دركولا البطل القومي

دراكولا البطل القومي

دراكولا البطل القومي 

توطئة

في العام 1897، قدم الكاتب الإيرلندي “برام ستوكر” Bram Stoker، أحد أهم الروايات في تاريخ الأدب، والتي امتد تأثيرها إلى عالم الخيال وقصص الرعب بشكل عام، والسينما بالتبعية،  رواية دراكولا ، عن مصاص دماء يعيش بقلعته في جبال رومانيا، بعيدًا عن الناس، وحوله ينتشر الجدل والأساطير، ويعيش كشبح في حياة لا تنتهي، بخلود مصاصي الدماء. تعد الرواية نقلة كبيرة للشخصيات الخيالية، وفتحت الباب أمام ظهور فرع جديد لما يسمى بمصاصي الدماء، بالرغم من أن دراكولا لم يكن أول كتاب عن مصاص دماء، لكنه الأشهر والأكثر تأثيرًا

لكن، من أين جاء ذلك الوحش المتعطش للدماء؟ هل هو فقط من مخيلة الكاتب؟ أم أن مصاصي الدماء كائنات حقيقية ربما تواجدت في وقت من الأوقات، أو أنها مجرد خيال مثل التنانين؟

رومانية قديما ودراكولا من منطقة والاشيا
رومانية قديما ودراكولا من منطقة والاشيا

من هو دراكولا

دراكولا تعني ابن التنين في اللغة الرومانية القديمة، وهو لقب اكتسبه ‘فلاد الثالث’، حاكم رومانيا 3 مرات في الفترة من 1448 حتى 1467، حمل لقب ابن التنين من والده ‘فلاد الثاني’ الملقب ب ‘دراكول أو التنين’، بعدما انضم الوالد إلى أخويه من الفرسان المسيحيين للدفاع ضد المد العثماني في أوروبا، أُطلق على المجموعة Order of the Dragon أي تنظيم التنين.

«دراكولا» شخصية حقيقية، تولى حكم رومانيا في القرن الخامس عشر، اعتبره الرومانيون بطلًا قوميًا أنقذ أوربة من الغزو العثماني، بينما نظر إليه البعض على أنه مجرم أنهى حياة أكثر من 100 ألف شخص دون رحمة أو شفقة.
اسمه الحقيقي فلاد الثالث، حكم رومانيا لفترات متقطعة امتدت إجمالاً لـ7 سنوات بين 1455 و1478، ولُقب بـ«دراكولا»، لانضمامه لما يُسمى بـ«عصبة التنين»، التي كانت اتحادًا سريًا ضم مجموعة من أمراء ونبلاء أوربةالوسطى والشرقية للوقوف ضد المد العثماني، ويعني اسم «دراكولا» باللاتيني «ابن التنين»، أما في الرومانية الحديثة فتعني «ابن الشيطان».
وُلد «فلاد» في مقاطعة سيجيشوارا بإقليم ترانسيلفانيا التابع لمملكة المجر (ويتبع الآن دولة رومانيا الحالية)، في شتاء عام 1431 لوالده فلاد الثاني دراكول.

عاش «دراكولا» خلال فترة حرجة من تاريخ أوربة الشرقية، فبعد سقوط القسطنطينية على يد السلطان محمد  الثاني أصبح البلقان بأسره ساحة مفتوحة أمام الجيوش العثمانية، وغدت مقاطعة والاشيا الرومانية عالقة ما بين مطرقة العثمانيين وسندان الهنغاريين، وكان هناك تناحر مستمر بين أمراء والاشيا على العرش، ومؤامرات النبلاء الذين استغلوا هذا التناحر لتعزيز نفوذهم ومصالحهم.

اعتلى فلاد الثاني، الشهير بـ«دراكول»، ووالد «دراكولا»، عرش والاشيا، وظل حاكمًا عليها حتى تمت إزاحته عن العرش من خلال مؤامرات تم ترتيبها بين خصومه في والاشيا وملك المجر في ذلك الوقت فلاديسلاف الثالث عام 1442، ومع ذلك عاد «فلاد الثاني» لاعتلاء عرش والاشيا الذي انتزعه من بين يدي باسراب الثاني وحلفائه من البويار، وذلك بمساعدة السلطان العثماني آنذاك «مراد الثاني» بعدما اتفق معه على دفع الجزية للدولة العثمانية.

