دير النورية أو دير سيدة النور / لبنان
موقع الدير
هذا الدير أشهر من ان يُعَّرَّفْ، وهو مقصد المؤمنين ليس من لبنان وحده بل من سورية… ومن كل دول العالم يقصدونه لإيفاء النذورات، حتى البعض منهم يقصده حافي القدمين…
تم أنشاء دير سيدة النورية في القرن السابع عشر وفق أجمل التصاميم ذات الفنون المعمارية البازيلكية، وشكل مزار كبير مزار كبير لحجيج الطائفة المسيحية الأرثوزكسية، ومكان لتقديم النذور والقرابين، كما أصبح فضلا عن كونه مزار ديني للطوائف المسيحية حول العالم، مزار سياحية كبير يجذب الالاف سنوياً.
على أحد الجروف الجبلية لبلدة البترون وعلى ققم المرتفعات الساحرة بين الجبل والبحر يمتد دير سيدة النورية لبنان، أحد أقدم وأعرق الأديرة في شمال لبنان، وأكثرها شهرة وأهمية في لبنان والشرق الأوسط، ويعتبر من أهم الأماكن السياحية في شمال لبنان.
هذا الدير المبارك يفرض على الزائر الخشوع التلقائي، حيث يشعر المرء انه بالفعل في أرض مقدسة ترتاح فيها النفوس المؤمنة والمتعطشة الى سكينة الله، حيث ظهرت السيدة العذراء الطاهرة وأضاءت في القرن السادس عشر طريق البحارة العابرين في البحر الابيض المتوسط، حيث كانت السيدة العذراء تنير الجبل الذي يعرف باسم “رأس الشقعة” في نطاق بلدة حامات الشمالية في جبل لبنان في ليالي العواصف.
بجانب سيدة النورية لبنان ستجد سلم صخري طويل وحاد يقود إلى مغارة صخرية هي حاضنة الدير وقاعدته الأساسية التي يستند عليها، أما في داخل الدير ستشاهد الفنون المعمارية الرائعة والممرات الدهاليز الصخرية التي تحيط بها الأشجار المعمرة الضخمة
وستمر بعدها إلى حديقة في غاية الروعة تحتوي على النباتات الخضراء والزهور الملونة، والتي تتمتع بشرفات رخامية ستمنحك إطلالة بانورامية رائعة على شواطئ بلدة البترون الغاية في الجمال وعلى السهول الخضراء الكثيفة.
أما خارج دير سيدة النورية فهي منطقة ساحرة تحيط بها المرتغعات والأودية ذات أشجار الأرز والسنديان والصنوبر، حيث يمكن من هناك مشاهد الدير وهو يتربع على قمة صخرية.
ويمتاز دير سيدة النورية لبنان بقربه من المعالم التاريخية والطبيعية البارزة مثل محمية ارز تنورين ومغارة قاديشا وبحيرة شوان ومتحف جبران خليل جبران، وغيرهم الكثير من الأماكن السياحية المميزة في شمال لبنان
كان هذا الرأس البحري من أكثر المناطق خطراً على شاطئ البحر، وكان البحارة يطلبون نجدة العذراء التي قالت لهم: “لا تخافوا انا معكم” يوم ضربت عاصفة بحرية بحارة قادمين من ايطاليا.
دير سيدة النورية حين تصل اليه، تتداخلك مشاعر من الرهبة و الخشوع، حيث الامل بشفاعة السيدة العذراء أم النور، منظر طبيعي خلاب يشدك شداً الى الراحة التي تحل عليك امام تلك المناظر الطبيعية، وعند مناظر الامواج التي تتلاطم وتتكسرعلى الصخور، في مشهد طبيعي لا يضاهيه مشهد آخر في العالم.
يبعد الدير عن بيروت قرابة 75 كلم، وهو في منطقة تقع بين البترون وشكا، و على ارتفاع ما يقارب المائتي متر، و يتبع لمطرانية جبيل و البترون الارثوذكسية (جبل لبنان).
يذكر الراهب اليسوعي أورين كريسلون انه عندما كان في رحلة من صيدا الى طرابلس يرافقه ثمانية أتراك، و تاجران فرنسيان، فاجأتهم عاصفة بحرية، وأخذت الامواج العاتية تتلاعب بالمركب، فنذر الراهب والتاجران الصوم كل يوم سبت مدى العمر، فهدأ البحر وتراجعت الامواج فوراً.
في العام 1650م يقول هذا الراهب:” ان الدير يدعى دير سيدة المنيرة لأن العذراء تنير الجبل في ليالي العواصف، ليرى البحارةُ صخورَ هذا الرأس الخطير على شاطئ البحر.”
كلمة نورية تعني العطايا التي تقدم إلى الإكليريكيين في عيد الظهور الالهي. عندما يدور الكهنة (كما درجت العادة في المدن والقرى) على بيوت المؤمنين لتكريسها في عيد الغطاس ويرشونها بالماء المقدس مرنمين طروبارية العيد” باعتمادك يارب في نهر الاردن…” فيقوم المؤمنون بعد تكريس بيوتهم بتقديم النورية لهم.
كما أن النورية تعني ايضاً مساهمة الرعايا والقرى مالياً وعينياً في المطرانيات والبطريركية بتقديم ” الأنورية” من مال وأرزاق من إنتاج أراضيهم ومواشيهم كالقمح والبرغل والسمن والالبان والاجبان والزيتون والزيت في قرى ابرشية دمشق وحوران وجبل الشيخ، كما درجت العادة الى منتصف القرن 20 كان يقوم بها احد الاكليريكيين ومعه طرس بطريركي لجمع التبرعات عند الموسم. (الوثائق البطريركية)
تاريخ الدير
منذ تاريخه والديرعظيم النعمة، يكفي ان يقرأ الزائر قصة الراهبين اللذين أسسا المنسك بأمر من والدة الاله، و هما المتوحد عبد المسيح من بلدة أنفه والمتبدئ يوحنا بن كسانوفون، وهذا الأخير إبن أحد الوجهاء اليونانيين نجا من الغرق أمام شاطئ الدير بفضل السيدة أم النور، والراهب عبد المسيح ومكث راهباً في الدير ثلاث سنوات ثم انتقل إلى دير القديس سابا في فلسطين وهو الدير الاشهر في الرهبنة ببلاد الشام حيث ترهب فيه القديس يوحنا الدمشقي ( انظره هنا في موقعنا).
نصل الى الدير القديم، إما من خارج الدير الحديد، أو من باب في الجدار الشمالي الغربي من الرواق الداخلي، يقود إلى حديقة صغيرة، تشاهد عبرها منظراً رائعاً للبحر والشاطئ. ومن الحديقة نسلك درجاً يتبع انحراف الجرف الصخري إلى المغارة العجيبة حيث ظهرت العذراء فيها للبحارة، عند نهاية الدرب ممر مسقوف قصير على جانبيه بضعة صوامع، وإلى يساره نبع ماء عذب.
تقع المغارة مباشرة خلف الصوامع مزودة بباب ونافذتين وبضعة مقاعد مقابل المذبح.
في هذه الكنيسة الصغيرة يلف الخشوع المكان من الأيقونات إلى رائحة البخور التي تمتزج مع أريج الزهور البرية، ونسيم البحر.
الصخر داخل المغارة عتيق يذكر بايام غابرة، و الحجارة غطاها التاريخ بطبقة سوداء.
كُّرِّستْ الكنيسة على اسم الملاكين ميخائيل وجبرائيل، وأُعيد بناؤها في القرن الثامن المسيحي، ورُممت عام 1950. وفي العام 1990 رممت القلالي، و بعد عام 2007 أُضيف اليها الأيقونسطاس.
اما الأيقونات الملكية فرسمها نيكولا فافوبولو اليوناني، أما أيقونات الرسل فكتبتها الراهبة بلاجيا تبشراني.
