حادثة غرق «السفينة سلطانة» المنسية، التي فاق عدد ضحاياها ضحايا التايتانيك
قصة مأساة غرق سفينة سلطانة وكارثة بشرية انسانية
مدخل
بعد مضي أسابيع قليلة على نهاية الحرب الأهلية الأميركية والتي أسفرت عن سقوط ما يزيد عن 600 ألف قتيل، كانت الولايات المتحدة الأميركية على موعد مع أسوأ كارثة بحرية على مر تاريخها حين غرقت سفينة دولابية وسقط بها آلاف الضحايا. وقد عرف شهر نيسان سنة 1865 أحداثاً متسارعة…
فبينما استسلم الجنرال روبرت إدوارد لي من ذلك الشهر لصالح قوات الاتحاد، شهد منتصف نيسان 1865 واقعة اغتيال الرئيس الأميركي أبراهام لينكولن في مسرح فورد. وبعد نحو عشرة أيام، صعق الأميركيون بحادثة غرق الباخرة الدولابية سلطانة Sultana.
واقعة الغرق
وكانت سلطانة Sultana سفينة بخارية دولابية مصنوعة من الخشب دخلت الخدمة في حدود العام 1863 عقب نهاية أشغال بنائها بمنطقة سينسيناتي Cincinnati، وقد اعتادت هذه السفينة الإبحار بنهر ميسيسيبي لنقل شحنات القطن بين نيو أورلينز وسانت لويس، وفي يوم 13 نيسان 1865، انطلقت سلطانة كعادتها لنقل حمولة من القطن لكن بعد يومين فقط شهد الأميركيون واقعة اغتيال الرئيس أبراهام لينكولن. وحال سماعه لهذا الخبر، اتخذ قائد السفينة سلطانة القبطان ماسن Mason Cass. J قراراً سيئاً بالسفر جنوباً لنقل خبر مقتل الرئيس بولاية ميسيسيبيوكان ان تلقى القبطان ماسن عرضاً غريباً من أحد المسؤولين الجنوبيين لنقل حوالي 1500 أسير سابق من القوات الاتحادية إلى المناطق الشمالية مقابل حصوله على مبلغ يتراوح ما بين 5 و10 دولارات عن كل أسير ينقله، وأمام هذا العرض المادي المغري، وافق القبطان ماسن، مؤكدا استعداده لإنجاز هذه المهمة
في ذلك اليوم، الموعود تواجدت “سلطانة” برفقة العشرات من السفن الأخرى بفيكسبيرغ لنقل أعداد كبيرة من الأسرى نحو الشمال.
في الأثناء، كانت السفينة “سلطانة” آخر السفن المغادرة لمنطقة فيكسبيرغ، ولهذا السبب أجبرت الأخيرة على نقل جميع من تبقى من أسرى قوات الاتحاد المحررين المقدر عددهم بألفي شخص…
مثلت عملية نقل هؤلاء الأسرى مجازفة حقيقية، حيث لم تكن “سلطانة” تتسع سوى لنحو 376 راكبا كأقصى تقدير، لكن القبطان ماسن فضل نقل هذا العدد الهائل من الأسرى من أجل الحصول على مزيد من المال.
إن غرق الباخرة سلطانة ، يُعتبر كارثة و خسارة كبيرة ، خاصةً في ظل وجود الحرب الأهلية العالقة اّنذاك ، حيث شهد الرجال على متن الباخرة كل أنواع الموت ، و الخوف و اليأس الشديدين .
حصدت حادثة غرق السلطانة من الأرواح أكثر من حادثة غرق التايتانيك، غير أن هذه المأساة البشرية تبقى نوعاً ما منسية في التاريخ الأمريكي والعالمي. لكن ما لا يعلمه الكثيرون، هو أنه خلف هذه المأساة تقبع عدة ظروف من بينها التواطؤ والفساد والإهمال، مما يشير بقوة إلى أنه كان بالإمكان تفادي وقوعها أساساً.
الإهمال والفساد على متن السلطانة
عقب نهاية الحرب الأهلية الأمريكية في سنة 1865، سارع كل من الاتحاديين والانفصاليين إلى لملمة شتاتهم إثر الخراب الذي خلفته الحرب. تضمن انتهاء الحرب إطلاق سراح المساجين من كلا الجانبين. أُحضر الآلاف من جنود الاتحاد، الذين كانوا مسجونين في معسكرات ومعتقلات كونفيدرالية في سالما بالقرب من ألاباما وأندرسنفيل في جنوب جورجيا، إلى معسكر صغير خارج مدينة فيكسبرغ في ولاية ميسيسيبي، وكانوا بحاجة إلى عبور آمن إلى الشمال.
