مجتمع دمشق من القرن 10 الى القرن 19
اتسمت دمشق الشام شأنها في ذلك، شأن بقية الحواضر العربية الكبرى، بظاهرة التعدد السكاني والتنوع الثقافي، إذ وفد اليها أناس من مختلف انحاء المشرق والارجاء الاسلامية، فاستطاعت ان تصبغهم بصبغتها الدمشقية المميزة، منتمين اليها بتهور العاشق لها، وان تتحول بالجميع الى اللسان العربي. لكن دمشق الشام لم تُجبر فئة من الوافدين اليها الى التخلي عن قوميتها، ودينها ومذهبها، ولسانها، وفعلت الشيء ذاته ايضاً مع الجماعات المسيحية، التي لم تتخلى لا عن قوميتها الام ولا عن لسانها، ولا دينها ومذاهبها، وكذلك فعلت بمن وفد اليها من اليهود بطوائفهم…
دمشق الشام استقبلت باستمرار المهاجين اليها واللاجئين لحماها، فآوتهم جميعاً، وصاروا من أخلص أبنائها. ومن هنا عَرِفت دمشق الشام إحدى جنات الدنيا الاربع، ومايحيط بها من قرى في الغوطة والمرج تشكيلاً سكانياً متنوعاً أيضاً، وتآلف الجميع في مجتمعها، وفي الانتماء اليها والى ثقافتها، واصبحت هذه الواحة المحروسة شمالاً بحبل قاسيون الذي يحميها من غضب الطبيعة، ومن غوائل الزمن، ومن على قمة قاسيون يشرف الانسان على دنيا الشام فيرى الجمال والخضرة في كل هذه الواحة التي تلفها لف السوار بالمعصم، ويرى الماء ينساب في انهارها السبعة، والتي بفضلها عاشت دمشق منذ فجر التاريخ فهي هبة بردى والفيجة، وأصبحت دمشق الواحة الغناء في وسط الصحراء وجوارها “دار قرار ومعين”. وقد عمرتها المساجد والكنائس المسيحية والكنس اليهودية والمدارس الشرعية، والتكايا والبيمارستانات والحمامات، وجُّرَتْ اليها جميعاً المياه من بردى والفيجة. ومن هذا التقليد التاريخي المتراكم،
اعتادت دمشق الشام احتضان السكان الجدد فيها، فيما بعد، من العرب والاتراك والاكراد واليونان الروم، والشركس والشيشان والارمن والبشناق والارناؤوط والفرس والمصريين والمغاربة والجزائريين والاندلسيين واليهود الاندلسيين، والبلغار والروس والافغان والهنود واهل بخارى، وحتى الأفارقة، بالاضافة الى استمرار تدفق العرب عليها وعلى محيطها من شبه الجزيرة العربية والبادية الشامية منذ ايام معاوية عند وفود الاسلام اليها، وولايته عليها، واختياره لها لتكون عاصمة دولته الاموية.
لحظ المؤرخون والرحالة هذه الظاهرة، مثل الرحالة العثماني “كاتب آوليا جلبي” المتوفي 1683م، الذي زار دمشق، وترك لنا وصفاً ممتعاً عنها. وسواه من الرحالة المسلمين والفرنجة ومن ثم المستشرقين في القرون العثمانية. وبالرغم من ان شمسها، بدأت بالغروب عنها بعد انهيار الدولة الاموية بعد العباسيين، وانتقال العاصمة الى بغداد مع قيام خلافتهم العباسية، الا ان شمسها عادت لتشرق من جديد، بعدما اتخذها تاج الدين تتش ين ألب أرسلان (1079-1095) عاصمة لفرع الاسرة السلجوقية في بلاد الشام، وعمَّرَ بها مسجداً يحمل اسمه مؤكداً استمرار هذا التقليد في بناء كل واحد من حكامها المتعاقبين مساجد بأسمائهم. واتجهت اليها انظار العشائر التركمانية والتركية من الغزّ وغيرهم.
