دار البطريركية الأنطاكية الارثوذكسية
دار البطريركية الأنطاكية الارثوذكسية
مدخل
تقع في قلب دمشق التاريخية وسط الشارع المستقيم الممتد من باب الشرقي شرقاً الى باب الجابية غرباً، والذي يشطر الشام القديمة إلى شطرين جنوبي وشمالي.
وكان يتقاطع مع هذا الشارع المستقيم شارع مستقيم يمتد من باب الصغير جنوباً (اصغر أبواب دمشق السبعة) وهو البوابة الجنوبية لدمشق نحو محلة الميدان، ومنها إلى حوران والقنيطرة وفلسطين. ويمتد إلى باب الفراديس شمالاً (جمع فردوس نسبة إلى الجنان الطبيعية فيه) وباب السلامة المجاور له شمال المدينة القديمة حيث تشير بعض الكتابات التاريخية عن دمشق الرومية، وبعض المؤرخين، أن بيت عائلة سرجون النصراني جد
القديس يوحنا الدمشقي كان يقع في وسط هذه المنطقة الخضراء.
ويتقاطع الشارعان بجانب الدار البطريركية في نقطة قوس النصر الذي تم إخراجه من تحت الأرض عام 1943 ورفعه إلى مكانه الحالي من قبل محافظة دمشق، وكان الطريق الواصل من قوس النصر هذا إلى باب الفراديس يدعى درب مريم وكان يطل عليه دير النساء على اسم العذراء مريم وهو كان ميتماً للبنات اليتيمات اللواتي كن يترهبن فيه حين بلوغهن سن الرهبنة. ودعيت هذه المنطقة في العصر الرومي برمتها “ايا ماريا” أي “القديسة مريم”، ومن هنا تحولت التسمية مع تمادي الزمان وخاصة في العصر الإسلامي إلى “القيمرية” وهي تحريف للتسمية الأصل “أيا ماريا”، على قياس بلدة “داريا” وصوابها “دار الرؤيا”، وجرمانا وصوابها ” القديس جرمانوس”… الخ كإشارات للتجذر المسيحي…
يرتبط هذا الموقع ارتباطاً عضوياً، لم ينفصل عبر كل التاريخ، مع “كنيسة مريم، أو الكاتدرائية المريمية” منذ القرن المسيحي الأول حيث لابد من وجود بناء تابع للكنيسة دوماً لخدمتها.
دخول المسلمين إلى دمشق
في عام 635 دخل المسلمون إلى دمشق من طرفي الشارع المستقيم وفي وقت واحد، حيث دخل أبو عبيدة وجيشه من باب الجابية صلحاً بالاتفاق مع سرجون النصراني (جد القديس يوحنا المعمدان) “حقنا لدماء الدمشقيين” (حيث أن جيش البيزنطيين كان قد انسحب منها في بدء الحصار الذي طال لمدة أربعة أشهر)، وحرباً من الباب الشرقي بقيادة خالد بن الوليد، ليلتقي طرفا الجيش عند كنيسة مريم، لذلك وتخليداً لهذا الموقع إسلامياً، أقيم في مستهل العصر الأموي، مصلى صغير،(وما المئذنة وتسمى المئذنة العمرية الموجودة حالياً إلا ما بقي من المسجد الذي أزالته محافظة دمشق عام 1943 حين توسيع الطريق وأزالت معه أجزاء واسعة من مدرسة مار نقولا والحرم ألبطريركي ومعظم درب مريم الوقفي كشارع موصل الى ساحة الخمارات، وأعادت بناء المئذنة بالحجر الأبيض بعد أن كانت والمسجد من الخشب واللبن، وأخرجت قوس النصر من بطن الأرض ونصبته في موقعه الحالي.)
وكانت شريعة الفتح وقتئذ قد قضت بتحويل كل الكنائس الواقعة في القسم الشرقي المفتوح حربا إلى مساجد، وبقاء كل كنائس الشطر الغربي المفتوح صلحاً على حالها بشرط دفع الجزية.