في هذا المُجَّمع التاريخي المقدس، أُنشئ ديرٌ جديدٌ، بناه مثلث الرحمات المطران غفرائيل شاتيلا الدمشقي العام 1890، و كان يومها مطران بيروت والجبل قبل وفاته عام 1902 وانفصال الأبرشية إلى أبرشيتين، أبرشية بيروت، وأبرشية جبيل والبترون وتعرف بأبرشية جبل لبنان وكان أول مطارنتها بولس أبو عضل الدمشقي، وكان انشاؤها لتسهيل رعايتها حيث ان مطران الابرشية كان لايقدر ان يزور رعاياه في جبل لبنان الا مرة في كل عدة سنوات وبنتيجة مطالبات مكثفة من الرعايا ( الوثائق البطريركية).
وأنشأ المطران غفرئيل على مقربة من الدير القديم ديراً جديداً بإسم دير سيدة النورية، وهو مكون من طبقتين الأولى علوية و تضم أربع غرف، ومكتبة، وغرفة طعام. اما الطبقة السفلية فضمت الكنيسة الجديدة إضافة إلى إسطبل.
شهد الدير مؤخراً بعض أعمال الترميم.
الطبقة الارضية للدير
من الباب الواقع في الجهة الجنوبية، يوجد رواق صغير، ينتهي الى فناء داخلي، على جهتي الرواق غرفتين، الأولى لاستقبال الزوار، والثانية لبيع التذكارات الدينية والساحة المركزية مرصوفة باللبلاط الابيض، وفي وسطها نافورة ماء.
و يوجد رواق معقود يتألف من أقواس محددة الرأس وخلفه أبواب تقود إلى غرف الديروالصوامع، وإلى شرق الباحة كنيسة سيدة البشارة.
كنيسة الدير
كنيسة الدير مكرسة على بشارة والدة الاله، من قبل الملاك جبرائيل، وتتألف من صحن واحد، والأيقونسطاس من الرخام الابيض، وهي من الانماط الرومية البيزنطية والروسية الارثوذكسية، ترجع الى أوائل القرن العشرين.
أيقونة النورية
و في الدير أربع نسخ من “أيقونة النورية” إثنتان في الكنيسة، واثنتان في المغارة القديمة، حيث ترتدي العذراء رداءً أحمرَ فوق ثوبها الازرق. و تقف في الجزء الأعلى، وتحمل على ذراعيها الطفل يسوع، الذي يرفع ذراعه اليسرى مباركا بالاشعة المضيئة المنبثقة من هالتيهما. و يتناقض هذا المشهد مع المشهد المرسوم في أسفل الايقونة حيث الغيوم السوداء تتلبد خلف الامواج العاتية التي نرى في وسطها البحارة يواجهون خطر الموت، والعذراء المرشدة ترشدهم إلى برالامان إلى الرب يسوع المسيح.
دير النورية اليوم محجة لكل المؤمنين و المؤمنات من كل الاديان والطوائف يأتونه من كل المناطق والبلدات حتى بات مركزاً رئيسا من مراكز الحج المسيحي، و مرفقاً مهماً من مرافق السياحة الدينية المسيحية
وقد زار قداسة بطريرك صربيا إيريناوس ضيف الكرسي الانطاكي المقدس في 7 حزيران 2019 وغبطة ابينا البطريرك يوحنا العاشر بعد زيارته مقر البطريركية بدمشق ودير سيدة صيدنايا البطريركي زار لبنان وخص ،دير سيدة النورية العجائبي بزيارته واقاما صلاة الشكر في دير سيدة النورية العجائبي.
كان في استقبالهما وصحبهما، سيادة المتروبوليت سلوان (موسي) راعي ابرشية جبيل والبترون، وإكليروس الأبرشية وأبنائها، والآباء رؤساء أديار دير سيدة النورية، دير سيدة كفتون، دير مار يوحنا المعمدان، دير القديس سلوان، دير القديس سمعان العمودي،والرهبان والراهبات، وحشد غفير من المؤمنين.
