مقبرة الجيش القيصري الروسي في حمص القديمة.. نفحة من الذاكرة الروسية السورية…
مقبرة الجيش القيصري الروسي في حمص القديمة.. نفحة من الذاكرة الروسية السورية…
هذه المقبرة أبلغ تعبير عن حال الكولونيل أركاني بتروفيتش والضابط نيقولاي نوفكوفسكي وغيرهم الكثير من ضباط الجيش القيصري الروسي الذين يرقدون بمقبرة (ماراليان) في قلب مدينة حمص القديمة.
في بداية القرن العشرين، هاجر نوفكوفسكي القائد في سلاح البحرية وبتروفيتش ضابط سلاح الفرسان، مع عدد كبير من ضباط وجنود الجيش القيصري الروسي إلى سورية، سكن عدد منهم مدينة حمص، عاشوا فيها، تزوجوا من أهلها، تركوا أولادا وأحفادا لا يزالون يسكنونها حتى الآن، وفي نهاية المطاف.. دفنوا فيها.
قد لا يعرف أي من ذوي ضباط الجيش الإمبراطوري الروسي ممن غادروهم، كيف عاش هؤلاء في سوريا، ولا كيف وصلوا إليها، ولعلهم لا يعرفون أن لهم أقارب كثر في حمص، إلا أن تراب هذه المدينة التي تتوسط سوريا، بات يحتفظ، في جوفه، بجثامين هؤلاء الذين تحولوا إلى تاريخ مدمج للشعبين السوري والروسي يطاول قرنا من الزمن.
سكان حمص يشعرون بالفخر لاحتضان مدافن مدينتهم تلك الجثامين، كما يؤكد الباحث التاريخي السوري المعروف نهاد سمعان، مضيفا في حديث لـ”سبوتنيك”: “نفتخر بمقبرة ماراليان بأنها تحتضن جثامين الضباط الروس الذين أتوا إلى حمص ووجدوا فيها مكانا آمنا وجميلا رافقهم في حياتهم واحتضنهم في مماتهم، وجدوا شعبا وفيا لهم ولبلادهم روسيا القيصرية التي قدمت لمدينة حمص بشكل خاص، من ضمن الكثير الذي قدمته عبر أنشطتها الحضارية في سورية وفلسطين ولبنان من خلال الجمعية الإمبراطورية الروسية الفلسطينية.
مقبرة (ماراليان) في قلب مدينة حمص القديمة بسوريا
الباحث التاريخي سمعان أوضح أن “تواجد الضباط والجنود الروس في سوريا، يعود إلى مطلع القرن العشرين، وأن أغلبهم كانوا ضباطا في الجيش الإمبراطوري الروسي أتوا إلينا بعد قيام الثورة البلشفية، وعاشوا في كنف هذه المدينة وأكملوا حياتهم فوق أرضها، منهم من تزوج هنا ولا يزال أبناؤه وأحفاده يعيشون فيها، وبعد وفاتهم دفنوا في ترابها وأصبحوا جزءا من ذاكرتها”.
وحول اعتماد كنيسة (ماراليان الحمصي) لدفن الضباط الروسي، أوضح سمعان: “قبل العام 1870، لم يكن مسموحاً للمسحيين بممارسة طقوسهم وشعائرهم الدينية وجنائزهم بشكل علني نهاراً، وبالتالي فقد كان دفن موتاهم في النهار يتعارض مع قوانين السلطنة العثمانية، ما يضطرهم لدفنهم ليلا.. ولأن أبواب المدينة تكون موصده ليلا، فقد كانت تتم عمليات دفن المسيحيين داخل أسوار المدينة”.
والقديس اليان شفيع حمص هو الطبيب الحمصي الشافي و يزوره الناس من كل الطوائف لاعتقادهم بإمكانية الشفاء عند زيارته كونه من القديسين الأوائل.
وكان القديس إليان ضابطا في الجيش الروماني وطبيبا، ولد لأسرة ثرية في القرن الثالث ميلادي، إلا أن المؤسسة الرومانية اعتقلته وسجنته في سجن هو مغارة على أطراف حمص، ومن ثم أعدمته لرفضه الارتداد عن المسيحية، قبل أن يتم نقل جثمانه إلى داخل المدينة بعد زوال الاضطهاد، ووري ضمن كنيسة صغيرة شيدت حينها، ويعد القديس اليان أحد المبجلين في الكنيسة الجامعة قبل الانشقاق الكبير في الكنيسة بين الشرق والغرب.
