“أغوجي”… أمهاتنا…!
كتيبة نسائية أفريقية حمت العرش وأرعبت الغزاة الفرنسيين
ارتكب الأوروبيون خطأً فادحاً عندما استهانوا بالمحاربات في “مملكة داهومي”، اللواتي عُرفن باسم أغوجي، أي “أمهاتنا”. فقد ألقى الرجال أسلحتهم، رافضين قتال النساء، بعد أن اجتاحت أمازونيات داهومي السفن الفرنسية في القرن التاسع عشر.
سرعان ما تعلم الأوروبيون درساً قاسياً، عندما بدأت النساء بركلهم وضربهم بـ”الخطاطيف” (وهي حَديدة مُعوّجة الرأس) بكلّ وحشية، وبشراسةٍ لم يشهدها العالم على الإطلاق.
كما تعرّضت محاربات مملكة داهومي للاستخفاف على أرض الواقع، كذلك حصل في هوليوود مؤخراً؛ فقد كان من المتوقع ألا تتجاوز إيرادات فيلم King The Woman بضعة ملايين في أول عطلة نهاية أسبوع بعد عرضه. لكنه في الحقيقة تجاوز كلّ التوقعات، بإيراداتٍ بلغت 19 مليون دولار، مع إشادةٍ واسعة النطاق.
لكن الاهتمام الزائد بالفيلم ونجاحه غير المتوقع، صاحبهما بعض الجدل أيضاً، وقد تجلّى ذلك في هاشتاغ طالب الناس من خلاله بمقاطعة الفيلم لأنه لا يروي قصة مملكة داهومي كاملة.
اشتكى بعض النقاد من أن الفيلم يخفي التاريخ الحقيقي لمملكة داهومي، التي شاركت في الحقيقة بتجارة العبيد، لا بل تقول بعض المراجع إنها كانت مركزاً لتجارة الرقيق؛ عن طريق مقايضة السجناء بالسلع الأوروبية، ثم بيعهم (أي السجناء) عبيداً في وقتٍ لاحق.
فما هي الحقيقة؟ هل يمكن اعتبار أمازونيات داهومي من البطلات؟ أم شاركن في تجارة العبيد؟
قبل الدخول فيما يقوله التاريخ عن المحاربات الإفريقيات، لنتعرّف أولاً على مملكة داهومي.
في الغرب من جمهورية نيجيريا تقع جمهورية بنين، وهي دولة صغيرة الحجم من الممالك القديمة، لكنها احتضنت إحدى أقوى ممالك أفريقيا في التاريخ المعاصر، فقد ازدهرت مملكة “داهومي” في بنين من القرن الـ17 حتى مطلع القرن الـ19، في ظل جيش نسائي.
طوال التاريخ، كانت الحرب حكرا على الرجال، لكن كتيبة “أغوجي” بغرب أفريقيا قد غيرت هذه المعادلة، وتعني كلمة “أغوجي” الإنسان القادر على الحماية، وقد مثلت هذه الكتيبة قوة نسائية مقاتلة مرعبة في مملكة داهومي.
على الساحل الغربي من أفريقيا، نشأت مملكة داهومي الصغيرة القوية (في جمهورية بنين حاليا)، وقد توسعت منذ القرن الـ19 توسعا مطردا في مواجهة مملكتي أسانتي ويوروبا، اللتين تفوقهما حجما.
كانت في بدايتها خاضعة لحكم ألادا، وحصلت على استقلالها عام 1715، ثم أصبحت خاضعة للاستعمار الفرنسي عام 1892. وفي عام 1904، أصبحت المملكة مستعمرة فرنسية، فكانت جزءاً من الحكومة العامة لمنطقة غرب إفريقيا الفرنسية.
تميّزت مملكة داهومي، منذ قيامها، بجيشها المكوّن من النساء المحاربات، أبرزها نساء أمازونيات داهومي، وقد شنّ ملوكها عدة غزوات ضدّ جيرانهم وتمكنوا من توسيع نطاق المملكة بشكلٍ ملحوظ.
شكلت مملكة داهومي قوة مهمة في القرن الـ18، وكوّنت جيشاً كبيراً. كانت البداية مع الملك الثالث لبلاد داهومي، هويجبادجا، الذي حكم من عام 1645 إلى عام 1685.
ويُقال إنه أسّس مجموعة حرسٍ شخصي له من النساء المتدربات على فنون القتل والحرب، التي تحوّلت فيما بعد إلى جيشٍ متكامل، لا يخشى المغامرة وخوض المعارك الخطرة.
وقد تمتعت كتيبة المحاربات في مملكة داهومي بالكثير من الشراسة والقساوة والمهارة في فن الحرب، حتى أطلَق عليها المستعمرون الأوروبيون أسماءً مختلفة، منها: “سباراتا السوداء” و”أمازونات داهومى” أو “محاربات الأمازون”، بسبب تشابهها مع أسطورة الأمازونيات المقاتلات في الأساطير اليونانية.
قاتلت “محاربات الأمازون” في الصفوف الأمامية لجيش داهومي، واشتهرن بالإقدام والشجاعة في المعارك التي خضنها، سواء خلال غاراتهن على القبائل المجاورة أو نضالهن ضد القوات الأوروبية.
تنافست القوى الاستعمارية -فرنسا وبريطانيا وألمانيا- على السيطرة عليها، لكونها من آخر ممالك أفريقيا المستقلة. لكن جيش داهومي كان يعتمد اعتمادا كبيرا على قوة “أغوجي”، وهي كتيبة نسائية محاربة.
تولت الكتيبة حراسة القصر وتشكيل خط المواجهة الأمامي للملك، وبسبب قوتهن كن مسؤولات عن إنفاذ القانون وجباية الضرائب، وكان على الرجال أن يحذروا في حضرة أولئك النسوة.
تقول البروفيسور سوزان بلير مؤلفة كتاب “محاربات داهومي داخل وخارج إفريقيا”: كان المرء إذا التقى بقوات أغوجي في الشارع يفر فورا، أو يلقى نفسه في حفرة ما، ويغمض عينيه خوفا.
حظيت محاربات أغوجي بمكانة زوجات الملوك، لذا كانت مواجهتهن مدعاة لإنزال العقوبة، وإذا همّ أحد بلمسهن فقد عرّض نفسه للقتل.
تشكلت الكتيبة من فتيات فقيرات وإماء أُسر بعضهن وهن في ربيعهن العاشر، وأصبح لديهن ولاء مطلق للملك، ففي كل 3 سنوات كان الملك يطلب جزية من زعماء القبائل في داهومي، والجزية هي فتاة قاصر تعمل في قصره، وبذلك يضمن ولاء آبائهن للملك. ولا يستطيع زعماء القبائل المعارضة، فذلك يعني القتل ومصادرة أراضيهم.
أقيمت القصور الملكية في قلب مملكة داهومي، وكانت مجمعا ضخما تدار منه المملكة بأيدي 6 آلاف امرأة، فقد كان ينظر إلى الرجال على أنهم تهديد للملك، فلم يكن يسمح بدخول القصر إلا لقلة منهم، وتولت النساء مهمات الخدمة والحراسة والأعمال الإدارية.
على مدى 200 عام، كانت تجارة الرقيق محورية في اقتصاد داهومي، وكان أهالي غرب أفريقيا يُيؤسرون ويرسلون إلى المستعمرات الأوروبية في الأمريكتين، وفي القرن الـ18 كان عشرة آلاف إنسان يُصدرون ويستعبدون كل عام، عبر شواطئ داهومي وحدها.
كان للمحاربات دور حاسم في القتال، مع أنهن لسن أغلبية، فقد كن ثلث العدد الكلي للجيش، لكنهن ذوات اختصاص، فمنهن راميات للسهام، وأخريات حملن البنادق، وبعضهن استُخدمن في التجسس.
تلقت المحاربات تدريبات معقدة للغاية، آخرها أن يتجاوزن حاجزا من الأشواك والشجيرات الشائكة وهن يكتمن ألمهمن، وقد كان أكثرهن تحت تأثير صدمات شديدة، فقد شهدن تدمير بيوتهن أثناء الحرب، واقتيد أفراد أسرهن للعبودية، وعشن في منزل جديد ومجتمع جديدة وعائلة جديدة.
كان مؤتمر برلين عام 1884 بداية الصراع الأوروبي على أفريقيا، فقد تقاسمت القوى الأوروبية قارة أفريقيا، وبقيت داهومي مستقلة، مع أنها محاطة بمحميات تسيطر عليها تلك القوى.
لم يكن ملوك داهومي بمعزل عن تلك الأطماع، فقد كانوا يدركون نية الأوروبيين -ولا سيما فرنسا- الاستيلاء على سواحلها ومواردها الطبيعية.
بدأت محاولات فرنسا عن طريق سفيرها “جون ماري بايول”، فقد سعى للقاء الملك لعقد صفقات معه، لكن محاربات داهومي وقفن له بالمرصاد، واستخدمن معه حيلا نفسية، واستدعينه في لقاء، وأعدمن أمامه جواسيس، وملأن القصر بلوحات آكلي لحوم البشر.
