وانطلق الأتراك السلاجقة من فدافد آسية الوسطى، ثم قُدر لزعيمهم طغرل بك (الأمير الصقر) أن يفرض نفسه في السنة ١٠٥٥ على الخليفة العباسي القائم بأمر الله، وأن يبطِّن الخلافةَ العباسية بالسلطة السلجوقية، ثم أن يستبدل الإمبراطورية العربية بإمبراطورية تركية، ثم أن يأخذ على عاتقه الصمودَ في وجه الروم والحرب ضدهم، وكان العربُ قد كَفُّوا عن هذه الحرب منذ زمن بعيد.
ولقيت طبيعةُ الأتراكِ المحاربة مجالًا فسيحًا للفتح، فسقطتْ أرمينية في يد الأتراك في السنة ١٠٦٤، واكتسح ألب أرسلان (الأسد المظفر) الموقف في موقعة ملاذكرد في السنة ١٠٧١ وأسر الفسيلفس رومانوس وشتت جيشه.
وكان هذا الاندحارُ مِن أسوأ الكوارث؛ لأن البلقان كانت قد أصبحت صقلبية واليونان كانت قد خلت من السكان وافتقرت، ولأن آسية الصغرى وحدها كانت معقل الروح الهلينية؛ فمنها كان الفسيلفس يجمع جيوشه، وفيها كان يجد أكبر قواده وأنشط ضباطه.
واحتل الأتراك ما بين السنة ١٠٧٨ والسنة ١٠٨١ مدنًا داخلية كأيقونية، وثغورًا متطرفة كأزمير وسبحوا خيولهم في مرمرا وارتقبوا الفرص للعبور إلى تراقية وأوروبة، وأسوأ ما كان في الأمر أن هذا الفتح الجديد لم يقتصر على السياسة والسلطة، بل تعداهما إلى استملاك الأرض فحل القروي التركي محل القروي اليوناني فأضاعت الهلينية قواعدها ومكانتها.١
وتوفي ألب أرسلان بطعنة خنجرٍ في السنة ١٠٧٢ وخلفه ابنه ملكشاه، واستمر ازدهار الدولة الفتية بفضل الخوجه حسن نظام الملك، ثم خَرَّ نظام الملك صريعًا في السنة ١٠٩١ على يد الحشاشين، ولحق به ملكشاه، فاضمحلت عظمة الدولة السلجوقية وتفككت أواصرها، ولكن سيل السلاجقة ظلَّ يتدفق على آسية الصغرى، وظل خطرهم يحدق بدولة الروم ويهددها بالانهيار.٢
مجمع بياتشنزا (١٠٩٥)
وكان إقليمس الثالث لا يزال يطالب بالسدة الرومانية، وكان الإمبراطور هنريكوس الرابع لا يزال يدعمه، فرأى البابا أوربانوس الثاني أن يجمع مجمعًا للنظر في هذا الشقاق، فدعا الأساقفة إلى الاجتماع في بياتشنزا Piacenza في آذار السنة ١٠٩٥ لمعالجة الانشقاق contra schismaticos.
وكان أوربانوس لا يزال يولي الكنيسة الجامعة اهتمامه فيرعاها بعناية، وكانت اتصالاتُهُ بالقسطنطينية قد لطفت الجو وقرَّبت القلوب، وكان أليكسيوس الفسيلفس يوالي اتصالاته بهذا الحبر الصالح، وينقل إليه مخاوفه من تفاقُم الشر في آسية الصغرى وتزايُد عدد الأتراك فيها وانتشارهم في سهولها ووديانها.
وبعد وفاة ملكشاه تنازع أولاده محمود وبركياروق ومحمد وسنجر السلطة، فعمت الفوضى العراق وسورية وفلسطين، وانطلق رعاع التركمان وأمثالهم يقتلون وينهبون، وكانوا يدخلون الكنائس في أثناء الصلوات ويضجون، وقد يجلسون على الموائد المقدسة ويهينون الكهنة ويرتكبون كل ما اقتضاه طبعهم! وقد يخربون بعض الكنائس وقد يحولون بعضها إلى مساجد،٣ وشاهد الحجاج الغربيون هذه الأعمال وخبروها بأنفسهم، واضطروا في بعض الأحيان أن يقاتلوا للوصول إلى القبر المقدس،٤ وكان ملكشاه قد أمر أخاه تتش أن يطرد الفاطميين من أوروشليم وسائر فلسطين ففعل، فثار أهلها على السلاجقة فكانت مذبحة قبة الصخرة (١٠٧٦)، فعاد الفاطميون إلى النزاع، فأصبحت أوروشليم هدفًا لنزاع مستمر بين الأتراك السلاجقة وبين الفاطميين، وأقطع تتش أوروشليم ليمينه أرتق بن أكساب، فلما تُوفي أرتق (١٠٩١) تنازع السلطة ابناه سقمان وغازي فحلَّ ضيق شديد بالنصارى، فاضطر البطريرك سمعان الأوروشليمي أن يفرَّ إلى قبرص مع كبار رجال الإكليروس،٥ وعاد الحجاج إلى بلدانهم وشكوا، وأصغى رهبان كلوني إلى هذه الشكاوي فرفعوها بدورهم إلى المقامات العالية إلى رومة نفسها.
ووافق اجتماع الأساقفة في بياتشنزا وصول لجنة عسكرية رومية إلى إيطالية لتشويق المسيحيين وحَضِّهِم على الدخول في خدمة الفسيلفس للذود عن الكنيسة والصمود في وجه الأتراك السلاجقة، وعلم أوربانوس بقدومهم، فدعاهم إلى بياتشنزا ليخطبوا في الآباء المجتمعين ويبينوا لهم الخطر الذي يهدد الكنيسة في الشرق، ووصلت اللجنة إلى بياتشنزا وارتقى أعضاؤها منبر المجمع، فنقلوا إلى الأساقفة ما كان يُعانيه النصارى من ضيق واضطهاد، وما كان يحدق بالنصرانية من خطر، فأعارهم الأساقفة آذانًا صاغية ووعَوا كلامهم فخشعت أبصارهم وخفقت قلوبهم خشية ورقة.٦
وكان القديس أوغوسطينوس قد أجاز الجهاد في سبيل الله،٧ فتبعه البابا لاوون الرابع (٨٤٧–٨٥٥) فأكد الثواب لمن يسقط مدافعًا عن الكنيسة،٨ وجاء يوحنا الثامن (٨٧٢–٨٨٢) فاعتبر المجاهدين شهداء،٩ وأباح البابا نيقولاووس الأول (٨٥٨–٨٦٧) حَمْلَ السلاح في وجه الكفرة لكل من أخطأ ووقع تحت الحرم،١٠ ولم يعبأ الآباء الغربيون باجتهاد باسيليوس الكبير وامتناعه عن مناولة المحاربين ثلاث سنوات متتالية،١١ فحضوا المؤمنين على حمل السلاح في وجه المسلمين، ومنح البابا ألكسندروس الثاني الغفران (١٠٦١–١٠٧٣) لجميع المجاهدين في إسبانيا،١٢ وشجَّع غريغوريوس السابع في السنة ١٠٨٠ حملة غوي جوفروا على إسبانيا، وحذا حذوه أوربانوس الثاني فحض حجاج القبر المقدس على استبدال الحج بالعمل المثمر لتحرير إسبانيا من المسلمين وإعادة بنائها.١٣
وهكذا فإنه عندما دعا الوفد البيزنطي الآباء إلى التعاون في سبيل الدفاع عن الكنيسة الجامعة في الشرق كانت فكرة الحرب المقدسة قد ظهرت إلى حيز الوجود في الغرب، وكانت الكنيسة الغربية قد باركتها ونشطتها، فوقع نداء الشرق في نفس أوربانوس الكبيرة موقعًا جليلًا، وأطرق يُفكر فمرت مواقفُ أسلافه أمام عينيه مرور البرق، فصمم أن يُقدم للمسيحية في الشرق أكثر بكثير مما طلب وفد أليكسيوس الفسيلفس.١٤
مجمع كليرمون (١٠٩٥)
كان من المقرر عقد مجمع في كليرمون Clermont الفرنسية للنظر في شئون كنيسة فرنسة وغير ذلك من الأُمُور الروحية، فقام أوربانوس الثاني إلى فرنسة بلاده الأم في آخر صيف السنة ١٠٩٥، فاستقبله مواطنوه بمنتهى الحفاوة والإجلال، وزار جنوب فرنسة منظمًا مصلحًا موبخًا ومادحًا، وأصغى إلى ما قاله رهبان كلوني عن شئون الحج والحجاج، ولعله اتصل بريمون كونت تولوز. ثم قام إلى كليرمون فوصلها في تشرين الثاني وعقد فيها مجمعًا بين الثامن عشر والثامن والعشرين من هذا الشهر نفسه، فحرم الملك فيليب لعلة الزنى وقطع أسقف كامبري لعلة السيمونية وأعاد النظر في حدود أبرشية ليون. ثم خصص جلسة السابع والعشرين لبيان هام وأباح الحضور للجمهور، فأقبل المؤمنون زرافات زرافات، وأقيم للبابا منصة خارج الكاتدرائية، وكان أوربانوس جليلًا وقورًا وخطيبًا مفوهًا، فذكر الأتراك السلاجقة وما ارتكبوه من الفظائع في الشرق، وأظهر قدسية أوروشليم وأوجب المحافظة عليها وتأمين وصول الحجاج إليها، وحض الأغنياء والفقراء على الجهاد في سبيل الله، وأكد الغفران للشهداء المجاهدين،١٥ فلاق كلامه آذانًا مُصغية وقلوبًا دامية فهتف الناس Deus le volt، ومعناه هذا ما يريده الله، وأعلن أوربانوس حماية الكنيسة لعائلات المجاهدين وأملاكهم، وأوجب حمل شارة الصليب بقماش أحمر على كتف المجاهد أو صدره، وجعل القسطنطينية ملتقى المجاهدين وحدد موعد الانطلاق من الغرب فجعله يوم عيد انتقال العذراء، الخامس عشر من آب سنة ١٠٩٦.١٦
وكان الأسقف أديمار Adhemar راعي أبرشية لوبوي Lepuy أول الصليبيين؛ فإنه ما كاد أوربانوس ينتهي من ندائه في كليرمون حتى تقدم الأسقف منه فجثى أمامه ونذر نفسه للخدمة المقدسة، وتبعه في ذلك مئاتُ المؤمنين، ثم تلا الجميع صلاة الاعتراف.١٧
وأراد أوربانوس العظيم أن يجعل الحملةَ كنسية، فعين أديمار قائدًا أعلى وزعيمًا أوحد وخوله البَتَّ في جميع الاختلافات التي قد تنشأ بين الفرنجة، وكان أديمار شريفًا من أشراف فرنسة يُجيد الخطابة ويحسن السياسة، هادئًا لطيفًا، واسع الأفق بعيد النظر،١٨ وكان قد حج قبل عشر سنوات فأضاف إلى مؤهلاته العامة خبرةً في أُمُور الشرق ومعرفةً لسكانه، وأعلن أوربانوس في كليرمون أيضًا موقفه من كنائس الشرق، فأوجب إعادة جميع أوقافها إليها واحترام جميع حقوقها،١٩ ويرى بعض رجال الاختصاص أن البابا اعتبر منذ اللحظة الأولى جميع ما قد يتم من فتوحات في الأراضي المقدسة فتحًا باباويًّا.٢٠
جيوش خمسة
وجاب بطرس الناسك الفرنسي البلادَ، وخطب في الناس وحضهم على الحرب المقدسة، وكان حاد الذكاء قوي الإرادة طلق اللسان ضئيل الجسم طويل اللحية براق العينين، وكان يرتدي الصوف الخشن ويركب حمارًا حقيرًا كاشف الرأس حافي القدمين، فقوبل بحماس شديد، والتف حوله أُلوفٌ من المحاربين،٢١ وجاء موسم السنة ١٠٩٦ جيدًا، فتفاءل الناس خيرًا واعتبروه رضًا ربانيًّا، وتساقطت النيازك بكثرة فاعتبرها أسقف ليزيو Leiseux إشارة سماوية تنبئ بزحف الجماهير على الأراضي المقدسة.٢٢
وكان كبار الملوك آنئذٍ على خلاف مع البابا فلم يشترك أحد منهم في الحملة الفرنجية الأولى، وشاء فيليب ملك فرنسة ألا يُحرم من شرف الانتماء إلى هذا العمل المقدس، فأوعز إلى أخيه أمير فرمندوا Hugues de Vermandois أن يحمل شارة الصليب، ففعل، وتألف جيش من أهل اللورين ورينانية وشمال فرنسة بقيادة غودفروا ده بويون Godefroy de Bouillon وأخويه أوستاش الثالث كونت بولونية Eustace de Bologne، وبودوان (بردويل) Baudouin، وتزعم روبير أمير الفلمنك Robert de Flandre وروبير دوق نورمندية واسطفانوس كونت بلوا؛ جيشًا آخر، وقاد ريمون الرابع كونت تولوز وسان جيل Toulouse et Saint-Gilles جيشًا رابعًا، والتفَّ حول بوهيموند بن غيسكار النورمندي فِرسانٌ نورمنديون وإيطاليون، وعاون بوهيموند ابن عمته تنكريد.٢٣
موقف الروم
وقضت المحبة الجامعة التي كانت تتقد في فؤاد أوربانوس بجمع الشمل في القسطنطينية والانطلاق منها لتحرير الكنائس الشرقية، وتأمين الحَج والمحافظة على حُرمة القبر المقدس وسائر الآثار والعشائر النصرانية.
