المطران ملاتيوس قطيني الدمشقي راعي ابرشية ماردين وديار بكر ومابين النهرين الشهيدة
في اصل الأسرة
من يونان كيليكيا Cilicia: وكيليكيا ابرشية انطاكية استشهدت بيد الاتراك مابين 1918-1923 وهي اقليم قديم فى جنوب شرق آسية الصغرى بين البحر الابيض المتوسط و جبال طوروس، وكانت تضم مسيحيين ارثوذكسيين يتبعون للكرسي الانطاكي المقد يونان بنسبتهم الاكبر، واتراك يونان متجنسين بالعثمانية وسوريين، مع مسيحيين ارمن، وقلة من السريان.
وفدت عائلة قطيني الى دمشق قبيل منتصف القرن التاسع عشر من كيليكيا واقامت فيها
من هو؟
هو من مواليد دمشق في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، وليس من ثبت دقيق لدينا لا في الوثائق البطريركية، ولا في سواها، قطنت العائلة في محلة الجوانية بجوار طالع الفضة، بالقرب من دار البطريركية الارثوذكسية والكاتدرائية المريمية بدمشق القديمة، حيث كانت تقيم في هذه المحلة النخبة الغنية من ارثوذكس دمشق في قصور رائعة، وكانت هذه المنطقة حياً ارثوذكسياً بامتياز، وفي مدخل الحارة طالع مائي للفيجة توصف مياهه بالفضة لذا اسمي هذا الطالع بطالع الفضة،واكتست المحلة باسم الطالع وفي داخلها تلك الجزيرة المحمية تماما من كل الجوانب والمسماة بالجوانية، حيث مان ولايزال القول الدارج بين المسيحيين الدمشقيين الارثوذكس :طحط المية فوق المية واسكن بالجوانية” يعني ادفع مئات الليرات الذهبية العثمانية ثمنا لبيت في الجوانية واسكنه..
دراسته
كبقية اولاد الرعية الارثوذكسية، درس في المدرسة البطريركية الارثوذكسية ( الآسية) على بعد امتار من بيت العائلة، وكان مع اهله يصلي في مريمية الشام والكنيستين المجاورتين لها في الصرح البطريركي وهما مار نقولا وكنيسة القديسين كبريانوس ويوستينا، كما كان يصلي في كنيسة القديس يوحنا الدمشقي المجاورة للجوانية وللآسية.
شعر بالميل الى الخدمة الكهنوتية، منذ الطفولية، نظراً لورع اسرته وممارستها لطقوسها الروحية فقد شعر بميل الى اعتناق الكهنوت الشريف، واصبح وهو في سن المراهقة من الشمامسة المبتدئين عند البطريرك جراسيموس (1886-1891)
أوفده البطريرك جراسيموس الى معهد خالكي اللاهوتي العالي بالقرب من اسطنبول، حيث انهى القسم الاول من دراسة اللاهوت في مدرسة الجنس الملحقة بمعهد خالكي اللاهوتي، ثم تابع دراسته في المعهد اللاهوتي العالي، وانهاها وحاز الشهادة بامتياز، وعاد الى دمشق، والتحق بالبطريرك التالي اسبيريدون (1891- 1898) فرسمه شماساُ ومدرسا للعلوم الروحية واليونانية في المدرسة البطريركية الارثوذكسية (الآسية) واميناً لسره، بسبب اتقانه العربية واليونانية والعثمانية والفرنسية، ثم رسمه كاهنا فارشمندريتا…

مطرانيته
عندما تولى البطريرك ملاتيوس (1898-1906) السدة البطريركية الأنطاكية،ضمه الى حاشية البطريركية وفريق عمله، ورشحه مطراناً لمطرانية ديار بكر وماردين ومابين النهرين، بعدما اعتزال مطرانها اليوناني مع مطراني حلب وارضروم اليونانيين مطرانياتهم احتجاجاً على توليه كونه وطني…!
لكن تمت رسامة الارشمندريت سلفستروس زرعوني مطراناً على ديار بكر كونه من رعاة ابرشية كيليكيكيا المجاورة لديار بكر في الأناضول، ولمعرفته الحقة بطبيعة الاتراك واليونان الانطاكيين حيث استمر الى حين وفاته في 11 شباط 1907 عندما اختار البطريرك غريغوريوس علمنا بصفته كان مرشحا لتولي هذه الابرشية منذ غهد البطريرك ملاتيوس، فوافق …
وقد اتصفت ابرشية ماردين وديار بكر اضافة لبعدها الشديد عن ابرشية دمشق، اتصفت بفقرها فلا اوقاف لديها ودار المطرانية متداعية وبحاجة لترميم جذري او اعادة بناء ولاتليق بسكن المطران ولكن حالت المؤامرات زمن سلفه دون الحصول على رخصة بترميمها، والرعية غير قادرة على القيام ليس فقط بمصروف مطرانيّها السابق والحالي، بل حتى بكهنتها وكانت القنصلية الروسية تساهم بأمر من القيصر ببعض المصروفات، وتساعد رعيتها الارثوذكسية التي كانت في معظمها من اليونان وقلة من السوريين بالمعونات وبتدريس الاولاد، لذا لم تكن هذه الابرشية بقادرة ان تقدم الى راعيها السابق سلفستروس زرعوني اكثر من عشر ليرات ذهبية في السنة، وكان المطران زرعوني ينفقه كله مع مايرده من مخصصات البطريركين ملاتيوس وغريغوريوس والقنصلية الروسية المتقطعة في سبيل خير رعيته، وقد أنشأ مدرستين وباشر بعمار كنيسة القديس جاورجيوس، وحافظ على ترتيب الكهنة ومايلزمهم وحافظ على تطبيق الناموس والشريعة الارثوذكسية، وعاش عيشة القناعة والزهد، وتابع خليفته علمنا المطران ملاتيوس قطيني الدمشق على الخط ذاته فأكتسب هو الآخر محبة الرعية جمعاء وابناء الكنائس الاخرى الذين باتوا يترددون على الكنائس الارثوذكسية ويضعون اولادهم في مدرستي الابرشية.
كانت ابرشية ماردين بالاضافة الى ماذكرنا بعيدة جغرافياً ووعرة المسالك، ومحاطة بأقوام بعيدة عن المدنية ولايجرؤ المسيحي ان يتجول فيها فقيرة الموارد اذ كانت فيها كما اسلفنا قلة من الارثوذكس الفقراء من سوريين ويونانيين بين المجموعات المسيحية الأكبر عدداً والاغنى مالياً لملكيتهم الاراضي، ووقفياً من الكنائس السريانية والآشورية والأرمنية والكلدانية، واستطاع بلطفه وتواضعه من اكتساب ودهم حتى أن البعض من ابناء هذه الكنائس كان يتردد باستمرار على كنائس الروم الارثوذكس الانطاكية التي تحت رعايته، ويضعون اولادهم في مدارسها كما تشير الوثائق البطريركية المختصة بالابرشية، بالرغم من معاداة رئاساتهم الروحية لعلمنا بسبب ذلك، ومحاولة احباط كل مشاريعه التنموية بتأليب الولاية عليه والافتراءات بحقه، حتى ان الولاية قررت هدم التجديدات في دار المطرانية ولولا مسارعة القنصل الروسي لكان تم الهدم.
وقدم هؤلاء المصلين من الكنائس الاخرى الذين عشقوا الليتورجيا الارثوذكسية والترتيل الرومي وسلوك المطرانين السابق والحالي تجاه رعية ماردين الارثوذكسية الفقيرة، قدموا بعض احساناتهم لكنائس هذه لأبرشية المعدمة اقتصادياً التي لاتقوم بأود مطرانها وكهنتها.