في تلك الأثناء، كان القبطان جايمس كاس مايسون في قيادة سفينة بخارية تحمل اسم ”سلطانة“ وكان متجها إلى ميسوري. كانت تلك السفينة الخشبية الصغيرة تقل طاقما من 85 رجلاً وكانت معدة لنقل القطن قبل أن يتم إيعازها بمهمة نقل الجنود بدل ذلك.
خلال توقفها لوهلة في فيكسبرغ من أجل عملية إصلاح على مستوى أحد المراجل البخارية [الغلايات]، تلقى قبطان السفينة البخارية الصغيرة عرضاً من حكومة الولايات المتحدة التي كانت مستعدة لدفع مبلغ 5 دولارات عن كل جندي يقله ومبلغ 10 دولارات عن كل ضابط، وذلك بالطبع باتجاه الشمال.
استحوذ الطمع على القبطان مايسون الذي راح يحلم بتحصيل أكبر قدر ممكن من الأموال من خلال نقل هذه ”البضاعة“ البشرية، فاغتنم الفرصة وقام برشوة أحد الضباط الذي سمح له بنقل أكبر عدد ممكن من الجنود بغض النظر عن طاقة استيعاب السفينة البخارية، وفي خضم تسرعه ذلك ولهفته، اختار القبطان مايسون أن يصلح العطل الحاصل على مستوى مرجل السفينة تصليحاً جزئياً ومؤقتاً وليس مثلما كانت تقتضيه الحالة.
كان القبطان يخشى أنه بانتظاره حتى تنتهي عملية التصليح الشاملة كان جنود الاتحاد ليعثروا على وسيلة نقل أخرى تقلهم إلى الشمال. وفقاً لـ جيري بوتر، وهو محامي وصحفي ومؤلف كتاب «مأساة السلطانة: أعظم كارثة بحرية أمريكية»، فقد حمّل القبطان على متن السفينة أكثر من طاقتها من الرجال، فقال: ”كانت طاقة استيعاب السفينة حوالي 376 مسافراً، غير أنها تم تحميلها بأزيد من 2500 مسافر“.
غرق سفينة السلطانة
في 24نيسان سنة 1865، انطلقت السلطانة المكتظة من مدينة فيكسبرغ وعلى متنها كان حوالي 1960 سجين حرب، و22 حارساً، و70 مسافراً مدنياً وطاقم السفينة الذي كان يتكون من 85 رجلاً. كان معظم سجناء الحرب المحررين حديثاً في حالة صحية متدهورة.
بالإضافة إلى الاكتظاظ الكبير، كان يوم إبحار السفينة ذا طقس سيئ للغاية، فقد كان نهر الميسيسيبي يعيش أعلى مستويات المياه فيه بينما كانت الثلوج تذوب من على قمم الجبال المحيطة لتصب في ضفافه، كما كانت مياهه ذات التيارات القوية مليئة بأجذع الأشجار الساقطة والطمي. لقد كان الإبحار في هذه الظروف صعبا للغاية ناهيك عن كونه في عتمة الليل، غير أن القبطان مايسون أصر إلى إيصال ”شحنته“ هذه إلى وجهتها بأسرع وقت ممكن.
توقفت السفينة البخارية لوقت وجيز في مدينة ممفيس ثم استمرت في رحلتها تحت جنح الليل.
حوالي الساعة الثانية صباحاً، وفي يوم 27 نيسان، وعلى بعد بضعة كيلومترات من مدينة ممفيس، انفجر أحد مراجل السفينة سلطانة، ولأن السفينة كانت مكتظة للغاية، كان الكثير من المسافرين جالسين بمحاذاة المراجل.
قتل الانفجار على الفور المئات من المسافرين، الذين كان معظمهم جنوداً من كل من كينتاكي وتينيسي والذين كانوا جالسين مباشرة بمحاذاة المراجل. لقي العديد منهم مصرعه على الفور سواء بسبب الشظايا، أو البخار الحارق، أو المياه الحارة جدا المنبعثة من المراجل نفسها.
يشرح المؤرخ الباحث في حادثة غرق سفينة سلطانة ما حدث بعد انفجار المرجل على سطحها:
تلى الانفجار الأول انفجار المرجلين الإثنين المتبقيين. كتب بوتر: ”في لحظة ما كانوا [المسافرون] نائمين، ثم في اللحظة التي تلتها وجدوا أنفسهم يكافحون من أجل السباحة في مياه نهر الميسيسيبي الباردة. مات بعض المسافرين حرقاً على متن المركب“، ثم أعقب قائلاً: ”تشبث المحظوظون منهم بالركام العائم فوق النهر، أو الأحصنة والبغال التي قفزت من السفينة، على أمل الوصول سالمين إلى الضفة التي لم يكن بمقدورهم رؤيتها لأن الظلام كان دامساً وكان عرض النهر في تلك النقطة تقريباً تسعة كيلومترات“.