وكان عدد كنائس الشطر الشرقي 15 كنيسة تحولت الى مساجد (عدا كنيسة سرجيوس وباخوس اليعقوبية السريانية (كنيسة مار سركيس الارمنية حالياً) التي أبقاها خالد كنيسة للسريان مكافأة لراعيهم يوانس على خيانته للمسيحيين الدمشقيين وتسببه باستشهاد 40000 مدني دمشقي رومي وابقى لهم ايضا مقام القديس جاورجيوس الواقع اول دخلة حنانيا تنفيذاً لوعده للقس يوانس او يونان (اعلاه) خادم الكنيسة ورئيس الرعيةالسريانية الدمشقية الذي اتفق خلسة من وراء ظهر سرجون مع خالد بخيانة موصوفة، وسهل له دخول جنوده منتصف الليل عند تبديل الحرس، من شرفة بيته في
السور بعد ان قام بتوسيعها، مشترطا عدم المساس بكنيسته ورعيته الصغيرة، وهو ما تم).
ولكن خالد صادر دير القديس شمعون السرياني وجعله مقرا لقيادته وكان مقرا لاسقف دمشق السرياني، وقد تحول هذا الدير الذي تسمى بدير خالد الى جامع الشيخ ارسلان وضريح المذكور فيه وحوله اقيمت مقبرة للصحابة والقادة المتوفين لاحقا وصار فيما بعد المقبرة المعروفة والخاصة بالمسلمين الشيعة.
بينما كان عدد كنائس القسم الغربي وفي مقدمتها كاتدرائية دمشق “يوحنا المعمدان” وعددها 16 كنيسة.
أما كنيسة مريم فلوقوعها على الخط الفاصل بين شطري المدينة، وبين دخول جناحي جيش المسلمين، فقد اعتبرت من أملاك الدولة ولم تحول إلى مسجد بل أُغلقت من سنة 635مسيحية إلى سنة 705 مسيحية، عندما أعادها الوليد للأرثوذكس، نتيجة مصادرته كاتدرائيتهم “يوحنا المعمدان” وبعد عدم موافقتهم على تلك المصادرة، ولعدم تنفيذ الاتفاق الصلحي الذي أبرمه سرجون وأبو عبيدة بالحفاظ على كنائس القسم الغربي، وفي الواقع أنها كانت تُقضم تدريجياً، وتحَّوَّلْ إلى مساجد حيث لم يبق للأرثوذكس كنيسة يصلون فيها. فأعاد لهم كنيسة مريم وقال:” إننا نعوض النصارى بكنيسة مريم بدلاً من كنيسة يحيى” وذلك توضيحاً للقول أن المسلمين أعطوها للمسيحيين مِنَةًًّ…!!!
وقد أصبح هذا البناء منذ عام 705 م مقراً لمطرانية دمشق، والمريمية كاتدرائية مطران دمشق. وكان مطران دمشق يقيم مع الكهنة وخدام الإيمان في دار المطرانية (الحالية) اللصيقة بكنيسة مريم، لذا غلب اسم المريمية شعبيا منذ ذاك الوقت وحتى الآن على تسمية هذه الدار فيُقال أحياناً “دار المريمية” أو “دار كنيسة مريم”، بدلاً من ” المطرانية” أو “البطريركية”.
– لم انتقل الكرسي الانطاكي الى دمشق؟ت
وكان السبب في انتقال البطريركية الأنطاكية إلى دمشق بالذات، فهو لأن دمشق مسيحياً هي اقدس موقع بعد الأرض المقدسة في فلسطين ومنطلق البشرى إلى كل المسكونة، مع بولس الذي تنصر فيها، وبها غدا هو رسول الأمم منطلقاً منها الى العربية وإنطاكية وأوربة وختم في رومه محدثاً مع بطرس الرسول كرسيها الرسولي السنة 64 مسيحية بعد ان كانا قد احدثا معاً كرسي إنطاكية السنة 42مسيحية، واعتلاه بطرس الرسول بطريركاً السنة 45مسيحية، ولأن دمشق سياسياً واقتصادياً كانت دوماً عاصمة سورية الطبيعية وزاهية بلاد الشام… ولقوة وفعالية الوجود المسيحي فيها بالرغم من كل النكبات التي مرت في كل العهود على هذا الوجود.
