الأناجيل، تحديداً مرقس، وعلم الآثار

الأناجيل، تحديداً مرقس، وعلم الآثار

الأناجيل، تحديداً مرقس، وعلم الآثار

يخبرنا الكتاب المقدس أن يسوع ترك الناصرة وانتقل إلى كفرناحوم (متى 4: 13) ليعيش فيها، حتى أنها أصبحت تُعرف وكأنها “مدينته” (متى 9: 1).
هنا كان يزور المجمع في السبوت ليصلّي ويعلّم (مرقس 1: 21-28) فأجرى فيه أولى معجزاته (مرقس 5: 21-42؛ متى 8: 14-17؛ لوقا 5: 21-42؛ 4: 31-35).
وهنا أيضًا التقى بأول خمسة من تلاميذه الإثني عشرة، هم الرسل: يعقوب، ويوحنا، وبطرس، وأندراوس المدعو أولاً، وأربعتهم صيادو سمك، ثم متى الذي كان عشاراً (مرقس 1: 16-20؛ متى 4: 1؛ 18-22؛ لوقا 5: 1-11).
وكانت مدينة كفرناحوم مركزًا رئيسيًا لبشارة المسيح في الجليل (متى 4: 13، 8: 5)، حيث بدأ يسوع التعليم في المجمع وشفاء المرضى من جميع الأسقام، ما أدى إلى انتشار شهرته في كلّ أنحاء المنطقة (مرقس 1: 14-28).
الأناجيل، تحديداً مرقس، وعلم الآثار
الأناجيل، تحديداً مرقس، وعلم الآثار
وأثناء وجوده في كفرناحوم، عاش يسوع في منزل بطرس الرسول، هناك حيث شفى حماة بطرس (مرقس 1: 29-34؛ متى 8: 14-16؛ لوقا 4: 38-41) وشفى مخلعاً يحمله أربعة، وقد تم إنزاله من السقف (مرقس 2: 1-12؛ متى 8: 1-4؛ لوقا 2: 1-16؛ 5: 12-16).
تم إنشاء كفرناحوم في القرن الثاني قبل الميلاد. وخلال فترة نشاط يسوع في الجليل، كانت مدينة كبيرة. وفي أواخر العصر الروماني والبيزنطي، أصبحت مدينة مزدهرة، تمتد على طول شاطئ بحيرة طبريا والمنحدر شمالاً. وكان سكانها من الصيادين والمزارعين والتجار.
تصف المصادر المسيحية من العصر البيزنطي كفرناحوم بأنها مدينة يسكنها اليهود والمسيحيون. والفترة الإسلامية المبكرة استمرت في الازدهار حتى القرن الحادي عشر عندما تراجعت وتم هجرها.
إنها واحدة من أبرز مواقع الحج المسيحية في الأراضي المقدسة ومن أكثر المعالم المسيحية قدسية وخصوصية، إذ يمكن للمؤمنين الجلوس على نفس المقاعد الحجرية القديمة عينها، التي كان يسوع يجلس عليها في المجمع، ويسير في عين الشوارع التي كان يسير فيها المخلّص، ويرى بأمّ عينه البيت الذي سكن فيه الناصري في كفرناحوم معظم مدة بشارته.
لقد عرف الرحّالة الأوائل إلى الموقع منذ قرون طويلة آثار المجمع من العصور القديمة، والمحفوظة بشكل جيد، والذي يعتقد الكثيرون أنه كان بمثابة الموقع، إن لم يكن البناء الفعلي بالذات، للمجمع الذي ألقى فيه يسوع التعاليم الأولى. لكن هناك أيضاً تفاصيل مهمة عن كيفية بدء المسيحية في تلك المنطقة من الجليل وعن مسراها واستمراريتها، انطلاقاً من منزل بطرس حيث عاش الرب لسنوات قبل موته وقيامته وصعوده إلى السماء، ليصير بعدها بيت الرسول أحد أقدم كنائس فلسطين والعالم.
كفرناحوم، المدينة التي تأسست في القرن الثاني قبل الميلاد، استمرت في الازدهار حتى القرن الحادي عشر. ولكنها بقيت عبر العصور مكاناً دينياً هاماً ومقصداً للحجّاج، وفي عام 1838 قصدها العلّامة الأميركي إدوارد روبنسون، ثم عاد إليها ثانية عام 1852. ومنذ ذلك الحين اجتذبت أطلال المدينة العديد من الباحثين وعلماء الآثار، الذين كان هو أولهم، حتى أنه دُعي بحقّ مؤسس علم آثار الكتاب المقدس. وقد طبع دراساته عن جغرافية فلسطين ومعالمها الآثارية في ثلاثة أجزاء، لا تزال إلى اليوم مرجعاً هاماً للطلاب والعلماء على حدّ سواء.
الأناجيل، تحديداً مرقس، وعلم الآثار
الأناجيل، تحديداً مرقس، وعلم الآثار
وفي نهاية القرن التاسع عشر تمكن الآباء الفرنسيسكان من استملاك الموقع، فأجروا الحفريات، خاصة لمبنى المجمع والمنشأة المثمنة الأضلاع جنوبه. في الأعوام 1968-1972، قام الآباء الفرنسيسكان بتنقيبات واسعة النطاق في كفرناحوم، ثم في 1978-1982، أجروا حفريات جديدة في كل المنطقة، شملت أيضاً كنيسة الروم الأرثوذكس شرقي المجمع. وقد صدرت نتائج تلك الدراسات في أربعة أجزاء هي في غاية الأهمية.