سادت الفوضى السفينة سلطانة، حيث وجد المسافرون على متنها أنفسهم بين خيارين لا ثالث لهما: بين البقاء على متن القارب ومواجهة احتمال الموت حرقاً، وبين القفز في المياه الباردة ومواجهة احتمال الغرق. في كلتا الحالتين كانت حظوظ النجاة هزيلة جداً، فوجد الجنود الذين كانوا قد ارتاحوا من الحرب لتوهم أنفسهم يكافحون من أجل البقاء على قيد الحياة مجدداً.
بينما بدأت السلطانة تغرق بالقرب من مدينة ماريون الصغيرة في جنوب الأقاليم الكونفيدرالية، همّت القوارب المارة والسكان المحليون لمد يد المساعدة في عملية إنقاذ فوضوية من أجل إنقاذ حياة الجنود على متنها.
ورد في تقارير الصحف أن رجلاً محلياً يدعى جون فوغلمان وأبناءه كانوا من بين الرجال الذين هموا للمساعدة. يقول فرانك فوغلمان، وهو من نسل جون فوغلمان، وعمدة بلدة ماريون الحالي، أن اتجاه القارب الذي كان يسير به جعل الرياح توجه ألسنة اللهب ناحية مؤخرة السفينة، ثم تفككت عجلة المجداف على أحد الجوانب وتسببت في التفاف المركب قبل أن تنهار عجلة المجداف الثانية على الجانب الآخر.
يقول العمدة فرانك فوغلمان حول بطولة سلفه: ”يقال أن آل فوغلمان تمكنوا من إعداد عوامة خشبية من بعض جذوع الأشجار ثم انطلقوا لنقل المسافرين من على السلطانة المحترقة إلى ضفة النهر“، وأضاف: ”من أجل عدم إضاعة الوقت، كانوا يضعون الناس فوق أغصان الأشجار على الضفاف، ثم كانوا يعودون إلى القارب من أجل إنقاذ المزيد“.
كان الجنود على متن السلطانة قد نجوا لتوهم من أهوال الحرب الأهلية العنيفة، كما عانوا الأمرّين خلال فترة حبسهم في السجون الكونفدرالية، فوجدوا أنفسهم تلك الليلة وجها لوجه أمام الموت مرة أخرى بينما راح القارب الذي كانوا على متنه تتآكله ألسنة اللهب لتترك منه حطاماً يجرفه تيار مياه نهر الميسيسيبي الباردة.
يقول أحد الناجين من حادثة سلطانة: ”عندما استعدت الوعي وجدت نفسي محاطاً بالحطام وفي وسط الدخان والنار“، وتابع نفس الجندي قوله: ”لقد كانت صرخات وأنين الجرحى مهولة، وكانت رائحة اللحم المحترق لا تُحتمل وفاقت قدرتي على الوصف بأشواط“.
كتب ناجٍ آخر من ولاية أوهايو قائلاً: ”قتل البعض بفعل الإنفجار، وكانوا ملقيين على الأرض تدوسهم أقدام من بقي حياً، وبينما كان البعض يبكي ويصرخ كان البعض الآخر يشتم وآخرون كانوا يغنون… لن أنسى هذا المنظر أبداً في حياتي، يراودني غالباً في نومي.“
لم يستغرق الأمر من السلطانة سوى بضعة ساعات قليلة حتى بلغت قاع نهر الميسيسيبي. كان بعض من هب لمد يد المساعدة من جنود الانفصال الكونفيدراليين الذين كانوا يقطنون بالمناطق المحيطة بالنهر، مما يجعلنا نقف مذهولين بفكرة أن هؤلاء الرجال قبل بضعة أسابيع فقط كانوا يتناحرون ولا يتوانون في قتل بعضهم البعض، لكنهم بدلا من ذلك وقفوا إلى جانب بعضهم البعض وغلبت الإنسانية على الخلافات السياسية.
استمرت جثث ضحايا السلطانة تطفو بشكل مروّع فوق مياه نهر الميسيسيبي على مدى أشهر كاملة منذ الحادثة، وبينما عُثر على بعض الضحايا فإن الكثيرين منهم لم يعثر لهم أثر أبداً، ومن بين الضحايا الذين لم يعثر عليهم كان القبطان مايسون نفسه.