فور عودته لعرش والاشيا 1443، أرسل فلاد الثاني ولديه الشرعيين، «فلاد» و«رادو» وهما في عمر 11 و 7 سنوات إلى البلاط السلطاني العثماني كرهائن لدى السلطان «مراد الثاني» لإثبات ولائه للإمبراطورية العثمانية، وفي أعقاب وفاة فلاد الثاني، عاد «فلاد الثالث» ليحتل مكان أبيه على عرش «والاشيا» بمساعدة العثمانيين، فيما بقي شقيقه «رادو» أسيرًا للبلاط السلطاني العثماني، الذي اندمج مع الحياة التركية وأعلن إسلامه وأصبح جنديًا في جيش الخليفة العثماني.

وخلال تلك الفترة التي قضاها الأمير «فلاد الثالث» في أدرنة، تمكّن من دراسة علوم المنطق والقرآن والأدب وكذلك العثمانية حتى أتقن هذه اللغة خلال السنوات الأخيرة التي قضاها في البلاط السلطاني، كما تدرّب على الفروسية وفنون الحرب، ولكن كان يتعرض للضرب والتعنيف من قبل الأتراك بسبب شخصيته الجريئة.

استمر فلاد الثالث وشقيقه في الأسر حتى 1447، مع اغتيال والده عن طريق مجموعة من النبلاء، وشقيقه الأكبر الذي قُتل بطريقة بشعة، خرج فلاد الثالث دراكولا من محبسه، وتم إطلاق لقب دراكولا عليه أي ابن دراكول؛ نسبة إلى والده. وبمساعدة جيش عثماني نجح في غزو رومانيا، وتولى الحكم بعد والده في 1448، ولكنه اضطر للهرب إلى العثمانيين في نفس العام وانتهى حكمه سريعًا. قضى بعض السنوات في المنفى ثم عاد للحكم في 1456، بمساعدة مجريه ضد العثمانيين.

مذبحة القلعة

بعد أن اشتد حكم فلاد واعتمد رسميا كحاكم رومانيا في 1457 قام فلاد المخزوق  بعد وصوله للحكم للمرة الثانية، وشعوره بالتهديد من نبلاء رومانيا ورفضهم لحكمه، كذلك خيانتهم لوالده وشقيقه الأكبر وقتلهم، قرر فلاد أن يتخلص منهم جميعًا ويثبت حكمه ويشفي مرارة انتقامه، وحدث بالفعل أن دعا النبلاء جميعًا إلى مأدبة بمناسبة عيد الفصح، وبما أنه يوم عيد  مقدس، لم يشك أحد في نوايا فلاد، لكنه باغتهم بعد تناول الطعام، وأمر جنوده بقتلهم جميعًا، وقاموا بتوجيه الطعنات لهم وذبح بعضهم، أما من نجا فقد قام فلاد بتعليقهم على الخوازيق حتى الموت

يشك المؤرخون في صحة كثير من الوقائع المنتشرة عن فلاد الثالث حاكم رومانيا، حيث أنه قد كان هدفًا لكره وحقد الألمان والمجريين، وبعد ظهور الصحف المكتوبة في ألمانيا، عمدوا إلى تشويه صورته والنيل من سمعته، للتغطية على شجاعته وبطولاته، كما يظن بعض المؤرخون، لذلك تظل بعض هذه الوقائع مشكوك في صحتها من عدمه، ولا يوجد سبيل حاسم في التأكد من ذلك.

حادثة القبعات العثمانية

عمل فني يمثل البعثة العثمانية امام فلاد الثالث بالقبعات
عمل فني يمثل البعثة العثمانية امام فلاد الثالث بالقبعات

بعد أن بسط فلاد نفوذه كحاكم رومانيا، حاول العثمانيون التقرب منه مرة أخرى في خطتهم للسيطرة على أوربة، حيث أرسل السلطان بعثة دبلوماسية إلى فلاد للتفاهم معه، دخل أعضاء البعثة مرتدين قبعاتهم العثمانية الشهيرة، فطلب منهم فلاد خلعها، لكنهم رفضوا وبرروا ذلك بأنها عادة، وقبعة دينية، مما أثار سخط وغضب فلاد دراكولا. قرر فلاد معاقبتهم بشيء من السخرية، فحرص على أن تظل القبعات على رؤسهم للأبد، حيث أمر رجاله بدق القبعات بالمسامير في رؤوس أعضاء البعثة، ليبدأ العداء مع العثمانيين رسميًا.

