جرجي زيدان…
جرجي زيدان
جاء في عدد مجلة الهلال الصادر في ايار1972 مايلي
“عبقري صنع من طباخ، واسكافي وقماش، طالب طب وصيدلة، وعالماً متواضعاً كل التواضع، مكافحاً غاية الكفاح، صادقاً منتهى الصدق، مثابراً شديد الجلد، مؤمناً الى أجمل حدود الايمان…
هذا هو جرجي زيدان مؤسس “الهلال”.”
من هو جرجي زيدان؟
هو أديب وروائي ومؤرخ وشامل المواهب… أجاد فضلاً عن اللغة العربية اللغات العبرانية والسريانية والانكليزية والفرنسية..
المولد والنشأة
ولد علمنا جرجي في بيروت وهو ابن اسرة مسيحية ارثوذكسية فقيرة اصلها من قرية عين عرب بجبل لبنان وكان يوم مولده في 14 كانون الأول من عام 1861 بعد اشرس فتنة طائفية ومذبحة بحق المسيحيين في جبل لبنان ودمشق، كان ابوه حبيب رجلاً امياً يملك مطعماً في ساحة البرج ببيروت، كان يتردد على هذا المطعم رجال الأدب واللغة وطلاب الكلية الأميركية ( الجامعة الأميركية) حال تاسيسها في رأس بيروت، وقد ارسله والده الى مدرسة متواضعة لتعلم القراءة والكتابة والحساب ليستطيع مساعدته في ادارة المطعم وضبط الحسابات، ثم التحق بمدرسة الشوام التي كانت في الأشرفية والتي اسسها العلامة الدكتور يوسف عربيلي الدمشقي فتعلم فيها اللغة الفرنسية، ثم التحق بمدرسة ليلية حال ابناء كل الأسر المستورة لتلقي العلم مساء والعمل نهاراً لمساعدة ذويهم، حيث عمل في مطعم والده إلا ان والدته مريم مطر لم تكن راضية عن ذلك وطلبت من ابيه ان يعلمه صنعة أخرى، فاتجه الى تعلم حرفة صانع الأحذية وهو في سن الثانية عشرةولمدة عامين الا انه تركها لعدم رغبته في هذا العمل.
بدأ يميل الى المعرفة والاطلاع وشغف بالأدب، واحتك بالمتخرجين من الجامعة الأميركية ورجال البرج في بيروت، ويعقوب صروف وسليم البستاني وابراهيم اليازجي وفارس نمر وجميعهم من أهل الصحافة والفكر والأدب، التحق بالجامعة المذكورة لدراسة الطب حيث نجح في امتحان القبول، وبعد دراسة سنة في كلية الطب ترك هذا الفرع واتجه الى دراسة الصيدلة، الا انه قرر ان يرحل الى مصر ليدرس الطب فيها، فاقترض مبلغ ستة جنيهات من جار له في بيروت.
يقول جرجي زيدان” نشأت في صباي وأنا ارى والدتي لاتهدأ لحظة من الصباح الى المساء… همها تدبير بيتها وتربية اولادها… شببت على ذلك والفته، فغرس في ذهني ان الانسان خلق ليشتغل. وان الجلوس بلا عمل عيب كبير” فقضى جرجي سنتين في مدرسة المعلم الياس…. حيث اعلن بعدها المعلم ان جرجي قد ختم درسه وأصبح يفك الحرف اي يفك الخط ويقول جرجي:” كنت أقرأ جيداً، لكنني لم أكن أفهم ما أقرأ” ! ثم نقله والده الى مدرسة الشوام(1)، وبعد سنتين من الدرس على المعلم ظاهر خير الله الشويري(2) احتاج والده الى مساعدته مؤقتاً… المحل في ساحة البرجفي بيروت والساحة يومءذ ملتقى الرعاع واهل البطالة” فهم السكير والمقامر وأهل الدعارة والخصام” ولكن طبيعة جرجي الأصيلة ونفسه الأبية تعصمه من الزلل. وفي نفس الوقت كانت الأم تكره المطاعم وتلح على الوالد ليواصل الولد الدرس. لكن الأب المحافظ كان مقتنعاً بأن الابن” قد أتم دروسه ولا فائدة من كثرة الدروس”. واتفق على ان يتعلم صناعة أخرى بعيدة عن ” رائحة الزفر والانحباس في الدكان ليل نهار” فعلموه صناعة الأحذية، وبعد سنتين في مهنة الاسكاف عاد الى المطعم مرة أخرى، بعد ان تدهورت صحته من فرط الاعتكاف على العمل طول اليوم.
هنا أدرك الصبي انه لا جدوى من محاولات الانتظام في التعلبم، وانه اذا كان حقاً يريد العلم فليكن هو معلم نفسه…وبدأ الصبي طريق الكفاح الطويل، في السنوات الأولى بهره “الحكواتي” وعلى الباب الخلفي للدكان ينسى نفسهن ويصغي بكل حواسه الى قصص فيروز شاه، وعنترة، والزير سالم، وعلي الزيبق،وغيرها من القصص الشعبية… وبقي معه هذا الحب العميق للفن الشعبي، حتى لقد اصبحت رواياته التاريخية فيما بعد نهجاً على هذا المنوال، حيث مزج القصة المسلية بالتاريخ، وتميز اسلوبه في الكتابة بالبساطة واليسر مماجعله قريباً من أفهام ومدارك وتوق الناس.
في الوقت ذاته كان الصبي جرجي يستمع الى رواد مطعم والده من المثقفين، ويستفيد من احاديثهم، وتعلم اللغة الانكليزية في وقت فراغه حتى أتقنها، وكان يقضي الليل في الدرس والمطالعة ويقول: ” وكثيراً ما تشرق النفس وأنا جالس أقرأ” وكثيراً مانهره والده على هذا السهر(3)، خوفاً على صحته. واتفق يوماً أن وُفق الصبي لشراء نسخة قديمة من موسوعة “مجمع البحرين” للشيخ ناصيف اليازجي، بنصف ثمنها، فلما رأى والده الكتاب سأله عنه، فلما علم أنه اشتراه غضب لأنه “استبدل ورقاً بالنقود…”!
وكانت مجلة المقتطف قد ظهرت وقتئذ، فاطلع على نسخة كانت مع أحد رواد مطعمه، وقرأ مقالاً عن الخسوف فبهره أن الأرض تدور حول نفسها وتتوسط الشمس والقمر، ووجد في العلم بعد الأدب لذة مابعدها لذة، وفي مطالعته نشوة، وأقبل على علوم الحياة، وحفزته مجلة المقتطف على كتابة اول مقالة، ولم ييأس لأن المقالة لم تنشر، فيقول: “فهمت انها لم تنشر لضعفها واتخذت من ذلك درساً لنفسي… اعتقدت أنني لم أصر بعد أهلاً لنشر مقالاتي، ولم أكتب لأية صحيفة منذ ذلك الحين الا بعد ان درست الطبيعيات ودخلتُ مدرسة الطبْ حيث تفقهتُ في بعض فروعه”.
وكان قد اطلع على كتاب “سر النجاح” الذي نقله الى العربية الدكتور يعقوب صروف… فيقول:” فهاج في نفسي النشاط والحماسة، ممن بلغوا ذروة المجد والنجاح بجدهم واجتهادهم، واعتمادهم على انفسهم وفيهم الحلاق، والاسكافي، والصانع، والخادم… وكنت كلما قرأت شيئاً من ذلك، اهتاجت مشاعري، واستولى علي الأرق فلم اجد سبيلاً الى االنوم… كما يتملكني الشعور بالأسى والأسف والانقباض، إذ أجد نفسي مقيداً باستمرار في عملي البعيد عن العلم، والمستقبل الذي أتوق اليه”.
زاد طموح الشاب جرجي، وزاد ايمانه بأنه ينبغي ان يتخلص من أسر المطعم، فقرر ان يدرس الطب، ولم ييأس من طول الطريق، او الدروس الكثيرة التي لابد له من دراستها لتؤهله للالتصاق بكلية الطب، ووراءه امه تشجعه، وبقوة ارادته قضى الشهور في الدراسة، ثم تقدم لامتحان القبول في كلية الطب ونجح وتفوق.
