الايقونة انجيلاً مدهشاً

الأيقونة انجيلاً مشاهداً…

الأيقونة انجيلاً مشاهداً…

الأيقونة انجيلاً مشاهداً…

نقول عن رسام الايقونة انه كاتب الايقونة لأنه يعتمد النص الكتابي أو اللاهوتي أو الطقسي وهي مواضيع تشكل اساساً لعمله،  واحيانا نسميه “مصور الأيقونة لأنه يقوم بعمل صورة للموضوع المراد تصويره فيها. لذا يوصف مصوَّر الايقونة او الرسام إنه “كاتب الأيقونة” ومصور الايقونة ونادراً مانستخدم تسمية رسام الايقونة وخلاصة ذلك “إن الأيقونة هي اللاهوت المصور” ووصف الرسم ينصرف الى اللوحات المرسومة.

ان كاتب الايقونة ومصورها كمن يقرأ ليتورجية الكنيسة ويترافق في ذلك مع التعبد والصوم والصلاة الباطنية كي يعطيه من يصور القدرة على تجسيد مايصبو اليه في صورة متقدسة ونصا ليتورجياً مقرؤاً.

ايقونة سورية فن شعبي القرن19

 

موطن الايقونة

اذا كان الفكر المسيحي قد خطا خطواته الأولى في سورية، وتبلورت خصائص مفيدة له فيها وفي المحور “سورية – فلسطين” حيث وُضعت اللبنات الأولى لثقافة مسيحية، فقد كان الفن المسيحي مظهراً من مظاهر ذاك الفكر وتلك الثقافة. وقد تبلور الفن بدوره في هذه البلاد التي تلاقت فيها تيارات حضارية وفنية هامة، أصيلة ووافدة. شكلت الحاضنة الطبيعية لتشكل الفن المسيحي الأول.

فاذا ماقلنا “الفن المسيحي” فإننا نعني التعبير الفني الذي يترجم الاشارات المسيحية بالشكل واللون لتصوير حوادث الانجيل المقدس ودلالات النصوص المقدسة.

ولأن الفن المسيحي عموماً والارثوذكسي خصوصاً هو “فن طقوسي” بالنتيجة، أي متعلقاً بالطقوس الكنسية، فاستيعاب هذا الفن في انعكاساته الطقسية يستلزم معه آلية استخدام العنصر الفني في الطقوس والممارسات المعمول بها في الكنيسة وخارجها. وفي حال الايقونة فذلك يستلزم معرفة النصوص الطقسية – التي كُتبت في الاصل شعراً باللغة اليونانية، او ماكتب منها باللغة السريانية، وقد وصلت الى الناطقين  بالعربية اليوم مترجمة عن هاتين اللغتين – التي يعبر عنها الموضوع المصور في الايقونة، وكيف تم تلاوة تلك النصوص أو ترنيمها أمام الايقونة حتى تكتمل العملية التأملية للفنون الثلاثة المعينة وهي الشعر واللحن والصورة.

أيقونة ثيوتوكس فلاديمير أي والدة الإله سيدة فلاديمير.
أيقونة ثيوتوكس فلاديمير أي والدة الإله سيدة فلاديمير.

إن تلك النصوص أخذت، في ازمنة مختلفة، شكلها النهائي الذي وصل الينا  تحملت فيها التعديل والتنقيح بسبب اختلاف  وجهات النظر اللاهوتية والسياسية والظروف الانسانية والأحداث التي واكبتها في المناطق اللغوية والجغرافية المختلفة.

وتبعها في ذلك تحولات في مفهوم الأيقونة حتى اخذت هي أيضاً أشكالها المتنوعة في المفاهيم المختلفة من  رومية بيزنطية، وجورجية سريانية، وقبطية، وأرمنية وسلافية وبلغارية وروسية وغربية…وغيرها، التي وصلت الينا كأطرٍ تكّون الفن المسيحي فيها.

تاريخية ارتباط النص المقدس بالصورة

عاش بولس الرسول وهو مشرع المسيحية ورسول الأمم بين الاعوام5 و 64 مسيحية وهو شاول المضطهد اهتدى الى المسيحية على “طريق دمشق” فطريق دمشق هو وصف لتنصر بولس وانقلابه بعد تلك المقابلة الرهيبة وجهاً لوجه مع ربنا يسوع وهو من اعطاه وصف الرسولية وصار كبير الرسول مع بطرس واعتمد واعتنق المسيحية في دمشق في الشارع المستقيم في حوالي العام 35 مسيحية، يكون قد كتب رسائله بين السنوات ال35 الى 64مسيحية اي الى حين اعدامه في رومة بأمر نيرون بعدما اسس وبطرس كرسيها.

اما الاناجيل الاربعة المعتمدة في الكنيسة قاطبة اي متى، مرقص، ، لوقا، ويوحنا، فالثلاثة الاولى منها كُتبت بين سنتي 70 و80 مسيحية اما يوحنا فقد كتب انجيله في حوالي 100مسيحية.

 ايقونة مغارة بيت لحم
ايقونة مغارة بيت لحم

أما يوحنا الذهبي الفم الذي عاش بين سنتي 344مسيحية و407 مسيحية، فقد كتب قداسه الالهي في تلك الفترة بينما رتَّبَ باسيليوس الكبير قداسه الالهي خلال حياته من سنة 329 الى 379مسيحية.

هاتان الخدمتان الالهيتان وهما الأكثر اعتماداً في ليتورجية الكنيسة الارثوذكسية كافة، اضافة الى القداس الالهي ليعقوب الرسول اخي الرب وهو اول قداس في الكنيسة فقد دخل اولاً ومنذ منتصف القرن المسيحي الاول /القرن الرسولي/ في قداديس الكنيسة الارثوذكسية وتقيمه بطريركية اورشليم الارثوذكسية في عيد القديس يعقوب الرسول كونه اول اساقفتها.

وفي العودة الى البدايات، يُحسن أن نستشف شيئاً من الجو الثقافي في سورية وفلسطين في القرن الاول المسيحي، محاولين إلقاء بعض الضوء على الحراك الفكري الحاصل آنذاك وانعكاسه على فن الصورة في النقاش حول قبولها أو رفضها في الممارسة الدينية.

فمن حين اهتداء شاول- بولس الرسول على مشارف دمشق في كوكب ” طريق دمشق” ( انظر أعمال الرسل 1:9-29)، وانطلاقه، من دمشق الى حوران ” العربية” (غلاطية17:1-23)، ولدى مراجعة الوقائع المذكورة في هذه النصوص بتمعن يتبين أن بولس كان له بعد اهتدائه أكثر من رحلة بين اورشليم ودمشق يحاور فيها اليهود وغيرهم ويبشرهم بالمسيح، فكان من اليهود من آمن بالمسيحية كما وغيرهم من الأقوام الأخرى.

فشاول الطرسوسي تلميذ معلم الشريعة الموسوية غملائيل، وهو  أي شاول المضطهد الفريسي القاتل لاستفانوس اول الشمامسة المشبع بالثقافة الهلينية – الرومانية، أخذ بعد تحوله الى المسيحية يحاور العرب في العربية وغيرهم من الأقوام المتواجدين في سورية وفلسطين: الفرس وسكان مابين النهرين وآسية الصغرى، والمصريين والرومانيين والكريتيين (انظر أعمال الرسل 9:2-11) بغية هدايتهم الى المسيح، وكانوا على ثقافات متنوعة بين اليونانية  والعربية والآرامية والعبرية والفارسية…

القديسان بطرس وبولس مؤسسا كرسي انطاكية
القديسان بطرس وبولس مؤسسا كرسي انطاكية

ومن ناحية أخرى فالانقسامات بين الجماعات اليهودية في القرن الاول المسيحي، وعلى الأخص بين الأسينيين (جماعة وادي قمران) والفريسيين. فالأسينيون بمفهومهم للحياة والكون والغيب يخالفون مفاهيم الفريسيين المتعصبة وتمسكهم الحرفي بشريعة موسى، وقد سبّبَ تصلب الفريسيين كثيراً من المضايقات للجماعات المسيحية الأولى في اورشليم، وأيضاً معارضتهم الشديدة للهلينيين الذين تهودوا منهم أو الذين آمنوا بالمسيح، مما ادى الى انقسام بين اليهود المسيحيين والوثنيين- المسيحيين.(1)

ونتساءل لدى استقرائنا لهذه النقاط عن موقف الجماعات الاثنية التي اعتنقت المسيحية في سورية وفلسطين في القرن الأول المسيحي من الصورة التشكيلية، فتحريم العهد القديم جليّ للصورة واستعمالها دينياً، لذا كان من الطبيعي أن يتحاشى اليهودَ المهتدون للمسيحية الصورة خشية الوقوع في الصنمية، في حين ان المسيحيين الذين  جاؤوا من وسط هيليني – روماني أو فارسي فقد كان في تراثهم الثقافي حيزٌ للصورة وإسقاطاتها مايبرر عدم ممانعتهم لها كوسيلة إيضاح وطريق لمناجاة الكائن المطلق في العبادة.

أما في الرها (اورفا) فنقع اولاً على ماحدث بين الملك الأبجر والسيد المسيح من مراسلة، القصة التي تحدثت عنها كتب الأيقونات والتي جاءت في تاريخ الفن المسيحي، وكيف أن المسيح له المجد ارسل الى الملك الأبجر صورة وجهه مطبوعة على المنديل، الصورة التي اعتبرت في الثراث الايقونغرافي الكنسي طليعة الأيقونات “اول ايقونة” لأنها “لم ترسم بيد بشرية” وكان ذلك في بدايات الدعوة.

وفيما بعد في مدرسة الرها اللاهوتية في القرن الرابع المسيحي، ثم في مدرسة الرها الفارسية (سميت كذلك لأن الغالبية من تلاميذها كانوا يأتون من الأمبراطورية الفارسية الساسانية) ثم في مدرسة نصيبين اللاهوتية في اواخر القرن الخامس، ففي تلك المدارس تم دمج العلوم اللاهوتية اليونانية بالتراث السرياني المحلي. وتجلى حينئذ استعمال الشعر السرياني وفيه المجاز والرمز والسر. إذ ان الشعر كان اداةً لنقل اللاهوت في التعليم الديني. وكان ممن لعبوا دوراً مهماً في الفترة مابين القرنين الرابع والخامس أفرام السرياني ونرساي السوري ويعقوب السروجي واسحق السرياني وكلهم لاهوتيون كتبوا افكارهم شعراً، وكان ذلك زمن الفرس  الساسانيين.(2)

أما وقد ذكرنا المدارس اللاهوتية السريانية في الرها ونصيبين في القرنين الرابع والخامس المسيحيين وحتى السابع، وكيف تمت فيها عملية دمج العلوم اللاهوتية اليونانية بالتراث المحلي السرياني بعد نقلها من اليونانية الى السريانية، كذلك ذكرنا بعض اللاهوتيين الشعراء، الذين أثروا تلك المرحلة بمجهودهم الفكري، فهذا إنما يضعنا في الجو العلمي الشمولي المعاش في تلك الفترة والمعبر عن التمازج الحضاري بين عدة محاور

المحور الأول ممثلاً لتيارٍ يوناني قوي بديع الصورة آتٍ من الشمال الرومي وعاصمته القسطنطينية والذي هو في علاقة تبادل ثقافي فكري وفني مع أنطاكية في الشمال السوري.

المحور الثاني هو الممثل لتيار سرياني قائم في بلاد الرافدين وفيه الرها والموصل وسواهما من المراكز السريانية الهامة.

ايقونة سريانية
ايقونة سريانية

المحور الثالث فهو مجال التواصل من جهة الشرق مع فارس الساسانية.

(جاء حكم السلالة الساسانية في بلاد فارس من 224مسيحية حتى دخول الاسلام، وهذا الزمن الساساني كان تالياً للزمن البارثي في بلاد فارس).