في أعقاب انتصار ألب ارسلان على الروم بقيادة الإمبراطور رومانوس ديوجينوس في (معركة ملاذ كرد في العام 1071)، وخاصة بعد أن أجهز سليمان بن تتلمش السلجوقي صاحب الروم في 12 حزيران 1085 على اقوى وجه عربي حاكم من “إمارة العقيليين ابي المكارم شرف الدين بن قريش العقيلي” أمير حلب والموصل، وديار بيعة وبلاد ري الفرات، وسليل الإمارة العربية في شمالي بلاد الشام والعراق، وعلى ذلك انحسر النفوذ العربي مانحاً البلاد الى الأتراك، حيث تدفقت عشائر الغزّ والترك وغيرهماعلى بلاد الأناضول وبعضها الى بلاد الشام. ولاحظ المؤرخون الذين سجلوا لنا أسماء سلاطين دمشق أمراءها منذ تلك المرحلة أن غالبيتهم العظمى من الأتراك والأكراد مما أفسح المجال واسعاً لكل هذا النزوح الى دمشق في عهد الاسرة البورية 1104-1154م والأسرة النورية الزنكية تركية الأصل، ومن ثم في عهد الأسرة الأيوبية الكردية التي نهضت ضد الفرنجة بعد الزنكيين، هؤلاء الفرنجة الذين هددوا دمشق أكثر من مرة، فجاء الحشد والتجمع والمرابطة في دمشق ومنطقتها للدفاع عنها وعن بقية بلاد الشام. فكان من نتاج ذلك أن عناصر جديدة من هؤلاء أخذت تستقر في دمشق التي قصدها أيضاً المهاجرون من نابلس ومحيطها واستقروا فيها فيما عُرفَ بقرية ” الصالحية” او الصالحين في جبل قاسيون، إضافة الى هؤلاء أمّها العلماء والأدباء، وكتّاب الإنشاء والدواوبن للعمل في معية سلاطينها الأيوبيين ومن تلاهم من نواب السلطة المملوكية، الذين قرنوا مع مجابهة الفرنجة والمغول، إقامة العمائر الكبرى كالمساجد والمدارس والتكايا والمستشفيات، مما استدعى استقطاب أعداد كبيرة من المهندسين والصناع والبنائين وأهل صنعة العمار، فاستقر بعضهم في المدينة، مضيفين بذلك الى سكانها عناصر إضافية من أصحاب الحرف والمهن.

الوقف الإسلامي
وعرفت بلاد الشام درجة متقدمة من نظام الوقف الاسلامي الواسع، فكانت المؤسسات الخيرية الاسلامية من مساجد ومدارس وبيمارستانات وخوانق وتكايا التي قام على خدمتها عدد كبير من الفقهاء واهل التفسير، وحفّاظْ الحديث، وأقطاب الطرق الصوفية، يؤازرهم جهاز إداري وخدمي لكل مؤسسة، كما توضح لنا ذلك سجلات الدولة العثمانية. وامتدت الخدمات لتشمل بشكل خاص قافلة الحج الشامي مع مايقتضي ذلك من تعمير المنازل والبرك والقلاع، وشحنها بالجنود وحماية القافلة في الذهاب والاياب، خوفاً من اعتداءات البدو، بالدرجة الاولى عن طريق القوة العسكرية التي كانت ترافق القافلة في الذهاب او تستقبلها عند الاياب، بالاضافة الى “الصرة” المالية السنوية التي كانت تدفعها الدولة لشيوخ العشائر لكسب ولائهم ولتأمين سلامة القافلة.
وكان موسم قافلة الحج مناسبة دينية واجتماعية وتجارية لمدينة دمشق التي كانت محطة تجَّمُّعْ للحجاج المسلمين من بلاد الشام وبلاد الأناضول، وفيما بعد من بلاد الروملي(1) وبلاد العراق وفارس عندما كانت تحول قافلة العراق الى الشام لأسباب أمنية، مما يؤدي الى إتساع المدينة، وظهور أحياء جديدة مع مطلع القرن 18 كحي الميدان في جنوبي مدينة دمشق، الذي سكن فيه التركمان والحلبيون والحوارنة والتيامنة والحماصنة، ولاحقاً المغاربة والدروز الوافدين على دمشق.وكان في حي الميدان الأكراد أيضاً، ولهم مسجدهم.
احياء المسيحيين وكنائسهم
اما تجمعات المسيحيين في الميدان فلاتزال حي باب مصلى في الميدان الأدنى،وفيه كنيسة القديس جاورجيوس للروم الكاثوليك، اما في الميدان الوسطاني فيعيش المسيحيون في قاقين هما زقاق الموصلي، وزقاق القوره شي، وفي زقاق القوره شي كنيستان القديس حنانيا الرسول للروم الارثوذكس، وقد اثبتنا في ابحاثنا ان كنيسة القديس حنانيا هي امتداد لدير يعود الى القرون الاولى باسم القديس حنانيا الرسول، مع مدرسة ابتدائية مختلطة ارثوذكسية، وكنيسة رقاد السيدة للروم الكاثوليك. ويتوزع المسيحيون بطوائفهم في هذه التجمعات الثلاثة مع امتداد مقبول في الميدان الفوقاني وصولا الى محلة القدم وارد من حوران وجبل العرب وراشيا وحاصبيا والكفير ووادي التيم.