هجرته الى مصر ودراسته وعمله
هاجر إلى مصر والتحق بكلية الطب إلا أن ظروفه المادية، وطول مدة الدراسة جعلته يبحث عن عمل. فعمل في تحرير(جريدة الزمان) الباقية بعد او اوقف الاستعمار الانكليزي كل الجرائد في مصر، وكان يملكها رجل أرمني الأصل كل
ثم عمل (ونظراً لتضلعه في اللغة الانكليزية واتقانه لها) مترجما في مكتب المخابرات البريطانية بالقاهرة ورافق الحملة الإنجليزية التي توجهت للسودان لإنقاذ القائد
الإنجليزي “غوردن” من حصار جيش المهدي ، ودامت رحلته في السودان عشرة اشهر، عاد بعدها الى بيروت العام 1882 وانضم للمجمع العلمي الشرقي، وهذا ما مكنه من تأليف اول كتاب في فلسفة اللغة العربية، ثم اصدر منه طبعة جديدة منقحة عام 1885 وتعلم اللغتين العبرية والسريانية واصدر كتاباً جديداً بعنوان: ” تاريخ اللغة العربية”، وعاد الى مصر منقطعاً الى التأليف والصحافة، ثم زار انكلترا في عام 1904.
استقر في القاهرة وأدار مجلة المقتطف بعد ان عمل في التأليف والترجمة فيها مدة 18 شهرثم استقال منها.
ثم عمل مدرساً للغة العربية في المدرسة العبيدية الكبرى في القاهرة لمدة عامين وترك التدريس ايضاً، ثم اشترك مع نجيب متري في انشاء مطبعة الا ان الشركة بينهما فُضتْ بعد عام، واحتفظ جرجي زيدان بالمطبعة واسماها “مطبعة الهلال” بينما انشأ نجيب متري مطبعة مستقلة اسماها “مطبعة المعارف”
وكان يقوم بتحريرها بنفسه، ثم في عام 1892 أصدر علمنا جرجي زيدان “مجلة الهلال” وساعده ابنه اميل، وقد صدر العدد الأول من مجلة الهلال عامئذ 1892، وبعد خمس سنوات صارت مجلة الهلال من اوسع المجلات انتشاراً في مصر والعالم العربي، وكان يكتب بها عمالقة الفكر والأدب، ورأس تحريرها كبار الأدباء والكتاب أمثال أحمد زكي، والشاعر صالح جودت وعلي الراعي وحسين مؤنس وغيرهم.
وقد جاء في الموسوعة العربية الميسرة” اراد ان يدرس الطب في جامعتها الأميركية، ولكنه اختلف مع اساتذتها فقدم الى مصر ليدخل مدرسة ” قصر العيني”. ولم يلبث أن تحول الى الصحافة والأدب، فاصدر مجلة الهلال العام 1892 وافاد من معرفته بعدة لغات ادبية، وبعض اللغات السامية في اقتباس طرائق البحث الحديث في اللغة والأدب والتاريخ فكتب الالفاظ العربية والفلسفة اللغوية (بيروت 1886) و( تاريخ التمدن الاسلامي/ 5 أجزاءعام 1902) و(تاريخ آداب اللغة العربية/ 4 أجزاء-1911)، كما كتب سلسلة من الروايات حول تاريخ الاسلام.
وفاته
توفي جرجي زيدان فجأة وهو بين كتبه واوراقه في تموز 1914 في بيته بالقاهرة، وقد اقيم له مأتم كنسي وادبي حافل في الكاتدرائية الأرثوذكسية في القاهرة رئسه بطريرك الروم الأرثوذكس وبمشاركة المعتمد الأنطاكي في مصر والاكليروس الأرثوذكسي كافة واكليروس بقية الكنائس الشقيقة وجمع غفير من المهتمين بالأدب والتاريخ والشعر اضافة الى الجالية السورية ” الشوام” كما كانت تسمى وقتئذ.