وفي تموز السنة ١٠٩٦ وصلت إلى البلقان طلائعُ بطرس الناسك ناهبةً مُقتِّلة مخربة، ثم تكاثرت الجموع فتقدموا نحو القسطنطينية، فرحب بهم الفسيلفس أليكسيوس وأكرمهم، واستقبل بطرس الناسك وأوضح له وجوب الانضباط واحترام حقوق السكان، وكانت جُمُوع بطرس قد أقامت خارج أسوار المدينة فعاثوا في الضواحي فسادًا وخرقوا حرمة الكنائس، فرأى أليكسيوس أن يُجابههم بجيرانه الأتراك عبر البوسفور لعلهم يفقهون، وما أن حطت رحالهم في آسية حتى هاجموا الأتراك فبدد هؤلاء شملَهم، فارعووا وكَفُّوا عن القبيح ورضُوا أن يعودوا إلى ضواحي القسطنطينية عزلًا.
وقذف البحر إلى شاطئ أبيروس في صيف هذه السنة نفسها أخا ملك فرنسة هوغ ده فرمندوا، فوقع في أيدي الروم ونقل إلى القسطنطينية، فأحاطه أليكسيوس بشيءٍ كثير من الإكرام والاحترام، ورأى فيه خيرَ وسيط بينه وبين زعماء الفرنجة، وزاد في إكرامه فتعلق الأمير الإفرنسي بالفسيلفس وبايعه على الطاعة والولاء.
ثم جاء في كانون الأول غودفروا ده بويون، وكان أليكسيوس قد سمع بشجاعته وثرائه فأكرمه، ولكن غودفروا امتنع عن مبايعة الفسيلفس، فتوترت العلاقاتُ بين الاثنين، ثم قلت المئونة لدى جموع غودفروا خارج أسوار العاصمة فلجئوا إلى العنف وأرادوا اقتحام أحد مداخل القسطنطينية، فصدَّهم الروم بالقوة وتغلبوا عليهم فأخلدوا إلى السكينة، ودعا أليكسيوس الزعيم الفرنجي الممتنع إلى مأدبة أقيمت في القصر على شرفه، فبايع غودفروا الفسيلفس على الطاعة والولاء ومضى في نيسان السنة ١٠٩٧ بجموعه إلى آسية.
وأطل بوهيموند النورمندي الإيطالي في ربيع السنة ١٠٩٧ فأعلن فور وصوله استعداده لمبايعة الفسيلفس، وأكد رغبته في التعاون مع الروم إلى أقصى الحدود. وكان بوهيموند قد حارب أليكسيوس في ألبانية وفي اليونان فاعتور علاقاتِه مع الروم في بادئ الأمر شيءٌ من الحذر والبرودة، ولكن شخصيته الجذابة ومواهبه الكبيرة ونجاحه في التظاهر بالصدق والإخلاص؛ عاونت على إزالة هذا الحذر وذلك الفتور. وزال الشك وتفاهم الكبيران، فاغتبط بوهيموند وطلب أن يدخل في خدمة الفسيلفس ويتولى قيادة جيوشه، فأجابه أليكسيوس أن كل آتٍ قريب، وأنه بانتظار ذلك سيقطعه أراضي فسيحة في منطقة أنطاكية.٢٤
وجاء روبير ده فلاندر فدخل في طاعة الفسيلفس، أما ريمون دوسان جيل فإنه وصل مستاءً مكدرًا غير مستعد للدخول في طاعة الروم، فأقنعه بوهيموند، ففعل، وأصبح من أخلص أصدقاء أليكسيوس وأشدهم وفاء له، وأعجب أليكسيوس بحكمة هذا القومس واتزانه وصدقه واستقامته، أما تنكريد الصقلي فإنه لم يرض أن يمر بالقسطنطينية أو أن يُقسم يمين الولاء لسيدها، وأعلن أن هذا القسم لا يفرض عليه إلا نحو سيده بوهيموند.٢٥
وتمكن أليكسيوس — بصبره ودهائه ولطفه وكرمه — من التوصُّل إلى تفاهم تام مع زعماء الصليبيين، ويرى بعض رجال الاختصاص أن الطرفين وقَّعا معاهدة في منتصف أيار سنة ١٠٩٧ قضتْ بأن يرفع الفسيلفس علم الصليب، وأن يضع تحت تصرف الزعماء الصليبيين فرقة محاربة، وأن يحمي طريقهم في أثناء مرورهم مقابل دخول هؤلاء في طاعته وإعادة جميع الأراضي البيزنطية إليه التي وقعت بين نيقية وأنطاكية.٢٦
وقام الصليبيون من القسطنطينية وحاصروا نيقية، فسقطت في يدهم فأعادوها إلى أليكسيوس الفسيلفس، ثم اتجهوا جنوبًا مذللين الصعاب في قلب دولة السلاجقة، متعاونين في ذلك مع فرقة بيزنطية بقيادة تتيكيوس Tatikios، وجهز أليكسيوس حملة برية بحرية بقيادة يوحنا دوقاس، فاستولى على أفسس وساردس وأزمير وأضالية، وقام الفسيلفس بنفسه فأخضع جميع بيثينية، وغُلب قلج أرسلان وتقوض ملكُهُ واستعاد أليكسيوس قلب آسية الصغرى وشواطئها الغربية،٢٧ ونفذ كُلٌّ من الطرفين ما نَصَّ عليه الاتفاقُ وساد الحب والوئام، وقام أليكسيوس على رأس جيشٍ قويٍّ ليلتحق بالصليبيين، ولكن بودوان استأثر بالرها وجهاتِها ولم يُعِدْها إلى الفسيلفس.
أنطاكية
وبينما كان بودوان يُوَطِّدُ فَتْحَه في الرها وما جاورها كانت الحملة الرئيسة تتجه نحو أنطاكية أَمْنَع مُدُن سورية الشمالية وأعرقها شرفًا بالنصرانية، وكان سليمان بن قطلمش قد استولى عليها خلسة في أوائل السنة ١٠٨٥، فلما انتحر في السنة ١٠٨٦ استولى عليها ملكشاه وأقطعها أحد أمرائه ياغي سيان، وتهافت المسلمون إلى سُكْناها، ولكنهم ظلوا أقليةً ضئيلة بالنسبة إلى اليونان والأرمن والعرب المسيحيين،٢٨ ولما شاعت أخبارُ الفرنج وتواردتْ أنباءُ انتصاراتهم في آسية الصغرى؛ تَحَصَّنَ ياغي سيان، واذخر كثيرًا من المئونة والسلاح، ودخل المدينة كثيرون من القرى المجاورة.
وانطلق الفرنجة من مرعش في السادس عشر من تشرين الأول سنة ١٠٩٧ فاستولَوا على اعزاز ومعراتا وأرتاح، وفي العشرين من الشهر نفسه وصلوا إلى جسر الجديد فوجدوه محصنًا مشحونًا بالرجال فاستولوا على بُرْجَيْه عَنْوَة بقيادة الأسقف أديمار نفسه، وغنموا «خيلًا وجمالًا وبغالًا وحميرًا محملة حنطة»،٢٩ وكانت قد أرسلت من حلب لتموين ياغي سيان في أنطاكية.
وفي الحادي والعشرين من تشرين الأول دنا الفرنجة من أنطاكية ونصبوا خيامهم أمام الأسوار، وتشاور الأمراءُ والقادة فأوجبوا المحاصرة؛ نظرًا لمناعة الأسوار وتَعَدُّد الأبراج ونقص العتاد، فتفرق القواد بجيوشهم حول الأسوار ولا سيما المداخل وأخذوا بالأهبة للقتال، أما ياغي فإنه لم يُبْدِ حركة ولم يظهر من رجاله ولا مقاتل فوق الأسوار، وخشي أن يخونه النصارى وكانوا قد عاونوا الصليبيين في معرتا وأرتاح وغيرهما، «فأخرج المسلمين من أهل أنطاكية ليس معهم غيرهم وأمرهم بحفر الخندق، ثم أخرج من الغد النصارى ليس معهم مسلمٌ فعملوا في الخندق إلى العصر، فلما أرادوا دخول البلد منعهم وقال لهم: أنطاكية لكم تهبوها لي حتى أنظر ما يكون منا ومن الفرنج، فقالوا له: من يحفظ أبناءنا ونساءنا؟ فقال: أنا أخلفكم فيهم، فأمسكوا وأقاموا في عسكر الفرنج.»٣٠ وجاء في بعض المراجع الغربية أن الأرمن والسوريين تظاهروا بالفرار من وجه ياغي وأبقوا نساءهم وأولادهم في المدينة ثم واصلوا ياغي بأخبار المحاصِرين،٣١ وكان ياغي قد أمر بالبطريرك الأنطاكي يوحنا السابع فسجنه سجنًا، وكان قد حول كتدرائيته إلى إسطبل لخيله، فلما بدأ الحصار أمر ياغي بوضع البطريرك الجليل في قفص من حديد، وبعرضه على المحاصرين من الأسوار،٣٢ وحل الشتاء وقلت المئونة واشتد الحال جدًّا ففترت همةُ بعض الفرنجة وأدبروا، ومن غريب الأُمُور أن بطرس الناسك نفسه ولَّى مدبرًا، فأدركه تنكريد الصقلي فعاد فأقسم بدوام مرافقة الذين قادهم للحرب،٣٣ ونهض بوهيموند وروبير على رأس عشرين ألف مقاتل للتفتيش عن القوت الضروري في قرى وادي العاصي، فاتجها جنوبًا، ولدى وصولهما إلى حماة التقيا بتقاق وطغتكين وشمس بن ياغي آتين لنجدة أنطاكية، فكانت موقعة عند قرية البارة أسفرت عن هزيمة المدد الإسلامي،٣٤ وعلم ياغي بخروج بوهيموند وروبير ورجالهما فانقض على ريمون عند الجسر، ولكنه عاد منكسرًا مذعورًا.٣٥
وغنم بوهيموند وروبير برءوس أعدائهما، ولكنهما عادا فارغي اليدين دون الزاد المطلوب، واشتد الجُوعُ في صفوف الفرنجة وفتك بهم، وقدم رهبان الأمانوس والنصارى في القرى المجاورة جميعَ ما لديهم، ولكنه لم يَكْفِ، فكتب أديمار الأسقف إلى بطريرك أوروشليم — وكان لا يزال في قبرص — فأَمَدَّهُ بالقوت والخمر، ولكن الجزيرة لم تتمكن من إشباع ألوف المحاربين. وتعاون الأسقف اللاتيني أديمار ممثل البابا في الشرق والبطريرك الأوروشليمي سمعان تعاونًا وثيقًا فحَرَّرَا رسالتين إلى الغرب يحضان فيهما المؤمنين على القيام بالواجب، وتكلم سمعان في إحداهما بصفته زعيم أساقفة الشرق اليونانيين واللاتينيين، وهدد كل من يتوانى عن تنفيذ النذر الصليبي بالحرم.٣٦
وبينما كان أديمار يؤلف القلوب ويجمع الكلمة باسم سيده الكبير أوربانوس كان بوهيموند يبث نمائمه ويزرع الأحقاد بين الروم واللاتين، ففي شباط السنة ١٠٩٨ اتصل بتتيكيوس ممثل أليكسيوس في معسكر الفرنجة، ونمَّ على رفاقه في السلاح وادعى أنهم يضمرون السوء لتتيكيوس؛ لأنهم يعتقدون أن أليكسيوس يشجع الأتراك على محاربتهم، ونصح بوهيموند إلى تتيكيوس أن ينجو بحياته، فقبل تتيكيوس النصيحة ونزل إلى مرفأ السويدية وأبحر إلى قبرص، وما إن توارى تتيكيوس عن الأنظار حتى دبَّت عقارب بوهيموند مرة ثانية، فقال رجالُهُ وعماله: إن تتيكيوس فرَّ خائنًا، وكان بوهيموند يطمع في إمارة أنطاكية، فرأى من المصلحة أن يتجنَّى على أليكسيوس ويتقول على ممثله ليفجر في يمين الطاعة والولاء ويتحرر من العقد الذي قضى بإعادة أنطاكية إلى سيدها الشرعي أليكسيوس،٣٧ ثم عاد فلجأ إلى المراوغة والمداورة، فادعى أمام رفاقه في السلاح أن ابتعاده عن ممتلكاته في إيطالية سيفلتها من يده، وأن مصلحته تقضي بالعودة إلى إيطالية، فإذا كان لا بدَّ من بقائه في صفوف المحاربين المجاهدين فعلى هؤلاء أن يعوضوه أنطاكية، فتشاغل أقرانُهُ عن سماعه، ولكن الجنود مالوا ليه بالسمع ورأوا في ذلك رأيه.٣٨
واستجار ياغي جاره رضوان صاحب حلب من الصليبيين واعترف بسلطته، فأغاثه رضوان وجاءه على رأس قوة كبيرة يعاونُهُ فيها صاحب ديار بكر وأمير حماة، وقطع الفرسان الفرنجة العاصي وكمنوا للخصم عند جسر الجديد، وفي التاسع من شباط سنة ١٠٩٨ ناوش الفرنجة المسلمين عند الجسر ثم استدرجوهم إلى ميدان ضيق بين العاصي وبحيرة أنطاكية، فانقضوا عليهم وشتتوا شملهم، وكان ياغي قد خرج إلى القتال في الوقت نفسه وكاد ينتصر، فلما أبصر الفرسان عائدين منتصرين تراجع فدخل المدينة مدبرًا.٣٩
وفي الرابع من آذار وصل أُسطول إنكليزي حاملًا حجاجًا إيطاليين وعتادًا روميًّا من القسطنطينية، فأنشأ الفرنجة أبراجًا عند مداخل أنطاكية وضيقوا الحصار، وكان أليكسيوس قد أوصى زعماء الفرنجة بوجوب التفاهُم مع الفاطميين أعداء الأتراك، فلما بدأت أسهم الفرنجة ترتفع بعث المستعلي بالله العلوي وفدًا من مصر يعرض الصلح والمسالمة، وأنه يُرجع إليهم الكنائس ويحامي عنهم ويفتح أبواب أوروشليم للزوار، على أن يدخلوها بلا سلاح، وألا يقيم الواحد فيها أكثر من شهر، فرحب الفرنجة بالوفد العلوي وقدموا الهدايا، ولكنهم لي يَبُتُّوا في شيء.٤٠
وطال أمد الحصار وترامى للفرنجة أن كربوغا صاحب الموصل جيَّش جيوشًا ونهض بها لإغاثة ياغي سيان، فاندفع بوهيموند يعجل الاستيلاء على أنطاكية تعجيلًا، ففاوض فيروز الزرَّاد أحد أمراء الأبراج في أنطاكية وبذل له مالًا وإقطاعًا، وكان فيروز أرمنيًّا فأسلم وتقرب من ياغي فأصبح أميرًا على ثلاثة من الأبراج الكبيرة، وكان على جانب عظيم من التقلُّب وحُبِّ الرفعة والمال، فعقد مع بوهيموند شروطَ التسليم بالخيانة. ثم تواترت الأخبار بقدوم صاحب الموصل بألوف من الرجال لنجدة المدينة، فخاف الفرنجة فخطب بوهيموند بوجوب الخيانة لامتلاك المدينة، فأذعن الرفاق فاجتمع بوهيموند بفيروز واتفقا على وقت وظرف. وفي اليوم الثاني جمع الإفرنج خيامهم وأغراضهم وانسحبوا عن ساحتهم وأعلنوا السير نحو أوروشليم، وما زالوا سائرين نحو أوروشليم حتى تواروا عن العيون.