النهج الانطاكي الايقونغرافي

يتمثل الفن الايقونوغرافي وفق نهج مدرسة انطاكية في الفسيفساء في الغالب في ارضيات الكنائس الخلقيدونية السورية في وادي العمق وايبلا والشمال السوري ومنطقة ادلب وباريشا وحلب… وانطاكية والجبل الأقرع والمدن المنسية كما نشاهده فيها ومعرة النعمان واريحا…

هذا مهد لسيادة الفسيفساء في كاتدرائية دمشق الشهيدة كاتدرائية القديس يوحنا المعمدان، وفيها رأس القديس يوحنا المعمدان الحامي لدمشق وهي كاتدرائية اسقف دمشق الرومي(3) هذه الكاتدرائية التي كانت تشكل ربع مساحة دمشق وقتئذ  والتي حولها الوليد بن عبد الملك الى جامع بني امية السنة 705مسيحية في الحقبة الأموية ( القرن7 و8 مسيحيين) وقد دخلت الفسيفساء واكتست جدران الجامع الاموي  والشيء ذاته في الجامع الأقصى بالقدس الذي بناه الخليفة ذاته.

كذلك ماهية الايقونات التي كانت تكسو كنائس القسطنطينية ودمرها محاربوا الايقونات خلال مائة عام في القرن الثامن.

اما فن الايقونات في سورية من بعد منتصف القرن الثالث المسيحي حتى الى مابعد القرن السابع المسيحي، هي الحقبة التي لم تبق لنا أحداث الزمان شيئاً ملموساً نحتكم اليه.

المعطى الاول

هو الفن المسيحي الأول الذي يُفترض أن يكون أساسه في الوجوه التدميرية والقامات، والذي نراه أيضاً في فن معابد دورا اوربس المختلفة الانتماء.

المعطى الثاني

ايقونة الرب يسوع الضابط الكل ايقونة انطاكية ارثوذكسي
ايقونة الرب يسوع الضابط الكل ايقونة انطاكية ارثوذكسي

هو الفن الجداري في كنائس كبادوكية في آسية الصغرى من القرن الرابع حتى الثامن، إذ أن الأثار الباقية منه تُشعر بأن هذا الفن هو لقاء بين الرؤية الرومية  والرؤية السريانية في الوجوه والأيدي والثياب والحركات. من هنا ندخل في دائرة المنطقة السريانية في منطقة الشرق السوري اي بلاد الرافدين والجزيرتين العليا والسفلى، ونتساءل هل كانت المخطوطات التي استعمل فيها رواد المدارس السريانية  الشعر مزخرفة بتصوير ايقوني؟ والحقيقة هي اننا نعثر في المخطوطات السريانية المعروفة من القرن السادس ومما سبقه ومما لحقه على عناصر أيقونية وزخرفية لها مؤداها الخاص في جماليتها وتميزها التعبيري كما نرى من جداريات سريانية تعود الى القرن 13 في دير مار موسى الحبشي في القلمون اي بعدها بقرون.

ونتذكر هنا الانجيل الطقسي الذي يسمى انجيل رابولا نسبة الى الراهب الذي نسخه وزينه في دير زغبة الذي كان يقع في منطقة أفامية السورية.

المحور الثالث

هذا المعطى يلج الى المجال الساساني الفارس، وقبله الزمن البارثي الفارسي، وابداعات هذا الفن في النحت والتصوير مايستدعي دراسة التأثيرات اليونانية – الرومانية في  هذه الفنون الفارسية والمقارنة مع التأثيرات الفنية الرومانية في سورية في فن تدمر ودورا اوربس من حيث يأتي  الفن المسيحي الأول، في الفترة المتحلقة حول القرن الثالث المسيحي.(4)

في كتابه المذكور آنفاً يعمد ثروت عكاشة الى النظر لفن تدمر ودورا اوربس كإنجازات للفن الفارسي في مرحلتيه البارثية والساسانية حسب السياق التاريخي لكل من المرحلتين، علماً بأن الكتاب لم يتطرق الى أثر هذا الفن في الفن المسيحي الأول في سورية.

وقد تبدو وجهة النظر تلك مقبولة اذا قمنا بمقارنات وصفية لوقفة المُشخص الجبهية او لزركشة الثياب اذا ماعلمنا أن التدمريين قد لبسوا السروال الساساني تحت السترة الرومانية.

كيف اتى الفن المسيحي الأول في سورية شكلياً من وجوه تدمر وجداريات دورا اوربس؟

“يخيل لي(5) ان الفن المسيحي الشرقي في الايقونات الاولى وفي المخطوطات السريانية هو بعلاقة وصفية مع ماسبقه من فنون في سورية، كما يخيل لي ان الفن الفارسي في مجال النحت الميداني على الجبال الصخرية وفي الادوات الاستعمالية هو بعلاقة مع الفن الرومي حتى احتلال العثمانيين للقسطنطينية عام 1453مسيحية، ومع الفن السلافي والروسي فيما بعد ذلك، سواء في المنحوتات أو المسكوكات او في انعكاس المفهوم الفني في النحت البارز على فن الفسيفساء وفن الايقونة اذ يخيل لي ايضا ن هذين الفنين الفسيفساء والايقونة، رغم اعتمادهما التسطيح الا ان شيئاً من التجسم مسَّهما بخفر”.

منحوتة تدمرية
منحوتة تدمرية

ويقول الاستاذ الفنان الياس زيات كاتب الايقونات الدمشقي الشهير القول في مقاله المنوه به:” قد اكون في استرجاعي لتك المعلومات مثيراً لجدل لايرحم النقاش فيه الا انعدام المكتشفات الأثرية الكافية بالنسبة للفن المسيحي، لكن ما استدعيه قد يجد مبرراً له من الناحية التنظيرية على الأقل.” (انتهى الاقتباس من الاستاذ الزيات).

ومن جهة الشعر المسيحي الرومي باليونانية فاننا نتذكر القديس رومانوس المرنم الحمصي الأصل (حوالي 490-560م) وما كتبه ولحنه من اناشيد في الطقس  الرومي حيث حظي بألقاب امبراطورية. وكذلك القديس الدمشقي كنارة الروح (6)منظم الموسيقا  الرومية البديعة يوحنا الدمشقي (القرن 7-8م) الذي ترك المجد في البلاط الاموي واعتكف في دير مارسابا الرومي في فلسطين بالقرب من القدس حيث  ظهرت روائعه في رهبنته بهذا الدير فوضع مصنفات بالدفاع عن العقيدة الارثوذكسية “المائة مقالة في الايمان الأرثوذكسي”  في مقطوعاته البديعة المسماة “الدمشقيات”، وفي تكريم الايقونات عامة وفي تكريم العذراء خاصة بوضع ابيات مديح لوالدة الاله شعراً باليونانية وتصنيفه للالحان الكنسية الرومية البديعة  الثمانية مع مقامات واوزان… لازلنا نعتمدها في زماننا الحالي فهي الاساس…

وقد حصل ذلك بالتعاون مع رفيق دربه في الرهبنة واخيه قوزما المرنم الذي تربى معه في دمشق ببيت جده منصور .