بعد أسابيع من الانتظار، مُنح “بايول” -وقد اعتراه السخط- فرصة لمقابلة الملك، سعيا لعقد معاهدة تمنح فرنسا حق استخدام موانئ داهومي، لكن الملك كان مريضا فوكّل أكبر أبنائه بلقائه، فرفض عرض السفير، وسجنه مدة شهرين حتى أذن الملك برحيله.
اضطر “بايول” لتوقيع معاهدة رسمية، تمنح مملكة داهومي سيطرة تامة على موانئها ومواردها، لكنه شعر بإهانة كبيرة، وأضمر نية الانتقام، وبات تدمير داهومي شغله الشاغل.
ضغط “بايول” على البرلمان الفرنسي لتمويل غزو واسع النطاق، وأطلق حملة صحفية لقلب الرأي العام على داهومي، واتهمهم بأكل لحوم البشر وإلقاء القرابين البشرية في المياه.
ثم مات ملك داهومي، وأبقى القصر موته سرا، وبات ابنه الأوفر حظا لخلافته، وبعد أسابيع نُصب ملكا على العرش، وسمى نفسه الملك “بيهانزن”، وسارع لفرض سلطته.
مع أن فرنسا كانت لديها معاهدة مع داهومي، فإن وجودها العسكري كان محدودا في “بورتو نوفو” على سواحل داهومي، تمثل بـ360 جنديا سنغاليا.
في إحدى الصباحات، اعتقلت فرنسا بعض مسؤولي الملك، فكان ذلك سببا كافيا لإعلان الحرب. وقد أمر الملك “بيهانزن” بالهجوم على القرى التي يسيطر عليها الفرنسيون حول “بورتو نوفو”، ووكّل كتيبة “أغوجي” بالتجسس عليهم، ثم مهاجمتهم.
جمعت محاربات “أغوجي” معلومات حول أماكن الأسلحة وخطط أعدائهن، ثم قتلن المتعاونين مع الفرنسيين، وأضرمن النار في حقولهم، وجئن برأس أحد زعماء القبائل المتعاونة إلى الملك.
في آذار 1890، أعد الملك “بيهانزن” جيشه لحرب شاملة مع الفرنسيين، فتمركزت القوات الفرنسية السنغالية خارج ميناء كوتونو (بنين)، مواجِهةً آلاف المحاربين الداهوميين من كتيبة “أغوجي” النسائية، ومع أنها كانت متفوقة عدديا فقد كانت فرص النجاة ضئيلة، فالفرنسيون مسلحون ببنادق حديثة.
ومع حلول الظلام، لقيت مئات المحاربات الداهوميات مصرعهن، وتعيّن على الكتيبة أن تعيد تنظيم صفوفها بعد الهزيمة، ومع أن الملك قد خسر المعركة فإن سياسة الأرض المحروقة وحرب العصابات التي شنها على المتحالفين مع فرنسا أجبرتها على اتفاقية سلام.
ثم تحالف الملك مع ألمانيا غريمة فرنسا، فمنحته مدافع وبنادق، مقابل سفن محملة بالرقيق.
في آذار 1892، هاجمت قوات الملك زورقا حربيا فرنسيا، فاتخذتها فرنسا ذريعة لإعلان الحرب، وبعد شهرين وصل الجنرال الفرنسي “ألفريد أميديدوتس” إلى الساحل مع 2200 جندي فرنسي وأفريقي. لكن جيش داهومي فاقه بخمسة أضعاف.
عند الفجر اشتبكت قوات الاستعمار الفرنسي مع الجيش الداهومي، وعلى رأسه كتيبة النخبة “أغوجي”. وأدت الحرب إلى تراجع الداهوميين تدريجيا نحو عاصمتهم أبومي، وتقدم الجيش الفرنسي 40 كيلومترا، بعد شهرين من القتال المرير.
لم يستطع الجيش الداهومي قلب الطاولة بعد عدة أشهر، وتكبد خسائر فادحة، واقتربت فرنسا من احتلال العاصمة، وقُتل أغلب محاربات “أغوجي”. ثم أمر الملك بحرق العاصمة ومجمع القصور، حتى لا تقع في أيدي أعدائه.
خسرت داهومي، وأمست المملكة مستعمرة فرنسية، واعتُقل الملك “بيهانزن”، ونُفي إلى جزيرة مارتنيك، فكان آخر ملوك داهومي المستقلين، ونجت قلة قليلة من أفراد كتيبة “أغوجي”.
المصادر
عربي بوست
الجزيرة الوثائقية