مما قاله مطران الابرشية في كلمته الترحيبية بقداسة بطريرك صربيا :”ففيها كرسي جبيل الذي أسّسه الإنجيليّ مرقص، معاون بطرس الرسول، المرفأ الذي انطلقت منه الأبجدّية الفينيقيّة في بحر الأبيض المتوسّط كما وبشارة الكلمة إلى القارّة الأفريقيّة. وفيها كرسي البترون الذي أسّسه الرسول سيلا، معاون بولس الرسول، والذي صار أسقفًا على كورنثوس وجسّد فيها كلمات التعزية التي استشهدتُ بها منذ قليل.
أنتم اليوم في أقدس مكان للسيّدة العذراء في لبنان. فديرها القديم بُني على هذا السفح في القرن السادس، بفعل ظهورات العذراء متّشحة بالنور تنقذ البحارة من العواصف ومن ثمّ كلّ الملتجئين إلى كنف حمايتها.
ولقد ارتبط ذكر الدير بالقدّيسين الذين نعيّد لهم في السادس والعشرين من شهر كانون الثاني، أي بالقدّيس يوحنّا الذي نسك في هذا الدير، وهو ابن القدّيسَين اكسينوفوندس وزوجته ماريّا، وأخ القدّيس أركاديوس الذي نسك في فلسطين. أما ديرها الجديد حيث نحن قائمون الآن فيعود بناؤه إلى العام 1890.
في هذه الجوار مغاور تعود إلى القرون المسيحيّة الأولى عاش فيها نسّاك كثر. في الأبرشية اليوم أديرة حيّة ثمانية تشّكل سورها الروحيّ. هذا كلّه يُضاف إلى المئة والثلاث وخمسين كنيسة في بلدات وقرى هذه الأبرشيّة….”
“…وتربطنا عرى تاريخيّة تعود إلى القرن الثاني عشر، بفضل أوّل رئيس أساقفة للكنيسة الصربيّة، القديس سابا، الذي حمل معه من دير القدّيس سابا المتقدّس في فلسطين أيقونة العذراء ذات الثلاثة أيدي، والتي كان قد قدّمها للدير في القرن الثامن القدّيس يوحنّا الدمشقيّ. فقد زار القدّيس سابا أنطاكية مرّتَين في رحلة الحجّ الثانية التي قام بها بين العامَين 1234 و1235.
وها هو الآن يفرح من السماء بكونكم تثبّتون هذه العرى بزيارتكم هذه وتباركون فيها أبناء وإكليروس ورهبان كنيستنا عامّة، وهذه الأبرشيّة خاصّة، مع صاحب الغبطة البطريرك يوحنّا العاشر والوفدَين المرافقَين لكما.
إن كانت روابطنا التاريخيّة قد تعزّزت في العصر الحديث بفضل العمل الأرثوذكسيّ المشترك في القرنَين العشرين والحادي والعشرين، فلا تتفاجأوا بأنّ قدّيسيكم المعاصرين معروفون لدينا ومحبوبون أيضًا، وأخصّ بالذكر القديس نيقولاوس فيليميروفتش (1965 +)، والقدّيس يوستينوس بوبوفتش (1979 +).
فبعض كتاباتهم قمنا بترجمتها إلى اللغتَين العربية والإسبانية ويسرّني أن أقدّمها لكم…”
سيّدة النورية: لولاها لخسر الروس الحرب؟
ظهرت السيِّدة مريم العذراء على راهب لبناني واختير لإخبار روسيا بقرار الله وإلا فإن مصيرها سيكون الهلاك.. ما حقيقة دور “سيدة النورية” في انتصار روسيا على النازية؟
القصة المعجزة
ما علاقة السلاف والشعوب السوفياتية به؟
علاقة السلاف بالدير قديمة، مبنية على الإيمان الأرثوذكسي المُشترك، وكان أول مَن دوَّن منهم عن حجِّه إليه الرحَّالة الكييفي فاسيل بارسكي في كتابه “الرحلة إلى الديار المُقدَّسة في الشرق (1723-1747)”.