ثم انعطفوا راجعين في الليل، وقبيل الفجر أنفذ قوة صغيرة إلى برج الأختين الذي كان يحرسه فيروز، وصعدوا على السلالم إلى هذا البرج وانطلقوا منه إلى غيره، وقتلوا الحُراس وهيجوا النصارى وكسروا الأبواب، وامتلكوا المدينة في الثالث من حزيران سنة ١٠٩٨ وفتكوا بالأهلين فتكًا ذريعًا، وفر ياغي سيان فقتله الأرمن وجاءوا برأسه إلى أنطاكية، أما القلعة فإنها بقيتْ بيد شمس الدولة بن ياغي.٤١
وفي السابع من حزيران وصل كربوغا صاحب الموصل بجنود كثيرة من الترك والعرب، فاضطرب الإفرنجُ وأخذ الضيق منهم كل مأخذ، ولم يعد عندهم زاد كافٍ، ولم يكن لهم يد لاستجلاب المدد؛ لأن القرى المجاورة كانت قد أمست مدمرة أو مهجورة، واتصل شمس الدولة بكربوغا ورجاه الاحتفاظَ بقيادة القلعة إلى أن يتم النصر فأبى كربوغا وأرسل أحمد بن مروان فاحتلها باسمه.
وفي العاشر من حزيران طَوَّقَ كربوغا أنطاكية، وشدد الحصار، وتضايق الفرنجة ونفد قوتُهُم وخارتْ قواهم وضعفت، وفَرَّ بعضهم طلبًا للنجاة، وفي العاشر من هذا الشهر نفسه أيضًا دخل فلاحٌ إفرنسيٌّ اسمه بطرس برتلماوس إلى خيمة بوهيموند وطلب مقابلة الأسقف أديمار ممثل البابا وزعيم الحملة الأكبر، وأذن له بذلك فقال: إن القديس أندراوس ظهر له ثلاث مرات وبيَّن له المكان الذي دُفنت فيه الحربة التي طعن بها السيد وقت الصلب، فلم يكترث الأسقف لسببين؛ أولهما أن بطرس هذا لم يكن من ذوي السيرة الحسنة، والثاني أن الأسقف نفسه كان قد شاهد الحربة في القصر المقدس في القسطنطينية في أثناء وجوده فيها.
وبعد هذا بقليل دخل قس اسمه اسطفانوس على الأمراء القادة، وقال: إن السيد والعذراء ظهرا له في أثناء الليل في كنيسة السيدة، وإن السيد — له المجد — أمره أن يقول للأسقف أديمار: إن جموع المحاربين المجاهدين وقعوا في الخطيئة، وإنهم إن تابوا أرسل لهم في ظرف خمسة أيام المعونة الكافية لحمايتهم، فاتعظ أديمار وطلب إلى الأمراء أن يُقسموا بأنهم لن يتخلوا عن أنطاكية إلا بإجماع الرأي ففعلوا.
وفي الرابع عشر من حزيران شاهد الفرنجة نيزكًا يتساقط على معسكر الأتراك، فهَبُّوا في الغد يفتشون عن الحربة في كنيسة القديس بطرس ومعهم الفلاح بطرس برتلماوس، «وحفروا عليها في جميع الأماكن فوجدوها كما ذكر الفلاح، فقال لهم: أبشروا بالظفر، فقويت عزيمتُهُم، وخرجوا في اليوم التالي من باب المدينة متفرقين من خمسة وستة، فقال المسلمون لكربوغا: ينبغي أن تقف على الباب فتقتل كل من خرج، فقال: لا تفعلوا لكن أمهلوهم حتى يتكامل خروجهم فنقتلهم، فلما تكاملوا ضربوا مصافًا عظيمًا فولى المسلمون منهزمين.»٤٢ وغنم الفرنج غنائم لا تُحصى وجمعوا مالًا غزيرًا وعادوا إلى أنطاكية بثروة عظيمة، وكان ذلك في الثامن والعشرين والتاسع والعشرين من حزيران سنة ١٠٩٨.
وشاهد أحمد بن مروان هذا النصر من أبراج القلعة فأرسل من يُعلن استعداده للتسليم، ودخل رسوله خيمة ريموند، فأرسل هذا الأمير من يرفع أعلامه على القلعة، فلما علم أحمد أن الأعلام ليست أعلام بوهيموند امتنع عن رفعها، ولم يفتح الأبواب قبل وصول بوهيموند نفسه، ودخل بوهيموند القلعة واستولى عليها وأذن بخروج الحامية سالمة، فدخل بعض زعمائها في النصرانية وعلى رأسهم أحمد بن مروان،٤٣ وتُوفي الأسقف أديمار ودفن في كنيسة القديس بطرس، فخلا الجو لبوهيموند، فحنث في يمين الطاعة والولاء للفسيلفس، ولم يبر في ما وعد، فنشأتْ مشادةٌ بينه وبين الروم كان لها أسوأ الأثر في علاقة كنيسة أنطاكية بكنيسة رومة.٤٤
القبر المقدس
وفي أواخر تشرين الثاني سنة ١٠٩٨ قام الفرنجة من أنطاكية وما جاورها، وساروا إلى كفر طاب، فراسلهم منقذ صاحب شيزر، فصالحهم عليها، وسَهَّلَ عُبُورَهم بين شيزر وحماة ووصولهم إلى مصياف، وسالمهم صاحب مصياف فتقدموا إلى رفنية وانحدروا منها إلى البقيعة.
وفي الثامن والعشرين من كانون الثاني سنة ١٠٩٩ هجموا على حِصْن الأكراد واستولوا عليه، فراسلهم صاحبُ حماة، ورجاهم صاحب طرابلس جلال الملك أبو الحسن بن عمار أن يرسلوا وفدًا للمفاوضة، وأَكَّدَ استعداده لرفع علم ريمون التولوزي، ففعلوا وعاد أعضاء الوفد المفاوض وأشادوا بثروة أبي الحسن ووفرة الغلال في إمارته وأشاروا بالحرب طمعًا، فقام الجمع إلى عرقة في السادس عشر من شباط وضربوا الحصار عليها، وقام بعضهم إلى طرطوس ففر صاحبها فدخلوها بدون قتال، وراسلهم صاحب المرقب وبانياس ودخل في طاعتهم.
وطال أمد حصار عرقة وألحَّ جُمهورُ المحاربين على رفع الحصار والتقدم نحو أوروشليم، وتلقى ريموند رسالة من ألكسيوس الفسيلفس؛ يُفيد فيها أنه سيلحق بهم في الصيف على رأس جيش قوي، وأن المصلحة تقضي بانتظاره قبل الهجوم على فلسطين، ولكن معظم الأمراء وأغلبية المحاربين آثروا التقدم وعدم الانتظار. وصالحهم أبو الحسن بن عمار على مبلغ كبير من المال، وقدم لهم الدواب لحمل الأثقال والعلف للجيش كله، ووعد بتقبُّل النصرانية لدى انتصارهم على الفاطميين، ثم سَهَّلَ خروجهم من طرابلس وبعث أمامهم مَنْ أوصلهم إلى نهر الكلب، الحد الفاصل بين إمارته وبين دولة الفاطميين.
وواصلوا السير فبلغوا بيروت في العشرين من أيار، وكان يأمر فيها أحد الأمراء التنوخيين، فطلب إلى زعماء الفرنجة أن يكفوا عن أذى المدينة وأهلها ولا يعبثوا بغلات بساتينها، فرضُوا بذلك شرط أن يقدم للجنود حاجتهم من القوت والذخيرة، ففعل، ثم سار الإفرنج إلى صيدا، فنازلهم صاحبُها فقاتلوا وخرَّبوا، وتابَعوا السير إلى صور ومنها إلى عكة، فبلغوها في الرابع والعشرين من أيار، وما فتئوا يتقدمون في ساحل البحر حتى أرسوف، ثم تحولوا نحو الرملة فوجدوها خاوية خالية فأخذوا يتسلقوا التلال حتى البيت المقدس في اليوم السابع من حزيران.
وكانت أوروشليم قد أصبحت بيد الفاطميين منذ أَمَدٍ وجيز، وكان يمثلهم فيها الفضل بن بدر الجمالي، وكانت حاميتُها عربية سودانية، فحاصرها الإفرنجُ نيفًا وأربعين يومًا، ونصبوا عليها برجين، ثم اقتحموها من الجانب الشمالي واستباحوها أُسبوعًا كاملًا، واحتمى جماعةٌ من المسلمين بمحراب داود فاعتصموا به، فبذل لهم الإفرنج الأمان فسلموه إليهم وخرجوا إلى عسقلان آمنين، وقتل الإفرنج بالمسجد الأقصى عددًا كبيرًا، منهم جماعةٌ مِن أَئِمَّةِ المسلمين وعلمائِهم وزهادِهِم، ووافق دُخُول الفرنجة أوروشليم في منتصف تموز من السنة ١٠٩٩.٤٥
الفرنجة وكنيسة أنطاكية
وأحب أوربانوس المسيح فأحب الكنيسة، وأرادها واحدة؛ لأن المسيح واحد، ولان لأخيه بيسوع بطريرك القسطنطينية نيقولاووس الثالث وخطب وده، ثم هاله تقدم الأتراك السلاجقة في الشرق ورَاعَهُ ضعف الروم، فخَفَّ لنجدة النصرانية، وأعلن الجهاد المقدس، وحض المؤمنين على القتال، وأوجب — بقرار مجمعي — احترامَ حقوق الكنائس الشرقية وإعادة أوقافها إليها،٤٦ وانتقى أسقفًا صالحًا تقيًّا واسع الصدر لَيِّنَ العريكة بعيد النظر أديمار ليمثله في الحملة ويسهر على تنفيذ الخطة المرسومة.
وكان البطريرك الأنطاكي يوحنا السابع تقيًّا صالحًا جليلًا وقورًا، وكان قد أَبْصَرَ النور في جزيرة أوكسية وقدم النذر في القسطنطينية، فلما رقي العرش الأنطاكي خف للعمل المثمر فسعى لإصلاح الرهبان والرهبانيات، وراسل توما الكفرطابي أسقف الموارنة على كفرطاب وكورة حلب وجادله في المشيئة الواحدة محاولًا صرفه عن القول بها،٤٧ ومن آثاره رسالة في الحياة الرهبانية احتج بها على تدخُّل السلطات في شئون الرهبان وتلزيم الأديار للعلمانيين،٤٨ وله أيضًا رسالةٌ في التقديس على الفطير، اتخذ فيها موقفَ المُدَافع عن التقليد الأرثوذكسي.٤٩
ولدى استيلاء الفرنجة على أنطاكية أسرع زعماؤُهُم إلى الإفراج عن هذا الأب الجليل وإعادته إلى سابق حُرِّيَّتِهِ وكرامته، ثم أمروا بتنظيف كاتدرائية أنطاكية وكنيسة السيدة فيها مما لحق بهما من الأقذار في عهد الأتراك السلاجقة، ثم ترأس يوحنا السابع حفلةَ التطهير والتكريس، وعَاوَنَه في الخدمة عددٌ من الكهنة والأساقفة اللاتينيين، وأعجب الصليبيون بهذا الرجل البار فأشاروا إليه في كتاباتهم بالعبارة Virum Christianissimum،٥٠ ومعناه المسيحي المسيحي، واعتبر أديمار ممثل البابا في الشرق البطريرك الأوروشليمي سمعان بطريركًا رسوليًّا، وحينما سمح الظرفُ برفع تقرير عن سَيْرِ الأعمال في الشرق وضع أديمار هذا التقرير باسم سمعان بطريرك أوروشليم وباسمه،٥١ ثم قضت الظروفُ بطلب النجدة من الغرب فكتب أديمار باسم سمعان الأوروشليمي أيضًا، وظهر سمعان في هذه الرسالة بطريركًا رسوليًّا وتكلم باسم جميع الأساقفة في الشرق لاتينيين ويونانيين، وهَدَّدَ بالحرم كل من حنث بالنذر الصليبي.٥٢
وتوفي أديمار الصديق في اليوم الأول من آب سنة ١٠٩٨، فخسرت الكنيسةُ الجامعةُ بوفاته أبًا بارًّا صالحًا مُحِبًّا حكيمًا، ولم توفق الكنيسة اللاتينية إلى خلف مصاف مسالم يتابع العمل الصالح الذي سعى إليه أوربانوس وأديمار.