الأيقونة – الصورة المقدسة: نشأتها وتطورها

من المعروف انه في بدء انتشار المسيحية وبالرغم من الظلم والقتل والمذابح التي حلت بالمسيحيين، الا اننا نرى انهم استخدموا اشارات رمزية للتعارف والدلالة على امكنة اجتماعاتهم السرية وغالباً في الدياميس وعند قبور الشهداء بالمسيح، وكانت هي مغائر خارج المدن كانت تستخدم لدفن الموتى، فاجتمع فيها المسيحيون في منأى عن الأعين، مثل دياميس روما في ايطاليا.

مراحل آلام المسيح تصوير الاب يوسف المصور المدرسة الحلبية
مراحل آلام المسيح تصوير الاب يوسف المصور المدرسة الحلبية

وقد اكتشف شيء مشابه في ضواحي حمص، ككعبة حمص… ومن تلك الاشارات السمكة وسلة الخبز والمرساة والقارب والكرمة.

واذا كان الخلاف بين المسيحيين الجدد حول معنى الاصنام كتمثيل للقدسية، تحريمها أو اباحتها قائماً في القرن المسيحي الأول في اورشليم، وامكنة اخرى من فلسطين؟ الا انه ومنذ القرن المسيحي الثاني تبدلت القضية، فأخذت بعداً أكثر طراوة ذات معنى انساني حيال التمثيل (الصنمي)، إذ اعتبر تمثيل المقدَّسْ رمزاً للاله وليس الهاً.

وهنا التساؤل عما اذا كان هذا، وأقصد تمثيل المقدس باعتباره رمزاً للاله وليس الهاً ، مقارباً لما سوف يأتي فيما بعد كمفهوم للأيقونة يخلص الى أن تكريمها لايعني عبادتها، انما هو تطلع نحو ما تستجليه من عوالم لامرئية؟ الأمر الذي ثبته مناصرو الايقونة بعد حرب الايقونات فيما سيسمى حرب الأيقونة أو انتصار الأرثوذكسية وتعيد له الكنيسة الارثوذكسية في أحد الارثوذكسية.

منذ القرن الثاني المسيحي ايضاً استبدلت الاشارات الرمزية على جدران الدياميس أو في بيوت العبادة العلنية- حيثما وجدت في ارجاء الأمبراطورية الرومانية- بمشاهد خلاصية مثل المسيح آدم الجديد وسفينة نوح وشفاء المخلع والعشاء الأخير، وكذلك جملة من المواضيع الرامزة لقيامة المسيح والحياة الفردوسية للراقدين على الرجاء.

وفي موقع دورا اوربس (صالحية الفرات) في سورية تم اكتشاف جداريات، في عشرينات القرن الماضي، في بيت التبشير المسيحي وفيه قاعة مخصصة للعماد يعود الى اواسط القرن الثالث المسيحي.

في تلك القاعة وجدت عدة مشاهد منها مشهد الراعي الصالح وتعثر بطرس في مشيه على الماء والنسوة حاملات الطيب يسرن صوب قبر الرب يسوع وشفاء المخلع (وهي  مختلسة من سورية وحالياً في متحف جامعة ييل في اميركا).

وبين القرن الثالث والقرن الرابع المسيحي أخذ يتبلور عند آباء الكنيسة معنى التجسد. ومن هنا جاءت المنطلقات الأولى لعلم اللاهوت، وذلك بعد تأمل في نصوص الكتاب المقدس ودراستها وتفسيرها، وكانت رسائل القديس بولس الرسول وحوارات الأناجيل دعائم هامة لهذا الفكر اللاهوتي.

وقد اخذت الكنيسة افكاراً لاهوتية واعتمدتها مرحلة اثر مرحلة

  • ابن الله وكلمته  صار انساناً كي يجعل الانسان الأرضي سامياً الى الآب السماوي في التوق اليه بالروح.
  • العماد بالماء والروح هو الولادة الجديدة وسبيل النمو بالروح، فالانسان الجديد المتجدد على صورة خالقه هو قد صار كذلك بتجسد كلمة الله في حركة نمو البنوة لله.
  • في المسيح الكلمة المتجسد، تزاوجت الطبيعتان الالهية والبشرية…والمسيح، آدم الجديد، وحده يُنير الخليقة الاولى والخليقة الجديدة بصلبه وقيامته.

وهكذا “فالصورة” و”الشبه” تواجدتا في كلمة ايقونة EIKON اليونانية التي تعنيهما، واخذت الصورة ترافق الطقوس في الكنيسة الاولى للبرهان على تجسد ابن الله في المسيح الانسان وحلوله بين الناس.

وبعد قرون وذلك في القرن الثامن-التاسع (780-843) مسيحية يعود الخلاف ليحتدم بين مؤيدي الايقونة وخصومها حتى ليأخذ طابع العنف. في تلك الفترة التي اسميت حرب الايقوناتiconoclasme والتي كانت قضية  رومية بامتياز،

من دمشق يدافع الدمشقي الوجيه

يوحنا الوجيه المنصور بن سرجون (عاش بين 650 – 750 مسيحية بين دمشق ودير مارسابا قرب القدس)

يوحنا الدمشقي من دمشق عاصمة الامويين يدافع عن الايقونة، ويفقد يده نتيجة وشاية الأمبراطور الرومي للخليفة الاموي فيقطع الخليفة الاموي يد عامله يوحنا الدمشقي…ولكن العذراء الطاهرة ولتبرئته من تلك الوشاية تعيد له يده المقطوعة  بيدها الطاهرة وتم تصوير ايقونة القديس يوحنا الدمشقي ساجداً للعذراء التي تعيد له يده… وكان قد سجد لها شاكرا ان يده قطعت دفاعاً عن ايقونتها المكرمة…وهذا ما اذهل الخليفة الذي قرر اعادة تكريم عامله يوحنا الا ان اعتذر ليصرف ماتبقى من حياته راهباً في خدمة الايمان الارثوذكسي القويم…