كانت صيدا أولى البلاد التابعة لكرسي أنطاكية التي حلَّ فيها بارسكي، في 3 تموز 1728 بعد رحلةٍ استمرَّت لثلاثة أيام بحراً من الإسكندرية، ثم انتقل إلى بيروت وبعدها سار على قدمية حاجَّاًَ إلى الأديرة المجاورة لطرابلس في آب 1728.
قال الرحالة الكييفي بارسكي
عن حجِّه إلى سيِّدة النورية يقول بارسكي: “في البداية هنا لم يكن ثمة دير أو كنيسة، ولكن انتصب الجبل فقط بكهوفه ومُنحدراته الرهيبة… يُسمِّي البحارَّة هذا المكان الملاذ الآمِن، إذ يُشكِّل المكان ملجأ للسفن من الموت والأمواج العاتية… ظهر نور للناس الذي يعيشون في القرى المجاورة يشبه النار… قرَّر أحد الرُهبان العثور على هذا المكان، وبذل كثيراً من الجهد في سبيل ذلك… ووجد في الكهف أيقونة السيِّدة العذراء مريم النورية وهو تُمْسِك بيدها الطفل الرضيع الرب يسوع، فصلَّى قبالة هذه الأيقونة وقبَّلها واستقرّ في الكهف، وبات ناسِكاً”. كما يُخبرنا بارسكي عن بناء الدير وكنيسته، وحياة الرُهبان فيه وأحوالهم.
الحرب العالمية الثانية
بعد 213 سنة على صلاة بارسكي أمام الأيقونة العجائبية، وقف مُصلٍ آخر انقطع عن الناس ثلاثة أيام مُخصِّصاً صلاته للسوفيات في حربهم ضد النازية في ما عُرِفَ بالحرب الوطنية العظمى (1941-1945). فمَن هو هذا المُصلّي الذي سُمِّي بـ “مُنقذ الروسيا” وما هي قصَّته؟
بدأت الحكاية قبل سنوات، مع مشهدٍ تلفزيوني عابر. يُظْهِر على الشاشة عدداً كبيراً من رجال الدين الأرثوذكسيين من جنسيات مختلفة، بصُلبانٍ ذهبية، في صورةٍ بالأبيض والأسود، وهم يزورون إحدى محطَّات المترو في موسكو السوفياتية، في العام 1948.
ويرافق الصورة تعليق سريع ترد فيه عبارة “وحدة الشعوب الأرثوذكسية”. فكيف قُدِّر لذلك الكمّ من رجال الدين أن يخترقوا “جداراً حديدياً” قيل إنه “ضد الدين”؟ وبين تلك الوجوه المُشرِقة يظهر وجه متروبوليت جبل لبنان الراحل إيليا كرم (1903-1969).
لقد تراكمت في الأذهان تجاه ستالين، من فيض البربوغاندا الغربية صوَر نمطية مُكثَّفة تجاه ستالين قد تكون أخفت بعض الملامِح في شخصيِّته. ربما تبرز الوثائق ستالين آخر لم يُقدَّر لنا أن نتعرَّف إليه بعد، وحقيقة أخرى. إلا أن الحقيقة التي لا يرقى إليها الشكّ، أن شعوب الاتحاد السوفيتي السابق تصدت للاحتلال النازي باللحم الحيّ، مُضَحِّية على مذبح النصر بما يزيد عن عشرين مليون شهيد.