سورية الملاذ الآمن
لم يكن اختيار ضباط الجيش القيصري الروسي لسورية ملاذا آمنا من قبيل الصدفة، فقد كان لروسيا العظمى قبل ذلك علاقة وطيدة ودور تاريخي في قيام النهضة الحضارية في منطقة سورية كلها في سياق مهمة حماية طريق الحج الى القدس الذي كانت لروسيا الريادة في هذا العمل النبيل.
مدارس الجمعية الامبراطورية الفلسطينية- الروسية الارثوذكسية
ولما كانت روسيا تؤمن بأن العلم والمعرفة أهم عوامل قيام هذه النهضة وتحقيق الأمن، فقد أنشأت مدارس خاصة سميت في حينها بالمدارس الروسية وقد جاوز عددها المائة، وأحدثت مدرسة لتخريج المعلمين في الناصرة ومدرسة خاصة لتخريج المعلمات في بيت جالا ليرفدوا المدارس الروسية بالمعلمين والمعلمات التي أنشأتها الجمعية الإمبراطورية الروسية الفلسطينية في سورية لتعليم الأجيال ومكافحة الجهل المركب الذي خيم على شعوب المنطقة إبان الاحتلال العثماني الطويل لدولهم (ملاحظة: لم تكن اللغة الروسية مفروضة في تلك المدارس بل كانت اختيارية).
ونوه المؤرخ السوري بدور المطران أثناسيوس عطا الله مطران حمص وتوابعها الذي كان وكيلا للجمعية في سورية الكبرى آنذاك (سورية وفلسطين والأردن ولبنان حاليا)، مضيفا: “ولربما لذلك اختار الكثير من الروس الذين رحلوا إلى سوريا خلال تلك الحقب، مدينة حمص مستقرا لهم ولتكون مثواهم الأخير”.
وكشف سمعان أن “روسيا أنشأت في الدول الثلاث وكيليكيا 100 مدرسة بتمويل من الجمعية الإمبراطورية الروسية الفلسطينية التي أنشأت 1881 برعاية أخ القيصر الأمير سيرجيوس واستمرت حتى عام 1914 في تقديم أنشطتها وخدماتها لمنطقة صدر المتوسط، وقد حظيت حمص بمدرستين مجانيتين من المدارس الروسية تلك، إحداها (مدرسة البنات الأرثوذكسية) التي ما زالت قائمة حتى الآن، وأخرى كلية للذكور وهي أيضا ما زالت مستمرة بإدارة جديدة”.
ونوه الباحث سمعان بأن روسيا تفردت في منطقة الشرق العربي عبر خدمات الجمعية الإمبراطورية التي تكفلت بإنشاء مدرستين لتخريج المعلمين وهما: مدرسة (الناصرة/ فلسطين) لتعليم المدرسين الذكور، ومدرسة (بيت جالا/ فلسطين) لتخريج المعلمات، وذلك لرفد المدارس التي أنشأتها بجهاز تعليمي جديد وعصري، بما يغلق حلقة التعليم من الطفولة حتى المراحل العليا.
وأشار الباحث سمعان إلى أن التعليم في سورية، في تلك الفترة، كان يتم وفق (نظام الكتَاب)، ليتحول بعد ذلك إلى مدراس نظامية خرجت أجيالا جديدة مسلحة بمناهج عصرية، استطاعت بدورها تكريس بذور النهضة الحضارية المحلية في مختلف المجالات.
ومع نشر التعليم المدرسي الحديث، عكفت الجمعية الإمبراطورية الروسية الفلسطينية على دعم القطاعات العلمية الأخرى عبر منح دراسية في قطاعات التعليم العالي، ووفقا لإحصائيات قام الباحث سمعان بتوثيقها، فقد تعهدت روسيا قبل عام 1914، بتعليم نحو 11 طالبا من حمص لدراسة الطب في روسيا ومن ثم العودة إلى سوريا لممارسة مهنتهم وتقديم الخدمات الطبية في بلد كان يعاني نقصا بشكل شبه كامل في هذا النوع من التخصصات، وكذلك خرجت الكنيسة الروسية كبار اللاهوتيين في تلك الفترة منهم القديس روفائيل هواويني من ابناء دمشق، ومؤسس أفرع الكرسي الانطاكي في الولايات المتحدة الامريكية، .وقد كان قد رسم أسقفا في قازان بروسيا أولا.
يقول المؤرخ نهاد سمعان أن العلاقة بين روسيا ودول (سوريا الكبرى) خلال حقبة ما قبل الحرب العالمية الأولى، استمدت عمقها من العلاقات الكنسية (الأنطاكية/ الروسية) التي كانت في أفضل حالاتها، حتى أن الكنائس السورية حظيت بتقديمات كبيرة من الكنيسة الروسية كـ (ايقونسطاس كنيسة الأربعين) وأجراسها، كما أنه وبعد حرب القرم واتفاقية (باريس) التي عقدت بين روسيا والسلطنة العثمانية، سارع السلطان العثماني لإعطاء حرية للأقليات في الشرق ليجمل صورته في نظر الغرب الذي نصره في حربه مع الروس، وكان هذا بمثابة إشارة لأهل المنطقة المشرقية بأن روسيا هي من تدافع عن مصالحهم وتحميها، وبفضلها صاروا على ماهم علية من حرية.
فقبل تلك الأيام، وعلى مدى قرون، خضع قرع الأجراس لحظر شامل من قبل السلطنة العثمانية التي كانت تحتل بلاد الشام.
كان لتردد صوت الأجراس بعد غياب طاول مئات السنين، وقع خاص في فضاء هذه المدينة التي تزخر بإرث ثرّ لجميع الديانات.
هدية الأجراس الروسي شكلت حدثا استثنائيا على الصعيدين العاطفي، يقول سمعان: من نتائج معاهدة (باريس) كان رفع الحظر عن قرع الأجراس في الكنائس، لتسارع الجمعية الروسية بتقديم أجراس إلى تقديم الأجراس كهدايا لكنائس الشرق العربي، وبفضلها قرعت الاجراس بالمشرق لأول مرة بعد مئات السنين من المنع، وهو ما يفسر وجود الأجراس والأدوات الكنسية الروسية في مختلف أرجاء حمص وريفها.
يحاول سمعان استحضار البيئة التي كانت عليها سوريا وبلاد الشام في تلك الحقبة: “لنتخيل كيف سمع المسيحيون في الشرق لأول مرة صوت جرس كنيسة؟!.. وفق الروايات المتوارثة، كانوا يقولون أن الفضل لروسيا في ذلك، كون الأجراس وصلت إليهم كهدايا من روسيا من جهة، ومن الأخرى فإن السماح بقرع تلك الأجراس جاء بفضل شروط في المعاهدة التي تم توقيعها بعد حرب القرم بين روسيا وبين بريطانيا والسلطنة العثمانية من جهة أخرى، فوجدت على اثر ذلك صور القيصر مرفوعة في المنازل، واصبحت الاسماء الروسية للولادات الجديدة لاطفال ابناء الطائفة الارثوذكسية الاكثر تداولا”.
في عام 2014، وقبيل ترحيل المسلحين الإرهابيين من حمص القديمة، قاموا بتهشيم وتكسير القبور ولم يبقوا على أي رمز من الرموز الدينية، وفق ما أكد سمعان الذي عاصر تلك الفترة عن قرب.
ويضيف: كان مشهدا مؤلما لأن المقبرة تمثل تراث حمص وذاكرتها، وعندما يأتي شخص من بلاد الاغتراب، فإن أول زيارته تكون إلى قبر عائلته وأجداده، ليجد هذا المشهد المحبط الذي رسمته العصابات الإرهابية!.. لم يبقوا على صليب إلا وكسروه، وايقونة الا وشوهوها، حتى أنهم هشموا القبور التي لم يستطيعوا تكسير صلبانها”.
يختم الباحث التاريخي السوري، متسائلا: “هل كان القصد هو تكسير الرموز الدينية فقط؟، أم أنه إلغاء لذاكرتنا الجمعية وإضاعة هويتنا؟!”.
Beta feature
Beta feature
Beta feature
Beta feature
Beta feature
Beta feature
Beta feature
اترك تعليقاً