اقطف الخبيزة والنعنع البري الذي ينبت فطرياً على ضفتي النبع وساقيته، وأحضره شتلات مع جذوره، وأغرسها، بتصرف طفولي، في أحواض الزهور في بيتنا العربي على المشرقة، تحت دالية العنب البلدي، والتي أجمع الكل، ولازال من بقي منهم يؤكد انه لم يذق اطيب من ثمرها.
وكان اول خروجي طفلاً هو الى كنيسة الصليب المقدس مع والديَّ للصلاة في الآحاد ومع أمي وجدتي لأبي اسمى الى صلاة يارب القوات والمدائح في الصوم الكبير المقدس، ثم الى مدرسة القديس يوحنا الدمشقي الأرثوذكسية تلميذاً صغيراً في صف الحضانة وعمري دون 4 سنوات وكنت استمتع بمشاهدة فرن الرومي ورائحة خبزه الافرنجي الشهي والقربان الذي كان يعمله منفرداً صاحبه المحسن الكبير بندليمون…
في العطلة الصيفية كان والدي ياخذني معه الى دكانه في جارة آيا ماريا وهو الاسم الاصلي للقيمرية (نسبة الى كنيسة آيا ماريا او المريمية وقد تسمى كل المحيط بهذه التسمية منذ العصر الرومي الى حين مجزرة دمشق 1860 حيث كانت اياماريا حارة وسوقا مسيحية مطلقة بالرغم من وجود عدد من المساجد فيها وبعد الدمار واعادة البناء بدأ اوضع الديموغرافي يتغير باستشهاد نصف ارثوذكس دمشق وحلول مسلمين محلهم بعدما تم وضع اليد على الكثير من البيوت والخانات باستشهاد اصحابها والقضاء على عائلاتهم، او هجرة ربع السكان الارثوذكس الى بيروت وبقيت بيوتهم دون مالك كما في مئذنة الشحم والبزورية والباب الصغير والشاغور… لذا سادت تسمية القيمرية المحرفة عن المريمية) وكان يمتهن حرفة العائلة “حفر الخشب ونقشه”. كانت دكانه بسيطة بكل المقاييس حتى ان أرضيتها كانت من التراب الدك وعليها كْسارة الخشب ( فضلات وكسرات الخشب المحفور)لكن هذه الدكان أعالت كل عائلة جدي فارس زيتون وكان ومعه والدي يعملان في هذه الحرفة الدمشقية الرائعة بهذه الدكان، ثم التحق بهم بعد فترة طويلة عمي نقولا، الذي كان يعمل بها عند الغير، بعد تقاعد جدي، وأخيراً التحق اخي الأصغر مروان الذي وبعد فترة ليست بالطويلة ارتقى الى العلى شهيداً عن الوطن الحبيب… وكانت عائلتنا فنية بكل المقاييس فقد تركت بصماتها في أثاث المجلس النيابي والقصور الرئاسية وطاولات المكاتب في الدوائر الرسمية وجميعها من الحفر العربي بأنواعه، والكنائس والأديار والجوامع التراثية…
لقد حَفرتْ حارة القيمرية في نفسي أبلغ الأثر،
وأتذكرها حارة شعبية فيها كل الحرف والباعة واللحامين والأفران ومصابغ الأقمشة ويمر فيها الباعة الجوالون، و كان فيها ( ولايزال) دكان ابو فاروق الحمصاني الذي كان يبيع الفول والحمص والتسقية… شتاءً، وفي الصيف وبدكان ثان كان يبيع المرطبات: الليموناضة الجامدة وعرق السوس.
في هذه الحارة الجميلة كانت عرائش المدادة تصل فوق فناء الحي من حائط للآخر لتحجب الشمس الحارة عن المارة والدكاكين.