وفي الميدان أيضاً زقاق للنوَر(2) والزط.(3) ونلاحظ هنا مانقله لنا “ابن القلانسي” 1160م، وماجاء في الموسوعة الكبرى لتاريخ دمشق الشام لعلي بن الحسن بن هبة الله ابن عساكر الشافعي المتوفي 1176م، وماتلا ذلك من سلاسل كتب التراجم التي استمرت حتى يومنا هذا، من ادبيات مدرسة التراجم هذه اتاولت أخبار مدينة دمشق، واخبار من حل بها، أو وردها من العلماء والطلاب والرحالة الذين وفدوا اليها، واستقروا فيها، ومن علَّمَ وتعلَّم فيها تحت قبة النسر بجامع بني أمية، أو توزعوا في مساجدها التي عددها المؤرخ الدمشقي يوسف ين عبد الهادي المتوفي في 1503م، فزادت على ثمانمائة مسجد اغلبها عامر، تطل عليها جميعاً “قبة النسر” من أعالي الجامع الاموي، وتحرسها من الشرق قلعة المدينة.
ومن اجل تصور أكمل لهذا المشهد الحضاري الكبير علينا استذكار عدد مدارس القرآن ودور الحديث النبوي والفقه وفق المذاهب الاربعة، كما فصلها لنا مؤرخ دمشق عبد القادر النعيمي المتوفي 1521م ومحَّدثها في كتابه ” الدارس في تاريخ المدارس”، ولاشك أن عدد المدارس والمساجد والتكايا قد ارتفع في العهد العثماني الذي امتد نحو اربعة قرون، وخصصت الدولة العثمانية التي أدخلت نظام التيمار العسكري(4) الى بلاد الشام في القرن 16م قرى ومزارع وبساتين وقطع أراضٍ ومسقفات وعقارات ومرافق خدمات عامة كالمعاصر والحمامات وغيرها من بلاد الشام لأفراد القوة العسكرية العثمانية من الاتراك والتركمان والانكشارية، وفي بعض الأحيان لبعض شيوخ العشائر العربية والكردية، وبقايا أجناد الحلقة المملوكية الذين ادرجوا ضمن نظام “التيمارات”، وكان قسم من هذه القوات العثمانية قد رابط في القلاع الموزعة في بلاد الشام على امتداد الساحل وعلى اعالي الجبال. وعلى محاذاة البادية وبخاصة على امتداد طريق الحج بدءاً من قلعة حلب شمالاً مروراً بقلعة دمشق التي كانت تأوي سنة 1527 م /612/ نفراً من الانكشارية، وانتهاء بقلعة أجياد في مكة جنوباً، ورافق ذلك نقل قسم من العشائر التركية مثل الدوكرية، والتركمان(5) للسكن في المناطق الموازية لطريق قافلة الحج أو في مناطق بحاجة لأيدٍ عاملة زراعية مثل مرج بني عامر. وتشير دفاتر الطابو عند استعراضها لمقاطعات ولاية الشام مابين 1562م-1567م الى عوائد أغنام التركمانوالأكراد في ولاية الشام ، فجاءت بمقدار (398486) آقجة سنوياً ، ممايدل على دورهم في تربية الأغنام، والملحوظ أن دفتر طابو (476) قد جاء على محصول، أي دخل السباهية التركمان وعددهم 33 نفراً بمقدار (117000) آقجة سنوياً.
وتزودنا سجلات المحاكم الشرعية بدمشق بأسماء الأفراد الذين أُوكلت لهم مهام عسكرية أو أمنية، او إدارية من عساكر الدولة في بلاد الشام، وتزيد سجلات المحاكم الشرعية على ذلكفتذكر لنا أسماء الجنود الذين استقروا في بلاد الشام، وتعاطوا مختلف المهن وشكلوا فيما بعد، جماعات ضغط خاصة بهم أصبحت تزاحم في دمشق القيادات التقليدية من الأعيان والعلماء وشيوخ العشائر وكبار التجار والملاك حتى اصبح هؤلاء – في مراحل معينة – مصدر تحدٍّ لسلطة الدولة العثمانية أو من يمثلها، وعُرِفْ هؤلاء أحياناً باسم “اليرلية”(6) اي العناصر العسكرية المستوطنة مثل عائلة المهايني في حي الميدان

الدمشقي في القرن 18 الى أن حل محلها في زعامة حي الميدان في مطلع القرن 19 محمد آغا عقيل وولده طالب المتوفي في 1816، او “القابي قول”(7) أي “عبيد الأعتاب السلطانية” وكثيراً ماكانت تقع المناوشات مابين تلك الفئات والجماعات.