وكان اسقفها في ترتيب الكراسي في المجمع الانطاكي في صدر المجمع على يمين كرسي البطريرك الانطاكي
نكبات المقرالبطريركي
ومن الطبيعي أن يتعرض المقر البطريركي لنكبات بلغت تسعاً، وهي ذاتها التي تعرضت لها كنيسة مريم، أولها كانت عندما بقيت مغلقة لمدة 70 سنة من عام 635 مسيحية الى 705، ولسبع فتن طائفية كانت أشدها كارثة 1860 مسيحية، ولكارثة طبيعية واحدة هي الزلزال الذي ضرب دمشق منتصف القرن 18.
كان المقر ألبطريركي دوماً عرضة للأخطار والحرق والتدمير ذاتها التي تعرضت إليها المريمية عبر تاريخها وخاصة فتنة 1860 الطائفية فتم تدميرها واستشهد في المقر ألبطريركي ومحيط المريمية وداخلها حوالي 6000من الدمشقيين الأرثوذكسيين ومن اللاجئين إليه من جبل الشيخ وحوران، كان في مقدمهم الخوري يوسف مهنا الحداد ( القديس الشهيد في الكهنة يوسف الدمشقي ورفقته الذي يعود له الفضل في التأسيس لنهضة إنطاكية العظمى في منتصف القرن 19 وما هي عليه اليوم) ونعيد لهم في 10 تموز من كل عام.
كنائس المقر البطريركي
كان في الصرح ألبطريركي إضافة إلى كنيسة مريم، كنيستان أخريان تعودان إلى القرنين الخامس والسادس هما:
– كنيسة القديسين الشهيدين يوستينة الدمشقية وكبريانوس القرطاجي، وكانت تلاصق كنيسة مريم جنوباً وهي اصغر منها وايقونسطاسها خشبي محفور وجميل جداً مع إيقونات من فن المدرسة السورية.
– كنيسة القديس نيقولاوس أسقف ميرا ليكية العجائبي، تقع إلى الغرب من كنيسة مريم وهي أكبر منها وكان فيها ايقونسطاس خشبي محفور بديع الصنعة، في قبوها طبخ البطريرك العظيم مكاريوس ابن الزعيم طبخة الميرون الشهيرة منتصف القرن 17 التي أورد ذكرها مؤرخ الكرسي الأنطاكي الدكتور أسد رستم.
وقد تدمرت الكنيستان أيضا مع كنيسة مريم والصرح ألبطريركي في كل النكبات التسع التي منيت بها كنيسة مريم.
– كنيسة القديسة كاترينا الشهيدة، وهي قاعدة امطوش صغير لرئاسة أساقفة سيناء كان داخل المقر ألبطريركي أحدث في عهد البطريرك متوديوس في العقد الثالث من القرن 19 و الكنيسة صغيرة ولكنها مكتملة بكل شيء لجهة الايقونسطاس الخشبي وإيقوناته الجميلة من فن المدرسة المقدسية.
وكان يتم إعادة بناء المقر ألبطريركي مع كنيسة مريم بعد كل تدمير، ولكن في نتيجة التدمير الشامل لم يُعد بناء كنيستي كبريانوس ويوستينة فقد أضيفت إلى مساحة كنيسة مريم،
وأعيد مجدداً بناء كنيسة القديسة كاترينا في غرفة أرضية جنوبية بإيوان غربي متوسط لعدة غرف كانت للأمور الإدارية وللمكتبة، ويعلوها جناح لإقامة الاكليروس كان عبارة عن عدة قلايات، ومهجع للشمامسة يتسع لعدة أسِّرة، بجوار جناح البطريرك المطل بشرفة شرقية على صحن البطريركية وحديقتها.
اما كنيسة القديس نيقولاوس فقد أُلغيتْ ككنيسة وجُعلت مدرسة ابتدائية للصبيان على اسم “القديس نيقولاوس الارثوذكسية” منذ اواخر القرن19 والى منتصف القرن 20، وفي جانب منها مدرسة للبنات أحدثها البطريرك ملاتيوس الدوماني مطلع القرن ال20 وحتى توقفها مع بداية الحرب العالمية الأولى1914، ومكانها اليوم في الفسحة الخارجية مع المطعم حيث كانت رقعة الصرح البطريركي تشتمل على كل هذه المساحة يخترقا الدرب الضيقة، وهو الطريق الواصلة إلى باب الفراديس شمالاً في العهود السابقة الذي يخترقها إضافة إلى المسجد وكان يتم الدخول إلى الصرح البطريركي من تحت المئذنة حيث ليس من طريق غيره.
أُعيد بناء دار البطريركية بعد التدمير حيث دُشنت مع المريمية عام 1868، ثم تم تجديدها أواخر القرن 19 بهمة البطريرك ملاتيوس الدوماني1899حيث قام بتجديد المقر البطريركي ورصف سقوفه وسقف المريمية بالقرميد.
القصر البطريركي
وفي عهد البطريرك الكسندروس طحان 1931-1958 قام بترميم المريمية وصب سقفها بالاسمنت بعد ان كان خشبياً، ورصفه مجدداً بالقرميد قام ببناء “القصر البطريركي” وهو اللقب الذي أطلق على القسم الجنوبي للدار البطريركية ويشكل الواجهة الحالية ببنائها الحجري الجميل وبابه الفخم بعدما أُلغي المرور من تحت المئذنة.
المتروبوليت انطونيوس بشيروأقيمت تحت الواجهة الجنوبية والشرقية دكاكين للاستثمار، بعدما كانت تحت البناء القديم “المطبعة البطريركية” التي كان قد أحدثها البطريرك غريغوريوس حداد عام 1908 (وكانت تقوم بطبع مجلة النعمة وبعض الكتب الطقسية، إضافة إلى مطبوعات تخدم العموم وخاصة منها مطبوعات المجمع العلمي…) إضافة إلى عدد من الدكاكين المخصصة لاستخدامات البطريركية كمستودعات واسطبل للخيول.
هذا المشروع تم في 1953 بتمويل من أبرشية أميركا ومن محسنين فيها، بتدبير من مطرانها انطونيوس بشير، وكان يشرف على مراحل البناء وبحضوره البطريرك الكسندروس الذي رد على محبيه وخوفهم عليه وخاصة بعدما كان شيخاً طاعناً في السن بقولته الشهيرة:” ان لم اكمله انا في حياتي فلن يكمله احد بعد مماتي” وكان يقف منذ طلوع الشمس مع البنائين وهو متدثر بمشلحه الصوفي الأسود في عز البرد وبقي على هذا الحال الى حين اكساء وفرش البناء وتكريسه.
وفي عام 1994 بهمة مثلث الرحمات البطريرك اغناطيوس الرابع اكتمل البناء بجناحيه الشرقي والغربي بتبرع المحسن السيد ميشيل مرهج المغترب في فرنسا، والذي جدد ايضاً واجهة الكاتدرائية المريمية ومحيطها على نفقته الشخصية.
ولما كان التحديث يجب ان يستمر في دار البطريركية كونها مقراً لرئاسة الكرسي الأنطاكي المقدس في المشرق والانتشار العالمي، وبما يتناسب مع مكانته الروحية والحضارية، فقد تم ترميم وتحديث الصرح البطريركي مجدداً، وذلك للحاجة الماسة نتيجة عيوب في البنى التحتية للبناء بتقارير هندسية، وبتبرعات من محسنين… ووفقاً لتوجيهات غبطة ابينا البطريرك يوحنا، وتم ايضاً تحديث هيكل كاتدرائية الكرسي الأنطاكي المقدس “مريمية الشام” الانطاكية المعمدة بدم الشهيد يوسف الدمشقي ودماء الشهداء عبرالتاريخ.
اترك تعليقاً