ايقونة القديس يوحنا الدمشقي ويده المقطوعة
ايقونة القديس يوحنا الدمشقي ويده المقطوعة

من دمشق المقدسة كتب القديس يوحنا الدمشقي المكنى بمجرى الذهب تشبيها له بنهر بردى بفروعه السبعة (والسبعة في المسيحية الارثوذكسية تعني الحكمة) كتب رسائل ودفوع من اجل الايقونة نلخص منها مايلي

“اذا استوعبت ان المنزه او اللامرئي قد تجسد لأجلك، فيجوز لك ان تعمل صورته الانسانية المرئية…وبما ان اللامحدود قد لبس الجسد الانساني، فصور هذا الشكل اذا على الخشب وتأمل صورة الذي اراد ان يكون مرئياً، فإن لم تصور الابن الذي رأيناه فأنت اذن تُنكر تجسد الآب الذي لم نره.

وقد فرض سياق الاستعمال الميداني للصورة في الكنيسة ان يحمل اسلوب تصويرها  تعبيراً روحياً متقشفاً وشفافاً اي بعيداً عن الثقل المادي”. وفي ذلك يقول سيادة المطران  المعلم جورج خضر في تجلياته

“صناعياً، كالكنيسة، الايقونة مبنية من حيث ان الخطوط الهندسية بُنيتها وتتحكم بها لكون هذه اللوحة تجريدية مترفعة عن طغيان الجسد وشهويته لتصبح مسطحاً له كما سيكون في متجليات الكون الآتي”.

في تأمل لتصريح المطران جورج الذي يصح ان نصفه بالقمر الرابع من اقمار كنيستنا الارثوذكسية عامة والانطاكية خاصة، نرى اننا من خلال الايقونة “نُشرف على متجليات الكون الآتي حيث يغدو الجسد الترابي، المتكون من مادة تشغل حيزاً ثلاثي البعد يصبح هذا الجسد ذا بعد روحي يُعبر عنه في الايقونة، بطريق التأليف الهندسي لموضوعها، التأليف الهندسي الذي يحمل حتمية ثنائية البعد المسطح.(7)

وفرض ايضا سياق الاستعمال الميداني للصورة في الكنيسة أن تكون مرتبطة بالنص الديني وتتبعه في دقة التفاصيل التي يدونها عن حياة المسيح أو العذراء مريم او القديسين والقديسات، وان يرتفع اسلوب التصوير، بصرياً في الأيقونة الى الروحانية التأملية التي يؤديها النص في مداه اللاهوتي. لذلك فالايقونة كعمل فني لايستوي تقويمها الا باستيعاب العامل الفكري المحرض على ابتكارها، هذا العامل الذي يساهم في تكوين مفهوم الايقونة الجمالي، ومعلوم ان فن كل حقبة تاريخية يحمل مفهوما جمالياً متعلقاً به، وتتم المقارب اختصاصياً للاعمال الفنية التابعة لتك الحقبة تبعاً لذاك المفهوم الجمالي.

 الى هذا فإن المتتبع لتاريخ الصورة في الكنيسة يقع على مايلي

– لقد نقل تلاميذ المسيح رسالة معلمهم الالهي بشارة كلامية شفهية أو مكتوبة، وهم بمجيئهم من وسطهم التوراتي لم يشعروا بحاجة الى الصورة كوسيلة ايضاح وتثبيت لقصد كرازتهم كما اسلفنا بالعكس كانوا يتحاشونهاخشية الاتهام بالوثنية والصنمية حسب ماجاء في العهد القديم:” لاتصنعن لك تمثالاً ولا صورة شيء” ( الوصايا العشر، خروج 4:20-5) وعندما اتجهوا في بشاراتهم الى الامم فهؤلاء جاؤوا من تراثات ثقافية متنوعة كان في بعضها اسقاطات للصورة إسقاطات ومبررات.

إلا ان آثار الفن المسيحي الأول والقديم القليلة الباقية في ارجاء الامبراطوريتين الرومانية والرومية تعود تقديراً الى القرنين الثاني والثالث المسيحيين، وذلك حتى تقوم المصليات الأولى بدءاً من اواسط القرن الرابع هنا وثمة في كل مكان استشهد فيه قديس وقديسة.

ان احترام المؤمنين لرفات الشهيد دعاهم للعمل على بناء مصلى – مزاراًللتأمل والتبرك والاستشفاء في المكان الذي حصلت الشهادة فيه، أو في مكان آخر أكثر لياقة حيث كانت تنقل الرفات باحتفال مهيب، وفي هذا المزار كانت توضع فيه صورة الشهيد.

واذا كان الفينيقيون والتدمريون والمصريون وغيرهم من الاقوام القديمة، قد صنعوا صورة ملونة او منحوتة للمتوفي تمثله اثناء حياته كي توضع على قبره او على موميائه، فإن المسيحيين قاموا بعمل صورة للشهيد القديس لا كجسم حسي اعتراه الموت بل كرفيق للمسيح الحي المنتصر على الموت الناهض من القبر. وكان لإمكانات التصوير والنحت السائدة آنذاك ما ساعد على وضع صورة للشهيد القديس واعتمادها وثيقة تصلح لاستنساخها ونشرها بين المريدين، كانت صورة مبتكرة في مداها التأملي ولكنها لم تخلُ من المطابقة مع الأصل الحي اعتماداً على الوصف المتناقَلْ لهيئة الشهيد وقامته وسنه ومهنته التي كان يمارسها في الدنيا، وهكذا تكونت شيئاً فشيئاً الايقونات الاولى.

تشير الدراسات الى أن الاستعارات  الفنية والاسلوبية جاءت الفن المسيحي الاول في منطقتنا من مصدرين أساسيين: المنحوتات المشخصة التدميرية (من حقبة القرنين الثاني والثالث الميلاديين)، ومن صور الوجوه في فيّوم مصر(من الحقبة مابين القرنين الثالث والخامس الميلاديين).

