الأحد الثاني من الصّوم... احد القديس غريغوريوس بالاماس

الأحد الثاني من الصّوم… احد القديس غريغوريوس بالاماس

الأحد الثاني من الصّوم… احد القديس غريغوريوس بالاماس

للمطران جورج خضر

أعلنت الكنيسة قداسة غريغوريوس بالاماس أسقف تسالونيكي السّنة ال1368 وعيّنت عيده في الأحد الثاني من الصوم. وجاء تقديس الرجل بناء على مجمعين عُقدا في السنة ال 1341 و1351 وحدّدا أنّ الإنسان قابل للتّألّه بمعنى أنّه يشترك في النّعمة الإلهيّة غير المخلوقة وإن كان لا يساهم في الجوهر الإلهي. الإنسان يصير إلهًا بالنّور الإلهيّ غير الحسيّ الذي ينسكب عليه إذا أدرك عدم الانفعال وتحرّر كلّيًّا من الشّهوة فبلغ الصّفاء. وهذا ممكن في هذه الحياة.
النفس والجسد معًا يشتركان في المسيح في هذا العالم. ضدّ هذا النّزعة الفلسفية اليونانية التي تفرّق بين الروح والمادة. هذه الفلسفة قائمة على نظرة ثنائيّة إلى الإنسان، الأمر الذي يعطّل وحدة الشّخصية الإنسانيّة. النّظرة الأرثوذكسيّة تقول إنّ خبرة التقشف أو النّسك اساسيّة لرؤية الله. عكسها الحركة العقلانيّة التي تجنح إلى حكمة هذا العالم.

المطران جورج خضر
المطران جورج خضر
يصرّ الأرثوذكسيّون على أنّنا إذا تطهّرنا بالفضيلة نخرج من الأنا، نتجاوزها، إذ يجب أن نتخطّى المحسوس والمعقول ونغوص على الصّلاة ونمتلئ من جمال الرّوح القدس. فما من معرفة ممكنة لله إلّا بالتّطهر من الهوى. إنّ المعرفة الحقيقيّة لا تأتي من الدراسة ولكن الطّهارة تميّز بين ما هو صالح ونافع وما ليس كذلك.
إنّ خطأ الذين حطّموا الايقونات وخطأ الذين يؤمنون بالعقل وحده هو أنّهم جميعًا يرون صدامًا بين الرّوح والمادة وما علموا أنّ الروح والمادة صارا معًا من بعد تجسّد الكلمة الإلهي.
إنّ مكانة المادّة في الحياة الروحيّة حملتنا إلى تكريم الايقونة، وكذلك مكانة الجسد في الحياة الروحية نلمسها في الصّوم الذي يقيم النفس والجسد كليهما في المسيح. وهكذا يأتي النّسك اعترافًا عقائديًّا عندنا. فالصوم ليس فيه بتر للجسد ولا تعظيم رخيص له، فإذا تفلتت رغبات الجسد لا يكون مشدودًا إلى الرّوح، ولكن إن ضبطناه يصير مكانًا للرّوح القدس.
نحن نحافظ على كلّ وظائف الجسد. قد ننقطع بالإمساك جزئيًّا ومؤقّتًا عن الطّعام لكي نفهم أنّ الجسد ليس للجوف ولكن للربّ والربّ سيبيد الجوف ويبقى الجسد في النّور، ويعيد الربُّ إلينا في القيامة الجسدَ نفسه الذي كان منّا ولكن بلا الوظائف الزّائلة التي كانت له على هذه الأرض. يجعله نورانيًّا بسبب النّور الذي اقتبلناه بالمعمودية والقرابين الإلهية. إنّ القربان الذي نكون قد تناولناه هو الذي يبعثنا إلى القيامة. “أنا الخبز الحيّ الذي نزل من السماء. من يأكلْ من هذا الخبز يحيَ للأبد” (يوحنا 6: 51).
هذا يبعدنا عمّا يقوله مَن يعتبر أنّنا ضدّ الجسد. نحن ضدّ الجسد الذي يعصى الله بالتّفلّت. كذلك نحن لسنا ضدّ العقل ولكنّنا مع العقل الخاضع لكلمة الله، الناشئ من كلمة الله. بعدها تأتي كلمة الإنسان. نحن لسنا ضد الغرائز إن انضطبت، فقد كفّرنا في القرن الرابع الذين حرّموا الزّواج واللّحم والخمر. هذه الثلاث الله باركها. نحن ضدّ الإسراف في كلّ شيء والإفراط. فاذا اقتبلنا الزّواج نقدّسه بالطّهارة والصّلاة والمحبّة. بلا هذه كلّها يتحوّل إلى متعة وإلى أنانيّة.
هذه الرؤية نتربّى عليها لأنّ كلّ رؤية صالحة تتربّى بالاستمرار وتتغذّى بقراءة الكلمة. كانت أهميّة القدّيس غريغوريوس بالاماس أن رأى كلَّ ذلك وقال لمثقّفي عصره المكتفين بالفلسفة إنّ هذه لا تفهم شيئا بلا إله. ولذلك لا نخوض نحن جدلًا فلسفيًّا إلّا من حيث أنّه قد يساعد على الإيمان، ولكنّنا لا نصل إلى النّور من خلال الفلسفة.
المسيحيّة ليست إيديولوجيّة تصارع إيديولوجيّات. إنّها حبٌّ لله وذوقٌ له وطاعة. نحن المسيحيّين لاهوتيّون جميعًا لا بمعنى أنّنا حملة شهادات من معاهد لاهوت بل من حيث أنّنا نتحدّث عن الله من خبرتنا له بالرياضات الروحية ومحبّتنا للقريب ومراقبة حركة الفكر وحركة الحواس. نحن لا نسلّط ذهنًا مجرّدًا على الأفكار التي تُفرض علينا ولكنّنا نسلّط النّور الإلهي فنحكم في كلّ شيء ولا يحكم فينا أحد.
هذا هو معنى الأحد الثاني من الصّوم.

 

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *