الإنجازات الأولى للمطران أليكسي في أبرشية حمص
مقدمة تمهيدية
متحلياً بالحكمة والرصانة وبفضائل غزيرة، ومتسلحاً بعلوم ومعارف كثيرة، من لاهوتية وتاريخية إلى فلسفية وقانونية، ناهيك عن خبرة طويلة ومميزة في فنون الإدارة والدبلوماسية، تسلّم المطران الشاب أليكسي عبد الكريم زمام إحدى أعرق الأبرشيات الأنطاكية عام 1969. وكان ذلك في ظروف استثنائية وصعبة للغاية، ساد فيها انقسام وتوتر في كل من المجمع الأنطاكي والحكومة السورية.
بعد انتخابه بالإجماع مطراناً على حمص، قام البطريرك ثيوذوسيوس بتكليف عميد المطارنة السيد الياس معوض متروبوليت حلب بترأس حفل الرسامة ومرافقة المطران الجديد إلى أبرشيته. لم يُستقبل بالأهازيج والورود، بل وتمت مقاطعته من شريحة لا يستهان بها في المجتمع الحمصي والطائفة الأرثوذكسية، ما زاد الأمر صعوبة وتعقيداً. لقد أدرك المطران الشاب مباشرة أن جلجلته قد بدأت للتو ولا ينتظره سوى درب الصليب الذي سلكه سيده من قبله، فكان حمله للصليب بكل صبر وجلادة وعزيمة لا تفتر مرقاته إلى القيامة والمجد.
في 7 تشرين أول 1969، التأم المجمع المقدس في دير مار الياس شويا، وهم الأكثرية المطلقة، فانتخبوا الأسقف أثناسيوس سكاف، وهو تلميذ المطران الكسندروس جحا والمرسوم عن يده شماساً في كاتدرائية الأربعين عام 1946، مطراناً لحماة. أيضاً في هذا اليوم 7 تشرين أول 1969، انتخب المجمع المقدس بالإجماع في دير مار الياس شويا الأرشمندريت أليكسي عبد الكريم مطراناً على حمص.
ليست لدينا الكثير من البيانات بخصوص الأرشمندريت غفرائيل فضول، الذي انتخبه المطارنة المنشقون الأربعة، المجتمعون في دمشق، مطراناً لحمص في 7 تشرين أول 1969، في حين قاموا بانتخاب الأرشمندريت أليكسي عبد الكريم مطراناً على حماة.
وإذاً، كونه كان كفؤاً للمنصب الأسقفي ومحبوباً من كلا الطرفين المنخرطين في نزاع كنسي، لمّا كان لا يزال في موسكو رئيساً للأمطوش الأنطاكي في روسيا، وردته في نفس اليوم برقيتان من كلا الطرفين تخبرانه أنه قد انتخب. فماذا تتوقعون رد فعله؟ هل يمشي مع المنشقين ويسلك ضد الشرعية التي طالما احترمها وقدّرها عالياً، في حين أن في المجمع اثنان كانا له بمثابة أخوين: الياس قربان وفيليب صليبا؟ وما الذي قد يدفعه إلى الاختيار المتهور بالإصغاء إلى رئيس فريق المنشقين، مطران حمص الأسبق ابيفانيوس زائد، الذي كان الشعب الحمصي قد طرده منها في عام 1934؟
وبتكليف من البطريرك رئيس المجمع، تمت رسامته ورافقه إلى حمص المطران الياس معوض، الذي سينتخب بطريركاً بعد أشهر قليلة، وكان الاعتداء على سيارتيهما، فتمّ إبلاغ المعنيين بالأمن، وهو الأمر الطبيعي المتوجب فعله. كانت مطرانية حمص محتلة، وتم اعتقال العشرات منهم، وبعد التحقيق معهم تبين أن أكثرهم ليسوا أصلاً من حمص، ولا من سوريا حتى، في حين أن الأغلبية منهم لم يكونوا أرثوذكسيين، ولا حتى مسيحيين!!!
أكثرنا لم يعاصر الأحداث بل قد سمع عنها، وعلى الأغلب بطريقة مشوهة تجافي الحقيقة. لكن لدينا شهادة صادقة وتستحق الاهتمام من أحد مثقفي حمص، السيد جورج جحا، وهو من أصدقاء صفحتنا المميزين، الذي أدلى بدلوه مشكوراً، ملقياً الضوء على ما جرى عام 1969 وتقييمه له:
” انتخب غفرائيل فضول من قبل المطارنة الأربعة. حدث الإنشقاق المؤلم مع المجمع الانطاكي في دير مار الياس شوبا.. ووصل فضول إلى حمص وبقي بحدود خمسة أسابيع وطلب منه الخروج من سورية. في 7/10/1969انتخب سيدنا الكسي مطرانا على حمص وحدثت الأزمة الكبرى بالانشقاق والأحداث المؤسفة …لقد عشت تلك الظروف بوعي كامل … كان غفرائيل فضول اشمندريتا أعتقد في أميركا وحضر قداس جنازة سيدنا جحا وقام بمراسم قراءة الانجيل وترتيل المزمار ارحمني يا الله ومشى في جنازته مع الحضور من كنيسة الأربعين إلى كنيسة البشارة ..ونشرت له دعاية قوية في أوساط الأرثوذوكس على أنه يساري الهوى بينما أشيع عن سيدنا الكسي بأنه قومي سوري اجتماعي (اخذ الموضوع) صراع سياسي دخلت على خطه أطراف عدة .. دينية وأمنية وحزبية .. الموضوع بايضاح شديد تطرق إليه الأستاذ ادوار حشوة محامي المحكمة الروحية والمستشار القانوني للمثلث الرحمات المطران جحا بالتفصيل في إحدى مقالاته.. يمكن الرجوع إليه .. في الحقيقة؛ كانت مرحلة مضطربة يسودها الغموض وشديدة التداخلات .لكن مع الايام اثبتت الأحداث الحضور الكبير للمطوب الذكر سيدنا الكسي وغيرته الروحية فقد حافظ على مقام الكرسي للأبرشية بكافة معطياته رحمه الله. بعد المصالحة التي قادها المطوب الذكر البطرك اغناطيوس هزيم الذي رفع شعار المحبة لعهده وتم الاجتماع بالمريمية في دمشق وأثناء انعقاد اول مجمع بعدته رفع والغي قطع الشراكة وعادت الوحدة إلى الكنيسة بتصحيح وضع واعادة الاعتبار لفضول وانطون الشدراوي” .
تاريخ الكنيسة المسيحية في ألفي سنة حافل بقصص مماثلة عن مطارنة لم يتم الترحيب بهم في البداية كما يجب في الأبرشيات التي أُقيموا عليها، ومنهم قديسون عظماء في رزنامتنا الأنطاكية. فلم يكن المطران أليكسي استثناءاً. لكن ما حدث حدا به إلى عمل روحي استثنائي، لا نسمع عن نظيره إلا في سير كبار القديسين .
نكتفي هنا بشهادة السيد مسلم طويلة من حي العدوية – باب السباع: كنا شباباً شيوعيين، وجاءنا مطران لا يتشيع بهذا الحزب، ولهذا لم نتقبله في البداية. وكان يزور جميع بيوت الطائفة من حولنا، لكني كنت مصراً على رفضي استقباله، بل وعلى إهانته لفظياً في محاولته الثانية. ومع ذلك عاد إلينا يقصدنا طارقاً من جديد بابنا، ولقد أذهلنا سلوكه هذا، وفي المرة التالية لما حضر وقرع الباب، فتحت له واستقبلته في بيتي، فإذا به دمث الأخلاق ولطيف المعشر ومحدّث كبير واجتماعي جداً، واستشفيت فيه رجل الدين المتواضع والمثقف المحنك الذي قضى في روسيا زمناً ليس بقصير. لقد أحببناه للفور، ولما عرف أن أولادي الثلاثة لا يزالون غير معمدين رتب للأمر وقام هو بنفسه بتعميدهم. وكان يواظب على زيارتنا كل سنة ونحسن استقباله ونسعد بحضوره. (ملاحظة: الأبناء الثلاثة هم الدكتور رامز، الأستاذ نزار، والدكتور هشام طويلة).
صفحة
Metropolite Athanasios
الشماس بولس
اترك تعليقاً