صحيح أن المنحوتات التدمرية وصور الفيوم قد مثلت كلها الشخص بعينين كبيرتين تنظران الى ماوراء الكون، واستعار ذلك الفن المسيحي، الا ان مايميز الفن المسيحي الاول والقديم ناحيتان:

الناحيةالأولى فكرية إذ ينطلق هذا الفن من قناعة بأن المسيحله المجد قد عاش حقاً على الارض بين الناس وبشَّر بملكوت المحبة ثم مات وقام فاسحاً  أمام الراقدين رجاء الحياة الابدية.

ومن هنا أتت صورة الشهيد التي اعتبرناها الايقونة الاولى مبنية على ايمان بحقيقة مختلفة عما بُنيت عليه شبيهاتها في تدمر والفيوم.

في المحصلة فإن ايقونة القديس لاتمثله كجسم حي اعتراه الفناء بل كصاحب للرب الحي المنتصر على الموت، وهو اي الشهيد القديس وقد اصبح الآن في حضرة الله، وكان قد أمضى حياته في الظهورات الالهية، وفي اللحظة التي سبقت استشهاده تحول وجهه الى وجه نوراني، مثال ذلك ماورد في اعمال الرسل بأن استفانوس اول الشهداء عند محاكمته تحول وجهه الى ملاك فتكلم وقال خطبة طويلة كان آخرها:”الا اني  ارى السماوات منفتحة وابن الانسان قائماً عن يمين الله.” فلذلك نصور القديس بعينين واسعتين للدلالة على انه ينظر الحضرة السماوية والنور الالهيلأن فيهما وتجاهما بصورة ابدية.

واما الناحية الثانية فهي تتعلق بالموضع، فرفات القديس التي بُني عليها المصلى- المزار كانت توضع في صندوق رخامي غالباً ومزخرف، وهو ذو فتحة في أعلاه يُصبّ فيها الزيت وفتحة ثانية في أسفله يؤخذ منها الزيت المتقدس بملامسة بقايا القديس. وتفنن الصناع الفنانون في عمل الصندوق، كما تفننوا في صنع قوارير وحواجل الزيت المقدس التي كان يُحمل الزيت فيها بغية نقله وتداوله للتبرك والاستشفاء. وكانت هذه الحواجل من الزجاج أو الخزف ومنها ماحمل نقوشاً أيقونيةبمواصفات عالية الجودة الفنية.

في متاحفنا ومتاحف العالم واصلها من ارثنا المحلي المختلس بعضها من فلسطين القبر المقدس، ومن سورية حلب وادلب وايبلا وباريشا وحلب وحمص ودير سمعان العمودي والمدن المنسية وغير ذلك…

الايقونة ونصوص الكتاب المقدس

العهد القديم

اذا كانت بعض نصوص العهد القديم، كالمراثي ونشيد الاناشيد والنبوءات والمزامير تحوي صورا شعرية وتأملية رمزية، الا ان الله في العهد القديم يخاطب الشعب بالكلمة المنطوقة:” اسمع ياشعبي…” والكلمة المنطوقة هي مفهوم مجرد حتى ولو اتت منها الحكمة تكون الحكمة نظاماً لافرح فيه، أضف أن في العهد القديم نصوصاً تحرم التصوير المرئي كما في سفر الخروج(5:4:20) وفي تثنية الاشتراع (15:4-18) ورد مايلي:”…فاحتفظوا لأنفسكم جداً أنكم لم تروا صورة في يوم خطاب الرب لكم في حوريب من وسط النار. لئلا تفسُدوا وتعملوا لكم تمثالاً منحوتاً على شكل صورة ما من ذكر أو أنثى…”

العهد الجديد

في نصوص العهد الجديد نجد صوراً وصفية عن حياة السيد المسيح وامثاله وعظته على الجبل . أضف أن هناك دعوة للرؤية ومن هنا يأتي الفرح. وتأكيداً لما قلناه نقرأ في رسالة يوحنا الاولى(1-4:1):” ذاك الذي كان في البدء، ذاك الذي سمعناه،ذاك الذي سمعناه، ذاك الذي رأيناه بأعيننا…ذاك الذي لمست يدانا من كلمة الحياة، لأن الحياة تجلّت فرأيناها، نكتب اليكم بذلك ليكون فرحنا تاماً.” وفي رؤيا يوحنا ترد الكلمة المكتوبة والصورة المترافقتين اذ يقول الملاك:”أكتب ماتراه.”

الصورة المرئية

لعبت الصورة المرئية دوراً مهماً كأداة للتواصل الفكري بين الأفراد والجماعات في حضارات الشرق القديم قبل الكتابة. وجاءت الكتابة نمطاً متطوراًللصورة ودلالة مجردة قابلة للتداول وذلك في الأف الرابع – الثالث قبل الميلاد في سومر وأكَاد. وفي الألف الثاني قبل الميلاد في اوغاريت وصور. واذا كان التاريخ قد بدأ بهذا الكشف العظيم”الكتابة” اي النص. فالصورة المرئية ظلت تواكب النص كوسيلة ايضاح اخرى هي الدلالة البصرية والوجه الآخر للتعبير الفكري، وبذلك لم تترك الصورة النص اسير الكلمة المنطوقة- المكتوبة حتى تخاطب البصيرة داعية الى التأمل وتكامل المعرفة.

وللصورة المرئية أساليب متعددة نستطيع جمعها في منظومتين اثنتين

المنظومة الاولى تؤدي الصورة المعنى فيها بأسلوب تعبيري يعتمد تحوير الشكل حتى الرمز.

والمنظومة الثانية تؤدي الصورة المعني فيها بأسلوب واقعي تقريري. ويلعب في المنظومتين عاملٌ مهم وهو الحقبة الزمنية التي تعود اليها الصورة وما يرافقها من منظور جمال سائد في تلك الحقبة، فنقول مثلاً الفن القبطي أو الفن الاسلامي ونعني بذلك مواصفات فنٍ ما زمانياً ومكانياً وجمالياً.

واذا كانت حضارات الشرق القديم في بلاد الرافدين والهلال الخصيب وحوض المتوسط الشرقي ومصر،  منذ الألف الثامن – السابع قبل الميلاد حتى القرن الثالث – الرابع المسيحي، قد مارست في فنونها المرئية النمط التعبيري واستمر ذلك، على نحو، في فنون العصر الوسيط المسيحية والاسلامية. فإن فنون اليونان والرومان منذ القرن الثامن-السابع قبل الميلاد قد مارست في فنونها المرئية النمط الواقعي الكلاسيكي هذا النمط الذي وجد فيه عصر النهضة الاوربي في القرن الخامس عشر رافداً لانجازاته في الرسم والنحت والتصوير.