وفي الحادي عشر من أيلول من السنة نفسها حَرَّرَ الأمراءُ الفرنج المجتمِعون في أنطاكية رسالة إلى البابا أوربانوس الثاني، وذكروا خبر وفاة أديمار ورجوا الأب الأقدس أن يجيء إلى أنطاكية ليرعى أبرشية بطرس الأولى. والغريب في هذه الرسالة أن الأمراء تناسوا وجود يوحنا السابع بطريرك أنطاكية الشرعي، ولم يذكروه لمناسبة هذا الطلب، ولكنهم أشاروا إلى الصعوبات التي لاقَوها على يد النصارى الهراطقة يونانيين وأرمن وسوريين ويعاقبة، واليونانيون الهراتقة في هذه الرسالة هُمْ جماعاتٌ من اليونانيين البولسيين الذين كانوا لا يزالون يمارسون نصرانيتهم على طريقتهم الخصوصية في جوار أنطاكية.٥٣
وفي الشهر التالي؛ أي في تشرين الأول سنة ١٠٩٨ انطلق ريموند أمير تولوز من ريحا على رأس رجاله في طلب المئونة والعلف، فاستولى على البارة عنة وقتل وسبى، ورأى أن يجعلها مدينةً مسيحيةً فحَضَّ المسيحيين على سُكناها وحوَّل مسجدها إلى كنيسة، وأقام عليها أسقفًا بطرس النربوني، وكان لا بُدَّ من سيامة بطرس سيامة مسيحية، فطلب ريموند إلى البطريرك الأنطاكي يوحنا السابع أن يرأس حفلة السيامة، ففعل هذا البطريرك الأرثوذكسي اليوناني وسام أسقفًا لاتينيًّا ليخدم على الطريقة اللاتينية.٥٤
وكان بوهيموند منهومًا بالسلطة مسهبًا بطبيعته، فاشتدَّ حرصُهُ على إمارة أنطاكية واستمات واستهلك إليها، فلجأ إلى بطرس برثلماوس، فزعم هذا أن أندراوس ظهر له وقال إن أديمار قضى وقتًا في الجحيم، وإنه لم يفلت لولا صلوات زملائه وصلاة بوهيموند من أجله، وزعم بطرس أيضًا أن أندراوس أمره أن يقول إلى ريموند بأن أنطاكية لبوهيموند ما دام تقيًّا صالحًا، وأنه لا بدَّ من مقاطعة الروم والكنائس الأرثوذكسية المحلية وانتخاب بطريرك لاتيني على كنيسة أنطاكية.٥٥
ثم كاشف بوهيموند الروم بالعداوة، فحاول — في حزيران السنة ١٠٩٩ — أن يخرجهم من اللاذقية، وتُوفي أوربانوس الثاني في التاسع والعشرين من تموز التالي، فتمادَى بوهيموند في ضلاله وبسط عَنَانَهُ في الجهل، فهجم في السنة ١١٠٠ على مرعش وكانت هذه قد أُعيدت إلى الروم بموجب شروط المعاهدة بينهم وبين الصليبيين، واستولى تنكريد نسيب بوهيموند على طرسوس وأدنة، ووقع بوهيموند أسيرًا في يد الأتراك في تموز السنة ١١٠٠ فتجنى على البطريرك الأنطاكي يوحنا السابع، ورماه بالتواطؤ مع الأتراك وأَكْرَهَهُ على الخُرُوج من أنطاكية، ثم جعل من برناردوس والنسية أسقف أرتاح بطريركًا لاتينيًّا على أنطاكية، ولا صحة في القول بأن يوحنا السابع استقال فشغر كرسيُّهُ فنُصِّبَ برناردوس،٥٦ ولا في القول بأن استعفاء يوحنا تم في أثناء الأسر الذي وقع فيه بوهيموند،٥٧ فيوحنا السابع لم يستقل قبل وُصُوله إلى القسطنطينية، واستقالتُهُ هذه ارتبطتْ منذ لحظتها الأولى بانتخاب خلف أرثوذكسي له، يوحنا الثامن، وذلك بالطريقة القانونية المرعية الإجراء آنئذٍ.٥٨
الفرنجة وكنيسة أوروشليم
وكان سمعانُ الثاني بطريرك المدينة المقدسة الشرعي قد فَرَّ منها؛ لأن الأتراك السلاجقةَ كانوا قد جحدوا الذمام لأهل العهد من النصارى، وغدروا وختروا وانتهكوا حرمة الكنائس، وكان هذا البطريرك العالم الصالح وقد رحب بالفرنجة وقَدَّمَ لهم الزاد والمئونة في إِبَّان محنتهم أمام أسوار أنطاكية، وكان أيضًا قد اشترك مع أديمار الصالح في كل ما يئول للخير، فكان له مع الفرنج أخوة وأسباب ترعى، ولكنه تُوفي قبيل استيلائهم على أوروشليم (١٠٩٩)، ولا عبرة لما جاء في تاريخ ميخائيل السرياني مِنْ أَنَّ سمعان شهد الاستيلاء على أوروشليم، وأنه اشترك بنفسه في أعمال القتل، فشهادتُهُ هذه ينقصُها الشيءُ الكثير من العدالة والضبط،٥٩ وكانت المدينة قد خَلَتْ من الأساقفة لفرار هؤلاء مع بطريركهم إلى قبرص، فأقام بعض الأمراء الفرنجة والكهنة اللاتينيون أرنولفوس روهيز بطريركًا على أوروشليم، وكان أرنولفوس واعظًا وأديبًا، ولكنه لم يكن زاهدًا تقيًّا، ولم يَحْظَ بأصغر درجات الكهنوت، فاعترض ريمون أمير تولوز وعددٌ من الكهنة الإفرنسيين الجنوبيين على ارتقائه السدة البطريركية، وامتنعوا عن التعاوُن معه.٦٠
وماشى البطريرك الجديد بوهيموند في السياسة الكنسية، فأبعد الكهنة الأرثوذكسيين والأرمن واليعاقبة والأقباط عن كنيسة القبر المقدس، وعيَّن عشرين كاهنًا لاتينيًّا للخدمة في هذه الكنيسة، ثم قبض على الكهنة الأرثوذكسيين مطالبًا بعود الصليب وأمر بتعذيبهم فقبلوا مكرهين وقَدَّمُوا الأثر المقدس له،٦١ فأثار هذا البطريرك اللاتيني باستبداده واستفزازه غضبَ الشعب الأرثوذكسي وكهنته، وشاع خبرُ تعصبه وتَصَلُّفه واضطربتْ به الألسنةُ فوصل إلى القسطنطينية، وزاد في النفور والتباعُد.٦٢
المملكة اللاتينية والإمارات الصليبية
وفي ربيع السنة ١١٠٠ تجددت الأعمالُ الحربية، فاستولى الفرنجة على ساحل فلسطين من عسقلان حتى عكة، وقضت الضرورةُ العسكريةُ بتأمين الاتصال بين الفرنجة في فلسطين وبين إخوانهم في أنطاكية والرها، وكان ريموند أمير تولوز طامعًا في إمارة له فانطلق من اللاذقية في مطلع السنة ١١٠٢ واحتل طرطوس، ثم تقدم منها نحو طرابلس على رأس ثلاثمائة فارس. وكان فخر الملك محمد بن عمار قد طلب معونةَ الأمير ياخز خليفة جناح الدولة على حمص ومعونة تقاق أو دقاق بن تتش أمير دمشق فأعاناه، واجتمع هؤلاء في السهل عند مدخل طرابلس، فجرتْ معركةٌ حاميةٌ تَغَلَّبَ فيها ريموند، فوقع الصلح على مالٍ حمله أهلُ طرابلس إليه.
وفي السنة ١١٠٣ عاد ريموند إلى القتال وقد وصله مددٌ من البحر، فحاصر طرابلس برًّا وبحرًا فلم يجد فيها مطمعًا، فعاد عنها إلى جبيل وتسلمها بالأمان، واستولى ريموند على جبلة، وتَقَدَّمَ في السنة ١١٠٥ نحو طرابلس، وأقام على حصارها، وبنى حصنًا يطل عليها (حصن صنجيل)، وبنى تحته ربضًا فخرج ابن عمار وأحرق الربض، ووقف ريموند على بعض سقوفه فانخسف به فمرض ومات وحُمل إلى المدينة المقدسة ودُفِنَ فيها.
وانتخب الضباط غيليوم يوردانوس قائدًا وتابعوا الحصار، وقلَّت الأقواتُ في طرابلس فتوجه فخرُ الملك إلى بغداد مستنفرًا، واجتمع بالسلطان محمد وبالخليفة المستظهر فلم يحصل منها على غرض، فعاد إلى دمشق وأقام عند طغتكين وأَقْطَعَه الزبداني، وأما أهل طرابلس فإنهم دخلوا في طاعة خليفة مصر راجين الفرج.
وفي السنة ١١٠٨ أَطَلَّ برتران ابن ريموند غير الشرعي على رأس أربعة آلاف فارس قادمًا من جنوب فرنسة، فامتنع يوردانوس عن التنازُل له عن القيادة، ولا سيما وأنه كان قد انتصر منذ برهة على جموع دمشق وحمص عند عرقة، وأن عرقة كانت قد سقطت بيده، فاجتمع كبار الفرنجة من أنطاكية وأوروشليم وغيرهما في قلعة صنجيل الصليبية التي تطل على طرابلس للتوفيق بين الأميرين المتنافرين، وترأس الاجتماع بودوان الأول ملك أوروشليم وذلك في صيف السنة ١١٠٩، فاتفق الطرفان على أن يتولى يوردانوس طرطوس وعرقة مقسمًا الولاء لأمير أنطاكية، وأن يستحوذ برتران على طرابلس وجبيل مقسمًا الولاء والطاعة لبودوان الأول ملك أوروشليم، وعلى أن يرث أحدهما الآخر عند وفاته، ونزلوا جميعًا على طرابلس وألصقوا أبراجهم بسورها، وتأخر المددُ من مصر فاقتحمها الإفرنج عنوة ودخلوا إليها في الثاني عشر من تموز سنة ١١٠٩، وأصبح برتران قومس طرابلس متسلمًا سلطته بالإقطاع من ملك أوروشليم، واحتل الجنويون حيًّا من أحياء طرابلس وقلعة الكونستابل على بُعد خمسة عشر كيلو مترًا إلى الجنوب وثلثَي مدينة جبيل، ثم تنازل هؤلاء عن حقهم في جبيل إلى الأميرال هوغ إمبرياكو Hugue Embriaco، فجعل من جبيل إقطاعًا وراثيًّا له ولذريته مِن بعده، وأُصيب يوردانوس بسهم طائش وتُوفي، فأصبح برتران بن ريمون قومس إمارة امتدت من طرطوس إلى نهر الكلب، ومن البحر حتى مداخل حمص وشملت رفنية والبقيعة وما جاورهما.٦٣
وكانت بيروت وصيدا وصور قد تعاونتْ مع جُيُوش دمشق وحمص لصد بودوان الأول عن الوصول إلى أوروشليم، فرابطتْ في منتصف تشرين الأول من السنة ١١٠١ عند نهر الكلب مستعينةً بضيق الطريق ووعورة المسلك، فتظاهر بودوان بالتراجُع واتجه نحو جونية، فلحق به العدوُّ، وما زال حتى وصل بودوان ورجاله إلى مضايق المعاملتين، فصمد بودوان بدوره مستعينًا بطبيعة الأرض ثم انقض على الدمشقيين والحمصيين وأتباعهم من سكان بيروت وصيدا وصور، فتراجعوا مذعورين ثم تشتتوا، فتابع بودوان سيره إلى أوروشليم ليستوي على عرشها خلفًا لغودفروا.٦٤
ولمس بودوان — لمس اليد — ضرورة الاستيلاء على بيروت وصيدا وصور لتأمين المواصلات بين الشمال والجنوب، فعَادَ إلى بيروت في ربيع السنة ١١١٠ مستعينًا ببرتران وبأربعين مركبًا جنويًّا وبيزيًّا، واشتد القتال فقتل مقدم الأسطول الفاطمي وخلقٌ كثيرٌ من المسلمين، وهجم الفرنجة على البلد فملكوه بالسيف قهرًا،٦٥ وأقطع بودوان بيروت لأحد أشراف دولته فولك ده غين Foulques de Guines وخلفه عليها سادةٌ من ذريته حتى السنة ١١٨٧.
ونهض بودوان من بيروت إلى عكة، فوافق مروره فيها وصول أُسطول نروجي بقيادة سيغورد Sigord أخي ملك نروج، وكان سيغورد أول متوج يزور المملكة اللاتينية فاستقبله بودوان بحفاوة فائقة وواكبه حتى المدينة المقدسة، فارتاح سيغورد وقال: إن رجاله راغبون في الاشتراك في الجهاد لمناسبة وجودهم في الأراضي المقدسة، فشكر بودوان لضيفه الملكي هذه البادرة الطيبة، وقال: إن الظروف العسكرية تقضي باحتلال صيدا، وفي أوائل تشرين الأول من السنة ١١١٠ ظهر الأُسطول النروجي أمام صيدا وأحاط جيش بودوان بها من البر، واشتد القتال وأقبلت عمارة فاطمية مصرية من صور، فكادت تقضي على المراكب النروجية لولا وصول نجدة بندقية بحرية بقيادة الدوج نفسه أورديلافو فاليري Ordelafo Faliere، ودبر الصيداويون خطة لاغتيال بودوان بواسطة شاب مسلم كان قد دخل في النصرانية والتحق بخدمة الملك الصليبي، فعلم نصارى صيدا بذلك فأطلقوا سهمًا حاملًا الخبر إلى مقر القيادة الصليبية، فأمر بودوان بهذا الشاب فقتل عند أسوار المدينة، وفي الرابع من كانون الأول سنة ١١١٠ سلمت صيدا فرحل عنها أعيانها إلى دمشق، فجعلت بارونية وأقطعت إلى البارون أوستاش غارنيه Eustace Garnier، ووهب بودوان البنادقة كنيسة وأراضي في عكة.٦٦
وحاول بودوان في السنة ١١١١ أن يستولي على صور، ولكنه لم يفلح بضعفه في البحر، فعاد عنها وانشغل بمشاغلَ أُخرى، فظلت صور في يد المسلمين فترة من الزمن، وحاول أعيانُها التوفيقَ بين الولاء للفاطميين للاستعانة بأُسطولهم وبين الولاء لأمراء دمشق للاستعانة بجيشهم عند الحاجة، فقبلوا أميرًا دمشقيًّا اسمه مسعود حكم باسم طغتكين، وداوموا على الدعاء في الخطبة للخليفة الفاطمي، وفي السنة ١١٢٢ وصل أسطول فاطمي إلى مياه صور فاستُقبل فيها أحسن استقبال، فدعا قائد الأسطول الأمير حاكم البلد لزيارة الأسطول، ففعل فقُبض عليه ونقل إلى القاهرة ثم أُطلق سراحُهُ، فاعترف طغتكين الدمشقي بالحكم الفاطمي في صور.