قام علمنا كسلفه بتقديم ماكان يملكه مما ورثه عن اسرته القطينية الدمشقية، واستفاد منه في تحسين أمور كنائسه و احوال الرعية الفقيرة، وساعد الكنيسة الانطاكية الناشئة وقتها في الموصل، والتي كان احد كهنة السريان من آل قطان المرحوم كيرلس قطان قد اعتنق الارثوذكسية حباً بها، وانتمى الى الكرسي الانطاكي، فأتبع البطريرك ملاتيوس وخليفته غريغوريوس هذه الكنيسة بمطرانية ديار بكر ومطرانها الاول سلبسترس زرعوني الذي دعمه بارسال معلم ومرتل لمساعدته وتعليمه الخدمة الليتورجية الارثوذكسية، ثم بعد وفاة الاول عهد بكنيسة الموصل راعي ورعية الى المتروبوليت ملاتيوس قطيني علمنا، الذي صير الكاهن كيرلس قطان ارشمندريتاً وزوده بما استطاع من المعونات المالية، والتجهيزات الكنسية، ونشير الى ان هذه الكنيسة الارثوذكسية ورئيسها تعرضا لحرب شعواء من قبل رئاسته السابقة والولاة العثمانيين المتعاقبين الموالين لتلك الرئاسة، حتى ان ارض الكنيسة صودرت منهم وخصص الارشمندريت غرفة في بيت اهله كنيسة لاتباعه، ولم توافق الولاية على تخصيص او بيع ارض لهم لجعلها مقبرة، وتروي الوثائق عن قيامهم بتحنيط جثة فتى توفي بمرض عضال ولم يتمكنوا من دفنه فحنطوه وجعلوه في غرفة في بيت الكنيسة!…
وقد انتهت هذه الرعية وبادت بسبب الضيق الشديد وما تعرضت له وعدم قدرة البطريركية بدمشق ومطران ديار بكر ملاتيوس من الاستمرار بتقديم المساعدة لها لتستمر…حتى ان سلطات الانتداب البريطانية شقت طريقا عامة في وسط بيت قطان (الكنيسة) الذين تبرعوا به مقرا للعبادة واتخذه راعيها مصلى لهذه الرعية المعذبة، لدواعي عمرانية وامنية.
وفي عام 1910 بدأت المجازر التركية – الكردية بحق المسيحيين من انطاكيين ارثوذكسيين سوريين ويونان، وسريان وارمن وآشوريين…، فقضى الكثيرون منهم على ماورد في التاريخ المعاصر، وتهجر من بقي الى سورية والمهاجر الأخرى، وكان منهم علمنا المتروبوليت ملاتيوس قطيني الذي بقي مع آخر ارثوذكسي عام 1913 وهو ذات العام الذي استشهدت به ابرشية ارضروم الانطاكية، وقد عاد الى دمشق وقتئذ واستقر في الدار البطريركية.
وكان البطريرك غريغوريوس ينيبه عنه في تدبير امور بعض الابرشيات التي تشغر بوفاة مطارنتها او بسفرهم الى بلاد الاغتراب بمهمة جمع التبرعات من رعاياهم المهاجرة للقيام بمشاريع بناء كنائس ومؤسسات ارثوذكسية في الابرشيات، اضافة الى نيابته عنه في ابرشية دمشق في غياب غبطته وكذلك كان يفعل البطريرك الكسندروس طحان (1931-1958)، ثم امضى أخر عمره في بيت شقيقه عطا الله في بيروت حيث بقي وحيدا ليس له من يعينه وهو مريض وعاجز ،ومات بكل اسف في دار المسنين المارونية منتصف القرن العشرين!!!
وتقول احدى الوثائق البطريركية المختصة بأبرشية ديار بكر ان علمنا زار ابرشيته الشهيدة في عام 1928 فهاله التدمير الممنهج لدار المطرانية والكنائس والمؤسسات الرعوية وتحويل الاتراك للكنائس الى زرائب للحيوانات ومستودعات، كما فعلوا في كل الابرشيات الشهيدة كيليكية وارضروم، والرعايا المتناثرة في تجمعات صغيرة ومعظمهم تعرض للذبح بيد الاتراك والأكراد ككل المكونات المسيحية الأخرى. ففر من بقي ناجيا وتم الاستيلاء على بيوت رعيته والهاربين والمذبوحين.
عندما عاد الى دمشق عينه شقيقه الاكبر المحسن عطا الله قطيني المتوفي في بيروت عام 1922 منفذاً لوصيته، وقد اوصى شقيقه بوضع امواله النقدية في بنك تعطى فائدتها بمعرفة شقيقه ملاتيوس مطران ديار بكر ليتصرف بها لخدمة الفقراء في دمشق، وبعد وفاته تبنى بأصل المال المودع مع ثمن بيته الكائن في دمشق القصاع كنيسة على اسمه، على ان يدفن في حرمها، وقد طلب 28 ذاتا ارثوذكسية من متقدمي المجلس الملي الدمشقي وممثلي الرعية في محلة القصاع في عريضتهم المؤرخة بتاريخ 22 ايار 1923 الى المجلس الملي الدمشقي التدخل لدى شقيقه المطران ملاتيوس للاسراع في تنفيذ الوصية. ونشير هنا الى ان مشروع الكنيسة المحكي عنها كانت كنيسة الصليب المقدس في القصاع.