واذا ما تمازجت الفنون الكلاسيكية (اليونانية – الرومانية) بفنون الشرق القديم في بلادنا في حقبة التمازج الحضاري منذ القرن 4ق.م (مجيء الاسكندر المقدوني 330ق.م)، وظهر ذلك في الفن الهلنستي والروماني الشرقي، فقد شكلت هذه النماذج موروثاً فنياً يُلحظ أثره في الفن المسيحي الشرقي منذ القرن 3م في سورية وفلسطين وبلاد الرافدين ومصر، وهو الفن الذي تمظهر في معنيين: سرياني وقبطي.

هذا وان سرَّ نماذج الفن في الحقيبتين الهلنستية والرومانية في بلادنا يكمن في انها تحمل على السطح لبوساً يونانياً – رومانياً وتُبقي على الروح الشرقية في مضمونها التعبيري.

وفي هذا المجال يوضح العلامة أندريه غرابار قائلاً بمامعناه:” إن نماذج الفن الشرقي في الحقبة المتأخرة من العصور القديمة بين القرنين 3و4م لايمكن اعتبارها استمراراً هجيناً للفن الكلاسيكي الغربي لأن لهاا تركيبها الخاصمن غنى مصادرها وبسبب مهارة مبدعيها، وذلك ماجعلها تنتشر في مدى الامبراطورية الرومانية ويهمنا هذا الفن الجديد لأن الفن المسيحي الأول والمدارس المختلفة التي تبعته في الأصقاع ولم تخرج في أطرها العامة عن الرؤية الفنية التي أوجدها هذا الفن في الأشكال وطرائق الاستعمال. زد أن هذا الفن قد طرح اشكالات جمالية وتقنية نراها في نماذج العصر الوسيط اللاحقة.”

من المعلوم ان حرب الأيقونات قد دامت في عهد الامبراطور الرومي ليون الثالث الايصوري وانتهت في حكم الامبراطورة ثيودورة وابنها ميخائيل الثالث. وقد أدت الحرب الى استشهاد عدد كبيرمن الرهبان دفاعاً عن الايقونة ووجودها في الكنائس وضرورتها الطقسية والتربوية، كما دُمرت أيقونات وجداريات ومخطوطات مصورة كان بقاؤها مفيداً في معرفة مؤشرات مهمة ومفيدة في تاريخ هذا الفن فلم ينج الا مالم تصله يد الاثم في بيزنطة. اما في دير سانت كاترين في سيناء فقد بقيت مجموعة من الايقونات تعود الى فترة ماقبل تلك الحرب لايتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة.

بالاضافة الى جدارية الفسيفساء في أعلى حنية الكنيسة الكبرى في الدير، وهي تمثل مشهد تجلي السيد على جبل ثابور يقف بثياب ناصعة بين موسى وايليا، بينما يجثو على الأرض التلاميذ المختارون للمرافقة بطرس ويعقوب ويوحنا فيعبرهؤلاءالثلاثة عن اندهاشهم بحركات أيديهم وقسمات وجوههم، ويؤطر المشهد مجموعة من الوجوه في دوائر مرصوفة تفصلها عن بعضها زخارف نباتية، وتمثل الوجوه صوراً موصوفة لأنبياء ورسل ممن جاء ذكرهم في الكتاب حسب علاقتهم بيسوع المسيح وتاليمه.

ويُذكر أن أسباباً سياسية واقتصادية حرضت السلطة االرومية على محاربة الأيقونات ومن اهمها الصراع بين هذه السلطة والكنيسة على ملكية الأراضي التابعة للأديار وعائداتها وذلك لاحتياج السلطة الى الأموال اللازمة للعمليات الحربية.

اعتبر تدخل الامبراطورة ثيودورة لوقف محاربة الايقونات انتصاراً للفكر الأرثوذكسي، فأعيدت الى الايقونة قيمها الانسانية واللاهوتية والطقسية، ما ادى الى حراك نهضوي مهم تجلّى في الاحتفالات الطقسية بالمناسبة بمشاركة الشعب وفيما انبرى اللاهوتيون والفلاسفة من وضع مواعظ ونصوص مواعظ ونصوص مكتوبة لتوضيح المفهوم الذي يجب أن تُبنى عليه الايقونة، وما احتاجه ذلك من بحث في سياق نصوص الكتاب المقدس في منظور التدبير الالهي ومبرر تجسد الابن، وذلك ماتشهد عليه الايقونة آخذة دورها في ترجمة رؤية الحقائق الماورائية بلغة الشكل واللون، ولذلك ففي الفترة التي تلت السنة 843م قام المنظرون من آباء الكنيسة بوضع قواعد لضبط النهج الفني في الأيقونة كي لاتكون مجرّد صورة حسية ملموسة بل أن تصير صورة معنوية رامزة حتى ترتقي بالمتأمل فيها الى مناجاة من تُشخّصه وتكريمه في رؤية حدسية تصوفية اعتُمد في أدائها انسياب الخطوط ورمزية الألوان واتباع الفنان طقوساً خاصة من صوم وصلاة وتبريك للمواد المستعملة قبل بدء العمل في الأيقونة، وكان هذا الفنان يُعطى درجة كهنوتية مثله مثل كاتب الشعر الكنسي ومثل المرنم وقارىء النصوص في الكنيسة. وذلك ظهر في نصوص المقررات الناتجة عن المجمع الكنسي الذي عقد في مدينة نيقية في السنة 787م وجمع المتداعين الى الدفاع عن الايقونة، وكانت الحرب ضدها لم تضع أوزارها بعد، خاصة وأن ذلك المجمع قد جاء رداً على مجمع عقده المناوئون للأيقونة في السنة 754م.

جدير بالذكر أنه بعد حرب الأيقونات وانتصار الأيقونة نتج عن ذلك أمران عمليان حصلا في مبنى الكنيسة

1- تنسيق المشاهد الأيقونية في الكنيسة حسب نظام لايزال معتمداً الى اليوم في السقف أو القبة وعلى الجدران.