وفي منتصف شباط سنة ١١٢٤ وصل الفرنجة برًّا وبحرًا إلى صور وضربوا الحصار عليها باسم الملك الأوروشليمي بودوان الثاني وبقيادة البطريرك غورموندو Gormand، فقطعوا مياه رأس العين عنها وتناولوها بالمجانيق، فردَّ الصوريون المجانيق بمثلها ورمَوُا المحاصرين بالنار الإغريقية، ولكنهم كانوا قليلين فلم يجرءوا على الهجوم، واستغاثوا بالقاهرة ودمشق فلم يلبِّ الخليفة الآمر النداء لعدم توفُّر المراكب، وأنفذ طغتكين جيشًا كبيرًا إلى بانياس وبات ينتظر قُدُوم المراكب الفاطمية، ثم أطل الفرنجة من معسكر صور فعاد إلى دمشق بدون قتال، وطال الحصار وقل الزاد والماء فصالح طغتكين وسلم صور على شروط، أهمها: أن يسمح لأهلها بمغادرتها، وأن يؤمن الباقون فيها على حياتهم، وفي السابع من تموز سنة ١١٢٤ فَتحت صور أبوابها للفرنجة، فاستولوا عليها باسم بودوان الثاني.٦٧
واقتصر الحكمُ الا فرنجي — في الغالب — على السواحل والجبال الغربية حتى مقلب المياه، وظَلَّ الداخلُ — كحلب وحماة وحمص وبعلبك ودمشق — بيد الأمراء المسلمين السلاجقة، ونشأ في البلاد ثلاث إمارات افرنجية ومملكة؛ إمارة الرها وإمارة أنطاكية وإمارة طرابلس والمملكة اللاتينية، وكان نظام الحكم فيها إقطاعيًّا على الطريقة الأوروبية، وجاء الملك الأوروشليمي صاحب التاج المقدس على قِمَّةِ هذا النظام في المملكة اللاتينية وفي الإمارات الثلاث، فكان عليه أن ينجد الأمير المقطع إذا اعتُدي عليه أو هُدِّدَ بثورة داخلية، وأن يكون وصيًّا على الأمير إذا كان قاصرًا، وأن يكون الحَكَم بين الأمراء. وكان على الأمراء أن يُقسموا يمين الطاعة والولاء، ويهبُّوا لمعونة الملك بعدد معين من المحاربين.
وأقطع كل أمير من الأمراء غيره أراضي في إمارته بالشروط نفسها، وشمل هذا الإقطاع الأساقفة والرهبان أيضًا، فكان على هؤلاء أن يقسموا يمين الطاعة والولاء للأمير الكبير، وأن يُلَبُّوا نداءه في الملمات، فينجدوه بعدد معين من رجال الحرب أو مبلغ محدد من المال أو الاثنين معًا.
الرهبان الفرسان
وكان بعض الأغنياء الأتقياء من سُكَّان أمالفي قد رَقُّوا للحجاج الفقراء، فأنشئوا في السنة ١٠٧٠ نزلًا لهؤلاء في أوروشليم، ووقفوه على اسم القديس يوحنا الرحوم البطريرك الإسكندري، ورثى لهؤلاء الفقراء آخرون من أبناء أمالفي، فوقفوا حياتَهم لخدمتهم رهبانًا لا يَستكبرون، وخضع هؤلاء الرهبان ورئيسهم للسلطات البنذكتية في الأرض المقدسة، فلما خشي الأتراكُ السلاجقةُ قدومَ الصليبيين في السنة ١٠٩٨ طردوا هؤلاء الرهبان من الدير والنزل ومن المدينة المقدسة أيضًا، وكان ما كان من أمر الحملة الصليبية الأولى. فلما سقطت أوروشليم في يد الصليبيين أشفق الأمراء على الحجاج والرهبان الأملقيين وحبسوا عليهم الأملاك، وعظم شأن هؤلاء الرهبان وكثر عددهم فاستقلوا عن البنذكتيين، واعترف البابا بهم رهبنة مستقلة باسم الرهبان المضيفين Hospitaliers، فسماهم المؤرخون المسلمون «الاسبتالية» أو «الاسبتارية»، وفي السنة ١١١٨ تولى رئاسة هذه الرهبنة راهب إفرنسي واسع الصدر بعيدُ النظر اسمه ريمون ده بوي Raymond du Puy، فلم يكتف بإيواء الحجاج ومواكبتهم والعناية بهم، بل تَطَلَّعَ إلى ما كان أهم مِنْ ذلك، إلى حماية الحجاج والمحافظة على سلامة وصولهم، فبدل شفاعة يوحنا الرحوم بشفاعة يوحنا الحبيب، وأوجب التدريب على القتال واستعمال السلاح ورَسْم صليبٍ أبيضَ على الجبب.
وفي السنة ١١١٨ أيضًا تقدم الفارس هوغ ده بان Hugues de Payns ورفاقه السبع من بطريرك أوروشليم اللاتيني ناذرين العفة والطاعة، واضعين أنفسهم تحت تصرُّف البطريرك لحماية الحجاج من اللصوص وقطاع الطرق، فوافق البطريرك وأنزلهم الملك جناحًا من أجنحة قصره في هيكل سليمان (المسجد الأقصى)، فعرفوا بالرهبان الهيكليين Templiers وهم «الداوية» في مصنفات العرب المعاصرين، ونظر مجمع تروا Troyes في نظامهم في السنة ١١٢٨ فأَقَرَّهُ باسم «جنود المسيح»، وانتظم جنود المسيح طبقات ثلاثًا: طبقة الفرسان من الأشراف، وطبقة الرقباء من أبناء التجار وأصحاب المهن الحرة، وطبقة الكهنة من خدام الكنائس. وارتدى الفرسانُ الأشراف الأبيض وعليه صليبٌ أحمرُ، ولبس الرقباء الأسود وعليه صليبٌ أحمرُ، وقضى واجبهم الأول بأن تبقى طريق الحجاج حرة آمنة من الساحل حتى المدينة المقدسة، ثم اندفعوا في سبيل الصليب فاشتركوا في معظم الحروب.
وأيد بودوان الأول وغيرُهُ من خلفائه هؤلاء الرهبان الفرسان؛ لأنهم وجدوا فيهم أداة عسكرية فعالة مستعدة دائمًا للنضال في سبيل الجهاد، فحبسوا عليهم الأملاك لتأمين الدخل ثم أقطعوهم الأراضي ووكلوا إليهم حماية الأبراج والقلاع عند الحدود، ففي السنة ١١٣٧ تولى الاسبتاليون حماية قلعة بيت جبرين وتولى الهيكليون الدفاع عن غزة، وفي السنة ١١٤٢ أقطع أمير طرابلس ريمون الثاني الاسبتاليين حصن الأكراد وكل ما وقع بين هذا الحصن وبين رفنية وبعرين، وأقطع الهيكليين طرطوس وصافيتا وعرقة، وحذا أمراء أنطاكية حذو أمراء طرابلس وملوك فلسطين، فتولى الهيكليون الدفاع عن حدود الإمارة الشمالية الشرقية واحتل الاسبتاليون حدودها الجنوبية.٦٨
الهيرارخية اللاتينية
وهدف الافرنج إلى القبر المقدس فغدت أوروشليم أَهَمَّ مُدُن الشرق عندهم، وأصبح بطريركها مقدمًا على بطريرك أنطاكية، وذكر الفرنجة فضل أوربانوس الثاني واندفاعه وتنشيطه وتشجيعه، فحفظوا حَقَّ الكنيسة واعتبروها صاحبة السلطة في الأراضي المقدسة، فلما تُوفي أديمار في أنطاكية عين أوربانوس دميرتوس Daimbert رئيس أساقفة بيزا خلفًا لأديمار وممثلًا لسلطة رومة في الأراضي المقدسة،٦٩ ووصل دمبرتوس إلى أوروشليم في الحادي والعشرين من كانون الأول سنة ١٠٩٩، فاعتبر أرنول أورنولفوس قائمقامًا بطريركيًّا Locum Tenens، وفاوض الزعماء في وصوله إلى العرش البطريركي، واغدودقت الهدايا الثمينة، فخلع أرنول خلعًا وانتخب دمبرتوس بطريركًا على أوروشليم، وخضع غودفروا «وكيل القبر المقدس» وبوهيموند أمير أنطاكية للبطريرك، وأقسما يمين الطاعة والولاء له، فأصبح البطريرك الأوروشليمي سيد أنطاكية وأوروشليم وحقق في الأراضي حلم غريغوريوس السابع، أما بودوان أمير الرها فإنه امتنع عن الخضوع؛ لأنه لم يثق بشخص البطريرك الجديد.٧٠
وجلس بين السنة ١٠٩٩ والسنة ١١٩٩ أحد عشر بطريركًا لاتينيًّا على السدة الأوروشليمية، وإليك أسماءهم وتواريخهم:
1128–1130
Etienne de Chartres
1099
Arnoul Malecorne
1130–1146
Guillaume de Messines
1099–1101
Daimbert
1146–1157
Foucher d’Angoulème
1101–1108
Ebremard
1158–1180
Amaury de Nesles
1108–1112
Gibelin de Sabran
1180–1190
Heraclius
1112–1118
Arnoul Malecorne
1118–1128
Gormond de Picquigny
ويُجمع الثقات على انصراف معظم هؤلاء البطاركة إلى حب المجد الفارغ، واهتمامهم بجمع المال وإنفاقه في سبيل أهوائهم وأغراضهم الشخصية، وعلى أن السيمونية لعبت دورًا هامًّا في سياسة كنيسة أوروشليم طوال قرن كامل من الزمن.٧١
وجلس على السدة البطريركية بين السنة ١١٠٠ والسنة ١٢٠٨ أربعةُ بطاركة، وهم: برناردوس (١١٠١–١١٣٥) ورءول (١١٣٥–١١٤٢) وإيماري Aymeri (١١٤٢–١١٩٦) وبطرس (١١٩٦–١٢٠٨)، ولم يكن هؤلاء أَسْعَدَ حظًّا من زملائهم في أوروشليم، فاشتهر برناردوس بتدخُّله في السياسة والحرب في عهدي تنكريد وروجه،٧٢ وتميز رءول برجاله الأشداء واستئثاره بالسلطة البطريركية واستخفافه بأوامر رومة وبخلعه وموته مسمومًا،٧٣ وفضل إيماري في نظر غليلموس الصوري أنه أنقذ أنطاكية في السنة ١١٤٩ من السقوط في يد نور الدين، وفي نظر غيره أنه عظَّم شأن اليعاقبة والأرمن؛ نكاية بالروم الأرثوذكسيين.٧٤
وقضت ظروفُ المملكة اللاتينية بأن تنحصر سلطةُ بطريرك أوروشليم ضمن حدود هذه المملكة، وأن يُعادَ النظرُ في تقسيم الأبرشيات، فنشأتْ تدريجيًّا أبرشيات خمسٌ كُبرى يرأس كُلٌّ منها رئيس أساقفة، وهي أبرشيات صور وقيصرية وبيسان وبصرى وعمان، وخضع لرئيس أساقفة صور كل من أسقف بيروت وأسقف صيدا وأسقف بانياس وأسقف عكة، وخضع لرئيس أساقفة قيصرية أسقف سبسطية، ولرئيس أساقفة بيسان أسقفا طبرية وجبل الطور.
وشملت بطريركية أنطاكية ست عشرة أبرشية، وهي أبرشيات مصيصة والبارة وأبامية ومنبج والرها وبانياس وجبلة وطرابلس واللاذقية وحارم أو (أرتاح)، ومرعش وقيسون وقوروش ورفنية وطرطوس وجبيل،٧٥ ولم ترضَ هذه البطريركية عن سلخ أبرشيات صور وسائر فينيقية الساحلية وضمها إلى بطريركية أوروشليم وطالبت بإعادتها إلى كنيستها الأم، فنشأت مشادةٌ عنيفة بين البطريركيتين دامت أعوامًا طوالًا، فقالت بطريركية أوروشليم بوجوب الملاءمة بين الحدود السياسية والحدود الكنيسة مستندة في ذلك إلى التعليمات الصادرة عن أوربانوس الثاني، واستمسكتْ بطريركية أنطاكية بقرارات المجامع المسكونية ووجوب إبقاء القديم على قِدَمِهِ.
واتخذت هذه المشادة شكلًا فعليًّا لأول مرة في السنة ١١١٠ عند سقوط بيروت في يد بودوان ملك أوروشليم، فاستسمح هذا الملك البابا باسكال الثاني في ضم بيروت إلى كنيسة أوروشليم فوافق باسكال، فاحتج برناردوس بطريرك أنطاكية فاعتذر باسكال وقال قولًا مبهمًا، فطلب برناردوس إلى مجمع بنفنتوم (١١١٢) أن ينظر في هذا الأمر، فارتأى المجمع أن يكون الحد الفاصل بين طرطوس وطرابلس، فلم يرضَ باسكال الثاني.