ما الذي قاد المُطران كرم إلى “عاصمة الإلحاد”؟
الرواية الأكثر شيوعاً أنه في العام 1941، وجَّه البطريرك الأنطاكي الكسندروس الثالث النداء إلى جميع المسيحيين في العالم لمُساعدة روسيا. وبات المتروبوليت كرم “مُصلِّياً خاصّاً” لأجل انتصارها، “فنزل الى سردابٍ حَجَري تحت الأرض (يقع حالياً أسفل دير سيِّدة النورية) حيث لم يتسرَّب أيّ صوت ولم يكن فيه شيء سوى أيقونة العذراء، فأغلق على نفسه وهو لا يأكل ولا يشرب ولا ينام وقضى ثلاثة أيام في الصلاة”.
الاعجوبة
وقد ظهرت له السيِّدة العذراء “في عمود من النار”، لتُخبِره أنه “اختير لإخبار روسيا بقرار الله، وفي حال عدم تنفيذ القرار يكون مصيرها (أي روسيا) الهلاك”.
والمطالب المُحدَّدة التي وجَّهتها العذراء إلى روسيا السوفياتية تلخَّصت بـ “أن تفتح الكنائس والأديرة والمدارس الإكليريكية في كل البلاد، وأن تفرج عن كهنة محبوسين في السجون والمُعتقلات ليرجعوا إلى الخدمة الروحية، وأن يتمّ الطواف بأيقونة عذراء قازان العجائبية حول مدينة لينينغراد المُحاصَرَة، وأن تُقام خدمة صلاة أمام أيقونة العذراء في موسكو، وتنقل إلى ستالينغراد، وأن ترافق أيقونة العذراء القوات السوفياتية لغاية الحدود”. ذلك بالإضافة إلى أنه بعد انتهاء الحرب كان لا بدّ للمطران إيليا من “أن يزور روسيا ويُخبر الجميع بالحقيقة”.
رواية غريبة للوَهْلة الأولى، لكنها ليست بعيدة من الحقيقة. وكلما غُصنا في تفاصيل الوثائق المُتوافرة، كلما كشفنا عن ملامٍح مُخفيةٍ في شخصيّة ستالين، من جهةٍ، والأهمية البالغة للأبعاد الروحية الأرثوذكسية لدى الشعوب السلافية، والتعلّق بالأيقونات المُقدَّسة، من جهةٍ أخرى.
ولذلك أصدرت “الكنيسة الأرثوذكسية الروسية في موسكو” قبل أعوام كتاباً حمل عنوان “المتروبوليت إيليا كرم والروسيا”. ويضمّ الكتاب “مواد عن أحد الرموز البارزين للكنيسة الأنطاكية ( المتروبوليت ايليا كرم) الذي سار على خُطى أسلافه، صديقاً كبيراً لروسيا وللشعب الروسي المؤمِن، مُحْتفِظاً بالوفاء لطابع القداسة الروسية، والذي زاد التصاقه بها هو محبّته لوالدة الإله وأيقوناتها”، وفق المُقدِّمة، التي كتبها الأب فلاديمير سيلوفييف، مُستشار البطريرك الراحِل ألكسي الثاني لشؤون النشر والفن الكَنَسي.
يبدو أن ما قيل عن أن كرم “اتصل بالسفارة السوفياتية” لإرسال رسالته، غير صحيح. وذلك ببداهةٍ لعدم وجود تلك السفارة آنذاك. إلا أنه قُدِّر لكرم أن يلتقي بأحد كبار الدبلوماسيين السوفيات. متى وأين؟
نتوقَّف مع كتاب “طُرُق ومفارِق الدبلوماسي” (1976)، للسفير السوفياتي في القاهرة نيقولاي نوفيكوف، يقول: “صباح الأول من آب عام 1944، أُبْلِغت أن المطران الانطاكي الأرثوذكسي إيليا كرم طلب تلفونياً أن يلتقي بي.. أجبت أن بوسعي استقباله الساعة الرابعة. في الموعد المُحدَّد شرَّفني صاحب السيادة بزيارته. وكان هدفها نقل دعوة بطريرك أنطاكية ألكسندروس الثالث لزيارته”.