مما لا شك فيه أن الكثير من العوامل التي تضافرت فيما بينها وأدت إلى وقوع كارثة السفينة سلطانة كان من الممكن تجنبها، ومن بين هذه العوامل وأبرزها هو الاكتظاظ الهائل على متنها، والذي لم يكن ممكناً هو الآخر لولا رشوة المسؤولين في الجيش من طرف القبطان مايسون، هذا ناهيك عن ظروف الطقس السيئة التي واجهها المركب لدى انطلاقه.
ثم لدينا التعامل السيئ واللامسؤول مع العطب الحاصل في أحد المراجل البخارية التي تعمل الباخرة عليها، فعلى ما يبدو أصدر القبطان مايسون ورئيس مهندسيه أوامراً لأحد الميكانيكيين في السفينة بأن يجري عملية تصليح سريعة ومؤقتة من أجل الانطلاق بالمركب مجددا في أقرب وقت ممكن.
لماذا نسيت ذاكرة التاريخ هذه الكارثة بهذه السهولة؟
إن أكثر تفسير منطقي لهذا قد يكون وقوعها بالتزامن مع حادثة اغتيال الرئيس لينكولن، التي كانت مأساة ذات بعد تاريخي أكبر وأوخم، فبينما وقعت حادثة اغتيال الرئيس السابق ذكره قبل أسبوعين من وقوع حادثة سلطانة، فإن تأثيرها ظل مستمراً لفترة أطول.
ومن جهة أخرى، يبدو وكأن الشعب الأمريكي صار قاسي المشاعر بعض الشيء وذلك راجع لكونه تحمل أهوال الحرب الأهلية التي دامت أربعة سنوات، فبالنسبة للبعض، كانت خسارة 2000 رجل آخر مجرد حدث آخر ونتيجة أخرى من نتائج الحرب.
في نهاية المطاف، لم يتم توجيه أية تهم فيما يخص حادثة غرق السلطانة، حتى بعد أن تم إجراء تحقيقات معمقة تلتها بعض المحاكمات العسكرية.
إرث صامد في وجه التاريخ
فقد أكثر من 1800 رجل حياته في حادثة غرق السفينة سلطانة، على وجه المقارنة أسفر عن غرق التايتانيك الشهيرة حوالي 1500 ضحية، مما يجعل من مأساة السلطانة أسوأ كارثة بحرية في التاريخ الأمريكي.
بعد أكثر من عقدين على وقوعها، أخذ الناجون من مأساة السلطانة من مختلف أنحاء الولايات المتحدة يجتمعون ويلتقون سنوياً لتخليد ذكرى الحادثة والترحم على أرواح ضحاياها.
بعد أن توفي آخر الناجين في سنة 1936، تسلم أحفاد وأبناء أحفاد الناجين المشعل وواظبوا على هذا التقليد، ومازالت هذه الاجتماعات السنوية تعقد إلى يومنا هذا.
على سبيل المثال، مازالت ماري بيث مايسون، وهي من أحفاد أحد الناجين من حادثة السلطانة يدعى ويليام كارتر وارنر، تتذكر بطولته إلى يومنا هذا، فقد كان وارنر قد انضم لصفوف جيش الاتحاد عندما كان مراهقاً قبل أن يتم أسره وسجنه خلال الحرب الأهلية، وفي نهاية المطاف وصل به القدر على متن سفينة السلطانة المشؤومة، وعندما ضربت المأساة تمكن وارنر من السباحة ليصل إلى ضفة النهر سالماً.
تقول ماري بيث: ”كان من المحتمل أن يلقى جدي حتفه في سجن كاهابا عندما كان يبلغ من العمر 16 سنة“، واستطردت بالقول: ”كما كان من الممكن أن يموت على متن السلطانة، غير أنه لم يفعل.. بالطبع إنه أمر مهم في عائلتي، ما كان أبي ليولد، وما كنت لأرى نور الحياة أبداً“.
حتى يومنا هذا، مازالت ماري بيث مايسون تحتفظ بالشهادة التي نالها جد جدها في شهرايلول سنة 1888 والتي أصدرتها جمعية الناجين من حادثة السلطانة.
بالنسبة لأحفاد الناجين من السلطانة على شاكلة ماري بيث، فإن إبقاء الذكرى حية هو طريقة مهمة نحو تكريم الأسلاف. يجتمع 100 شخص تقريباً من نسل الناجين من الحادثة سنوياً بالنيابة عن هؤلاء من أجل تكريمهم، يقول نورمان شو، الذي أسس “جمعية أحفاد وأصدقاء السلطانة”: ”لقد قمنا بالكثير من أجل الإبقاء على القصة حية ومن أجل نشرها“، وأضاف: ”لقد شعر هؤلاء بأن التاريخ ربما نسيهم… نحن هنا لنلبي أمنيات الناجين الأصليين المتمثلة في الإبقاء على قصتهم نابضة بالحياة“.
اترك تعليقاً