ولدى دخول صور في حوزة ملك أوروشليم سنة ١١٢٨ قام رئيس أساقفتها اللاتيني إلى رومة لتسلم درع التثبيت من البابا أونوريوس الثاني، فأمر هذا البابا بضم طرابلس وطرطوس وجبيل إلى بطريركية أوروشليم، فلم يذعن برناردوس بطريرك أنطاكية وظل محتفظًا بطرطوس وطرابلس وجبيل، وفي السنة ١١٣٨ طلب البابا أنوشنتوش الثاني إلى بطريرك أنطاكية رءول أن يلحق طرطوس وطرابلس وجبيل بأبرشية صور، فأجاب رءول أنه فاعلٌ حالما تعود صور نفسها إلى كنيستها الأُمِّ أنطاكية، وظلَّت المشادةُ قائمة ونظر فيها كل من أنوشنتوش الثالث وأنوريوس الثالث وغريغوريوس التاسع ولكن دون جدوى، وظل الحد الفاصل بين البطريركيتين الحد السياسي بين المملكة اللاتينية وقومسية طرابلس.٧٦
الهيرارخية اليونانية الأرثوذكسية
ولم يعترف الأحبارُ الأرثوذكسيون بالبطريركيتين اللاتينيتين، واعتبروا الإقدامَ على تنظيمهما عملًا مُخالفًا لنصوص المجامع المسكونية؛ إذ لا يجوز أن يكون للأبرشية الواحدة أكثر من رئيس واحد، ورأوا في تدعيم السلطات لهذا العمل الشاذ اغتصابًا لا مبرر له.
واجتمع الأحبار الأوروشليميون بعد وفاة سمعان الثاني، وانتخبوا أغابيوس الأول خلفًا له، ثم انتقلوا من قبرص إلى القسطنطينية وثابروا على الاحتفاظ بالسلطة الروحية في أوروشليم وسائر فلسطين، فانتخبوا سابا بعد أغابيوس، ثم أفخيريوس الأول، فمكاريوس الثالث، فيعقوب الثاني، فأرسانيوس الثاني، فيوحنا السابع، فنيقيفوروس الثاني، فأثناسيوس الثاني،٧٧ ولا مجال للظن في صحة هذه الرواية؛ فذبتيخة دير القديسة كاترينة في طور سينا المؤرخة في السنة ١١٦٦ تذكر اسمي يوحنا ونيقيفوروس بطريركي أوروشليم،٧٨ وأعمال المجمع القسطنطيني في السنة ١١٥٧ تُثبت اشتراكَ يوحنا بطريرك أوروشليم في جلساته، كما تبين أعمال مجمع السنة ١١٦٦ أن نيقيفوروس مثل كنيسة أوروشليم، وصنف يوحنا رسالة في السنة ١١٦٠ بحثت في الطقوس اللاتينية،٧٩ وعند خروج اللاتينيين من أوروشليم في السنة ١١٨٧ كان هنالك بطريرك أرثوذكسي مستعدٌّ لتسلُّم السلطات الروحية هو أثناسيوس الثاني.٨٠
ولجأ يوحنا السابع البطريرك الأنطاكي إلى القسطنطينية — كما سبق وأشرنا — ثم استقال فأوعز الفسيلفس إلى الأساقفة الأنطاكيين الذين فروا مع بطريركهم أن ينتخبوا خلفًا له، فأجمعوا على تسليم عكاز الرعاية إلى يوحنا الثامن (١١٠٦–١١٣٧) فلوقا (١١٣٧–١١٥٥)، ولا بدَّ أن يكونوا قد حَذَوْا حذو زملائهم الأوروشليميين، فتابعوا انتخاب البطاركة في الغربة؛ فقد جاء في لائحة قسطنديوس القسطنطيني أن يوحنا التاسع تسلم عكاز الرعاية في القسطنطينية في السنة ١١٥٥، وأن أفتيميوس خلفه في الكرسي الرسولي في السنة ١١٥٩، وأن مكاريوس الثاني تولى السدة الأنطاكية في السنة ١١٦٤، فتبعه في الرئاسة أثناسيوس الثاني سنة ١١٦٦ فثيودوسيوس الثالث سنة ١١٨٠، فإلياس الثالث سنة ١١٨٢، فخريستوفوروس الثاني سنة ١١٨٤، فثيودوروس الرابع (بلسامون) سنة ١١٨٥، فيواكيم سنة ١١٩٩، فدوروثيوس في السنة ١٢١٩، فسمعان الثاني سنة ١٢٤٥، فأفيتميوس الثاني سنة ١٢٦٠، وفي عهده أخرج المماليك الصليبيين من أنطاكية.٨١
والواقع الذي لا مَفَرَّ من الاعتراف به هو أن الروايات في هذا الموضوع متضاربةٌ متخالفةٌ، وأن أحدًا من العلماء الباحثين لم يعالج هذه الروايات معالجةً علمية فنية، ولكن الثابت الراهن هو أن الإكليروس الأرثوذكسي لم يعترف بسلطة اللاتين على كنيسة أنطاكية، وأنه أقام بطاركة أرثوذكسيين يونانيين في الفترة التي تَوَلَّى الصليبيون فيها أنطاكية وتوابعها، ولكن هذه الروايات تتدامج وتتآلف حول رئاسة أثناسيوس الثاني وثيودوروس الرابع وسمعان الثاني، وتتفق — إلى حدٍّ بعيدٍ — في تعيين ظروفها.
أثناسيوس الثاني (١١٦٥–١١٧٠)
وظلت أنطاكية وجهةَ آمال الروم وحديثَ أحلامهم، وظلوا يرقبون تطوُّر الظروف ويترصدون سوانحَ الفُرص للظفر بها. وتُوفي بوهيموند الأول في إيطالية في السنة ١١١١، وقتل تنكريد الصقلي في الميدان في السنة ١١١٢، وخرَّ بوهيموند الثاني صريعًا في قيليقية سنة ١١٣٠ وتولى الوصاية على ابنته قسطندية روجه الساليرني، فارتأى الفسيلفس يوحنا الثاني أن يُزوج ابنه عمانوئيل من قسطندية، ووافقت والدتها، ولكن فولك دانجو ملك أوروشليم أزوج قسطندية من ريمون قومس بواتييه، فغضب يوحنا الثاني الفسيلفس لكرامته وانتهز فرصة الحرب القائمة بين عماد الدين زنكي والإفرنج، فظهر أمام أسوار أنطاكية فسقطت في يده في آب السنة ١١٣٧، فأقسم ريمون أميرها ولاء الطاعة للفسيلفس، ثم اضطر الفسيلفس أن يحاصر أنطاكية في السنة ١١٤٢، وأصيب بسهم مسموم في أثناء الصيد في قيليقية فولى ابنه عمانوئيل وقام إلى القسطنطينية وتُوفي فيها سنة ١١٤٣، واتسعت آفاق عمانوئيل (١١٤٢–١١٨٠) وطمع في إيطالية وصقلية وفي إمارات الشرق اللاتينية، وتَعَدَّى ريمون أمير أنطاكية وأغار على قيليقية فأنفذ عمانوئيل حملة وأكره ريمون على الذهاب إلى القسطنطينية في السنة ١١٤٥ ليطلب العفو.
وقتل ريمون في حرب ضد المسلمين في السنة ١١٤٩ فشمل عمانوئيل أرملته قسطندية بعطفه وحمايته، وعلى الرغم مِنْ عَدَم انصياعها له في أمر زواجها من رينو دي شاتيون فإنه ظل يعتبر نفسه سيد أنطاكية وتوابعها، وفي السنة ١١٥٢ ثار طوروس بن لاوون الأرمني على عمانوئيل واعتصم بتلال قيليقية، فاستعان عمانوئيل برينو ووعده بمكافأة مالية جزيلة، فجرد رينو حملة على طوروس ثم قلب ظهر المجن وانضم إلى طوروس وتعاون معه في إغارة كبيرة على قبرص سنة ١١٥٦، فاستشاط الفسيلفس غيظًا وقام بنفسه إلى قيليقية، فأم رينو مصيصة مقر عمانوئيل أعزل عاري القدمين حاسر الرأس ممسكًا بسيفه من طرف نصلته وارتمى عند قدمي الفسيلفس، وما فتئ حتى أمره عمانوئيل بالنهوض، فاعترف بسيادة الفسيلفس ورضي بتسليم قلعة أنطاكية وبإقامة بطريرك أرثوذكسي في المدينة،٨٢ وفي السنة ١١٦٢ بلغ بوهيموند الثالث أشده فانتهت وصاية رينو، وفي السنة ١١٦٤ وقع بوهيموند الثالث أسيرًا في يد نور الدين ثم أطلق سراحه لقاء مبلغ كبير من المال، وكان عمانوئيل قد تزوج من مريم أخت بوهيموند، فقام هذا إلى القسطنطينية يرجو صهره الفسيلفس إمداده بالمال اللازم، فصدقه الفسيلفس السعي ولبَّى مبتغاه، فعاد بوهيموند إلى أنطاكية يرافقه بطريرك أرثوذكسي يوناني هو أثناسيوس الثاني.٨٣
واعتبر بوهيموند البطريرك اليوناني الأرثوذكسي مساويًا لبطريرك اللاتين بالحقوق والكرامة، فامتعض إيماري بطريرك اللاتين واحتج، ثم لعن المدينة وخرج منها وأقام في برج القصير (قلعة الضو) بين كنوزه وأمواله، وكانت السلطات الأرثوذكسية العليا لا تزال تسعى لردِّ اليعاقبة والأرمن عن القول بالطبيعة الواحدة والعودة بهم إلى حضن الكنيسة الجامعة، فلما أطلت السنة ١١٦٦ وانتخب اليعاقبة ميخائيل السرياني بطريركًا عليهم انتهز أثناسيوس الثاني فرصة قدوم البطريرك الجديد إلى أنطاكية، وبحث معه أمر توحيد الكلمة وجمع الصفوف، ودخل اللاهوتي اليوناني ثوريانوس الأرثوذكسي في جدل لاهوتي مع ميخائيل، وأطلع البطريرك أثناسيوس الفسيلفس على ما جرى، فاستدعى عاهل الروم البطريرك السرياني إلى القسطنطينية للنظر في صلب الموضوع، ولكن إيماري بطريرك اللاتين كان قد أظهر استعداده للتعاون مع السريان دون قيد أو شرط، فامتنع ميخائيل عن الذهاب إلى القسطنطينية، ولم تسفر محاولات أثناسيوس عن أَيَّةِ نتيجة إيجابية، وظل إيماري ممتنعًا في برج القصير وواظب كهنتُهُ على مقاطعة الروم الأرثوذكس وعلى التودُّد إلى اليعاقبة والأرمن. وعاد الطرفان السرياني والأرثوذكسي إلى البحث في السنة ١١٧٨ واجتمعا في روم قلعة، وترأس الوفد السرياني الأسقف باروهبون وتزعم الوفد الأرثوذكسي كل من الفيلسوف ثيوريانوس وزميله خريستوفوروس، ولكن دون جدوى، وانتفخ باروهبون واستكبر من جراء هذه المحادثات، فخرج على رئيسه البطريرك ميخائيل وشطر الكنيسة السريانية شطرين ببطريركين متخاصمين متراشقين.٨٤
وفي التاسع والعشرين من حزيران سنة ١١٧٠ زُلزلت الأرض واشتد المصاب، فتهدمت الدورُ والمباني في حلب وحماة وحمص واللاذقية وطرابلس وجبيل وغيرها، ولم تنجُ أنطاكية من هذه الكارثة، فأرجفت الكاتدرائية وتناثرت حجارتها فأصابت أثناسيوس الثاني وحاشيته في أثناء قيامهم بالخدمة الإلهية، فادعى إيماري وجماعته أن الغضب حلَّ على المدينة لخروج إيماري منها ودخول أثناسيوس إليها، فأمر بوهيموند بإخراج البطريرك الأرثوذكسي من المدينة، فأُخرج وهو في حضرة الوفاة.٨٥
بلسامون ثيوذوروس (١١٨٥–١١٩٩)
وأشهر بطاركة كنيسة مدينة الله في هذه الحقبة بلسامون القانوني الكبير، وهو ثيودوروس الرابع بموجب اللوائح الكنسية، أبصر النور في القسطنطينية ونذر نفسه صغيرًا، وألحق بكنيسة الحكمة الإلهية والبطريركية المسكونية، فكان مثال الورع والتقوى والنشاط والغيرة، وتدرج في المراتب فشغل وظيفة نوموفيلاكس فخرتوفيلاكس فبروتوسنكلوس، وانتخب بطريركًا على أنطاكية في السنة ١١٨٥، ولكنه لم يُوفق إلى الإقامة فيها فبقي في القسطنطينية حتى أدركتْه الوفاةُ في السنة ١١٩٩، وليس هنالك أي دليل يؤيد أودوان في قوله: إن بلسامون انتقل إلى رحمة ربه في السنة ١٢١٥.٨٦
وأحبت أسرة كومنينوس الكنيسة فنفذت كلمة الأحبار واتسعت صلاحياتهم القضائية، فعكف بلسمون خارتوفيلاكس كنيسة القسطنطينية على درس القوانين المدنية والكنسية فهاله تكاثرها وتناقضها، فاتخذ أساسًا لتدقيقه مجموعة عُرفت بالسينتاغمه Syntagma ونُسبت إلى فوطيوس العظيم، ثم جمع كل ما عثر عليه من القوانين المدنية والكنسية منذ عهد باسيليقة لاوون السادس (٨٨٦–٩١٢) فنسقها وفَرَّقَ بين مهملاتها وما كان لا يزال ساري المفعول منها، ثم مَحَّصَ هذه تمحيصًا محاولًا التوفيق بين قوانين الكنسية وقوانين الدولة، فأخرج كتابًا أسماه الدليل إلى القانون Exegesis Canonum لا يزال حتى يومنا هذا منهلًا عذبًا يرده أحبارنا المتبحرون.٨٧
ولبلسامون مصنفاتٌ أُخرى، أهمها تأملاته٨٨ وأجوبته عن المسائل الأربع والستين التي طرحها مرقس بطريرك الإسكندرية،٨٩ ومؤانساته الإحدى عشرة.٩٠
جمهور المؤمنين
واعتبرت السلطات الافرنجية الروحية والمدنية جمهور المؤمنين الأرثوذكسيين أبناء كنيسة واحدة جامعة، ففرضوا عليهم العشر وأوجبوا خضوعهم لأساقفة لاتينيين واحتلوا الكاتدرائيات والأديار والمباني الكنسية، ومن خضع رتع ومن امتنع امتقع، وسمحوا بعد هذا بممارسة الطقوس البيزنطية في الكنائس العادية كما أبقوا على بعض الرهبان في بعض الأديار، وظلَّ فسيلفس الروم يطالب أمراء أنطاكية الصليبيين بالطاعة والولاء. واشتد الاحتكاكُ بين الطبقات الأرثوذكسية اليونانية العالية في أنطاكية واللاذقية وبين الأسر الصليبية المماثلة، فتيقظ الصليبيون وتحذروا فنشأ عن هذا كله نُفُورٌ في قلوب الأرثوذكسيين الأنطاكيين، زاد الشقاقَ الذي كان قد بدأ سنة ١٠٥٤ اتساعًا وعمقًا.٩١
اللاتين والأرمن
وحاولت السلطاتُ الروحيةُ اللاتينيةُ في بادئ الأمر فَرْضَ سُلطتها على الإكليروس الأرمني، فامتعضوا ونفروا وأَيَّدَهُم في ذلك شعبُهُم، وتعاونوا مع المسلمين،٩٢ ثم استتبَّ الأمرُ للصليبيين في الميدان السياسي، ورأى هؤلاء أن لا بُدَّ من الاستعانةِ بالأرمن للصمود في وجه الروم والمسلمين، فخَفَّتْ غلواءُ الرؤساء اللاتينيين وواصلوا الإكليروس الأرمني وأحسنوا صلتهم، فأطلقوا يدهم في الروحيات والأحوال الشخصية وتركوا لهم كنائسهم وأديارهم، فحفظ الأرمن العهد وبروا في القول،٩٣ ثم تمكنت الألفةُ فاصطحب الطرفان على العلات، وجاءت السنة ١١٣٩ فأم أنطاكية الكردينال ألبريكوس، فعقد مجمعًا محليًّا للنظر في قضية رءول بطريرك أنطاكية، ودعا بطريرك الأرمن غريغوريوس الثالث وأخاه نرسيس لحضور المجمع ففعلا. وفي السنة ١١٤٠ قام الكردينال والبطريرك إلى أوروشليم، فاحتفلا بعيد الفصح فيها واشتركا في أعمال مجمعها اللاتيني. ويرى علماءُ اللاتين أن ممثل الكنيسة الأرمنية اعترف بالطبيعتين في هذا المجمع، ولكن علماء الأرمن يُصرون على أنه قال قولًا غامضًا، خلاصته أن الكنيستين لم تختلفا في الأمور الجوهرية.٩٤
وجاء بعد غريغوريوس الثالث نرسيس الرابع ١١٦٦–١١٧٣ المعروف بالشرنورهالي، فحاول التوفيق بين مواقف الكنائس اللاتينية واليونانية والأرمنية، ولَبَّى دعوةَ الفسيلفس عمانوئيل كومنينوس فجالس اللاهوتي الفيلسوف ثيوريانوس وبحث معه الاختلاف الناشئ عن مقررات المجمع الخلقيدوني، وجاء غريغوريوس الرابع ١١٧٣–١١٩٣ فدعا إلى مجمع في روم قلعة اشترك في أعماله ثلاثة وثلاثون حبرًا من مختلف الطوائف، فقال الأرمن فيه بالطبيعتين. ولكن إصرار الأرثوذكسيين اليونانيين على تطبيق الطقوس اليونانية اضطر الأرمن إلى الاتجاه نحو رومة، فاتصل غريغوريوس الرابع البطريرك الأرمني بلوقيوس الثالث بابا رومة، فأرسل له هذا درعًا وخاتمًا وعكازًا،٩٥ وجاءت السنة ١١٨٨ فحض إقليمس الثالث بابا رومة الأرمن على التعاون مع الصليبيين،٩٦ واعترض غريغوريوس الخامس على هذا التفاهُم (١١٩٣-١١٩٤)، ولكن تدخل الأمير الأرمني لاوون الثاني أدى إلى انعقاد مجمع في طرسوس سنة ١١٩٦ برئاسة غريغوريوس السادس أجمع رؤساء الأرمن فيه على القول بالطبيعتين والتعاون مع رومة، وفي السنة ١١٩٩ تقبل لاوون الثاني تاج الملك من يد كونراد الموفد الرسولي الروماني.٩٧
اللاتين واليعاقبة
ولم يرض اليعاقبة عن هذا التآلف والتعاوُن بين السلطات اللاتينية المدنية والدينية وبين الأرمن، فاضطربوا ومالوا أكثر من مرة إلى الأتراك السلاجقة، وبلغ أمراء الرها ذلك فحَقدوا، وفي السنة ١١٤٨ تنمر جوسلان الثاني أمير الرها فكاشفهم بالعداوة ونهب دير مار برصوم ووزع آنيته المقدسة على الأرمن، وشتت رهبانه وأحل محلهم جنودًا من الأرمن،٩٨ وجرى مثل هذا في إمارة أنطاكية؛ فقد جاء لمخائيل السرياني أن جماعته مالوا نحو الأتراك بعد موقعة أبامية في تموز السنة ١١٤٩،٩٩ وتمرد باسيليوس بارصابوني رئيس أساقفة الرها على رئيسه البطريرك أثناسيوس السادس، فتدخل برناردوس بطريرك أنطاكية اللاتيني في النزاع، فغضب اليعاقبة لكرامتهم ونقلوا مركز بطريركتهم إلى آمد خارج حدود اللاتين،١٠٠ ثم تطورت الظروف السياسية فسعى الأمراء الصليبيون إلى استرضاء اليعاقبة وشجعت رومة الملاينة شرط الاعتراف بسلطتها، وجاءت السنة ١١٥٦ فاشترك الأمراء والأشراف اللاتينيون في تدشين كنيسة مار برصوم وعاد إلى أنطاكية في السنة ١١٦٦ أثناسيوس الثاني بطريركها السرياني الشرعي، وغضب بطريرك اللاتين فوقف اليعاقبة إلى جانب اللاتين وزار بطريركهم ميخائيل بطريرك اللاتين مواسيًا، ثم امتنع عن تلبية دعوة الفسيلفس عمانوئيل لتوحيد الصفوف — كما سبق وأشرنا — وفي السنة ١١٨٠ غمط ابن وهبون إحسان بطريركه ميخائيل واستسلم إلى أربعة أساقفة مشاقين فساموه بطريركًا باسم يوحنا، فاستعان ميخائيل بالسلطات اللاتينية المدنية لتأييده ففعلوا، ومن هنا إطراؤه بتسامح اللاتين.
اللاتين والموارنة
ورحَّب الموارنة بالفرنجة لدى وصولهم إلى أبرشيات أنطاكية ترحيب الأرمن واليعاقبة والروم أيضًا، ورأوا في قدومهم وسيلة فعالة للخلاص من مظالم السلاجقة وغيرهم، وكانوا في تلك الآونة أربعين ألفًا منتشرين في تلال طرابلس والبترون وجبيل والجبة، فلما «خيم الإفرنج فوق مدينة طرابلس هبط إليهم جماعة من المؤمنين السريان الذي يسكنون جبل لبان فوق جبيل والبترون وطرابلس مما يلي الشرق؛ لأجل تهنئتهم وعرض خدماتهم عليهم، فرحبوا بهم وتلقوهم بعواطف الحب الأخوي، واتخذوا منهم هداة ليرشدوهم إلى أأمن الطرق وأيسرها في تلك الجبال الهائلة».١٠١ ولم ينفرد الموارنة في هذا الترحيب الأخوي الأولي، فالروم والأرمن واليعاقبة سبقوا الموارنة إلى هذا الترحيب، وقدموا الخدمات في حينها وتحملوا الاضطهاد لأجل الصليبيين، وقد سبقت الإشارة إلى موقف البطريرك سمعان الأوروشليمي من الفرنجة وإرساله الزاد والمئونة من قبرص، وإلى سجن البطريرك يوحنا في أنطاكية وحجزه في قفص من حديد وعرضه على أبراجها؛ لأنه كان بطريركًا في الكنيسة الجامعة. وقد ذكرنا تعاون الأرمن واليعاقبة مع الفرنجة في فتوحاتهم الأولى في قيليقية وشمال سورية.
واختلفتْ ظروفُ الموارنة عن ظروف سائر الطوائف غير اللاتينية؛ فإنهم لم يتمتعوا بحماية الفسيلفس تَمَتُّع الأرثوذكسيين ليقرفوا بالخيانة، ولم يسكنوا كبريات المدن لِيَحْتَكَّ أساقفتُهُم بأساقفة اللاتين وزعمائهم ويناوصوا الجرة ويسالموها، ولم يكونوا طائفةً كبيرةً غنية تناظر غيرها من الطوائف، وهكذا فإنه لم يقارب القرن الثاني عشر نهايته حتى توثقت العُرى بين الموارنة والصليبيين، فاجتمعوا على النعماء والبأساء فنضج الود، «فرجعوا إلى رُشدهم بإلهامٍ إلهيٍّ وهَبُّوا مِنْ خُمُولهم، فجاءوا إلى إيماري وهو الثالث من بطاركة اللاتين، وبعد أن رفضوا الضلالةَ التي استمروا عليها بكل خطر مدة طويلة؛ رجعوا إلى وحدة الكنيسة الكاثوليكية قابلين الإيمان الأرثوذكسي مستعدين أن يتمسكوا بتقاليد الكنيسة الرومانية، وأن يحفظوها بكل احترام.» هذا ما رواه غليلموس الصوري تحت أخبار السنة ١١٨٢،١٠٢ وتاريخ غليلموس هذا هو من أفضل المراجع اللاتينية لتاريخ الصليبيين بين السنة ١٠٩٥ والسنة ١١٨٤، وُلد مؤلفُهُ في الشرق قبل السنة ١١٣٠ فتكلم العربية واليونانية بالإضافة إلى اللاتينية، ثم رحل إلى فرنسة في طلب العلم وعاد إلى فلسطين حوالي السنة ١١٦٠، وفي السنة ١١٧٤ تولى إدارة المحفوظات الملكية في أوروشليم وتدبير سياسة المملكة الخارجية،١٠٣ ثم أصبح في السنة ١١٧٥ رئيس أساقفة صور، وفي السنة ١١٨٣ رشح نفسه لبطريركية أوروشليم فلم يفلح فاعتزل الرئاسة الروحية، وأقام في رومة، فتوفي فيها في السنة ١١٨٧، وبدأ غليلموس تدوين تاريخه في السنة ١١٦٩، فاعتمد غيرَه من المؤرخين لتاريخ الحملة الأولى، واستقى أخبار السنوات ١١٢٧ حتى عودته إلى الشرق من المحفوظات الملكية اللاتينية في أوروشليم، أما ما تبقى من الحوادث؛ أي ما جرى بين السنة ١١٦٠ والسنة ١١٨٤، وبينها رجوعُ الموارنة عن القول بالمشيئة الواحدة واتحادهم مع كنيسة الغرب؛ فإنها مِنْ مرويات عصره عن حوادثَ جَرَتْ في الساحل نفسه الذي أقام فيه.١٠٤
وتتوفر لهذه الروايةِ في شخص راويها غليلموس الصوري معظمُ شُرُوط العدالة والضبط؛ فقد كان الراوي رئيسَ أساقفة صور عند وقوع ما يروي ودون في وقت قريب من زمن وقوع الحادث الذي يروي، وكان من أدرى الناس في موضوع روايته، وقد اشتهر باتزانه وعدم التطرُّف في الحكم والقول.
وروايتُهُ هذه ليست فريدةً في بابها، فبولة البابا أنوشنتيوس الثالث التي صدرت في السنة ١٢١٥ ووجهت إلى بطريرك الموارنة وأساقفتهم وجمهور أكليروسهم تذكر الموارنة بوجوب التيقُّظ «وتدارُك الخطأ»، والقول «بدون تردد» بانبثاق الروح القدس من الآب والابن، وبالاكتفاء بتسمية الثالوث مرة واحدة في المعمودية وبحصر سر التثبيت بالأساقفة، وبالامتناع عن إدخال أَيَّةِ مادة أُخرى غير الزيت والطيب في إعداد الميرون، وبوجوب الاعتراف بالخطايا والتناول ووجوب القول «بمشيئتين في المسيح مشيئة إلهية ومشيئة بشرية»، والامتناع عن استعمال الأواني الزجاجية والخشبية والبرونزية في الذبيحة والاستعاضة عنها بالأواني الفضية أو الذهبية، واستعمال الأَجْراس لإعلان المواقيت ودعوة الشعب إلى الكنيسة،١٠٥ وفي هذا القول الرسمي الصادر عن أسقف رومة ما يكفي لتأييد غليلموس الصوري في روايته التي نبحث، ولا يجوزُ الإنقاص مِن أهمية هذا النص واعتباره مجرد محاولة لليتنة الطقوس والقوانين المارونية،١٠٦ فأنوشنتيوس أوجب التيقُّظ والقول بدون تردُّد بالانبثاق من الآب والابن وبالمشيئتين، ويلاحظ هنا أن البابا لم يوجب القولَ بالطبيعتين في هذه البولة؛ لأن الموارنة كانوا قد قالوا بالطبيعتين منذ بداية عهدهم، ولكنه اهتم بأمر المشيئتين.
ويرى علماءُ الموارنة أن غليلموس أسقف صور نقل رأيه في عقيدة الموارنة عن سعيد بن البطريق البطريرك الإسكندري، وأن هذا لم يكن على بيِّنةٍ مِن أمره، وأن ما ورد في بولة أنوشنتيوس الثالث عن أمر المشيئتين والمشيئة الواحدة جاء مقتضبًا جدًّا، فلو كان هذا البابا يعلم أَنَّ الموارنة كانوا في الواقع ممن لا يزال يقول بالمشيئة الواحدة؛ لجاء كلامُهُ في هذا الموضوع أشد وأقوى وأكثر تفصيلًا، ويرون أيضًا أن الظرف الذي ظهرتْ فيه هذه البولة كان ظرف المجمع اللاتراني الرابع ظرف إصلاح وتثبيت لا ظرف نبذ تعاليم مُعينة، ولو كان هنالك نبذ للقول بالمشيئة الواحدة لَظَهر أثره في أعمال هذا المجمع. ويضيفون أن ما تم في طرابلس في السنة ١١٨٢ إنما كان تأييد الموارنة لبابا شرعي ضد مناظر دخيل، والإشارة هنا إلى النزاع بين البابا ألكسندروس الثالث والبابا فيكتوريوس الرابع الذي انتهى في السنة ١١٨٠، فيكون الاجتماع في طرابلس الذي يشير إليه غليلموس الصوري من نوع ما جرى في السنة ١١٣١. ومما يقوله علماء الموارنة في هذا الصدد: إن الموارنة ناصروا الصليبيين اللاتينيين منذ وصولهم إلى لبنان ومازجوهم في عِزِّ صولتهم وانتصاراتهم، فهل ظلوا مخالفين حتى إذا غلب الصليبيون على أمرهم وضايقهم خصمُهُم صلاح الدين الأيوبي باتوا أشد استعدادًا إلى الاتحاد بكنيسة الغرب.١٠٧
والواقع الذي لا مفر من الاعتراف به هو أن مراجعنا الأولية قليلةٌ، وأن أنوشنتيوس لا يقول بصراحة في البولة التي أصدرها أن الموارنة كانوا يقولون حتى يومه بالمشيئة الواحدة، والواقع أيضًا أن المراجع المارونية متأخرةٌ، لا يجوز الأخذ بها لإثبات ما جرى في طرابلس في السنة ١١٨٢ أو قبلها، فأقدم رواتهم ابن القلاعي وهو مِن أعيان القرن الخامس عشر، ولا يجوز كذلك اعتمادُ البولات البابوية كما أثبتها الأب العنيسي؛ لأنه تلاعب في نصوصها،١٠٨ ولعل المستقبل يُظهِر من المراجع ما يُعِين المؤرخَ على البَتِّ في هذا الموضوع الدقيق.
دير البلمند
وليس لنا أَنْ نبحث في آثار الفرنجة الفنية الكنسية في هذا التاريخ العام، ولا أن نصف جميع الكنائس الصليبية التي لا تزال قائمة حتى يومنا هذا في بعض أبرشيات أنطاكية؛ لأن وصفها يتطلب استعدادًا فنيًّا خصوصيًّا لسنا من أهله، وجُلُّ ما نريدُهُ هو أن نذكر أَهَمَّ الكنائس الصليبية القائمة، وأَنْ نخص دير البلمند بكلمة مفصلة؛ نظرًا للمكانة التي يحتلها في قلب كل أرثوذكسي أنطاكي.
وأهمُّ الكنائس الصليبية التي لا تزال قائمة حتى يومنا هذا في أبرشيات أنطاكية كاتدرائية طرطوس وكاتدرائية جبيل وكاتدرائية بيروت. وبدأ الصليبيون بإنشاء كاتدرائيتهم في طرطوس بعد السنة ١١٢٣، فأقاموها فوق مزار السيدة والدة الإله الذي فاخرتْ به طرطوس منذ أوائل النصرانية وادعتْ أنه أول كنيسة أُنشئتْ باسم السيدة. وأنشئوا في جبيل في السنة ١١١٥ كنيسة باسم يوحنا المعمداني، ولا يزال نصفُها الشرقي الشمالي قائمًا حتى يومنا، أما نصفُها الغربي فإنه انهدم فأُعيد بناؤه في العصور الحديثة، وبابها الشمالي حديثُ العهد أما الجنوبي فإنه من آثار القرن الثاني عشر.
وقبة المعمودية صليبيةٌ أيضًا، وتعود — في الأرجح — إلى حوالي السنة ١٢٠٠، وأمر بودوان ملك أوروشليم ببناء كنيسة كبيرة في بيروت على طراز الكنائس اللاتينية، فبدأ إنشاؤها في السنة ١١١٣ وانتهى في السنة ١١٥٠، وشيدت على اسم القديس يوحنا المعمداني على شكل مصلب ذي ثلاثة أسواق، «ولما قَدَّرَ اللهُ بنزع بيروت من يد الإفرنج استقرتْ كنيستُهُم جامعًا، وكانت تُعرف عندهم بكنيسة مار يوحنا، وكان بها صورٌ فَطَلَاها المسلمون بالطين، وبقي الطينُ إلى أيام الجد فبيَّضه وأزال آثار تلك الصور، وكان المسلمون يجتمعون لصلاة الجمعة، فلم يكملوا في بعض الأوقات أربعين شخصًا.»١٠٩ والإشارة في هذا كله إلى الجامع العمري الكبير، وقد بقي عند بابه الشرقي بقرب المدخل كوةٌ مكتوبٌ فيها باليونانية: «إن صوت الرب على المياه.»١١٠
وفي الثلاثين من أيار من السنة ١١٥٧ تولى رهبان القديس برناردوس المعروفون بالكيستركيين بناء دير على التلة المشرفة على البحر بين أنفة والقلمون، وجعلوه على اسم البتول الطاهرة سيدة بلمونت Abbatia Belimontis،١١١ وهو لفظٌ لاتينيٌّ منحوتٌ من كلمتين، معناهما الجبلُ الجميل، وتم البناءُ — فيما يظهر — في السنة نفسها التي استولى فيها الفرنجة على قيصرية فيليبوس (بانياس)؛ أي في السنة ١١٦٩،١١٢ وخَصَّ أساقفة رومة هذا الدير بعنايتهم، فأصدروا باسمه عددًا من البولات الرسمية، منها بولة غريغوريوس التاسع في السنة ١٢٣٨ وبولة أنوشنتيوس الرابع في السنة ١٢٥٠ وبولة أوربانوس الرابع في السنة ١٢٦٢. ويظهر من هذه البولات أَنَّ دير البلمند كان أكبرَ أديار الإفرنج في إمارة طرابلس، وأنه في منتصف القرن الثالث عشر كان خاضعًا لأسقفية بيروت، ومن رؤسائه الأولين بطرس الألماني، وهنالك إشاراتٌ إلى الأخ اسطفانوس وإلى الأخ سمعان الطرابلسي، وخرج الرهبان اللاتين منه في السنة ١٢٨٩، ولعلهم ذُبحوا ذبحًا.١١٣
ويرى الأثري الكبير الاختصاصي في الفن الصليبي كميل أنلار أن بناء الدير الصليبي قام — في الأرجح — على آثار رومية أقدم منه، ويستدل على ذلك بدليلين أولهما تخطيط كنيسته ووجودُ تاج عمود رومي في البناء، والثاني خروج رهبان برناردوس عن المألوف عندهم، وتشييد بنائهم هذا على ارتفاع مائتَي متر عن سطح البحر، وكنيسة سيدة البلمند تتجه نحو الشرق الشمالي وتتضمن حنية كبيرة وسوقًا واحدًا ومذبحًا واحدًا، والاكتفاء بمذبح واحد خروجٌ على تقاليد هؤلاء الرهبان الرجال.١١٤
ويلاحظ أن اعتماد العلامة أنلار رواية الأب ملاتيوس وقوله: إن الدير أُعيد إنشاؤُهُ منذ أربعمائة سنة جاء ضعيفًا، فقد رأى صديقنا المرحوم جرجي يني في دير البلمند كراسًا قديمًا بخطوطٍ كثيرةٍ تَدُلُّ على افتتاح الدير مجددًا في السنة ٧١١١ لآدم، وهي تُعادل السنة ١٦٠٣ بعد الميلاد،١١٥ ومن هنا في الأرجح قول مكاتب المنار: إن الدير بقي خرابًا حتى السنة ١٦٠٣ وإن يواكيم بن الخوري جرجس متروبوليت طرابلس جدد بناءه،١١٦ ويلاحظ أيضًا أن لا قيمة لقول البطريرك الدويهي: إن اللفظ بلمند مشتقٌّ من اسم الأمير بوهيموند صاحب طرابلس الذي أنشأ هذا البناء منتزهًا له في السنة ١٢٨٧، فبوهيموند هذا قضى السنوات الأخيرة من عهده منحصرًا في طرابلس لا يستطيع الخروج منها؛ لِمَا كان يُلاقيه مِنْ مضايقة على يد قلاوون. وبوهيموند تُوفي منكمشًا في طرابلس في التاسع عشر من تشرين الأول سنة ١٢٨٧.١١٧
ويُلاحظ هنا أن بعض ما يُرى مِن نقوش وتيجان أيونية وكورنثية ومعظم الرخام المفروشة به أرض كنيسة القديس جرجس وقفه المشايخ آل زخريا حامات في حوالي السنة ١٨٤٠، ونقلوه بحرًا إلى البلمند من آثار كنيسة قديمة كانت لا تزال باقية في قرية حنوش بالقرب من حامات وعند ساحل البحر، ولعل هذه الآثار هي من بقايا مدينة كوشار البيزنطية، ولا يزال اسم كوشار يُطلق على مضيق صغير يؤدي إلى قرية حنوش.
٢ Zettersteen, K. V., “Suleiman ben Qutulmush” Enc. of Islam.
٣ Michel le Syrien, Chron., III, 182; William of Tyre, Hist. Rer, I, 8; Grousset, R., Hist. des Croisades, I, 2; Cahen, C., Syrie du Nord 199.
٤ Alphandery, P. La Chrétienté et l’Idée de Croisade, 27; Joranson, E., The Great German Pilgrimage of 1064-1065; Vita Lietberti, Achery, Spicilegium, IX, 706–712.
٥ Grousset, R., Hist. des Crois. I, Introd., 47; Runciman, S. Hist. of Crousades, I, 78.
٦ Bernold of Constance, a. 1095, 161; Hefelé-Leclercq, Hist. des Conciles, V, 394-395; Munro, D. C., Did Aléxius Ask for Aid at Piacenza; Amer. Hist. Rev., XXVII, 731–733.
١٣ Riant, P., Inventaire Critique des Lettres Historiques des Croisades, 68-69.
١٤ Chalandon, F., Hist. de la Première Croisade, 20–37; Runciman, S., Hist. of the Crasades I, 88–92; Hagenmeyer, H., Der Brief des Kaisers Alexios an dem Grafen Robert, Byz. Zeit., VI, 1–32.
١٥ Fulcher of Chartres, I, 130–138; Robert the monk, I, 727–729; Munro. D. C., Speech of Urban II at Clermont. Amer. Hist. Rev., XI, 231 ff.
١٦ Chalandon, F., op. cit., 44–46; Runciman, S., op. cit., I, 106–109; Grousset, R., op. cit., I, 2–5.
٤٣ Gesta Francorum, IX, 29; Raymond d’Aguilers, XII, 259–261; Fulcher de Chartres, XXII-XXIII; Runciman, S., op. cit., I, 236–249.
٤٤ Albert d’Aix, V, 2; Runciman, S., op. cit., I, 249-250.
٤٥ الكامل لابن الأثير، ج٨، ص١٨٦–١٨٩. Gesta Francorum, X, 34–37; Raymond d’Aguilers, XIV–XX; William of Tyre, VII, 19; Fulcher de Chartres, XXV, 13–17; Runciman, S. op. cit. I, 265–288; Grousset, R., op. cit., I, 116–163.
٦٣ Albert d’Aix, VIII–XI; Fulcher de Chartres, II, 11, 17, 41; Caffaro, Liberatio, 69–73; Sibt. ibn al-Jauzi (R. H. C.) 525–536; Ibn al Qalanisi, 60, 83–90; Soberuheim, Art. Ibn Ammar, Enc. of Islam; Runciman, S., op. cit., II, 56–70; Grousset, R., op. cit., I, 333–364; Richard, J., Comlé de Tripoli, 12–14.
٦٤ Fulcher de Chartres, II, 1; Albert d’Aix, VII, 32–35; Runciman, S., op. cit., I, 323-324.
٦٦ Fulcher de Chartres, II, 44; Albert d’Aix, XI, 26, 30–34; William of Tyre, XI, 14; Ibn al Qalanisi, 106–108; Riant, Scandinaves en Terre Sainte, Ch. IV.
٦٧ Fulcher de Chartres, III, 1–34; William of Tyre, XIII, 13-14; Qalanisi, 170–172; Mathew of Edessa, 244, P. 314; Runciman, S., op. cit., II, 168–171.
٦٨ Cahen, C., Syrie du Nord, 511 ff.; Richard, J., Royaume de Jérusalem, 104–112; Comté de Tripoli, 62–70; Delaville Le Roulx, Hospitaliers en Terre Sainte; Melville, M., La Vie des Templiers; La Monte, J. L., Feudal Monarchy, 217–225; William of Tyre, XII, 7, XVIII, 4; Michel le Syrien, III, 201–203.
١٠٨ Anaissi, T., Bullarium Maronilarum, (1911); Korolevskij, C., A. Propos d’un Bullaire Maronile, Echos d’Orient, 1912, 462–473; De Clercq. C., Conciles des Orientaux Catholiques, (1949), I, 3, n. 2. Korolevskij, C., A. Propos d’un Bullaire Maronite, Echos d’Orient, 1912, 462–473. De Clercq, Ch., Hist. des Conciles, XI, 3, (Paris, 1949).
١٠٩ تاريخ بيروت لصالح بن يحيى، ص٥٨، والجد المشار إليه هو جد صالح في أواخر القرن الرابع عشر.
١١٠ مزمور ٢٨: ٢ تاريخ بيروت، للأب لويس شيخو، ص٥١-٥٢.
١١٢ Rohricht, R., Syria Sacra, 35; Guthe, R., Zeit der Deut, Pal. Vereins, 1897, 35, 356; Rohricht, R., Gesch. des Konigreichs Jerusalem, 320, 590, 1001-1002.
١١٣ Enlart, C., Abbaye Cistersienne de Belmont, Paris, 1923, 1-2.
اترك تعليقاً