ويلفت نوفيكوف إلى أنها الدعوة الثانية التي يتلقّاها من البطريرك ألكسندروس، فهو التقى به في القاهرة ربيع العام نفسه. وقد توجَّه نوفيكوف وحده إلى الشوير، حيث المقرّ الصيفي للبطريرك في دير النبي الياس شويا البطريركي وحيداً.
وقد التقى المطران إيليا مُجدَّداً. ومن المُلْفِت أن النقاش تناول “آفاق الحرب. وأجمع الحاضرون على أنها ستنتهي عام 1944. وكنت معهم في تفاؤلهم”.
وتجدر الإشارة إلى أن زيارة نوفيكوف الرسمية، أتت بعد زيارته إلى سورية، توِّجت باعتراف الاتحاد السوفياتي بالجمهورية اللبنانية. ولم أقف في أيّ من المصادر الكنسية على لقائي الرجلين.
وحظي نوفيكوف بوداعٍ شعبي كبيرٍ في الشوير، وثَّقته “صوت الشعب” في عددها الصادر بتاريخ 3 آب 1944. فنوفيكوف، الذي التقى كرم مرتين، لم يلفت إلى الرسالة التي من المُفْتَرض أن ستالين قد تلقَّاها منذ سنتين وأشهر، ولا إلى شروعه بتنفيذ مطالبها قبل سنة واحدة.
لكن ذلك غير مُسْتَغْرَب من دبلوماسي يُدوِّن مُذكَّراته. إلا أن في المُذكَّرات إشارة واضحة إلى ثقة البطريرك الكسندروس والمتروبوليت ايليا والاكليروس، الذين اجتمعوا به، أن النصر على الفاشية مُحتَّم.
وعلى الرغم من عدم العثور على أية وثيقة مكتوبة بخط يده توثِّق رؤياه، يظهر أن المطران إيليا، قد استعان بإحدى السيّدات الروسيات (من “المُهاجرين البيض” بعد قيام الثورة الشيوعية في روسيا)، لترجمة رسالته إلى ستالين، وأنه تمكَّن من إرسالها إليه. فقد أتت زيارته الأولى إلى موسكو بدعوة شخصيةٍ من ستالين في العام 1947، أي بعد نحو ستة أعوام على إرساله للرسالة، وبعد سنتين على الانتصار الكبير للاتحاد السوفياتي.
وفي العام التالي زارها كذلك للمُشاركة في الاحتفالات بالذكرى الخمسمائة لتأسيس بطريركية موسكو، كما زار لينينغراد (سان بطرسبورغ حالياً) وعلى أية حال، يبدو أن ما طلبته العذراء من السلطات السوفياتية “نُفِّذ بالكامل”.
ذلك على الرغم من أن لقاء ستالين بالمطرانين سيرغي وألكسي جرى بعد نحو سنتين من تسلمه للرسالة، حين “وعد بتنفيذ تلك المطالب”، ولم يرد في محضر الاجتماع إسم المطران إيليا، وذلك ما فتح باب الشكّ في جوانب من الرواية.
ايقونة سيدة قازان تزور الجبهات العسكرية
أن عدداً من الوثائق يشير صراحة إلى أن أيقونة سيِّدة قازان العجائبية قد طافت على الجبهات. و بفضلها مالت كفَّة النصر إلى السوفيات في تلك الأوقات. لا بل اعتبر ذلك البداية الفعلية للنصر. بالإضافة إلى أن المطران كرم “أخبر الجميع بالحقيقة”، في زيارته الثانية.
مطلع أيلول عام 1943 ظهر العدد الأول من “مجلة بطريركية موسكو”، وربما يُعتَبر ذلك من مؤشِّرات “التسامُح”، الذي تبع لقاء ستالين بالمُطرانين، وتُعْتَبر الشهرية التي استمرَّت بالصدور، أحد أغنى المصادر بشأن زيارتي كرم إلى روسيا.