اما لماذا لم تتحقق الوصية وفق نية الموصي فهذا مما سكتت عنه الوثائق البطريركية وحتى الشهادات الشفهية، وقد بنيت الكنيسة بأموال ابناء الرعية والجمعيات الارثوذكسيةالتي جمعوها منذ زمن طويل لمشروع بناء الكنيسة في بستان الصليب، وماقدمه بعد ذلك المحسن الكبير السيد سابا صعبية لاكمالها مشكورا منذ انتهاء المال المدخر فقد انفق عليها…( انظر تدوينتنا عن كنيسة الصليب المقدس )
كان علمنا من رفاق مطران طرابلس الكسندروس طحان مع مطران صور وصيدا ثيوذوسيوس ابو رجيلي في الازمة البطريركية (1928-1931) وانتخبوا الكسندروس في دمشق بطريركا عام 1931في حين انتخب الفريق الآخر ارسانيوس حداد مطران اللاذقية في دير القديس جاورجيوس الحميراء بنفس التوقيت بطريركاً.
صفاته
علمنا علامة في الحق الكنسي، وفي اللاهوت فهو يحمل شهادة خالكي المساوية اليوم للدراسات العليا والدكتوراه في اللاهوت، كما انه كان متضلعا في الموسيقى الرومية ويتمتع بالصوت الشجي ورخامة الصوت وفي الرعاية الابوية والاسقفية وكان بابه مفتوحا لجميع المستضعفين ملبيا رغباتهم ومسعفا فقرهم بالرغم من وضعه المتردي الذي عاش فيه كفافاً ووفر ما كان يرده من رعيته الفقيرة ومن معونات البطريرك ملاتيوس، والبطريرك غريغوريوس لمنفعة رعيته اولا وفك ضيقتها وتنمية كنائسه وكان دائم التواصل مع روسيا القيصرية عبر قنصلها هناك للحصول على الدعم المعنوي.
كما تميز بالحلم ودماثة الخلق، مكتسبا رضى اولياء الامور خدمة لابرشيته.
اتقن اللغات العربية والفرنسية والعثمانية واليونانية بطلاقة…
اواخر حياته
في اواخر حياته تقاعد من الخدمة الاكليريكية بعد جهاد مضني استمر لحوالي سبعة عقود، خدم به البطريركية في دمشق مذ كان طفلا، ثم اجتاز درجات الكهنوت خادما في كل درجة بعشق الاكليريكي لسيد الكنيسة، واكبر خدمة خدمها في ابرشيته الفقيرة النائية والمترامية قبل استشهادها بيد الاتراك كما مر بالرغم من شظف العيش، والمضايقات من الجميع كما تؤكد الوثائق البطريركية/ وثائق ابرشية ماردين وديار بكر ومابين النهرين، ثم خدم في ابرشية دمشق عند عودته لاجئاً مع بعض رعيته الماردينية، وكذلك الدمشقية منبته وموطن اهله، وفي كل مكان اوفده اليه البطريركان العظيمان غريغوريوس حداد والكسندروس طحان، وكذلك في بيروت حال انتقاله اليها حيث عاش في بيت شقيقته المتوفي عطا الله…
ولكن بكل اسف امضى حياته في دار المسنين المارونية فيها لعدم وجود دار تقاعد ارثوذكسية، والذي حدثني بذلك مثلث الرحمات البطريرك السبق الشيخ الجليل اغناطيوس هزيم في معرض وثيقة تتعلق بعلمنا عرضتها عليه في احدى زياراته لي في المكتبة عام 1990 فأجابني بمرارة بذلك، وأنه توفي هناك عام 1953 وجنز في كاتدرائية القديس جاورجيوس الارثوذكسية ببيروت ودفن في مقبرة بيروت الارثوذكسية.
ملاحظة
1-عذرا على رداءة الصورة فقد اقتصصناها من صورة قديمة للمجمع المقدس المنتخِبْ للبطريرك الكسندروس وهي بالاساس غير مرضية.
2-كل ما اوردناه هنا في هذه التدوينة مصادره نبذ متفرقة من الوثائق البطريركية قبل مطرانيته على ديار بكر ثم من وثائق ابرشيته قبيل استشهادها، ومن وثائق ابرشية دمشق زمن مثلثي الرحمات البطريركين غريغوريوس والكسندروس، ومن وثائق بيروت زمن متروبوليها مثلث الرحمات ايليا الصليبي… ومن معاصريه اكليريكيين وعلمانيين في دمشق وبيروت مع شهادات شفهية…
ليكن ذكر هذا المجاهد مؤبدا.