وعندما تراخى جاز الادارة العثمانية المترهل في الحواضر، ومنها دمشق الشام، لاحظ الباحثون ظهور بعض القوى المحلية التي ملأت الفراغ، واستقطبت هذه القوى العناصر العسكرية المتقاعدة او الهاربة من الخدمة لتبني من خلالها قواتها الخاصة بها، ونلاحظ هنا دخول عناصر من البوسنة والهرسك والبانيا والارناؤوط الى المشهد الشامي، بالاضافة الى المغاربة، أما العبيد الأفارقة فكانوا على الأغلب يخدمون في البيوت.
احتفت البلاد بأكملها بالأمير الجزائري المناضل عبد القادر الجزائري ( المتوفي في دمشق في 26 ايار 1883) وكان قد اختار دمشق منفاه للاقامة فيها مفضلاً اياها على بورسة ( بورصة التركية )، بعد ان افرج عنه الامبراطور نابليون الثالث 1852-1870 واطلق سراحه من معتقله في مدينة أمبواز وسط فرنسا، فجاء الى بورصة ومنها انتقل الى دمشق 1855. والذي يعنينا أن عدداً كبيراً من المجاهدين الجزائريين اتباع الامير عبد القادر، بعد توقف الثورة الجزائرية حينذاك، سبقوه او لحقوا به الى بلاد الشام، واصبح لهم ولذريتهم دور كبير في تاريخها الاجتماعي والسياسي حتى أن أحد أحفاد الأمير سعيد الجزائري كان اول من رفع العلم السوري بعد طرد الاتراك وقبل وصول قوات الثورة الكبرى اليها عام 1918 وشكل حكومة وطنية مؤقتة دامت اربعة ايام في 27/9/1918.
ومن دمشق انتقل الجزائريون الى سائر بلاد الشام، وشكلوا حضوراً بشرياً متجدداً، ولهم احياؤهم الخاصة بهم كما في حي الجزائريين وحارة المغاربة في الميدان بدمشق، وبالتالي صار وجودهم مطلوباً لمزاياهم العسكرية وخصائصهم في تحمل المشاق الموكلة اليهم ادارياً وعسكرياً…
شرح المفردات
1- بلاد الروملي هي المنطقة التي كانت تقع في جنوب شرق اوربة (البلقان)، والتسمية هي ترجمة تركية لأرض الرومان او الروم وكانت تشمل أراضي اليونان ومقدونيا الشمالية، والبانيا، وكوسوفو، وصربيا، والجبل الأسود، وبلغاريا، والبوسنة والهرسك.
2- نوَر او نوار ومفردها نوَري هم مجموعة سكانية تسكن في فلسطين وسوريا والأردن وتنتمي إلى مجموعة الشعوب الغجرية التي تعود جذورها إلى شبه الجزيرة الهندية ودلتا السند.
3- ينحدر الزط من منطقة وادي السند، وهناك روايات تاريخية تشير إلى ارتباطهم بالأكراد من بلاد السند والهند.
4- نظام التيمار العسكري: هو نظام عسكري واداري في الدولة العثمانية، به يمنح السلطان العثماني أراضي الى فرسان عسكريين يسمون السباهية مقابل خدمتهم السنوية، كان السباهيون يجمعون ايرادات هذه الاراضي لدفع رواتب الجنود، بينما كانت الدولة بذلك توفر النفقات العسكرية وتضمن استقرار الانتاج الزراعي. تم الغاء النظام رسميا في عام 1831م.
5- التركمان هم الاتراك الاوغوز الذين اعتنقوا الاسلام ، ويتميزون بذلك عن الاتراك البالغ عدد قبائلهم 20 قبيلة منها الاوغوز التركية التي اعتنقت الاسلام.
6- اليرلية هي فرق من الانكشارية المحليين يختلفون عن الانكشارية النظاميين الذين يأتون من قلب الدولة العثمانية، وكانوا يجندون من السكان المحليين في الولايات لذلك يحملون تسمية المحليين وكانت الدولة العثمانية تعتمد عليهم بمهمات حفظ الأمن وحراسة الحدود في المناطق التي يعرفونها جيداً، مستفيدين من معرفتهم بالعادات والتقاليد المحلية.
7- “القابي قول” مصطلح يُطلق على الجنود العثمانيين الذين يحملون رايات الفرق العسكرية، كما يشمل القاباً عسكرية ومدنية أخرى في النظام العثماني مثل باشا وهو لقب الوالي او احد كبار الضباط العثمانيين، ولقب بك وهو لقب أمير أو ذي منصب اداري واجتماعي عثماني عال.