ففي تشرين الأول 1947، دعا ستالين كرم وأهداه بعد مشوَرة المطران ألكسي (لاحِقاً البطريرك ألكسي الأول) صليباً و”أنغولبيون” مُطعَّمين بالأحجار الكريمة المُنتقاة من جميع مُقاطعات روسيا، مع نسخةٍ من أيقونة سيِّدة قازان، كعربون شكرٍ.
كذلك قرَّرت الحكومة منحه “جائزة ستالين”، للمُساعدة التي أسداها أثناء الحرب. لكنه اعتذر عن تقبّلها، وفق الأب فاسيلي شفتس في كتابه “عجائب أيقونة سيِّدة قازان”، قائلاً إن الراهِب ليس في حاجةٍ إلى مال. وزار كذلك لينينغراد. وصبيحة 26 تشرين الثاني1947 أقام القدَّاس الإلهي في “كاتدرائية القدِّيس نيقولاي”، و”وضع إكليلاً باهِظ الثمن على أيقونة سيِّدة قازان في كاتدرائية القدِّيس فلاديمير، وارتفعت أصوات المؤمِنين مُنْشِدة ترنيمة الشفيعة الغيورة”.
وفي العدد الأول من المجلة للعام 1948، أنه “بعد وضع التاج (على الأيقونة) ألقى المتروبوليت الانطاكي كرم عِظةً شهيرة تكلَّم فيها كيف ظهرت عليه والدة الإله، وأوكلت إليه لنقل ندائها إلى القيادة الحكومية والدينية الروسية”.
كما يمكن الوقوف على نواحٍ مختلفة من الزيارتين في أعدادٍ تعود إلى العامين 1945، و1954. إلا أن العدد الأقرب للزيارة، يبقى الأهم كما تظهر مَشاهِد مُتَلْفَزة لزيارة كرم إلى الكاتدرائية في الفيلم الذي أُنْتِجَ في العام 1999، بعنوان “وسمعت صوتاً من السماء”، للمخرج نيقولاي راوجين، والذي تناول حياة المطران إيليا، وشهادات حول الرواية.
والفيلم الذي عُرِضَ غير مرة على الشاشة الصغيرة، يقع في 42 دقيقة، خُصِّص للألفية الثانية على ميلاد المسيح. والمادة التوثيقية فيه قليلة مُقارَنة بالبُعد الروحي، والتركيز على عجائبيّة أيقونتي سيِّدة النورية وسيِّدة قازان. وقد دوَّن كاتب السيناريو ف. بوفالييف، تجربته، في جريدة “ترود” بتاريخ 4 تشرين الثاني/نوفمبر 1999.
ويكون متروبوليت جبل لبنان الراحِل إيليا كرم، بتصريحه على “منبر الحقيقة”، للشعوب الروسية والسلافية، عن رؤياه وتنفيذها من قِبَل ستالين، قد أنهى تلك المهمّة الخطيرة التي أُلقِيَت على عاتقه، من قِبَل السيِّدة العذراء، التي كان، وفق الروايات، لا ينفصل عن الصلاة لها.
ففي العام 1918، وبإلحاحٍ خاصٍ من والدته وإثر شفائه من مرض التيفوس، قابل البطريرك غريغوريوس الرابع حداد، الذي عيَّن له مُدرِّساً خاصاً باللاهوت، بعدما وصلته أخبار وَلَعِه الكبير بالكنيسة، ولا سيما منذ كان في العاشرة من عُمره، حيث كان قد أشاد مزاراً للسيِّدة العذراء، كان يمضي فيه ما لا يقلّ عن عشر ساعات يومياً.
في المُحَصِّلة، وفق الوثائق المُتوافِرة أتمّ المتروبوليت كرم ما دعاه إليه إيمانه العميق. أما روسيا السوفيتية فانتصرت بفضل دماء ملايين المُقاتلين على الجبهات، وبعد أربع سنوات من القتال حقَّق النصر التام على أعتى قوَّة في التاريخ الحديث.
اترك تعليقاً