والقيت كلمات التأبين والرثاء بهذا العلم الفذ، وقد رثاه كبار الشعراء من أمثال أمير الشعراء أحمد شوقي، وخليل مطران شاعر القطرين، وحافظ ابراهيم…
انتاجه الأدبي واللغوي والتأريخي
في التاريخ
-
العرب قبل الإسلام – الجزء الأول، طُبع في مصر سنة 1908
-
تاريخ التمدّن الإسلامي- خمسة أجزاء –طبع في مصر تاريخ 1902- 1906 تاريخ مصر الحديث – جزآن- طُبع في مصر 1889
-
تاريخ الماسونية العام – مطبعة الهلال
-
تراجم مشاهير الشرق
في اللغة وآدابها
-
الألفاظ العربية والفلسفة اللغوية – بيروت 1889
-
تاريخ آداب اللغة العربية – أربعة أجزاء- مصر 1911
-
اللغة العربية كائن حي – بيروت 1988 -طبعة ثانية
سلسلة روايات تاريخ الإسلام
-
فتاة غسان
-
فتح مصر على يد عمرو بن العاص، وهي تتحدث عن قصة فتح مصر بيد القائد المسلم عمرو بن العاص وهي باسم ارمانوسة المصرية.
عذراء قريش: مقتل عثمان، وواقعتي الجمل وصفين وقد نقلها الى الفارسية خسروي الكرمنشاهي ، غادة كربلاء: مقتل الحسين بن علي بن ابي طالب، الحجاج بن يوسف: الأحوال السياسية في العصر الأموي، فتح الأندلس بقيادة طارق بن زياد، شارل وعبد الرحمن: الفتوح الاسلامية في اوربه، ابومسلم الخراساني: سقوط الخلافة الأموية، العباسة اخت الرشيد: احوال البلاط العباسي في عهد هارون الرشيد، الأمين والمأمون: العصر الذهبي للدولة العباسية، عروس فرغانة: سامراء عاصمة الخلافة الجديدة للدولة في عهد المعتصم بالله، أحمد بن طولون: مصر في القرن الثالث للهجرة، عبد الرحمن الناصر: العصر الذهبي في الأندلس، فتاة القيروان، صلاح الدين الأيوبي: الحروب الصليبية، شجرة الدر، الانقلاب العثماني: الأحوال السياسية في عهد عبد الحميد الثاني، أسير المهدي: وتحكي قصة الثورة العرابية بقيادة احمد عرابي في مصر، ثم ثورة المهدي في السودان وذلك من خلال ابطال القصة (شفيق) و(فدوى)، المملوك الشارد، استبداد المماليك، بيت القصيد، جهاد المحب.
حواشي البحث
1- بعد نكبة مسيحيي دمشق في مذبحة 1860 لجأ عدد كبير من العائلات الدمشقية الأرثوذكسية الى بيروت واقاموا في تلة الأشرفية حيث بدأوا باعمارها وانشأوا جمعيات ومدارس لهم كان منها مدرسة الشوام والتي اسسها وادارها الدكتوريوسف عربيلي الدمشقي وانتظم فيها وقتها ابناء الشوام.
2- المعلم ظاهر خير الله الشويري من ضهور الشوير بجبل لبنان صار كاتب البطريركية وخلفه ابنه المعلم خير الله بدءاً من تعريب السدة البطريركية وبطريركية السيد ملاتيوس الدوماني الدمشقي عام 1998 وكتب كتاباً قيماً وثق به مجريات انتخاب وتنصيب البطريرك ملاتيوس وعاش الأب والابن في دمشق وتوفيا ودفنا فيها وقدما خدمات جلى للكرسي الأنطاكي المقدس.
3- كل اعلام كرسينا الأنطاكي من اكليروس وعلمانيين مروا بهذا الموقف بسبب الفقر وانصرافهم الى العمل للمساعدة في اعالة الأسرة وكان ابرزهم القديس الشهيد في الكهنة يوسف الدمشقي او الخوري يوسف مهنا الحداد الذي كثيراً مامنعه اهله من الدراسة، وخاصة في الليل، خوفاً عليه من الوفاة مبكراً كما
حصل لشقيقه كما اعلمهم الأطباء وقتها.
.
اترك تعليقاً