الأيادي البيضاء للقديس رفائيل، التلميذ الخاص للمطران أثناسيوس، على حمص وسائر سورية
دراسة وكهنوت روفائيل هواويني
تمّ في عام 1879 إيفاد الراهب رفائيل للدراسة في خالكي قرب اسطنبول من البطريرك الأنطاكي إيروثيوس، وبتكليف من خليفته البطريرك جراسيموس تمّت رسامة رفائيل شماساً في كنيسة الدير في خالكي بتاريخ 8 كانون الاول 1885. وإبّان تخرجه وعودته إلى دمشق، لازم الشماس رفائيل البطريرك الأنطاكي جراسيموس، الذي قرّبه إليه واعتمد عليه في إلقاء المواعظ خلال الجولات الرعائية للبطريرك في أنحاء الكرسي الأنطاكي في الأعوام 1886 – 1888.
كانت لدى الشماس الشاب رغبة كبيرة في تعلم اللغة الروسية والدراسة بجامعة كييف اللاهوتية، وقام البطريرك بمراسلتها فجاء الردّ بالقبول. وافق البطريرك جراسيموس على مضض، لكن لعام واحد فقط، وقد قطع الشماس وعداً بذلك. غير أنه قبل أن تنتهي مهلة السنة، استجدّت أمور فقرّر البطريرك إبقاء رفائيل لمدّة أطول في روسيا، ذلك أن رئيس الأمطوش الأنطاكي في موسكو آنذاك بدا غير مرغوب فيه، فطُلب من البطريرك تعيين آخر لهذا المنصب.
عندئذ أرسل البطريرك جراسيموس رسالة إلى كل من رفائيل والسلطات الكنسية في روسيا مخبراً قراره بتعيينه للمنصب، طالباً من مطران موسكو أن يرسم الشماس كاهناً (قام بالرسامة في 16 حزيران يونيو 1889 مدير أكاديمية كييف الأسقف سلفستروس في كنيسة الجامعة) وأن تتم ترقيته إلى رتبة أرشمندريت، وهذا ما حصل بالفعل في 28 تموز يوليو 1889، على يد مطران موسكو يوانيكيوس.
الجمعية الامبراطورية الفلسطينية الروسية
كانت الجمعية الفلسطينية الأرثوذكسية قد تأسست في بطرسبرغ عام 1882، من قبل الدوق الأكبر سرجيوس شقيق القيصر ألكسندر الثالث (1881- 1894)، بعد زيارته إلى فلسطين عام 1881. والهدف الأساس منها هو دعم الأرثوذكسية في الأرض المقدسة. وكانت برئاسة الأمير سرجيوس، أما أعضاء مجلس إدارتها فسياسيون ومثقفون روس بارزون: وزراء وأكاديميون وكبار رجال الدين.
حظيت الجمعية بدعم مباشر من البلاط الإمبراطوري الروسي والكنيسة الروسية، ومع ذلك لم تكن لتستطيع إحراز أي تقدم يستحق الذكر من دون تعاونٍ وثيق مع بطريرك أورشليم. ولم يكن البطريرك نيقوديموس متعاوناً، بل واصطدم مع العرب ومع أخوية القبر المقدس نفسها على حد سواء، فأجبر على الاستقالة عام 1890. وبدعم روسي خفي، انتخبت أخويةُ القبر المقدس البطريرك الأنطاكي جراسيموس، المعروف باعتداله، بطريركاً لأورشليم في 27 شباط 1891. فاستعفى من البطريركية الأنطاكية في 28 آذار 1891 وغادر إلى مركز بطريركيته الجديد في الأرض المقدسة، بعد أن أخبر أحبار الكرسي عبر البريد عن استعفائه.
في 1 نيسان 1891، كتب المطران أثناسيوس في يومياته: “حضر حبيب سركيس وقدم لي رسالتين. إحداهما من غبطته، توصية لي وللمسيحيين بانتخابه إلى أورشليم، والأخرى من المطران سيرافيم عن تعيينه قائمقاماً للبطريركية الأنطاكية في 30 اذار بحضور الكهنة هناك وذوات الشام، وأن غبطته قدم استعفاءه للهيئة الموما إليها في 28 آذار وتعين معاوناً له المطران أغابيوس ولجنة موافقة من كهنة وعلمانيين”.
قد كتب المطران أثناسيوس أيضاً:
“استلمت رسالة من الأب رفائيل من موسخا (موسكو) يقول أنه توفق بإدخال تلميذين آخرين إلى مدرسة أوديسا فصار حتى الآن يتلمذ في روسيا عشرة تلاميذ حفظه الله. وأبان أنه بتبديل غبطته للقدس يجب اتحاد المطارنة الوطنيين أن ينتخبوا وطنياً لرفع العار عن أبناء العرب وستصير مساعدة من مسيحيي روسيا إذا طلبها”.
كان مطران هليوبوليس (بعلبك) نيوفيطوس حلبي قد وصل إلى موسكو مبعوثاً للبطريركية الأنطاكية، في عام 1842، حاملاً رسالة من بطريرك أنطاكية تصف الوضع المالي الصعب والمشاكل الجسيمة الأخرى، لا سيما الافتقار المحزن إلى المدارس والجمعيات الخيرية. فاقترح مطران موسكو فيلاريت (+1867) على المجمع المقدس للكنيسة الروسية التبرع بكنيسة بالقرب من الكرملين للبطريركية الأنطاكية(1)، من أجل تعزيز الأرثوذكسية في سوريا ولبنان. وقد تم قبول اقتراح مطران موسكو من قبل المجمع المقدس الروسي والقيصر في عام 1848، فتأسس بذلك الأمطوش الأنطاكي في موسكو.
عندما استلم الأب رفائيل رئاسة الأمطوش الأنطاكي هذا، في تموز 1889، كان الأمطوش غارقاً في الديون التي تراكمت عليه خلال رئاسة سلفه. وبحسن تدبيره ونظافة يده، تمكن الأب رفائيل من إيفاء القسم الأعظم من هذا الدين، وأخذ يساعد العشرات من نوابغ التلاميذ السوريين واللبنانيين في تأمين قبولهم في الجامعات الروسية المختلفة، متعهداً بتأمين كامل نفقات إقامتهم هناك ومصاريف دراستهم حتى التخرج والعودة إلى الوطن، ليفيدوا بعلومهم المدارس المنشأة حديثاً، وتلك التي كانت قيد الإنشاء، في مطرانيات حمص وطرابلس وبيروت، بدعم مباشر من المؤمنين الروس، عن طريق الأمطوش الأنطاكي في موسكو.
وبهذا الدعم المالي الروسي، بتدبير الأرشمندريت رفائيل ورعايته، تمكن مطارنة تلك الأبرشيات: اللبنانيان أثناسيوس عطالله مطران حمص (1886- 1923) وغريغوريوس حداد مطران طرابلس (1890 – 1906) ومعلمهما الدمشقي غفرائيل شاتيلا مطران بيروت (1870 – 1900)، من افتتاح العديد من المدارس التي كان يدرس فيها مئات التلاميذ، دون أية مساعدة تُذكر من الجمعية الفلسطينية الأرثوذكسية، التي كانت قد تأسست في عام 1882 من قبل الدوق الأكبر سرجيوس، شقيق القيصر ألكسندر الثالث (1881- 1894) وعمّ القيصر نيقولاوس (1894 – 1917)، بغرض دعم الأرثوذكسية في الأرض المقدسة.
من الجدير بالذكر أن رئيس الجمعية نفسه، الدوق الأكبر سرجيوس، كان يعارض توسيع أنشطة الجمعية في سورية ولبنان، بناءً على مذكرة صادرة عن الجمعية للأعوام 1888-1890. مع ذلك، عند قراءة يوميات مطران حمص أثناسيوس خلال الأعوام ( 1888-1891)، يلاحظ القارئ حقيقة أن بطريرك أنطاكية جراسيموس نفسه (1885-1891) كان مستعداً تماماً لفتح باب كنيسته بمصراعيه إلى روسيا والجمعية الفلسطينية الأرثوذكسية، لكن الروس والجمعية لم يظهروا آنذاك أي اهتمام بسورية ولبنان، وقصروا عملهم على الأرض المقدسة.
كانت للأرشمندريت رفائيل، بحكم منصبه كرئيس للأمطوش الأنطاكي في موسكو، بل وبسبب شخصيته الفريدة وثقافته الواسعة وأخلاقه الدمثة، اتصالاتٌ واسعة مع مسؤولي البلاط والكنيسة في روسيا. وقد بدأ معهم مباحثات لجعل الجمعية الفلسطينية الأرثوذكسية تمدّ نشاطاتها إلى لبنان وسورية أيضاً، لا الإكتفاء بفلسطين. لكن الردّ كان دوماً أن في هذا خروجاً عن المبدأ الذي قامت عليه الجمعية، وهو دعم الأرثوذكسية في الأرض المقدسة حصراً.
فتح المدارس في بلاد الشام
وبعد عامين ونيف من المباحثات الصعبة، تمكّن رفائيل من إقناع كبار الموظفين في الدولة والكنيسة الروسية على تغيير رأيهم وتعديل خطتهم، وضرورة ضمَ حمص من أبرشيات الكنيسة الأنطاكية إلى نطاق عمل جمعيتهم الناشطة، خاصة في مجال التعليم. أصبح رفائيل نفسه عضواً فخرياً في الجمعية الفلسطينية الأرثوذكسية، وفي عام 1893 تم تعيين بيلاجيف، الذي كان عضواً في لجنتها المركزية ونائب رئيسها، كأول قنصل لدولة روسيا في دمشق، بمثابة خطوة أولى للمضي قدماً في النشاطات الكثيفة المقبلة للجمعية في سورية. ما سيُحدث ثورة علمية غير مسبوقة في حمص، امتدت بعد نجاحها العظيم فيها إلى شتّى الأبرشيات الأنطاكية في سورية ولبنان، بعد أن كان نشاط الجمعية لسنوات محصوراً في فلسطين والبطريركية الأورشليمية.
في عام 1893، كان الجمعية 14 مدرسة في فلسطين مقابل 3 مدارس في بيروت. في عام 1894، تولّت الجمعية مسؤولية 11 مدرسة في حمص. في عام 1895، إلى جانب مسؤولية 20 مدرسة في دمشق نفسها، أسست الجمعية 13 مدرسة جديدة في مناطق مختلفة من سورية ولبنان، بينما أنشأت في العام التالي 13 مدرسة أخرى في سورية ولبنان، مقابل 3 مدارس فقط في الأرض المقدسة.
عهد البطريرك ملاتيوس الدوماني
بحلول عام 1899، كانت قد نجحت في إنشاء 65 مدرسة في فلسطين وسورية ولبنان، مع 7690 تلميذاً. من بين هذه المدارس، كانت هناك 30 مدرسة في بيروت وجنوب سورية (مع 3668 تلميذاً) و 12 في شمال سورية (مع 2948 تلميذاً)، مقابل 23 فقط في فلسطين (مع 1074 تلميذاً وتلميذة فقط). في عام 1900، في عهد بطريرك أنطاكية ملاتيوس (1899- 1906)، في سورية وحدها كانت هناك 68 مدرسة للجمعية الفلسطينية الأرثوذكسية (مع 9998 تلميذاً وتلميذة). وفي عام 1904، صارت للجمعية في فلسطين وسورية 87 مدرسة تضم 10225 تلميذاً وتلميذة.
مصلحاً كبيراً
كان بطريرك أنطاكية الدمشقي ملاتيوس يعمل بجدّ من أجل نهضة جميع أبرشيات البطريركية، خاصة لتثقيف رجال الإكليروس في الكنيسة، بالاعتماد المباشر على الدعم المالي والمعنوي من الروس والجمعية الفلسطينية. بدءاً من المدرسة الإكليريكية الشهيرة في دير البلمند، التي أعاد فتحها في عام 1900 بإدارة مطران طرابلس غريغوريوس، قام بتسليم مسؤولية معظم المدارس الأرثوذكسية في لبنان وسورية إلى الجمعية، وكان البطريرك نفسه عضواً فخرياً فيها وكذلك مطران حمص أثناسيوس ومطران طرابلس غريغوريوس. كما كان بيلاجيف نفسه في لجنتها المركزية بل ونائب رئيسها، وهو في آنٍ معاً القنصل الروسي في دمشق، مقر البطريركية، بل ومسقط رأس كل من البطريرك ومطران لبنان غفرائيل وخلفه المطران بولس ومطران حلب استفانوس (وكلاهما من تلامذة المطران أثناسيوس).
مع انتخاب مطران طرابلس غريغوريوس حداد بطريركاً (1906)، وهو نفسه عضو فخري في الجمعية الفلسطينية الأرثوذكسية لسنوات خلت، كان من الطبيعي أن تتعزّز أنشطة الجمعية في لبنان وسورية أكثر مما في الأراضي المقدسة. فبلغ عدد مدارس الجمعية 77 في سورية ولبنان، مقابل 25 فقط في فلسطين. وبإلإضافة إلى المدارس (مجموعها 102 في العام ١٩١٣)، التي كانت تقدّم التعليم مجاناً لجميع الطلاب والطالبات، كانت الجمعية تشرف على مستشفيات ومستوصفات في القدس، وبيت جالا، وبيت لحم، والناصرة، بل وفي ودمشق، وحمص، لتقديم الطبابة مجاناً لكل أبناء الكنيسة الأرثوذكسية وسائر المسيحيين.
ختاما
لا نبالغ إن قلنا إنه لولا القديس رفائيل ووجوده في روسيا مع علاقاته الدبلوماسية الرفيعة هناك على أعلى المستويات، في الكنيسة والبلاط نفسه على حدّ سواء، لما تحقق ولو نذرٌ يسير من هذا الإنجاز الهائل، ولما تأسست كل تلك المدارس، ولما حصلت كل تلك النهضة العلمية في شتى أنحاء سورية ولبنان.
(صفحة Metropolite Athanasios مشكورة)
الحواشي
1- تأسيس الامطوش الانطاكي في موسكو
Beta feature
اترك تعليقاً