فلاد الثالث المخوزق والاصطدام مع محمد الفاتح

الصراع مع محمد الفاتح
الصراع مع محمد الفاتح

بحلول عام 1462، بعد أن نجح الحاكم الجديد في تثبيت دعائم حكمه بمساعده المجر، بدأ فلاد دراكولا الصراع ضد العثمانيين،أقوى إمبراطورية بالعالم في تلك الفترة، والسلطان محمد الفاتح المعروف بالمكر والدهاء العسكري، المنتشي بغزو القسطنطينية في سن ال21، والقضاء على الامبراطورية الرومية ووضع نهاية لأسطورة جدرانها المنيعة، واحدة من أعظم ممالك العالم القديم ومراكز المسيحية في أوربة، التي استعصت على الأعداء لقرون من الزمن، ونجح فيما فشل فيه كل السلاطين من قبله، وأصبحت أبواب أوربة مفتوحه على مصراعيها أمامه.

فرض العثمانيون الضرائب أو الجزية على الممالك الصغيرة المحيطة مقابل السلام، ولكن فلاد دراكولا رفض دفع الجزية، وتمرد على السيطرة العثمانية، حينما أرسل له، وقرر مواجهة السلطان بجيشه الصغير ومملكته الأصغر، مما أثار غضب السطان محمد وقرر أن يلقنه درسًا ليكون عبرة لغيره. لم يكن فلاد لينتظر الآلاف من جيش السلطان بالوصول إليه، بل بادر  هو بالهجوم، وبعد فترة طويلة من الكر والفر، قرر السلطان أن يدبر كمين لدراكولا ويتخلص منه سريعًا، لكن فلاد علم بالخطة فتربص بالكمين، وقام بالإجهاز عليهم، ثم جمع ملابسهم وتنكر هو ورجاله، وأمر الحامية  بالتركية بفتح الأبواب، وما إن دخل الحصن، حتى قتل جميع من كان بالداخل، ودمر القلعة وبدأت عاصفة غضبه الحقيقي ضد العثمانيين.

اتجه فلاد إلى مملكة بلغاريا التي كانت تتبع العثمانيين، وبدأ في قتل وتعذيب المتعاطفين أو التابعين للسلطان وتعليق بعضهم على الخوازيق، وقتل ما يزيد عن 23000، غير الذين احرقهم في منازلهم، وقسم جيشه حتى يحتل أكبر مساحة ممكنة. بعدها اشتبك مع جيش قاده الوزير الأعظم للسلطان قوامه 18000 مقاتل،8000  فقط عادوا من المعركة، في مذبحة كبيرة جرحت كبرياء محمد الفاتح، وقرر قيادة الجيش بنفسه ليقتل فلاد.

فقد المؤرخون القدرة في الاتفاق على عدد جيش السلطان، حيث اختلفوا بين 300: 400 ألف مقاتل، بالرغم من أن السلطان قد خطط ل150 ألف فقط، وأسطول بحري عظيم يصاحب الجيش، واتجه إلى حرب شبه محسومة قبل بدايتها، عندما علم فلاد دراكولا أصابه الذعر، وخشى ملاقاة جيش السلطان، فطلب المدد من ملك المجر، فرفض الملك، فاضطر لضم النساء والأطفال إلى جيشه، ليكون قوة لا تتعدى عُشر الجيش العثماني. حينها أدرك فلاد أنه يحتاج إلى شيء بجانب جيشه لهزيمة السلطان.