في هذه الحارة/ وهي اليوم حارة سياحية بكل المقاييس/ عشت طفولتي وصبوتي في العطل الصيفية، وكنت منها انتقل الى الكاتدرائية المريمية عبق التاريخ منذ وُجدت المسيحية في دمشق قبل 2000 سنة وكاتدرائية مطران دمشق من705مسيحية وكاتدرائية البطريرك منذ عام 1344مسيحية. والشارع المستقيم الموصل بين بابي الشرقي والجابية والذي يفتح القلب والنفس بما في ذلك قوس النصر (التترابيل )الموجود بجوار مريمية الشام…
كما عشت بعدها وفي العطل المدرسية الصيفية في سوق الصاغة الجديد في الحريقة، (بعد حرق السوق القديم الملاصق للجامع الأموي الكبيرفي عام 1958 وكانوا يقولون انه مفتعل)، لأتعلم فيه حرفة الصاغة التي كان يعمل بها عمي جوزيف ولكني لم اتعلم عنده بل عند ورش الصياغة التي لأصحابه…
منذ ذاك الوقت، كانت متعتي ان اتجول في دمشق القديمة الرائعة في حسنها الالهي بمافيها سوق الحيدية، حيث كنت اذهب ككل ممتهني وعمال الصاغة سيراً الى العمل صباحاً عن طريق القيمرية والنوفرة والجامع الأموي وقصر العظم وخان اسعد باشا العظم مروراً بأطراف الأسواق الفرعية المغطاة. والعودة منه مساء عن طريق العمارة الجوانية والفرايين وشارع الملك فيصل الى القصاع.
اما المرور من الجامع الأموي فقد كانت له لذة خاصة عندي انا الدمشقي المسيحي من جهة فهو قد كان
كاتدرائيتنا…ومن جهة أخرى فالجامع الأموي له رمزية خاصة عند كل دمشقي، فقد كنت استمتع بالمرور منه سواء في باحته الخارجية حافياً واشاهد تلك العربة الخشبية التي كانت معدة لنقل احجارمقتطعة من جبال المزة الى الجامع اواخر القرن 19 بعد حريقه الكبير، لإعادة بنائه وترميمه. كما كنت استمتع بالمرور في قلب المسجد الجامع وأقف امام ضريح القديس يوحنا المعمدان الذي يحوي رأسه من عام 450مسيحية وهو شفيع دمشق، وأُصلي امامه صلاة المعمدان، وأنا أرى المؤمنين يرمون تقدماتهم من النقود المعدنية داخله وفاء لنذورهم… ياه، ياهِ وياهْ ، يالله كم هي جميلة دمشق خاصة عندما يربطها الدمشقي بطفوليته وتراث عائلته…
ثم توسعت معرفتي بدمشق بتعاقب الأيام ثم الفصول وازدادت قدرتي على التجول بها نحو احيائها الحديثة…
عندما بلغ عمري 10 سنوات، انتقلنا من بيتنا وهو بيت العائلة العربي الصغير ولكنه جميل بأرض داره والقبو والبئر والطرنبة …، نحن فقط انتقلنا عائلة والدي، الى بيت جديد في قبو مقابل الاسعاف في المستشفى الافرنسي، في القصاع ذاتها، وتعرفت الى جيران جدد، وكان منهم إخوة في الايمان بالله الواحد عائلتان مسلمتان (متدينتان)، لم احس ابداً ولم يشعرني أهلي، ونحن ايضاً (متدينون)، أنهم غرباء عنا بل كنا أكثر من جيران، لقد كنا أهل بكل المقاييس…
وكنت وفي العاشرة من عمري، قد دخلت ميداناً جديداً لإغناء الطفولة،
