السيد ديمتري نقولا شحادة الصباغ الدمشقي
كلمة حق واجبة
كثيرون هم الافاضل في انطاكية العظمى ولكن لم يكونوا جميعهم اناءً يتسع لكل الفضائل كعلمنا ديمتري…
علمنا الذي اتهيب ان اذكر اسمه دون ان اقرنه بداية باسم السيد فهو سيد بكل المقاييس وبقناعتي هو قديس انطاكي منسي الى حين تأتي الساعة التي يُتخذ بها القرار من كرسينا الانطاكي المقدس لاعلان قداسته، ونستبدل القديس بالسيد فنسميه “القديس ديمتري الدمشقي…” ويدخل في سنكسار انطاكية العظمى والارثوذكسية.
عصامي…مجاهد معطاء…احد اهم بناة النهضة الانطاكية في كرسينا الانطاكي المقدس عمل طيلة القرن 19 لأجل الكرسي الانطاكي في كل ابرشياته وخاصة سورية الكبرى وابرشيات الشمال والشمال الشرقي الشهيدة كيليكيا وديار بكر وارضروم ومدينة انطاكية العظمى التي يفخر ونحن بالانتساب اليها، ولأجل دمشق الارثوذكسية مصدر اعتزازه الشامي واعتزازنا، مسقط راسه ورأسنا دمشق الارثوذكسية حبيبته وحبيبتنا، لأجل المريمية كنيسة مريم،مريمية الشام اقدم كنيسة في الكون، لأجل ابنتها كنيسة القديس يوحنا الدمشقي الارثوذكسية المجاورة وقد كاد ان يفقد صوابه لما استلبت غدرا وخسة وخيانة، وسعى في عاصمة القرار القسطنطينية (اسطنبول) لاسترجاع الحق وبذل الجهد والمال لعودتها لأمها مريمية الشام الارثوذكسية، لأجل المدارس الأرثوذكسية الآسية الدمشقية التي درس فيها على بانيها القديس يوسف الدمشقي التي لطالما افتخر بها مدرسة له ولتكون اول جامعة في المشرق…وقد بكى بكاء مرا على دمارها عام 1860 وعلى معلمه الشهيد في الكهنة يوسف الدمشقي والالوف المؤلفة من الدمشقيين ضحايا الكارثة وبذل من ماله لاجل اعادة عمارها وعطائها…
هو التلميذ الخصيص للقديس يوسف الدمشقي ومساعده الاساس في كل شي حتى استشهاده والوفي له ابدا ومنه عرفنا سيرة هذا المعلم الشهيد والقديس… ولولا وثائقه التي تشكل اكثر من 40 % من وثائق المقر البطريركي لافتقرنا الى الكثير من مفاصل تاريخنا الانطاكي ونضال كرسينا ولولاها لما تمكنا من كتابة سيرة القديس الخوري يوسف مهنا الحداد ولا تاريخ الكرسي الانطاكي في النصف الثاني من القرن 19 ولا نضال اعلام تلك المرحلة وفي مقدمهم المطارنة رفاق صفه ودربه في خدمة كرسي انطاكية العظمىمن كفولتهم الى صبوتهم وشموسيتهم وكهنوتهم الى صيرورتهم رعاة ابرشياتهم ومابعد البعد… ملاتيوس الدوماني وغفرئيل شاتيلا وغريغوريوس جبارة وجراسيموس يارد …و الجيل اللاحق امثال الاعلام العلامة جراسيموس مسرة والقديس روفائيل هواويني… وتعبهم جميعا في سبيل عودة رئاسة السدة الانطاكية الى ابناء الوطن مع ديمتري الذي صار وقتها متنسكا فقيرا يستريح في حماطورة والبلمند من تعب العمر منتظرا مقابلة وجه يسوعنا، فهو كان القائد المجهول ومعلم جراسيموس مسرة وروفائيل هواويني وكانا يكاتبانه دوما مستهلين رسائلهم اليه بعبارة : “بعد لثم يمينكم”…
ديمتري العظيم رفيق ملاتيوس الدوماني وغفرئيل شاتيلا وغريغوريوس جبارة وجراسيموس يارد… في نضالاتهم لبناء ابرشياتهم المتهالكة وقد بنى معهم ودخلت ابرشياتهم بقيادتهم لها مع مشورات ومعونات ديمتري ونفوذه في دوائر القرار الرسمي لدى الصدر الاعظم والباب العالي ووزارة الاديان ولدى البطريركية المسكونية والامبراطورية الروسية….عاملا من خلف الستار لنصل الى عصر النهضة الانطاكية اواخخر القرن 19 بينما بقي هو وماقام به في العتمة برغبته فالكرسي الانطاكي عنده وبسروره يجب ان يعلو دوما وتعود انطاكية الى مجدها الرسولي وتعود دمشق مدينة الحب والياسمين والنارنج والبيوت الجميلة ولم يبخل بحنانه على كل ابرشيات الكرسي الانطاكي عموما وحتى الارثوذكسية العالمية وبقية الكنائس الاخوة في المسيح…
بالمطلق كان السيد ديمتري شحادة ابن نقولا الصباغ الدمشقي هو بطل تلك المرحلة وقد كَّشَّفتُ وثائقة الشخصية وذهلت من تنظيمه الشديد لها وآلية الحفظ وصندوق الحفظ الخشبي الجميل…تنظيم سابق لعصره اذ كان الاساس لمعرفتنا الجزء الاكبر من تاريخنا قبل كارثة 1860 وبعدها… وهو الذي تابع مجازر 1850 بحلب ومجازر 1860 بدمشق والسعي للحصول علي تعويضات حلب التي كان الحكم العثماني ينوي الغاءها ودفنها فأقامها من بين الاموات ولم يرض ان يسترد ما انفقه من جيبه الخاص عدا اتعابه الجسدية ومراجعاته الدؤوبة وكذلك في تعويضات دمشق… ولذلك النضال العارم لاجلهم اختاره الحلبيون 1885 مطرانا عليهم وبالرغم من كونه علماني…! واختاره البطريرك جراسيموس ( يوناني 1885-1891) عامها ايضا مديرا لمشروع الاكليريكية الانطاكية الاكاديمية التي كان يقرر ان يحدثها في دير سيدة صيدنايا البطريركي، وان يرسمه ارشمندريتا رئيسا لها، ورجاه ووسط التلميذ النجيب الاحب الى قلبه جراسيموس مسرة ليقنع ابيه بالروح والرعاية ديمتري ليقبل مرارا للعودة من القسطنطينية الى بطريركية انطاكية بدمشق اكليريكيا ليكون رئيس الاكليريكية ومستشاره لأجل ان يعملا معاً لمصلحة الكرسي الانطاكي … ولكنه اعتذر عن هذه العروض والمناصب لأنه كان يبطن النية ويبيت القصد لينهي حياته وجهاده الحافل من اجل الكل متوحدا ناسكا فقيرا وهو الذي اغنى الكل، ليعيش ناسكا لأجل الرب يسوع في ديرين يحملان اسم السيدة الطاهرة دير سيدة البلمند البطريركي ودير سيدة حماطوره هذا الدير الصامد على ظلم ووحشية الماليك والذي شهد لكواكب متتالية من القديسين الشهداء في دير سيدة حماطورة المطل على شقيقه دير البلمند البطريركي ومتابعا للديرين ومدرسة البلمند الاكليريكية مطلع القرن 20 بطلب من رفيق طفولته البطريرك الانطاكي العظيم والمجاهد ملاتيوس الدوماني باعث نهضة اللاذقية الروحية 1864-1898 بالرغم من القحط بكل شيء ولو جاز ليانا لأطلقت عليه منفردا صفة القديس… وبالفعل هو القديس المنسي…
هي شذرات بسيطة كتبتها هنا في تدوينتي هنا عنه استقيتها واستخلصتها من وثائقه وتراثه المكتوب عنه (اكثر من المكتوب بخط يده)، ومن لم يغرق في تراثه الفكري ويغرف منه مكتوبا لايستطيع ان يكتشف ما سردت عنه فهذه السردية نقطة من بحر افضاله…

في العائلة واصولها
تعود العائلة في اصولها الدمشقية الى القرن 16، عاشت في بيتها الاساس في محلة آيا ماريا المعروفة حاليا ب( القيمرية) بعدما تحرف اسمها. وكذلك كان خان العمل المتوارث للعائلة في المحلة ذاتها.
عمل كبيرها شحادة صباغاً للحرير، لذا صارت الكنية مركبة “شحادة الصباغ” عندما تم العمل بالكنيات في بلاد الشام في القرن 17، اتخذت العائلة اسم كبيرها شحادة ومهنته كنيتها فصارت كنية مركبة “شحادة الصباغ” لذلك كان اسم علمنا وكنيته” ديمتري نقولا شحادة الصباغ الدمشقي” كما كان يعرف عن نفسه.
توارث الابناء والأحفاد مهنة كبير العائلة “شحادة” صباغة الحرير، واضاف حفيده “نقولا” والد ديمتري الذي عاش في النصف الثاني من القرن 18 الى مهنة الاجداد والآباء صناعة (سدي الحرير ونسجه) التي كانت بدورها محصورة بالمسيحيين الدمشقيين اضافة الى مهنة الصباغة وفي محلتهم ( آيا ماريا) القيمرية اليوم، ولا نذيع سراً ان قلنا بأن كل الحرف في دمشق على الاطلاق كانت مسيحية بامتياز(1)، مع نسبة من الحرف الدقيقة كان يمتهنها اليهود وبالذات بناتهم كنقش النحاس وتطعيمه بالفضة، ونقش الخشب وليس حفره(2) والنجارة والصدف والموزاييك…فقد كانت حرف مسيحيية صرفة…ونشير الى ان السواد الاعظم من المسيحيين الدمشقيين بكل طوائفهم كانوا حرفيين، وبالذات الروم الارثوذكس بينما كانت التجارة بيد المسلمين وبعض انواع التجارة كتجارة الزجاج والنحاس والدجاج والبيض والاقمشة اضافة الى الصرافة والربا كانت بيد اليهود الدمشقيين…
كان جد علمنا المباشر هو المعلم التربوي الشهير في زمانه جرجس حيث مارس تعليم ابناء الرعية في كتّاب البطريركية الكائن في حرم كنيسة مريم(3) اما والده نقولا فلقد اقترن بحفيدة المؤرخ الدمشقي العظيم الخوري ميخائيل بريك الدمشقي(4) السيدة فوميا المصابني(5).
وكان المعلم جرجس قد رزق بثلاثة اولاد ذكور هم ميخائيل (6)، نقولا وحنا

انتقلت عائلة شحادة الصباغ في زمن نقولا بعد فترة من زواجه بفوميا من منزل العائلة الكائن في محلة آيا ماريا الى ساحة الدوامنة (7) وسكنت في بيت من اوقاف البطريركية الارثوذكسية استأجره نقولا عام 1789 من البطريرك الانطاكي دانيال 1767-1790 الذي حظر على وكلاء الوقف فرض زيادة اي قرش على مبلغ الايجار السنوي والى الأبد تكريماً لهذه العائلة الارثوذكسية وماقدمه المعلم جرجس من خدمات تعليمية لأبناء الرعية في مدرسة البطريركية. وقد ولد لنقولا اربعة اولاد اكبرهم كان ديمتري وهم على التوالي
ديمتري ولد في دمشق بتاريخ 21 ت2 ش 1821
مريم (مروش لقب الدلع ) ولدت في دمشق بتاريخ 19 ت2 ش 1823
عبده ولد في دمشق بتاريخ 2ك2 ش 1830
وجدير ذكره ان في هذا البيت الوقفي عاشت اسرة جرجس ميخائيل شحادة الصباغ حيث رُزق فيه المعلم جرجس اولاده الثلاثة ثم عاشوا جميعا فيه بعد زواجهم كعادة الدمشقيين الا مريم التي بقيت عزباء.
وتشير بعض وثائق ديمتري الى أنه عندما كان صغيرا ويعيش في بيت العائلة كانت تعيش فيه ايضاً جدته لأمه ( اكيد لوجود القرابة في ذاك الزمن المغلق على المسيحيين خاصة في زمن الانحطاط وعزل الحارات وابوابها)، ويتذكر انه في طفوليته كان يقف مع جدتيه ( لأبيه وامه) مصلياً معهما في غروب السبوت والأعياد امام ايقونتي السيد والسيدة مع قنديل الزيت المضاء بعد ان يساعدهم في وضع الفتيل وتغذية القنديل بزيت الزيتون، ويضع حبات البخور فوق قطعة الفحم المشتعلة لينبعث البخور من المبخرة النحاسية اليدوية.
ونشير هنا الى ان ماذكرنا عن علمنا وطفولته والقوس العبادية البيتية، كانت من طقوس العبادة المسيحية في كل بيت دمشقي ارثوذكسي ومنها عائلتنا لما كنا نعيش جميعا في بيت جدي فارس رحمه الله ونمارس هذه العادة مع جدتي اسما رحمها الله، ثم تابعنا لما انتقلنا الى بيتنا المستقل مع امي روزيت لها كل الرحمة وتابع كل منا في بيته الحالي…
ونشير هنا الى القرابة التي جمعت بين عائلتي القديس يوسفالدمشقي (الخوري يوسف مهنا الحداد) ،فشقيق القديس يوسف هو زوج خالة ديمتري، هذه القرابة والتربية الروحية، والممارسة التقوية التي تلقفها وعاشها ديمتري في طفولته وصباه في هذا المجتمع الدمشقي المقهور بالممارسات وفق نظام الملة الجائر، ولكنه الحميمي المتحاب بين الجميع، وهي ميزة المحبة للأهل والعائلة الأكبر والكنيسة والمدينة والانتماء الانطاكي والارثوذكسي التي حملها ديمتري معه في قلبه وفكره وكيانه معه وعاشها زمن تغربه لأكثر من نصف قرن 1844-1890 في القسطنطينية وكفاحه العملي طيلة عمره في خدمة اهله وعائلته ومدينته الاحب دمشق خاصة، وفي خدمة الكرسي الانطاكي وابرشياته وبناء الاكليروس وكنائس الصرح البطريركي هذه التي خدمهاطفلاً ككل ابناء الدمشقيين وجعلته قريبا من النساك في حياته وآخرته…
دراسة ديمتري

تميزت اسرة شحادة الصباغ بحب العلم والسعي لاكتسابه بكل وسيلة متاحة، فجده كما اسلفنا هو المعلم جرجس الذي نهل المعلم يوسف الحداد العلم من معينه العلمي، لذا ليس من مصادفة ان يسعى اولاد المعلم جرجس الذين تعلموا على ابيهم، لأن يعلموا اولادهم ومنهم نقولا والد ديمتري، الذي جهِدَ بالرغم من ضيق يده وقد ساءت احوال عمله، وقتئذ لتعليم اولاده الأربعة منذ طفوليتهم…
نهل ديمتري العلم طفلا في البيت على ابيه نقولا وجده المعلم جرجس بنهم، ثم انتقل في السن المقررة الى كتّاب المريمية الذي كان بادارة وتعليم جده جرجس، وبعد وفاة الجد على مايبدو وتوقف كتّاب المريمية بوفاة المعلم جرجس انتقل التعليم ارثوذكسيا الى عهدة المعلم يوسف مهنا الحداد تلميذ المعلم جرجس في كتّاب هو غرفة سرية خفية في بيت اهله الصغير بعيدا عن اعين جواسيس السلطة، وكانت الغرفة رطبة مظلمة ويمر بوسطها سياق مكشوف للصرف الصحي، و لن يخطر في بال السلطة العثمانية الجائرة الني حظرت التعليم الخاص على المسيحيين خارج ابنية الكنائس ان تكون هذه الغرفة ( المربع) كتّاباً تعليمياً.
هناك في كتّابْ مدرسة الكنيسة نهل عن المعلم يوسف كل ما قدمه له وحاز محبته لنبوغه، وتبادل المعلم والتلميذ المحبة حتى استشهاد المعلم (8) وتابع ديمتري في اكتساب كل ما يمكنه من العلوم الزمنية والفلسفة واللاهوت واللغات بجهده الشخصي وفق منهج التثقيف الذاتي وبرع في العربية وآدابها وفي التاريخ وتدوينه واللاهوت الأرثوذكسي والجدلي المقارن وفي الحسابات ومسك الدفاتر الحسابية (علم “الدوبيا” كما كان يسمى).

انتقاله الى القسطنطينية
في عام 1844 استجاب والده نقولا لطلب صديقه الخواجا نقولا فخر الدمشقي(9) ( التاجر الدمشقي- الطرابلسي الشهير) والمقيم في القسطنطينية حيث كان قد طلب منه ترشيح معلم خاص لأولاده يعلمهم العربية، ولما كان الوالد عارفاً بقدرة ولده ديمتري في هذا المجال، وممارساً التدريس في الآسية تحت يد الخوري يوسف، وفي الوقت عينه كان يمارس العمل مع والده في خان تسدية الحرير ونسجه وصباغته وينظم الحسابات ويساعد والده في الانفاق على العائلة، فقد اجاب والده نقولا صديقه الخواجه فخر برسالة رشح فيها ابنه ليكون معلما لأولاده مستعرضا عمله معه في دمشق ومظهراً له قدرات ابنه العلمية وامانته وانتمائه الروحي، وقد وقع الترشيح موقع الاستحسان عند نقولا فخر ، وعلى هذا انتقل علمنا ديمتري (مزوداً بتوصيات شديدة من والده ليكون على مقدار ترشيحه) الى بيت الخواجا فخر في القسطنطينية معلماً ملازما لأولاده العربية وكل العلوم الأمر الذي ادى الى نجاحهم بامتياز، فطلب من ديمتري ان يعمل لديه ايضا في وكالته التجارية في اسطنبول محاسباً ومنظماً لحساباته ثم وبنتيجة نجاحه لديه اشركه معه في تجارته الشخصية، ولشدة حبه وتقديره له ولامانته سمح له ان يعقد صفقات تجارية خاصة باسمه. وكان قد كافأه مكافأة جزيلة تعويضا مجزياً عن خدماته له شاكراً حسن تربية والده له. وكان ديمتري يكتب لوالده دوما عن الحظوة التي نالها عند معلمه وتنامي محبته له، فيزيد الاب تواصيه لولده بالانتماء لمعلمه بمصداقية اكثر، ويدعو لابنه بالتوفيق ومحبة الناس له ورضاهم اكثر ليستمر الرزق بين يديه.

طالت تجارته الخاصة التي شملت كل مكان في المعمورة بدءاً من دمشق وبيروت وبقية مدن الشام الكبرى ومابين النهرين وآسيا الصغرى ومصر والاسكندرية ومدن القناة و الدار البيضاء وباريس ولندن وصوفيا واثينا وموسكو وبطرسبرج وكييف… واقام في كل موقع وكالة له ووكيلاً اميناً فخول والده ادارة تجارة دمشق والعائدات كلها خصصها لوالده من اجل الانفاق على العائلة وترميم البيت باستمرار وليعطي الخوري يوسف ومدرسة دمشق الآسية وليمنح كهنة دمشق الفقراء والعائلات المستورة المعونات في المناسبات الخاصة والاعياد، وخص الاديار بنصيب وافر من احساناته وخاصة البلمند، والمطارنة رفاق طفولته ودراسته كمطران اللاذقية المجاهد ملاتيوس الدوماني الدمشقي…الخ

فيما عيَّن في بيروت شقيقه الأصغر انطون مسيراً لتجارته ومن ثم شريكاً له، والتمويل اساساً من ديمتري، لكن انطون خذله ثلاث مرات بلا مبالاته واستهتاره، واوقع شقيقه تحت طائلة خسائر كبيرة جداً دفعت بديمتري بعد ان سامحه عدة مرات الى فض الشركة معه واسناد الوكالة التجارية عنه الى خاله الياس مصابني (الذي كان قد انتقل مع اللاجئين الدمشقيين من كارثة دمشق الطائفية 1860 الى بيروت) فاحسن خاله العمل واخلص في الحفاظ على وديعة ابن شقيقته ونماها، وقد كلفه الانفاق ببحبوحة على امه (شقيقها خاله الياس) وشقيقته مروش المقيمتين في بيروت بعد وفاة الاب نقولا ودفنه في دمشق واستقرار العائلة كلياً في بيتها في محلة الاشرفية ببيروت.
نتابع في بعض يسير من سيرته الفاضلة(10)ونقول في معرض بعض مآثره
ان تتبعنا سيرة هذا الفاضل وعلاقته بالمؤسسات الانطاكية بدءاً من ابرشية دمشق ومدارسها البطريركية وعلاقته وعلاقتها بالقديس يوسف الدمشقي، والاديرة البطريركية والابرشية. وتتبعنا مراسلاته الغزيرة جدا مع كل المطارنة والكهنة وحتى اصغر الافراد كنا نجد ان همه الاول محصور في اعلاء شأن الكرسي الانطاكي المقدس وقد خدمه باستماتة وبتجرد ومن جيبه الشخصي وبدون اي مقابل، مقارنة يخدمه احد من اعلام الكرسي المعروفين المعاصرين من البطاركة والمطارنة و… والعلمانيين بدون مقابل وبدون تطلع الى مجازاة او مرضاة، لابل كل يهرب من التكريم ويرفضه احيانا بصراحة. ونحن لم نأت على ذكر المآثر من نسج خيالنا بل من مراسلاته ومراسلات الرد عليه وهي في النصف الثاني من القرن 19 تشكل بين 30 و40 بالمائة من وثائق الابرشيات وخاصة دمشق وبيروت وكلها كشفناها ووثقناها في الاصدارات التي اصدرها مركز الدراسات والابحاث الانطاكية بجامعة البلمند اعتبارا من 1988 ولازلنا نعمل عليها انشاء وتأريخا وتوثيقاً وتجديداً وربطها مع الاحداث التاريخية كنسيا ووطنيا. واهم مافيها دوره المحوري في اعادة السدة البطريركية الانطاكية الى ابناء الوطن، ودوره العظيم الاهمية في ايفاد الاكليريكيين الى خالكي وروسيا والاشراف عليهم وعودتهم وقد صاروا من كبار اعلام انطاكية ومطارنتها ولاهوتييها، اضافة الى نبشنا من وثائقه سيرة معلمه الشهيد في الكهنة القديس يوسف الدمشقي والقديس روفائيل هواويني عندها ندرك مدى عظمة وخلود هذا القديس الدمشقي الانطاكي المنسي.

كان دوره محورياً في احقاق حقوق شهداء وضحايا الحلبيين الارثوذكس في مذبحة 1850، وفي الشأن ذاته في مذبحة 1860 لأبناء مدينته دمشق.
كان صاحب كلمة في البلاط العثماني من السلاطين الى رؤساء الحكومات الى وزراء العدلية والمذاهب والاديان والخارجية بفضل تقدماته المالية والعينية وكل ذلك لتسيير امور الكرسي الانطاكي، ونفوذه بالتالي لدى السفراء والدبلوماسيين المعتمدين في اسطنبول، مع نفوذ مماثل في البطريركية المسكونية القسطنطينية ورئاسة المعهد اللاهوتي العالي في خالكي وكان على مايبدو عضو شرف فيه، ولم يقتصر نفوذه على السلطات العثمانية والبطريركية المسكونية بل والى السلطات الروسية في بلاط القياصرة ولدى متروبوليت موسكو (11) ومطارنة الابرشيات ورؤساء الجامعات الروسية وعمداء المعاهد اللاهوتية الروسية العليا وفي كل منها كان يترك اثرا حميد الذكر باسمه وباسم الكرسي الانطاكي.
هذه العلاقات مكنته من معرفة كل مايدور حول الكرسي الانطاكي، وخصوصا لجهة تعيين البطاركة من اليونانيين من خارج الكرسي الانطاكي على السدة الانطاكية، ومكنته من ابطال اي اجراء يقضي بتسلم هذا المنصب الخطير لمن لايليق به، كما ساعده على توفير المنح الدراسية العلمية واللاهوتية في خالكي واثينا وبطرسبرج وموسكو لطلاب انطاكيين كان منهم على سبيل المثال لا الحصر كل من جراسيموس مسرة في خالكي وصار من اعظم اللاهوتيين الارثوذكس في انطاكية والعالم الارثوذكسي وروفائيل هواويني في قازان بروسيا الذي صار من قديسي الكنيسة الانطاكية والارثوذكسية الروسية والعالمية عامة وهو مؤسس ابرشية انطاكية في اميركا الشمالية وغريغوريوس جبارة مطران حماه المتقدس…
كان مسرة منذ حداثته الى مطرانيته يخاطبه في مكاتباته وتقاريره المطولة اليه مفتتحا اياها بعبارة “بعد التبرك بلثم يمينكم واستدرار دعاكم” وخاتما بتكرار لثم اليد وكأني بديمتري بطريركا او مطرانا…
كما اوفد ابن عمته جرجي مرقص الدمشقي الى روسيا من جيبه الخاص تنفيذا لطلب من ابيه نقولا نتيجة فقر بيت عمته وانفق على دراسة جرجي…، ثم آمّنَ له منحة دراسية من البلاط الروسي وقد درس المذكور في جامعة موسكو، وفي الوقت عينه سلمه وكالته التجارية هناك وفي كل روسيا ورتب له راتبا مجزياً من عمله لديه اضافة الى المنحة الجامعية. وقد تخرج المذكور بامتياز وتم تعيينه مدرسا اولاً في كلية الاستشراق ومعلماً للغة العربية، وانعم عليه قيصر روسيا بمساعي ديمتري بلقب عالم استشراق ومنحه الجنسية الروسية وبقي في موسكو متابعا لتجارة ديمتري…
كما رعى موفد المطران ملاتيوس باسيل جبارة الذي حاز الشهادة اللاهوتية وعاد مدرسا في المدرسة الارثوذكسية في اللاذقية

كان نعم الصديق الوفي لكل المطارنة وخاصة منهم رفاق دراسته عند الخوري يوسف كمطران اللاذقية المجاهد ملاتيوس الدوماني من 1864-1898 ( البطريرك لاحقاً من 1898-1906 وهو اول البطاركة الوطنيين من انشقاق الكاثوليك وسلبسترس القبرصي 1724…) والمعتمد البطريركي الانطاكي في الامطوش الروسي غفرئيل شاتيلا ثم مطران بيروت ولبنان من 1870- 1902…
لذلك لانعجب ان قرأنا في مراسلات المطارنة اليه وردوده عليهم كم كان مقامه عظيما لديهم فكانوا يستعطفون خاطره من اجل شؤون ابرشياتهم وطلب الدعم منه لدى السلطات والدعم المادي منه ومن اجل الاشراف على طلابهم الموفدين وتيسير معاملاتهم كما اسلفنا وسداد كل الرسوم المترتبة من جيبه الخاص.
وكان بيته نزلا لكل الطلبة المرسلين من مطارنتهم لفترات قد تكون طويلة وعلى نفقته ريثما يدبر لهم الموافقات الرسمية من السلطات سواء العثمانية او البطريركية المسكونية للانتساب الى كلية خالكي، او للسفر الى البلاد الروسية وتدبير امور دخولهم الى روسيا وانتسابهم الى جامعاتها ومعاهدها ويشرف على الطلاب منذ قبولهم في خالكي ويحضر فحص القبول وحفلات النجاح في كل سنة وحفلات التخرج بعد ثماني سنوات، وقد رافق جراسيموس مسرة (وهو اول الموفدين) عندما جرى تعيينه واعظا في كنائس القسطنطينية واستضافه في بيته واغدق عليه مساعدات مالية فضلا عما كان يرسله اليه مطران اللاذقية ملاتيوس الدوماني من مخصصات شهرية، وان تأخر وصولها يدفعها ديمتري من جيبه…
وقد اهداه الشماس جراسيموس مسرة حين تخرجه نسخة من اطروحة التخرج وكانت بالفرنسية، كما اهدى معلمه المطران ملاتيوس نسخة ثانيةمع عظاته التي القاها في كنائس القسطنطينية.
وكما كان جراسيموس مسرة وفيا للسيد ديمتري كما كان وفياً لمعلمه ملاتيوس وكان دائم التواصل مع ديمتري بعد وفاة البطريرك الانطاكي ايروثيوس ساعيا (وكان قد اصبح في دار البطريركية بدمشق) ومهيئاً لأن يكون معلمه هو البطريرك المقبل.
لكن ظروف معلمه وكارثة زلزال اللاذقية 1885 وقيام المطران ملاتيوس بلملمة جراح اللاذقيين المنكوبين واحتضات الالوف من فاقدي الاهل والبيوت وتقديم المعونات لهم دفعت بملاتيوس الى التضحية بهذا المنصب من اجل رعيته المبتلية بالكارثة والاعتذار عن ترك الابرشية ولو كان لمنصب البطريركية رغم احتجاج تلميذه جراسيموس وتفهم ديمتري الذي مد صديقه بمعونات طارئة للاغاثة، وقدحولها الى مطرانية اللاذقية باسم مطرانها عبر وكيله التجاري في اللاذقية، وان كان مؤيدا بالمطلق لجراسيموس في احتجاجه.

عودته الى الوطن
شعر علمنا الكبير ديمتري شحادة بعد اغتراب طويل بدأه منذ 1844 ان الوقت قد حان لانهاء اعماله التجارية في القسطنطينية وشبكات تعامله في كل مكان وصل اليه، وبدأ منذ عام 1889 بتصفية وانهاء كل شيء وابقى فقط على وكالة بيروت، وقد ضب كل مكتبته الضخمة من مخطوطات وكتب وصور فوتوغرافية وطوابع ثمينة وايقونات غالية الثمن جدا ومراسلات وكانت منظمة بدقة مع دفاتر الصادر عليها خلال عامين وارسلها الى دمشق واهداها جميعها الى الصرح البطريركي وقسم ايقوناته مناصفة بين “كنيسة وطنه” ويقصد المريمية على قوله والنصف الثاني الى دير سيدة حماطورا الذي كان وقتئذ يعود الى الحياة.
وقام بتوزيع تركته حال حياته قبيل عودته فوزع على اخوته وخاله الياس وبقية العائلة وخص فقراء العائلة الذين كان يرسل لهم معونات شهرية منهم من كان في دمشق ومنهم من صار في بيروت بيد خاله الياس فخصهم بجزء من هبته، وكما كان يعطي منحا في الاعياد والمناسبات ورواتب شهرية لكهنة دمشق الذين كانوا فقراء بسبب سياسة البطريركين ايروثيوس وجراسيموس منذ 1850 الى 1891 اعطاهم معونة من هبته ايضاً وجزءا كبيرا الى مدارس الآسية كما كان يفعل في بدء كل عام دراسي وخاصة بعد كارثة 1860 وتشهد على ذلك بعض الكراريس المتضمنة بيانات المدرسة في نهايات الاعوام الدراسية حيث كان يتم ادراجها باسمه في بيان اعمال المدرسة السنوية، والى فقراء الرعية بدمشق الذين ومنذ كارثة 1860 كان قد قد رتب لهم وخاصة ذوي الشهداء معونات وفيرة بيد ابيه نقولا وكانت بقوائم اسمية ومنهم الكثير من الطوائف الاخرى يرسلها ابوه له بعد كل توزيع للاطلاع.
خص اديار البلمند وحماطورا وصيدنايا ومعلولا والجمعيات الخيرية الدمشقية كنور الاحسان وجمعية القديس جاورجيوس لدفن الموتى وجمعية القديس يوحنا الدمشقي الثقافية وجمعيات بطريركية كانت تعمل في حقل الاستشفاء وتدير ماتسمى حظائر المرضى بالجذام والسل ، وابقى بجيبه بعضا مما جناه ليكفيه بقية عمره مع اخته مروش في معيشتهم ببيروت.

عاد الى بيروت في العام 1891 وزار صديقه مطرانها غفرئيل الشيخ الجليل الطيب والمجاهد فلقي منه كل حفاوة وتكريم، الذي دعاه ليقيم في المطرانية لكنه اعتذر ونزل في البيت الذي كانت اخته ديمتري تقيم فيه وبعد اقامة يسيرة في بيروت زار دمشق ولقي احتفالات حارة منقطعة النظير من عائلته حيث زارهم جميعا وكلهم قبلوا يديه وكلهم كان يتمنى عليه البقاء في دمشق معتبرينه من “ازاهير الغوطة في الربيع الدمشقي ” (حيث كان الوقت ربيعا”) فاتحين كلهم بيوتهم ” التي لاتليق بكبيرهم” لاستضافته، ومع ذلك كي لايثقل على احد حل في احد فنادق دمشق، واحتفى به كهنة دمشق وزاروه مع وفود من رعاياهم من فقراء واغنياء على السواء وكلهم تسابقوا لتقبيل يديه، وتسكت المصادر عن زيارته دار البطريركية والسبب خلوها من وجود البطريرك (اذ كان البطريرك جراسيموس قد استقال من منصبه كبطريرك لأنطاكية لأن المجمع الاورشليمي المقدس ورهبنة القبر المقدسة وهو من افرادها انتخبوه بطريركا على اورشليم، والسدة البطريركية الانطاكية بدمشق فارغة والنزاع على اشده بين رعية دمشق التي تطالب ببطريرك وطني وبين بعض المنتفعين الذين كانوا يتواطؤون سرا مع البطريركية المسكونية (واغلبهم من ذوات بيروت وبعض الدمشقيين الاغنياء النفعيين لتبقى السدة بيد اليونان من خارج الكرسي الانطاكي وكان جراسيموس مسرة يفند ادعاءهم بعدم اهلية الوطتيين للمنصب مبينا جهرا وبصوت عال اهلية معلمه ملاتيوس ومطران بيروت غفرئيل وديمتري شحادة بالذات) ووقتها اختير اسبيريدون مطران الطور من الرهبنة الاورشليمية بطريركاً وكان هذا غير مقبول من احد وبالذات من علمنا ديمتري ولكنه كان قد بدأ يبتعد عن صخب الحياة الاجتماعية والدينية محضرا نفسه للعيش راهبا بدون مسوح في دير حماطورة)
زار اديار صيدنايا ومعلولا وقدم للجميع احسانه مجددا، وزار بروتوكوليا والي دمشق ولقي منه حفاوة منقطعة النظير واستقبال لائق عملا برسائل التوصية من البلاط العثماني.
ثم عاد الى بيروت وكان خاله قد اخلى البيت المُستأجر الذي كانت تقيم فيه شقيقته مروش، واستأجر بيتاً اكبر واكثر لياقة بديمتري وامام زائريه، لكنه اي ديمتري كان بعيدا عن الابهة والتكبر، وانتقلت شقيقته مريم الى البيت الجديد، فيما هو زار دير البلمند ودير سيدة حماطورة وبقي فترة في الديرين متنقلاً ثم عاد الى بيروت وبقي فيها ردحا من الوقت، وتابع مع خاله شؤون العمل في الوكالة التجارية ليفاجىء الجميع بعزمه على الانتقال للاقامة في دير سيدة حماطورا رغم توسلات شقيقته وقبلاتها الاستعطافية ليمينه ليبقى بجانبها وتخدمه في شيخوخته الا انه اصر على موقفه ورغبته بصرف ماتبقى من عمره راهبا بسيطا انما بدون مسوح رهبانية بل بثياب مدنية بسيطة لاتليق بمكانته، وتخلى لخاله الياس عن الوكالة ونقلها الى اسمه وفق الاصول بشكل تام تقديرا لأتعابه معه وتعويضا له عن خدمته النقية له طيلة هذه المدة، وقد اشترط عليه على ان تبقى اخته التي لم يبق له سواها تعيش في هذا البيت الجديد يلياقة ماتبقى من حياتها مع راتب شهري وفير وماتحتاج اليه يعطيه لها خالها…وهو انتقل نهائيا الى دير سيدة حماطورا مصحوبا بدموع مدرارة من شقيقته مروش حيث لم يكترث للحياة بوجاهة تليق به في بيروت رغم تقدير الجميع له.

في تنسكه
تنقل بين ديري سيدة البلمند البطريركي وسيدة حماطورا وعاش فيهما حياة رهبانية، بدون مسوح، ولصفاته الغيرية فقد رحب صديقه مطران بيروت ولبنان غفرئيل شاتيلا ضيفا كريما في الدير وفي الوقت عينه رجاه الاشراف على مالية دير سيدة حماطورا الذي كان قد بدأ يعود الى حياته الرهبانية، وكان خاسراً بالرغم من اوقافه الكثيرة فدعمه واخرجه من الخسارة من الموجودات التي ابقاها في جيبه الخاص، واشرف على اراضيه الوقفية زراعة وحرفاً زراعية رهبانية وبشغل يديه، عادت على الدير بريعية منتظمة، وفي الوقت عينه كان ينتقل الى دير سيدة البلمند متابعاً له ولاراضيه الزراعية داعما له ماديا واشرافاً وخاصة بعدما اعتلى صديقه الدوماني عرش البطريركية واحدث مدرسة لاهوتية في دير سيدة البلمند1901 و اسند اليه امر المتابعة ممثلا شخصيا له علميا وماليا واشرافا على الدير وفعاليته ومعيشة رهبانه…
الاعتداء علي حماطورة
حدث مرة وكان في دير سيدة حماطورة عام 1904 وقد اضطر رئيس الدير الى النزول الى بيروت لأعمال تتعلق بالدير، وترك امر رئاسة الدير لعلمنا متابعا الرهبان الذين كانوا يوقرونه ويلثمون يده وكأنه رئيسهم، حدث ان تعرض الدير لهجوم عصابة كبيرة من اللصوص كالعادة بسبب بعده عن العمران وتفرده في القفر، فعاثوا في الدير فساداً وسجنوا الرهبان بغرفهم واغلقوا ابوابها من الخارج بعدما ضربوهم بشدة، وكانوا يبحثون عن مال الدير، واستجوبوا ديمتري فأنكر معرفته ان في الدير مالاً فقاموا بضربه بشدة حتى فقد الوعي، وتابعوا بحثهم عن المال،فوجدوا مابقي من ماله الخاص، فأخذوه وفي كل ظنهم انه مال الدير وغادروا…
وبعدما استفاق من غيبوبته بعد انصراف العصابة قام بفتح غرف الرهبان واطلقهم فخرجوا وبحث معهم عن مال الدير فوجده مخبئا فحمد الله، لكنه انتبه الى انهم اخذوا ماله الشخصي، فشكر شفيعة الدير السيدة الطاهرة بدموع وسجدات انها أخفت مال الدير عن عيونهم وكان سعيدا بأن ماله الخاص افتدى مال الدير…!كما تقول الوثيقة.
آخر الكلام
في آخر كلامنا عن هذا العلم الذي خشعت ولا ازال خاشعا في هيكل تقديسه بعشق القديسين للمسيحية والكنيسة الارثوذكسية عامة ولكرسينا الانطاكي ودمشق خصوصا وقد عشت معه من خلال وثائقه التي تبدأ من عام 1844 الى 1992 مع متفرقات بعدها لانه انقطع عن الكتابة والمراسلة عدا عن انه كان كما اسلفنا قد وهب كل مراسلاته الى الصرح البطريركي بدمشق وهي المدة التي قضاها مغتربا في القسطنينية وفيها حساباته وتجاراته واوراقه الخاصة اضافة الى كنتبه القيمة ومخطوطاته وسجلاته COPIE، وبعدها نعرف انه ترك مباهج الحياة وعاش ناسكا متقشفا كالابرار لنصل في وثيقة متفرقة الى تصفية تركته وكان قد انتقل الى الرب يسوع الذي وهب كل حياته له تعود الى عام 1910 وكانت اللجنة التي قامت بتصفية تركته مكونة من اكليريكيين وبرئاسة صديقه مطران طرابلس الكسندروس طحان … وكانت الكنيسة هي زوجته واولاده وعائلته الوثيقة وكان زمان عيشي معه منذ 1987 الى الآن 2023 اي 36 سنة ولازلت متهيبا من ترجمته لأني في كل يوم اكتشف جديداً من مآثره، واذكر لما شرفني غبطة ابينا البطريرك يوحنا العاشر في عام 2014 في المقر البطريركي بضمي الى لجنة القداسة والقديسين البطريركية واعلمنا بالمهمة ان رشحت للجنة علمنا السيد ديمتري مطرحا للقداسة…، وتمت دراسة اولية عنه في اجتماعات اللجنة التي اثمرت باعتماد قداسة الشهيدين الابوين خشة الدمشقيين المعلنة في 19 تشرين الاول 2023 بقرار المجمع الانطاكي المقدس في البلمند.

واذكر ان المرحوم الارشمندريت بندلايمون فرح رئيس دير سيدة حماطورا كان قد زارني في مكتبة البطريركية في اواخر القرن 20 باحثا عن تراث المذكور بعدما قمت بتكشف بعض وثائقه وتم ادراجها في كتاب محفوظات ابرشية دمشق وفي ذكري عنه بكتابي عن الاسية وفي مقالي عن القديس يوسف الدمشقي 1992 في النشرة البطريركية وفي كتاب الاسية المذكور لدوره المحوري في نهضتها على القديس يوسف، وكان قد تعب باحثا في ديره عن قبر هذا العلم وهو رئيس الدير فلم يجده واغلب الظن بقناعتنا
انه اي ديمتري ان طلب من اخوة الدير ان يُدفن كبقية الرهبان دون الاشارة الى قبره…
عظيم جدا هذا الانسان الذي شاهدته في وثائقه فقط ولا ازال اكتشف وثائقه متناثرة في كل وثائق الابرشيات من خلال كتابات مطارنتها له متبرعا لهم وناصحاً وداعما ومقوما للاعوجاج… وكدت أن اطير فرحا لما عثرت في البوم صور /اعتقد انه من تقدماته للبطريركية/ عن صورته المدرجة كصورة رئيسية هنا في تدوينتي وهو شيخ موقر مع صورة رسمية بالسيف في رجولته فصرت اُقبلهما وانا ابكي حقا من شدة فرحي واترحم عليه وقد اكتملت معرفتي به بمشاهدتي طلته النورانية…
ارجو شفاعتك لي مع عائلتي ايها القديس بكل مافي الكلمة من معنى حتى بدون اعلان قداسة، والا لما كان الحلبيون الغيورون في ارثوذكسيتهم لدرجة التهور اختاروه وهو علماني مطرانا عليهم، ولما كان كبير لاهوتيي الكرسي الانطاكي المقدس في القرنين 19 و20 جراسيموس مسرة قد اختاره ورشحه بطريركا على انطاكية عام 1885 مجابها كل من وقف معارضا…
سجاياه
وصفه مطران بيروت ولبنان غفرئيل شاتيلا الدمشقي بقزله:” إن غيرته تتدفق كتدفق نهر الذهب (ويقصد به نهر بردى يروي دمشق وغوطتها) فغيرته تروى كل ابناء الكرسي الانطاكي خيرا وانتماء وعطاءً.”
بهذا الوصف وهو قبس من نور اظهره جميع عارفيه وخاصة كهنة دمشق وفقراؤها ومنكوبو حلب ودمشق ومنكوبو الزلزال في اللاذقية 1885 وكل من استجار به ماديا ومعنوياً…
فليس ما كتبته كما قلت نتيجة لحبي لهذا العملاق الانطاكي لكن والحق يقال هو انطاكي دمشقي قديس غير معلن صافي العشق لأنطاكية كرسيا وكنيسة وشعبا لاهوتي متميز، مؤرخ، جدلي في الدفاع عن الارثوذكسية، خيراً معطاء بدون حساب وكان الله يعوضه دوماً، مساهم مع معلمه يوسف الدمشقي في بعث النهضة الانطاكية، ومساهما رئيساً في عودة الكرسي الانطاكي الى البطاركة الوطنيين، مناضلا في سبيل التحرر عن العثمانيين فهو واحد من المتنورين الشوام الداعين الى بعث العروبة وقوميتها، ويزيد عليهم انه كان في قلب الخطر باقامته في القسطنطينية، متواضعاً ممارسا صلواته واصوامه في كنائس القسطنطينية وخالكي بدون خوف من العثمانيين متفاخرا بهذا الانتماء مصليا امام ايقونتي السيد والسيدة في بيته مع القنديل والبخور كما كان في طفولته مع جديه، مؤرخ انطاكي كما كان جده الخوري المؤرخ الدمشقي العظيم ميخائيل بريك، متابعا طلاب الكرسي في خالكي حتى في حضور امتحاناتهم متنقلا على الدوام الى هذه الجزيرة فاعلا لأجلهم مالا يفعله الآباء تجاه دراسة وحياة اولادهم، كان طيب القلب متسامحا معهم في تقصير بعضهم بعد الزجر المطلوب والتقويم، متقنا العربية والعثمانية واليونانية والفرنسية باجادة مع معرفة بالانكليزية والفارسية والايطالية رجل اعمال ناجح ملأت تجارته كل الحواضر العالمية، دمث الاخلاق ومتواضع جداً ولكنه كان يتمتع بالحزم في مواجهة الاخطاء بحقه من يسيء اليه، صلبا في عمله تجاه من لايبالي بهذا العمل كشقيقه انطون وابن عمته جرجي مرقص وقد اوقعاه في خسائر جمةنتيجة لعدم تمتعهما بمؤهلاته ودقته وبعد نظره وقد سامحهما كثيرا قبلا ثم عاد وسامحهما مجددا، بالمقابل استعطفاه كما يفعل الولد امام ابيه، وفي النهاية نراه متسامحا بكل شيء وجاد بكل شيء لأجل حبه اللامحدود…
كل هذه الصفات تعلمها من ربنا السيد له المجد فبحق بتوجب وصفه بالمسيحي… واخيرا زاهداً ناسكاً على غرار كبار النساك…
كل الذين تاجر معهم كانوا يخاطبونه بمهابة والتعظيم ومعظمهم استخدم معه ( ومن خلال رسائلهم اليه) لقب قبلة اليد لم يبق من لم يستخدمها الا ابيه نقولا والمطارنة حتى بعض عملائه التجاريين ومن كل الاديان والمذاهب والجنسيات… و تشهد ترويسة رسائلهم اليه ” كريم الشيم الماجد الغيور والفاضل السيد ديمتري نقولا شحادة الدمشقي لاعدمنا وجودكم ودامت حياتكم…” بعد التبرك بقبلة يمينكم ، او بعد طلب بركتكم ورضاكم…”
كان علمنا في عمله شديد التنظيم فكل شيء موثق وبدقة، وكان في وقت لم تكن ثمة امانة سر لحفظ الوثائق كان حافظا لوثائق ومراسلات الغير معه بطريقة مبتكرة متبعا اسلوب الموضوع والتسلسل التاريخي ومكان الارسال… والخلاصة كان سابقا لعصره في فن التوثيق…
في النهاية (كما اوردت في اكثر من موضع) لم يتزوج السيد ديمتري كما كانت امه تناشده دوما وترشح له الكثير من بنات العائلة والرعية واصفة اياهن الوصف الشعبي الدمشقي ” بنات معيشة” ولم يستجب لرجاء ابيه ايضا بالزواج…ونراه عاش متبتلا في حين ان استانبول التي كانت تعج بأماكن التسلية وملأى بجيش من الجواري والغانيات لم تبعده عن فضيلته وكان بيته اشبه بكنيسة صغيرة ممتلئة بأيقوناته النادرة التي اهداها مناصفة الى امه الروحية مريمية الشام، و النصف الباقي الى دير نهايته دير سيدة حماطورة…
الرحمة لروحك الطاهرة… ايها السيد انت عشقي في المسيح ماحييت…
ليكن ذكرك مؤبدا عند الله ايها المجاهد الارثوذكسي الانطاكي والدمشقي العظيم في ابراره وهو مؤبد عن السيد له المجد.
حواشي البحث
1- كانت الحرفة بين المسيحيين عائلية… وبقي من رواسبها حرفة صياغة الذهب وتركيب المجوهرات وهذا نجده كان سائداً ومازال بعضه في حلب وحمص وحماه وبيروت وطرابلس والقدس والقاهرة ايضاً…
2- شهادة شفهية من والدي الحرفي الفنان المعلم جورج زيتون الدمشقي وجدي الحرفي فارس زيتون الدمشقي وكلاهما من الفنانين المبدعين في حفر الخشب مع عمي الفنان نقولا( انظر السيرة في موقعنا هنا باب اعلام ارثوذكسيون) وبحثنا عن الحرف الدمشقية المسيحية في موقعنا هنا…
3- كان فتح المدارس محظوراً على المسيحيين في العالم الاسلامي بما في ذلك زمن الاحتلال العثماني غفط كان التدريس مسموحاً به للمسيحيين في كتاتيب تقام في دور البطريركيات والمطرانيات والكنائس، وقد تغير الحال مع الحملة المصرية على بلاد الشام 1831-1840 التي قام بها حاكم مصر محمد علي باشا وقادها ابنه ابراهيم باشا للتحرر من الدولة العثمانية، وقد اشاعت هذه الحملة مناخ الحرية للمسيحيين والسماح لهم بعمار كنائس جديدة حيث كان محظورا عليهم ذلك، وترميم كنائسهم المهدمة وفتح المدارس، لذلك نجد ان الخوري يوسف مهنا الحداد ( القديس الشهيد في الكهنة يوسف الدمشقي بادر الى اعادة احداث مدارس الآسية الارثوذكسية الدمشقية (المؤسسة بيد البطريرك افتيموس كرمة عام 1635 كأقدم مدارس بلاد الشام على الاطلاق) على التتابع عامي 1836 و1840 حيث اخرج كتّاب الاسية من حرم كنيسة مريم واقامها مدرسة نظامية على الطراز الاوربي في بناء مستقل وكان عبارة عن بيت وقفي للبطريركية الارثوذكسية الانطاكية بدمشق. وافتتح فيها كليتين جامعيتين عام 1851 هما كلية اللاهوت، وكلية الموسيقى الرومية، وكانت المدرسة لكل المراحل من الطفولة الى مايماثل الثانوية في عهدنا، وكان يُدرس فيها مواد لسبعة فروع جامعية كالطب والصيدلة والحقوق والمحاسبة واللغة العربيةوالعثمانية والفرنسية واليونانية والايطالية… وكان القديس يوسف يحاول بالتنسيق مع تلميذه النجيب ديمتري شحادة في اسطنبول لمتابعة فتح الكليات وجعلها مماثلة لجامعات بطرسبرج وموسكو واثينا وخالكي ولولا الحدث المدمر 1860 واستشهاده وكادر المدرسة ودمارها لكان تحقق حلم الاثنين ولكانت اقد جامعة في بلاد الشام واسبق بعقدين من الجامعة اليسوعية والاميركية ببيروت، وكان ديمتري يعد العدة لتزويدها بمطبعة حجرية كانت الاشهر…
4-عاش في القرن 18 وارخ للكرسي الانطاكي سير البطاركة الانطاكيين وكتب حوليات عن تاريخ دمشق في ذاك القرن وتعتبر تآريخه مرجعا اساسيا للباحثين في تاريخ الكرسي الانطاكي المقدس ولدمشق ولسورية كلها وقد اتصفت بالواقعية والنزاهة والتجرد وخاصة لجهة انشقاق الروم الكاثوليك.
5- آل المصابني من كبار وكرام العائلات الدمشقية الارثوذكسية المتمسكة بايمانها وكنيستها ولاتزال في دمشق مع انتشار كبير في الاغتراب، واقترنت كنيتها بمهنتها اذ كانت تعمل بصناعة الصابون في مصبنتها الكائنة في محلة آياماريا وتقطن في نفس المحلة، وكانت تستجر زيت الزيتون اللازم لصناعة الصابون من الغوطة حيث تنتشر كروم الزيتون بكثافة.
6- له مخطوط “كيفية ظهور الكثلكة”، ومخطوط ” المصاعد العقلية” هذا صار بملكية ابن شقيقه ديمتري واهداه مع بقية مخطوطاته وكتبه ومحفوظاته من رسائل ووثائق الى مكتبة دار البطريركية بدمشق حال عودته من مغتربه.
7- ساحة الدوامنة تقع مابين سوق آيا ماريا ونزلة سفل التلة الكائنة بجوار كنيسة القديس يوحنا الدمشقي الارثوذكسية ومدارس الآسية وقد سكنها الناجون من مجزرة 1860 من سكان دوما المسيحيين وتقع في آخر الشمال الشرقي من غوطة دمشق الشرقية بعد انتهاء المذبحة وتسمت بهم وهي عبارة عن ساحة صغيرة، ونشير الى انتهاء الوجود المسيحي في غوطة دمشق عبر بلدات دوما وزملكا وبقاء قلة في عربين وحرستا، ونشير الى ان الكثير من السكان المسيحيين في هذه البلدات اعتنقوا الاسلام للنجاة من الابادة المنظمة التي تعرضوا لها في مجزرة 1860 كما حصل لسكان وادي بردى والزبداني وسرغايا في الغوطة الغربية حيث افرغت من الوجود المسيحي عدا قلة في الزبداني وانتقل اليها والى بلودان من بقي حياً من اللاجئين المسيحيين في مجزرتي 1850 و1860.
8- اختير المعلم يوسف باجماع الرعية كاهنا 1820، وخدم الرعية كاهنا باسم الخوري يوسف مهنا الحداد و كان معلما للرعية الدمشقية في كتاب بيته والكنيسة والمدرسة الارثوذكسية البطريركية الكبرى (الآسية) حتى استشهاده في 10 تموز غ 1860 وقد اعلن المجمع الانطاكي المقدس قداسته في دور المجمع المقدس الموسع في البلمند برئاسة البطريرك اغناطيوس الرابع العام 1993.
9- آل فخر عائلة دمشقية طرابلسية مشتركة وهي من كرام العائلات الارثوذكسية الغيورة على كنيستها، وقد اندثرت من دمشق حالياً.
10- نحن في صدد طباعة كتاب عن علمنا هذا لذا نكتفي هنا بلمحة معجمية عنه في تدوينتنا تاركين الاستفاضة لمشروع الكتاب.
11- كان منصب البطريرك الروسي معطلاً منذ 1700 بقرار القيصر الروسي بطرس الاكبر وتولى ادارة شؤون الكنيسة الروسية الكبيرة المجمع الروسي المقدس ومتروبوليت موسكو فهو كان الاول ويخاطب السلطات الرسمية.