الشهيدة الأم ماريا سكوبتسوفا
تقديم
شخصية نادرة من الصعب أن تتكرر. تفور بالقوة والطاقة. عاشت وصية حب القريب بشكل مذهل. خبرت الحياة بواقعيتها. عرفت الزواج والطلاق، كما ذاقت فقدان الأم لأولادها بالموت. كرّست حياتها للرهبنة في “صحراء هذا العالم”. عاشت أشبه بخدمة شمّاسة تغسل أرجل المتألمين والمعدمين، بخاصّة أبناء بلدها الفارّين من روسيا والمشرّدين في باريس. ثارت على كلّ جمود. كتبت الشعر وألقت المحاضرات اللاهوتية والفلسفية، وحلّلت الواقع على ضوء المحبة الإنجيلية. وماتت، حرقاً، في معتقل نازي، قبل انتهاء الحرب العالمية الثانية بوقت قصير جداً.
أرادت هذه المرأة المميزة أن تعيش حياة رهبانية في العالم وتحمل رسالة تعزية في هذا العالم المتألم عُرفت بعدم التقيد بالأعراف ورفض الترف الروحي والعيش في البساطة الإنجيلية بشكل جذري والرغبة في خدمة الفقراء والمتألمين حيث يوجد المسيح
السيرة الذاتية
وُلدت في العام 1891 في مدينة في جنوب روسيا، لوالدين أرثوذكسيّين مؤمنين؛ ساعد إيمانهما في صياغة قيم ابنتهما وحساسيّتها وأهدافها. آمنت بالرّب يسوع واعتبرت محبّة الناس الطريق إلى محبّة الرّب، فضحّت بكلّ شيء؛ بوقتها وصحّتها، لمساعدة أولئك الَّذين كانوا بأمس الحاجة إلى الطعام والشراب والمأوى. كانت تبحث عنهم في أزقّة باريس الضيّقة وتحت الأشجار، لتأخذهم إلى البيت الَّذي استأجرته من أجلهم كي تؤويهم وتقيهم برد باريس الشّديد. آمنت بيقين أن ما من طريق آخر إلى الجنّة سوى المشاركة في رحمة الربّ. شغلها همّ مشاركة الفقراء والمشرّدين حياتهم ولم تعرف كيف في البداية.
رهبنتها
لم توفق في زواجها، وبعد انهياره وموت أحد أولادها شجّعها المطران إفلويي على الرهبنة “في صحراء هذا العالم”. فاتّخذت اسم الأم ماريّا وبدأت بمنزل بالإيجار غير مفروش بشكل كامل، ما اضطرها إلى أن تلفّ جسدها ببعض الأغطية وتنام على الأرض تحت أيقونة والدة الإله.
في اللّيلة الأولى بدأ المحسنون بإرسال الفرش تدريجيّاً، وفي الوقت ذاته بدأ الضيوف بالوصول. شكّلت النساء الروسيّات النسبة العُظمى من الضيوف في البداية. ولكي تؤمّن مكاناً للآخرين تركت الأم ماريّا غرفتها لتنام على سرير حديديّ في القبو قرب سخّان المياه، وحوّلت غرفة في الطابق العلوي إلى كنيسة، بينما وسّعت غرفة الطّعام لتُستخدم كقاعة محاضرات ومناقشة.
لم يعد المنزل يتسّع بعد عامين، فبحثت عن آخر أوسع، استطاعت إطعام مئة جائع فيه، وحوّلت حديقته الخلفية إلى كنيسة. هناك استطاع ضيوفها استرجاع أنفاسهم حتّى يحين الوقت الَّذي يستطيعون فيه الوقوف على أقدامهم ثانيةً.
ثمّ تطوّر العمل فاستأجرت بناءً آخر وخصّصت أحدهما للعائلات المحتاجة والثاني للرجال العازبين، بالإضافة إلى ملكيّة زراعيّة تحوّلت إلى مصحّ، حلّت فيه مجموعة من النساء المحرومات من كلّ عزاء. وفي المبنى ذي الرقم 77 شارع دي لورميل استطاعت تقديم 120 وجبة طعام يومياً. اعتادت أن تبدأ يومها بالذّهاب إلى السّوق لشراء ما تستطيع، وقد أصبحت معروفة جدّاً من أصحاب الدّكاكين في باريس.
لا أحد يعرف كم من الأرواح أنقذت هذه الرّاهبة الرّوسيّة في فرنسا خلال الاحتلال الألماني. المئات؟ بالتّأكيد وربّما الآلاف إنّها لم تُحصِ ذلك أبداً.
كان بإمكان الأم ماريّا أن تغادر باريس عندما كان الألمان يتقدّمون نحو المدينة أو حتّى أن تغادر إلى أمريكا، لكن قرارها كان حاسماً: إذا احتلّ الألمان المدينة فسأبقى هنا مع نسائي العجوزات. فإلى أيّ مكان آخر أستطيع أن أُرسلهنّ؟
كتبت الأمّ ماريا في فصح 1940: “إنّ الموت يحكم العالم بأسره. والآن وفي هذه اللّحظة بالذّات أعرف أنّ الموت قد أصاب المئات من النّاس، في حين الآلاف ينتظرون دورهم. كما أعرف أنّ الأُمّهات ينتظرن ساعي البريد ويرتجفن إذا ما تأخّرت الرّسالة أكثر من يوم واحد”.
سقطت باريس في الرّابع عشر من شهر حزيران. ومع هزيمة فرنسا ازداد جوع وفقر العديد من الناس. وأعلنت السّلطات منزل الأم ماريّا في شارع لورميل مركزاً لتوزيع الطعام. لقد آمنت الأمّ ماريّا دائماً بأنّ ثوبها كان هبة من الرب لمساعدتها على القيام بعملها الإنسانيّ، والآن فُتح لها الطّريق للدخول إلى المعتقل النّازيّ حيث عملت لمدّة ثلاثة أيّام متواصلة في مواساة الأطفال وأهلهم وتقديم العون لهم، موزّعة الطّعام الّذي استطاعت الحصول عليه، وقامت بإنقاذ حياة العديد من الأطفال بمساعدة عُمّال النّظافة؛ وذلك بوضعهم في حاويات القمامة وتهريبهم إلى خارج المعتقل.
اعتقالها من النازيين
في الثّامن من شباط 1943 اعتقلت قوّات الأمن النّازيّة ابنها يورا ونقلته مع جدّته العجوز إلى مكتب التّحقيق. وفي 10 شباط تمّ اعتقالها مع 34 امرأة أخرى لأنها تؤوي اليهود الفارّين من الاعتقال في بيتها. ونُقلت إلى ألمانيا أمّا ابنها يورا والأب ديمتري كاهن البيت فتوفّيا فيما بعد في السجن.
الأم مارّيا السّجين رقم 19263. بقيت سنتين في المعتقل ووُضِعت في المهجع رقم 27 الواقع في زاوية المعسكر الكبير ، ليس بعيداً عن المهجع رقم 31 المليء بالسجناء الروس الذين استطاعت أن تقيم صداقات مع العديد منهم. ويؤكّد أحد المعتقلين كيف استخدمت الأم ماريّا دخان محارق المعسكر رمزاً للأمل أكثر منه مخرجاً وحيداً من المعسكر؛ فكانت تقول: “عندما يتصاعد هذا الدّخان فإنّه يتحوّل إلى غيوم خفيفة قبل أن يتفرّق في الفضاء اللّامحدود، وهكذا عندما تتحرّر أرواحنا من هذه الأعراض المليئة بالخطايا، فإنّها تنطلق في رحلة سماويّة مريحة نحو الأبديّة، حيث الحياة المليئة بالفرح”. وكانت تعتقد بأنَّ مخرجها الوحيد من هذا المعسكر سيكون من خلال المحرقة، لذلك طلبت، من أحد أصدقائها السجناء الّذي أملت بأنّه سينجو، نقل رسالة شفويّة إلى الأب سيرغي بولغاكوف والمطران إفلويي وأُمّها، تقول فيها: “في حالتي الرّاهنة عليَّ أن أتقبّل الآلام لعلمي أنّ الأجور يجب أن تكون هكذا بالنسبة لي. وإذا ما كان عليَّ أن أموت فإنّي أجد ذلك بركة من الأعالي”. وفي بطاقة بريديّة سُمح لها أن ترسلها إلى بعض أصدقائها في باريس كتبت: “أنا مازلتُ بصحّةٍ جيّدةٍ وقويّة لكنّني أصبحت عجوزاً”.
تنوّع عملها في المعسكر ففي إحدى الفترات كانت تعمل ضمن فريق من النّسوة يقمن بجر مدحلة حديديّة ثقيلة في طرق ومداخل المعسكر لمدّة 12 ساعة يوميّاً. وفي مرحلة أُخرى عملت في ورشة حياكة. بدأت قواها تخور ولم تعد ساقاها قادرتين على حملها. وعند قراءة التّفقد كان أحد السجناء يعمل كعكاز لها. وعندما انهارت صحّتها لم يعد أصدقاؤها يقبلون أخذ جزء من طعامها كما كانت تفعل دائماً لتُبقي الآخرين دائماً على قيد الحياة.
مع اقتراب الجيش الأحمر من ناحية الشّرق خفّض القائمون على معسكر الاعتقال كميّة الطعام وزادوا عدد السجناء في كلّ مهجع. ومع حلول آذار عام 1945 أصبحت حالة الأم ماريّا حرجة وكان عليها أن تستلقي على فراشها بين التفقّد والآخر، ونادراً ما كانت تتكلّم، وحمل وجهها علامات الموت، ومع ذلك لم تتذمّر أبداً وقد أغلقت عينيها وبدت أنّها بحالة صلاة دائمة.
استشهادها
توفّيت الأمّ ماريّا في 30 آذار عن عمر 53 سنة. وصادف آنذاك يوم الجمعة العظيمة وكانت تُسمَع أصوات قصف قنابل الجيش الأحمر المتقدّم. تختلف التفاصيل حول وفاتها؛ فتبعاً لإحداها فإنّها كانت، ببساطة، واحدةً من العديد الذين تمّ اختيارهم للموت في ذلك اليوم، وتبعاً لرواية أخرى فإنّها أخذت مكان سجين آخر، وهذا ينسجم مع حياتها الكريمة التي عاشتها. لكنّها، على أيّ حال، قدّمت نفسها بوعي للمحرقة، وبذلك ساعدتنا جميعاً على قبول الصليب. لقد استنارت بسلام الربّ ونقلته إلينا. ومع أنّها قضت في غرفة الغاز ألّا أنّها لم تمت في ذاكرة الكنيسة، والنّاجون من الحرب الذين عرفوها بشكل متواصل ظلّوا يتحدّثون عن إيمانها وأفكارها ووجهات نظرها وأنشطتها كراهبة ذات شخصيّة مستقلّة قضت سنوات عديدة في مساعدة النّاس الّذين عاشوا في طريق اليأس.
وبدأت المقالات والكتب حول الأمّ ماريّا بالظهور بُعيد الحرب العالميّة الثّانية مباشرة باللّغتين الفرنسيّة والرّوسيّة، وبعد ذلك أُنتج فيلم روسيّ بعنوان (الأمّ ماريّا). كما صدرت قصّتان حول حياتها باللغة الإنكليزيّة (اللّؤلؤة الثّمينة).
اعلان قداستها
أعلنت البطريركية المسكونية قداستها مع الأب ديمتري وابنها يوري في 16 ك2/ 2004.
تبقى الأم ماريّا مثالاً يُحتذى به في مجال تطبيق كلمة الربّ: “كنتُ جائعاً فأطعمتموني، وعطشاناً فسقيتموني، وعُرياناً فكسوتموني، ومريضاً فزرتموني”.
Beta feature
اترك تعليقاً