فانتسبت الى النادي الكشفي، أي الفوج الثاني جاورجيوس، حيث بالاضافة الى ماكانت تبعثه في نفسي جولاته الكشفية بالموسيقى بالمناسبات الدينية( عيد الفصح) وتترافق باطلاق العيارات النارية ولعب السيف والترس ابتهاجاً بهذا العيد البهيج، وبمناسبة قبله حفلة كرنفالية في الشارع مع لعب السيف والترس يوم اثنين الراهب في اول يوم بالصوم الكبيرمساء، وبعد اول صلاة في كنيسة الصليب. وكانت عائلتنا لها مشاركة فاعلة في تنظيم وتفعيل الكرنفال المسمى وقتها ” المساخر” فجدي فارس كان زعيم الهنود الحمر بهالةالريش على راسه وهو زعيم الكرنفال، ثم خَلفَهُ عمي جوزيف في تنكره، وكان والدي يتنكر بلباس ابو مقشة، اما عمَايَ نقولا وحنين فكانا يتنكران بزي العفاريت بلباسهم واقنعتهم السوداء. وكذلك الجولات الكشفية في المناسبات الوطنية كعيد الجلاء، كانت تبعث بنفسي انا شخصياً بدورها حب الحياة والايمان وحب الوطن، وكانت الكشفية السورية بزنبقتها وشعارها كلمة “وأعدوا” تعلمني الرجولة في رحلات الخلاء وبالنوم في المخيمات بعيداً عن حنان الأهل وتدليعهم للولد…
فيها تعرفت على بلودان والزبداني لأول مرة برحلات القطار الممتعة في سوق وادي بردى…
وأيضاً في الطريق البري المساير لمجرى بردى والفيجة شريان الحياة للشام وللشوام. وفي كل مرة كنا نقرب ميسلون، كنت أتذكر عظمة الشهادة في سبيل سورية الحبيبة مع البطل يوسف العظمة في تلك المعركة الملحمية في تاريخ سورية الحديث، وأصر على قائد الرحلة ان نزور الضريح، وتغرورق عيناي بالدموع مع الصلاة لروحه الطاهرة وأرواح مجاهديه في كل مرة، وأتذكر ماكنت قد درسته كيف ان غورو الغازي طلب من الملك فيصل في إنذاره الأخير وقبل معركة ميسلون أن يسلمه سكة حديد دمشق – رياق… لينتقل جيش العدوان الفرنسي في قطارها الى دمشقنا الحبيبة… كنت وكمن يرى كيف أن جبال ميسلون كانت تتساقط عليها قذائف الفرنسيين من مدفعيتهم ودباباتهم وطائراتهم لتفتك بأربعة آلاف جندي دمشقي فقط هم ابطال ميسلون وهم يحملون سلاحاً فردياً عتيقاً… وبالأساس لايحملون الا سلاح بذل الذات في سبيل كرامة سورية، والذود عن حياضها في وجه اكبر جيش خاض الحرب العالمية الأولى وانتصر بها…
أتذكر الطريق الى صيدنايا، لزيارة ديرها المقدس دير السيدة العذراء العجائبي. والطريق الى معرة صيدنايا حيث كان خالي قد اقتنى ارضاً صغيرة فيها وابتنى بيتاً ريفياً متواضعاً لنزور فيه وعائلته يومي السبت والأحد وكنا نمر في المعلقة رائعة الحسن على الطريق في منطقة تل منين…
أتذكر الغوطة محيطة بدمشق من الجنوب الى الشمال عندما كنت أرافق أعمامي في طلعات صيد العصافير في الغوطة وما اقربها كانت الى القصاع وبيتنا، وفي نزهات اثنين الراهب في منطقة الجرن وهي الآن كورنيش التجارة وبستان الكزبري… وفي رحلات المسير الكشفية الى آخرالغوطة…
ماذا أتذكر لأتذكر فدمشق كياني وإحساسي وعشقي مابقيت حياً…
دمشق ومنذ طفولتي، كانت فيروز تنشد عن فخرها وعنفوانها و عن حسنها وجمالها وقاسيونها، وجبل حرمون( الشيخ) وبرداها وغوطتها…
أفهل تبقى هذه الذكريات التي أراها جزأً من كياني ودمي ونفسي وجسدي وتراث أهلي وعائلتي؟؟؟ وأنا الآن ارى دمشق ملتحفة بالسواد وبدم الشهداء!!!
ولكني انتفض مفتخراً بها، منشداً لها مع شوقي:
وللحرية الحمراء باب………………………..بكل يدٍ مضرجة يُدق
اترك تعليقاً