هول المنظر وذهول السلطان

بعد فشل فلاد الثالث في تدبير جيش يواجه السلطان، أو تأمين المساعدة الخارجية، اتجه لأساليبَ قذرة ووحشية لإضعاف العثمانيين، فقام ورجاله بتلويث الأبار وحرق المحاصيل الزراعية، ودمر أي شيء يمكن أن يستخدمه العثمانيون في حملتهم، حتى أنه فعل ما يعجز الناس عن فهمه حاليًا، أو تصور كيف يمكن أن يصب لهذا الحد، فقد قام فلاد بدفع الأموال لمصابي الطاعون، للاندساس في جيش محمد الفاتح ونشر الوباء داخل المعسكر.

مع اقتراب السلطان ودخوله رومانيا، انطلق فلاد مع مجموعة من رجاله في مهمة انتحارية داخل معسكر العثمانيين، ونشروا الذعر بين الجنود النائمين، وقاموا بذبح الحراس، بينما كان الجنود في ذعر وهرج ومرج، توجه فلاد إلى خيمة السلطان محمد الفاتح لاغتياله، والانتقام منه وإنهاء الحرب، لكن لحسن حظ السلطان وسوء حظ فلاد، أخطأ دراكولا وتوجه لخيمة الوزير الأعظم. بالرغم من جرح كبرياء السلطان ومحاولة اغتياله، بعد اختراق معسكره، إلا أن السلطان محمد ما زال متقدمًا بقواته ولم يتأثر بالشكل المطلوب من محاولات دراكولا، حتى جاءت الضربة القاسمة.

انطلق الجيش العثماني إلى معقل فلاد، وتمكنوا من إلحاق خسائر كبيرة بقواته، واستعدوا لحصار العاصمة حتى استسلام دراكولا، ولكن مع تقدمهم أصيبوا بالذعر والصدمة. بدلًا من قلعة محصنة في مدينة  Targoviste، وجد السلطان أبواب الحصن مفتوحة، وبلا أي مقاومة دخلها الجيش، ليجدوا غابة الخوازيق “forest of the impaled”، على جانبي الطريق قام فلاد بتعليق 20000 من العثمانيين، وتابعيهم على خوازيق حديدية او خشبية ، تخترق أجسادهم من الأمام أو الخلف حتى تصل إلى الفم أو الرقبة، بينما تسيل الدماء منهم على الأرض قبل الموت بعد أيام، في مشهد مروع أصاب السلطان بالخوف والرعب، والإعجاب والدهشة في نفس الوقت، وقرر مغادرة المدينة والعودة إلى القسطنطينية، ووقف الحرب من أجل الابتعاد عن المخبول فلاد المُخوزق، الذي عُرف بهذا اللقب باقي سنين حياته ولا يُذكر اسمه إلا ويرتعش الجميع.

نهاية أسطورة فلاد الثالث

فلاد البطل القومي في رومانية
فلاد البطل القومي في رومانية

بعد النجاحات الكبيرة في قهر العثمانيين ونصرة المسيحية، أعجب به بابا الفاتيكان وأرسل له مكافأة مالية ضخمة وأعلن عن حملة ضد العثمانيين، لكن حكام المجر وألمانيا شعروا بالحقد والحسد  من دراكولا وأرادوا الاستحواذ على الأموال، فقطعوا طريق المال واخذوه وادعوا أن فلاد قد خان المسيحية، والقوا العديد من الاتهامات ضده وقام ملك المجر بحبسه. بعدها ب 10 سنوات في 1474، دعا البابا للإفراج عنه بحجة عدم توافر أدلة، ولكي يعاود محاربة العثمانيين.

عاود فلاد الكرة في صراع أوربة ضد الدولة العثمانية، وذهب إلى البوسنة لتحريرها، ثم عاد إلى مسقط رأسه في رومانيا حيث تم اغتياله، ومات وانتهت معه مسيرة قائد لم يعرف في حياته إلا الوحدة والخيانة والقتل والحرب.

يعتبر بطلًا قوميًا في رومانيا، وتُخلد ذكراه في موطنه، فهو الذي حمى البلاد من خطر التفكك، وإعادة النظام وحارب السرقة والفساد، في نفس الوقت الذي حمى رومانيا المسيحية وأوربة من الخطر العثماني، وبدد حلم السلطان محمد بالسيطرة على أوربة والقضاء على المسيحية.

المصدر

المحطة: عمرو عدوي

صدى البلد: خالد يوسف

المعرفة

 

 


Posted

in

by