آثار كفرناحوم من زمن العهد الجديد تقع على الشاطئ الشمالي لبحر الجليل، الذي يدعى أيضاُ بحيرة طبرية أو جنيسارات. المعلم روماني بامتياز ويشهد نقشٌ من فترة الإمبراطور هادريان (أوائل القرن الثاني الميلادي) على الطريق المهم للغاية عبر المدينة، يربط الجليل بدمشق. كشفت الحفريات أيضاً أن منازل المدينة في الفترة التي عاش فيها المسيح كانت في غاية التنظيم، مرتبة في كتل عمرانية، وبينها شوارع متقاطعة. تكونت البيوت من فناء كبير تحيط به الغرف، وقد تم تشييدها من البازلت والطين المحلي، وكانت جدرانها مغطاة بالجص الفاتح اللون. وكان لكل منزل مدخلٌ واحد فقط من جهة الشارع. كان فناء البيوت مرصوفاً بالبازلت، وبنيت أدراج خارجية على جدرانها، ما كان يتيح الوصول إلى الطابق الثاني أو السطح. وتم الكشف عن العديد من الأفران في ساحات تلك المنازل، التي كانت تحتوي أيضاً على مطاحن حجرية من البازلت.
المجمع مبني من كتل كبيرة من الحجر الجيري الأبيض، مصدرها تلال الجليل غربي المدينة. تم تزيين المجمع بنقوش بارزة من هذا الحجر عالي الجودة، وتضمن العديد من الزخارف غير المعروفة في المعابد اليهودية القديمة الأخرى. وقد تم العثور على مئات الأجزاء من عناصر البناء المزخرفة في كومة تغطي بقايا المجمع، متناثرة في مكان قريب، ذات الاستخدام الثانوي. كانت هذه الزخارف تزين الجزء العلوي من المبنى، وخاصة الجزء الخارجي منه، ولكن على الرغم من وفرة الزخارف التي بقيت، لم يكن من الممكن ترميمها إلا جزئيًا.
تم بناء مجمع كفرناحوم هيكل المثير للإعجاب على منصة بارتفاع سبعة أقدام تعلو مستوى بيوت البلدة، ومنفصلة عنها بالشوارع من الجهات الأربع. وهو متوجه من الشمال إلى الجنوب، وكانت له واجهة جنوبية مزخرفة باتجاه القدس في الجنوب. يتكون المجمع من قاعة للصلاة (67 قدم × 61 قدم)، وفناء إلى الشرق (67 قدمًا × 36 قدمًا) ومدخل للرواق مع شرفة (بعرض 13 قدمًا)، تمتد على طول واجهة المبنى بأكمله. وعلى جانبي الرواق سلالم، تؤدي إلى شرفة المدخل، المطلة على المجمع. كان المجمع بجميع أقسامه مرصوفاً بألواح كبيرة وسميكة من الحجارة الجيرية الملساء. أما الوصول إلى قاعة الصلاة فكان من الفناء، عبر مدخل واحد.
الأناجيل، تحديداً مرقس، وعلم الآثار
الأناجيل، تحديداً مرقس، وعلم الآثار
في المخطط، تم تقسيم القاعة بصف من الأعمدة (مجموعها 16)، فتشكلت بذلك ثلاثة أروقة بمحاذاة جدرانه الثلاثة، أما الجدار الجنوبي فكان هو الواجهة للمعبد. جدران البازيليكا الخارجية تم تزيينها بثلاثة أعمدة مسطحة بارزة عند الجدار الجنوبي من الشرفة المطلة على قاعة الصلاة، حيث تم وضع هذه الأعمدة الكورنثية على قواعدها المرتفعة. وعلى طول الجانبين الغربي والشرقي كانت مقاعدُ حجرية لجلوس المصلّين. وكان هناك في الجدار الشرقي ثلاث نوافذ مرتفعة، تعلو عن مستوى الشارع. وكانت قاعة الصلاة مغطاة بسقف جملوني، تم تشييده من عوارض خشبية وسقف من الطين.
وهناك الزخارف التصويرية، وهي قليلة لكنها في غاية الجمال والروعة. هناك أسد ونسر على المدخل الرئيسي لقاعة الصلاة، ويبدو أن تماثيل لأسود كانت موضوعة أيضًا على جانبي السقف الجملوني (أكروتيريا)، إذ كانت مثل هذه الزخارف شائعة. كما أنه يوجد هناك شمعدان بقرن كبش ومجرفة بخور، وأيضاً زخرف لعربة، يُنظر إليها على أنها تصور تابوت العهد. ومن بين الزخارف ذات الدلالات الدينية سعف النخيل وعناقيد العنب والرمّان. وكذلك زخارف هندسية، بما في ذلك لورود، وبأشكال نجوم أيضاً سداسية وخماسية. وعلى عمودٍ في قاعة الصلاة يوجد النقش اليوناني التالي: “نصب هذا العمود هيرودس بن موموس ويوستس ابنه وأبناؤه”. عُثر أيضاً على عمود آخر، يبدو أنه كان قائمًا في فناء المجمع، نقشٌ آرامي جاء فيه: “هذا العمود عمله حلفو بن زبيدة بن يوحانان. فليكن مباركاً”.
الأناجيل، تحديداً مرقس، وعلم الآثار
الأناجيل، تحديداً مرقس، وعلم الآثار
بقلم الشماس بولس
صفحة Metropolite Athanasio

 

  • Beta

Beta feature

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *