الاب انستاس الكرملي راهب اللغة العربية

الاب انستاس الكرملي راهب اللغة العربية

الاب انستاس الكرملي راهب اللغة العربية

جبرائيل يوسف عواد
 توطئة

 

مائة  وخمس وخمسون سنة مضت على ولادة الرجل الذي يمكننا أن نصفه بـ”راهب اللغة”. ولن تدخل تلك الصفة في باب المجاز، فقد كان الرجل راهبا في واقع حياته اليومية ولم يتخل عن ثياب الرهبان عبر سنيّ حياته التي عاشها محلقا بجناحي لسان العرب.(1)

مهندس كون اللغة، المقيم في دير شغفه اللغوي قاده إلى المنفي. فكان حالة فريدة من نوعها وسط المنفيين لأسباب سياسية أيام الحكم العثماني. ذلك المنفيّ لغويا كان بمثابة جسر للغات، قديمها وجديدها، غربيها وشرقيها، المكتوب منها والشفاهي.

لغويّ، بل عالم لغات أصاب عراقيي العصر الحديث بجنون اللغة العربية، فصار أحد طلابه وهو مصطفى جواد يصر على تصحيح ما يتداوله الناس العاديون في الأسواق من مفردات وهو يردد “قل ولا تقل”.

الأب أنستاس ماري الكرملي، هو خلاصة زمن لغوي للزمن الفيزيائي. معجمه “المساعد” الذي قضى في تأليفه أربعين سنة هو جوهرة ذلك الزمن التي عثر عليها بعد تنقيب مضن في طبقات اللغة، فكان أشبه بحامل مصباح يتجوّل في غابة العربية وفي رأسه هدف واحد يكمن في تنظيف تلك الغابات من الأعشاب الضارة.

هيامه باللغة العربية دفعه إلى الإيمان بتفردها الإعجازي وهو القائل “إن لسان العرب فوق كل لسان ولا يدانيه لسان آخر من ألسنة العالم جمالا ولا تركيبا ولا أصولا ولا.. ولا”.

حارس العربية، الساهر على أحلامها ولد وعاش وتوفّي في بغداد، في قلبها بالرغم من أصوله اللبنانية. كانت اللغة هي وطنه الحقيقي. زهده وتقشفه في الحياة وتخلّيه عن متعها ومباهجها الزائلة وغيرها من الصفات التي استلهمها من موقفه الديني قابلها موقف مفرط في إسرافه في اقتناء الكتب وتجميعها. وهو ما جعله أشبه بالكائن الذي يعيش في جنّة من الكتب.

حين احتل العثمانيون بغداد استعمل جنودهم كتب مكتبته حطبا لنار التدفئة. غير أن تلك المأساة لم تثنه عن العودة إلى تطريز جدران دير الآباء الكرمليين، حيث كان يقيم بحرير الكلام الذي ينسج حدائقه في الكتب.

حين رأيت ذات مرة ما تبقى من مكتبة الأب الكرملي تأكد لي أن الكون يمكن أن يقيم في كتاب. وكان الكرملي نفسه واحدا من أهم صنّاع وعرّابي ومهندسي ذلك الكون مترامي الأطراف.

 

ازدهار اللغة العربية

اللغة العربية لغة العرب القومية، وهي لغة ذات إرث حضاري واسع وعميق، يقول البعض إن اللغة العربية هي أقرب اللغات السامية إلى “اللغة السامية الأم”، وذلك لأنها احتفظت بعناصر قديمة تعود إلى اللغة السامية الأم أكثر من أي لغة سامية أخرى، ففيها أصوات ليست موجودة في أي من اللغات السامية الأخرى، بالإضافة إلى وجود نظام الإعراب والعديد من الصيغ لمجموع التكسير، والعديد من الظواهر اللغوية الاخرى

لقد كانت هي لغة العلم والحضارة لقرون عديدة وفي بقاع امتدت من اطراف الصين إلى سواحل الاطلسي، وكتبت بها آلاف المصنفات العلمية العظيمة في شتى الفنون والعلوم والمعارف، هي لسان الأمة العربية حفظت تراثهم وروت أشعارهم، تعد العربيـة أكثر اللغات السامية انتشاراً في العالم، وبالنسبة للمسلمين تعد لغة القرآن الكريم، وهي مصدر التتشريع، وتعد ايضا لغة الشعائر لعدد كبير من الكنائس المسيحية الارثوذكسية بعد ان قام الشماس عبد الله بن الفضل الانطاكي بتعريب الكتب المقدسة في القرن العاشر الميلادي(2)، والكاثوليكية والبروتستانتية  في الوطن العربي.

عرفت اللغة العربية أوجها الحضاري والإشعاعي مع الدولة العباسية التي ستمتد في رقعة شاسعة ولاسيما مع عهد السلاطين الثلاثة: أبي جعفر المنصور والمأمون وهارون الرشيد، وستحظى اللغة العربية بأهمية كبرى باعتبارها لغة الترجمة لفكر اللغات الأجنبية كاليونانية والفارسية والهندية والرومانية كما يتمظهر ذلك واضحا في (بيت الحكمة) الذي أسسه الخليفة المأمون لنقل الإرث الثقافي اليوناني إلى اللغة العربية، وفي هذه الفترة انتشرت المعارف والعلوم وازدهر الأدب العربي وانفتحت اللغة العربية على قواميس ولغات وألسنة أخرى من باب التلاقح والاحتكاك الحضاري والمثاقفة، وصارت اللغة العربية لغة العلم والرياضيات والفلك والهندسة والمنطق والفلسفة والتصوف والفلاحة والصناعة والاقتصاد، وانتعشت بفضل غيرة العلماء عليها وانكبابهم على البحث العلمي والاختراع والتجريب والتحصيل المعرفي والتصنيف في شتى المجالات التي اعترف المستشرقون الغربيون بريادة العرب فيها كما نجد عند العالمة الألمانية زيغريد هونكه في كتابها القيم” شمس العرب تسطع على الغرب”. وانتقلت الحضارة العلمية والأدبية والتقنية إلى أوربة عبر إيطاليا والأندلس وحروب الفرنجة وطرق التجارة ، وتعلم الأوربيون اللغة العربية وآدابها وعلومها في طليطلة وفاس ومدن المغرب العربي ، وكانت أوربة في تلك الفترة تعيش في ظلمة العصور الوسطى بينما العرب كانوا يعيشون في زمن الأنوار والانتعاش الحضاري، هناك الكثير ممن أسهم في بناء ونشر الصرح البديع للغة العربية ووضع قواعده كالنحو والعروض والبلاغة في القرآن الكريم، حتى سقوط الدولة العباسية، نذكر منهم:أبو الأسود الدّوؤلي في زمن خلافة الامام علي بن ابي طالب، الدوؤلي اول من كتب في علم النحو، وتلاميذه عنْبسة الفِيل وعبد الرّحمن بن هرمز، وميمون الأقرن، وعبد الله بن عبّاس، وعبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي، وعيسى بن عمر الثّقفي، وأبو عمر بن العلاء، وأبو الخطّاب الأخفش الأكبر، ويونس بن حبيب، وسيبويه صاحب “الكتاب”، وابن عبّاس، وأبو عبيدة، والخليل بن أحمد الفراهيديّ صاحب “العين” اول معجم في اللغة العربية، وواضع علم العروض العربية، وابن مالك الاندلسي صاحب “الالفية”، وأبي الحسن علي بن حمزة الكسائي، وأبو زكرياء يحيي الفرّاء، وأحمد بن يحيي ثعلب، وابن جنّي صاحب “الخصائص”، والأصمعي صاحب “رواية العرب”، والزبيدي صاحب “تاج العروس”، وأبي علي محمد بن المستنير المعروف بقُطرب، وأبي عثمان المازني، وابن اجدم، وأبي القاسم عبد الرحمن الزّجّاجي، وأبو الحسن محمد بن كيسان، و أبو الحسن محمد الوراق، وأبو موسى سليمان الحامض، وأبو بكر يحيي بن الخياط، وأبو عبد الله إبراهيم نفطويه، وأبو إسحاق إبراهيم الزجاج، وأبي علي الفارسي، وأبي القاسم محمود الزّمخشري، صاحب “الكشاف”، وأبي عمر، وجمال الدين بن الحاج، وأبي محمد بن هشام الأنصاري، وأبي البقاء، وأبي عبد الله محمد بن حيّان الأندلسي، ورضي الدّين الأستراباذي، وأبي البركات عبد الرحمن الأنباري، وأبي عبد الله البقاء العكبري، وابن هشام الأنصاري، وأبي العباس أحمد بن مضاء القرطبي، والمبرد، واسماعيل بن حمد الجوهري، ومجد الدين الفيروزبادي صاحب “القاموس المحيط”، وابن منظور صاحب “لسان العرب”، والأدباء في كلام العرب الفصحاء بوجه عام، ومن هؤلاء: أبو عثمان بن بحر الجاحظ صاحب “البيان والتّبيين”، و أبو العباس عبد الله بن المعتز، صاحب “البديع”، ولكن صرح هذا العلم لم يكتمل إلاّ في القرن الخامس الهجري على يدي عبد القاهر الجرجاني صاحب “دلائل الإعجاز” و”أسرار البلاغة” اللّذين وضع فيهما أسس علمي المعاني والبيان.شَهِدت اللغةُ العربيةُ تراجعاً عظيماً منذ سقوط الخلافة العباسية ودخول «هولاكو» بغداد وألقى الكتب في نهر «دجلة»، فأصبح أزرق اللون، وكانتْ من قبل اللغة الرسمية للدولة، ولمّا كانَ الناطقونَ بها أقوياءٌ فقد بسطتِ اللغةُ العربيةُ سُلطانَها على الأقاليم المفتوحة، وظهرَ مؤلفونَ من غيرِ العرب كتبوا بالعربية وتفوقوا فيها أكثرَ من العربِ أنفُسِهم، وهذه المحنة تماثلها المحنة التي حدثت في «أسبانيا» عندما سقطت غرناطة وأحرقت الكتب والمخطوطات العربية.(3)

تراجع اللغة العربية في عصر التتريك(4)
بدأت اللغة العربية في فترة الحكم العثماني حالة اشبه بالجمود نتيجة الركود الثقافي والاجتماعي، فتراجعت اللغة العربية امام سلطان اللغة التركية والفارسية واللغات المحلية الاخرى، واستمرت الحال على ماهي عليه حتى بدأت بوادر النهضة العربية بالظهور في نهايات القرن التاسع عشر، فشهدت اللغة العربية انتعاشاً على يد المفكرين والمتنورين الشوام  وكان معظمهم من المسيحيين الذين طرحوا فكرة القومية العربية بينما كانت الغالبية العظمى من نظرائهم المسلمين يعتبرون الخلافة العثمانية حامية للاسلام من الاوربيين واطماعهم في الوطن العربي.

كان هؤلاء المتنورين دعاة القومية العربية من ادباء النهضة ورجالاتها اصحاب الدعوات التحررية عن الاستعمار العثماني وهروبهم الى مصروالتقائهم بالمتنورين المصريين،  ومعظمهم علقه الغاصب التركي على اعواد المشانق في دمشق وبيروت في 6 ايار 1916وكان لاستيقاظ الشعور الوطني دوره في بعث اللغة العربية، ثم جاءت الصحافة لتحرر اللغة العربية من مالصق عليها من رواسب عصور الانحطاط والتخلف، ثم جاءت المجامع اللغوية وسيلة فعالة لدعم النهضة السياسية والاجتماعية والفكرية والحفاظ على سلامة اللغة العربية وتطويرها، اذن لعب المسيحيون العرب، بمختلف طوائفهم دوراً لا مثيل له في تجديد الثقافة العربية، وادخال عناصر الحداثة في الرواية والشعر والفكر، ومن أبرز الكتاب المسيحيين الذين عنوا بدراسات اللغة العربية في وقت كانت الدولة العثمانية تسعى لتتريك العرب: جبر ضومط الذي ألف فلسفة اللغة العربية وتطورها، وناصيف اليازجي (1800- 1871) صاحب (فصل الخطاب) في قواعد اللغة العربية ونار القرى في شرح جوف الفران في النحو، والمعلم (بطرس البستاني) (1819- 1883) صاحب قاموس (محيط المحيط) وصاحب قاموس (قطر المحيط)، و(عبدالله البستاني) (1854- 1930) وكان لغويا من الطبقة الاولى و فارس الشدياق (1804- 1887) صاحب (الجاسوس على القاموس) الذي اعتنق الاسلام في تونس ليتزوج بتونسية وصار اسمه احمد فارس الشدياق، والاخوان  اللغويان “الله ويردي” الدمشقيان وكتابهما فلسفة الموسيقى الشرقية” وكيف طبقاعا على فلسفة اللغة العربية ،والأب لويس معيوف، والشيخ (ابراهيم الاحدب) صاحب فرائد اللآل في مجمع الامثال الذي نظم فيه الامثال التي جمعها الميداني في نحو ستة الاف بيت، ومارون عبود، وكان هؤلاء اركان النهضة اللغوية في لبنان ومؤلفاتهم ومعجماتهم ليساهموا بحفظ لغة القرآن الكريم، وفي مصر رفاعة الطهطاوي والافغاني واسماعيل بشر وجرجي زيدان اللبناني الذي اسس دار الهلال وجبر العلايلي والدكتور حسن عبد اللطيف الشافعي ومحمد توفيق رفعت باشا واحمد شوقي، وبن عقيل الضاهري، وفي الشام والقدس محمد كرد علي واحمد الشهابي واحمد كمال باشا واسعاف النشاشيبي، وفي العراق محمود شكري الآلوسي ومعروف الرصافي وجميل صدقي الزهاوي ومحمد رضا الشبيبي وانستاس ماري الكرملي ومحمد بهجت الاثري ونجم الدين الواعظ ومصطفى جواد، وكان الأب الكرملي من أبرز المثقَّفين المسيحيّين في العراق والوطن العربي في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين الذي اوجد الوعي بالهوية للقومية العربية.


الاب انستاس ماري الكرملي

نبذة في السيرة الذاتية
ولد الأب أنستاس ماري الكرملي في بغداد العام 1866م من آب لبناني، ولد أبوه ميكائيل ماريني، واسمه الحقيقي جبرائيل عواد الماروني في بحر صاف من أحياء بكفيا في جبل لبنان العام 1823م، وابدل اسمه جبرائيل بميخائيل، لأمور سياسية كانت في ذلك العهد وكان بعضهم يتأثر الموارنة فيقتلونهم، فرحل من لبنان مرافقا وترجماناً لأحد الأمراء من اسرة نابليون بونابرت ورافقه في رحلة استغرقت سنتين، زار خلالها الاناضول، العراق، وبلاد فارس، وسورية ومصر، وكان جبرائيل يفهم 14 لغة.
في سنة 1850م نزح الى بغداد فتوطنها، وفي بغداد عرف مريم مرغريتة “او لؤلؤة” من بيت اوغسطين جبران الكلداني البغدادي، فتزوجها فولد منها خمسة بنين وأربع بنات، وبطرس كان الابن الرابع من ابناء جبرائيل، سمي بأربعة أسماء بطرس وبولس وعبد الاحد وماري، في الثامنة من عمره استقر اسمه ببطرس، تلقى الكرملي الصبي دروسه الابتدائية في مدرسة الاباء الكرمليين ببغداد واتم دراسته الثانوية في مدرسة “الاتفاق الكاثوليكي” ببغداد ايضاً، وتخرج فيها سنة 1882 وعين مدرساً للغة العربية في فجر شبابه في مدرسة الاباء الكرمليين وفي سنة 1886،غادر بغداد الى كلية الاباء اليسوعيين في بيروت حيث قام بتدريس اللغة العربية واتيح له ان يتعلم اللاتينية واليونانية، ويكمل دراسة آداب اللغة الفرنسية، ففي سنة 1886 لم ينشر في مجلة “الصفاء” اللبنانية الا مقالات لم تتجاوز السبع وهي موقعة باسمه القديم “بطرس ميخائيل الماريني”، وفي سنة 1889 لم ينشر سوى مقالين في مجلة “الكنيسة الكاثوليكية” في بيروت اولها جواب سؤال عن عادة في دمشق والثاني جواب سؤال عن بغداد، وقد وقعهما بـ”الاخ انستاس ماري المنتمي الى القديس ايليا الكرملي الحافي”.لم يقف طموح الكرملي عند حد، ولم يقنع بما لديه من معلومات فاتجه سنة 1887الى بلجيكا، حيث انتمى الى الرهبانية الكرملية في دير (شفرمون) قرب مدينة (لييج) وفي سنة 1889، غادر الى لاغتو قرب نيس في كورة جبال الالب البحرية، وفيها درس الفلسفة، ومن ثم ذهب الى مونبليه في ليرو في دير من اديرة الآباء الكرملين، وقرأ اللاهوت وتفسير الكتاب المقدس والتأريخ الكنسي الأكبر غادر حيث امضى ست سنوات في فرنسا.

عاد إلى بغداد بعد رحيله الى إسبانيا لزيارة الآثار العربيّة في الأندلس سنة 1894 وليدير المدرسة الكرملية التي درس فيها طفلاً وليباشر صنيعه اللغوي الممزوج بتوجه قومي صادح، وعلم فيها العربية والفرنسية الى عام 1897، حيث أودعت إدارة المدرسة الى راهب آخر، فتفرغ بطرس للوعظ والخطابة والكتابة في المجلات والجرائد الفرنسية والعربية%

 

  • Beta

Beta feature