2- نما الايقونسطاس  وهو الحاجز الذي يتوسطه الباب الملوكي ويفصل هذا الحاجز المصلين عن الهيكل الذي فيه تُجرى الطقوس، فبعد ان كان جداراً واطئاً (8)اصبح جداراً عالياً يحمل عدة صفوف من الايقونات كما في الكنائس  الارثوذكسية.

وقد ابدع الفنانون الروم  في تصوير وكتابة الايقونة بعد حرب الايقونات، وزوال المحنة في السنة 843م بانتصار الايقونة. فقد تم عمل العديد من الايقونات في زمن الاسرة المقدونية التي حكمت القسطنطينية من السنة 867 الى السنة 1081م ثم في زمن آل كومنين من السنة 1081 الى السنة 1181م، واعُتبرت ازمان الحقبتين مجتمعة عصراً ذهبياً للأيقونة حتى سمّي بالنهضة المقدونية لأن خلاله أُعيدت ولادة عصر اوربي كان مزدهراً في الفن وهو الكلاسيكية اليونانية – الرومانية بمفاهيمها الجمالية في النحت والتصوير، في الحرص على اعتماد النسب الذهبية في بناء الجسم البشري وفي أناقة تحركه على سطح اللوحة وفي عمليتي الرسم والتظليل.

وأضيف ذلك في رومة الجديدة الى المفهوم الشرقي في الرؤية الخاصة بالأيقونة الذي تحضَّر في كل من سورية ومصر وتابع مسيرته الى انطاكية فالقسطنطينية مروراً ببلاد الرافدين والجزيرتين العليا والسورية وكل آسية الصغرى. وكانت النتيجة فناً رومياً ارثوذكسياً ملوكانياً، متجلياً بشكل خاص في عمل المنمنمات في المخطوطات وما اكثرها في وثائق البطريركية الانطاكية بدمشق وأديارها  البطريركية والابرشية التاريخية العريقة، وحتى في اصغر الكنائس في اصغر التجمعات الرعوية. فقد ساد هذا الفن الملوكاني ليس فقط في عاصمة  الامبراطورية الرومية (القسطنطينية) بل في كل مكان في المسكونة واقصد الامبراطورية الرومانية الشرقية شرقاً وغرباً وحتى في منطقة فارس بتأثير وهدي رومي خلاّق. اضافة الى النقش على العاج، إضافة الى الايقونات الخشبية والجداريات.

هذا وان الامثلة كثيرة على ذلك نذكر منها مانجده اليوم من روائع ايقونات تلك الحقبة الذهبية من الفن الرومي في المتحف الرومي في أثينا وفي كنائس سالونيك وفي دير القديسة كاترين في سيناء وفي اديار انطاكية البطريركية والابرشية وحتى المختلسة منها… المفعمة بالمجد وتاريخه الرومي الزاهي. وتعد ايقونتا “سيدة فلاديمير” الموجودة في متحف تريتياكوف في موسكو، وايقونة “سيدة دمشق” في جزيرة مالطا من روائع الايقونات الرومية الخالدة في تلك الحقبة.

ويستمر هذا النمط الأيقوني الرومي في مفهومه الجمالي أثناء حكم آل باليولوغوس لللقسطنطينية من السنة 1261 الى السنة 1453 اي  تاريخ ذاك المشهد الحزين لثلاثة ايام بلياليها واكثر في الامبراطورية الرومية الذي قضى باقتحام العثمانيين القسطنطينية واستباحتها لهم وعددهم ثلاثمائة الف انكشاري متعصب جاهل للفن والحضارة متعطش لسفك الدماء…دخلوا الى القسطنطينية  وسيوفهم تقطر دماً رومياً من شهداء اكليروس وعلمانيين من الاسرة المالكة حتى الفقير…محتلين وقاتلين ومنتهكين الاعراض ومدمرين هذه الروائع ومحولين هذه الاديار والكنائس الى مساجد واولها كاتدرائية الحكمة الالهية آجيا صوفيا…وان كان خليفتهم محمد عارف للحضارة الرومية وعاشق لها فاحتفظ بهذه الكاتدرائية الشهيدة لنفسه وحافظ على جدارياتها  ولو بطليها بالكلس، واحتفظ لنفسه بتسمية سلطان الروم  تشبهاً بأباطرة الروم ذوي المجد الزاهي لنيف وعشرة قرون مضيئة من الحضارة الانسانية، واعتمد التقويم الرومي مع التقويم الهجري في اداريات ودواوين الدولة العثمانية…

نرى ان هذا النمط الايقوني تجلى بشكل خاص في الفسيفساء الجدارية كما في آجيا صوفيا وغيرها من مساجد اسطنبول بعد إزالة ماكان يغطيها من طبقة كلسية، وجدير ذكره ان فن الايقونة بمفهومه الكلاسيكي هذا قد بدأ يتسرب الى بلاد البلقان والبلاد السلافية والروسية مع الفنانين الذين غادروا بيزنطة إثر اندلاع حرب الايقونات حيث وجدوا أرضية خصبة لفنهم معتمدين على تشجيع امرائها الحسني الايمان، فترعرع فيها فن الايقونة متخذاً سمات متمايزة حسب طبيعة كل منطقة وقومها من تلك المناطق المؤمنة وحضاراتها المحلية ومستمراً فيها حتى بعد سقوط واحتلال القسطنطينية (9) بيد العثمانيين 1453م حيث ايضا هاجر  الفنانون من القسطنطينية الى جبل آثوس وبلاد البلقان واوربة الشرقية وحتى الى سواحل ايطالية وانشأوا فنهم الايقوني، حيث اصطلح على تسميته مذاك بالفن” مابعد  الرومي”، وهو ماينطبق على ايقونات النهضة الايقونية التي حصلت في مدينة حلب في القرنين السابع عشر والثامن عشر مع اسرة المصور أب وإبن وحفيد وتسمت المدرسة الحلبية(10)

ومن الجدير ذكره ذكر المعلم الانطاكي المطران جورج في تعليقه على تسمية الفن الرومي حيث قال

“اذا ماقلنا فناً بيزنطياً فلا يعني أنه متصل أساساً ببزنطية العاصمة، ولكنه يسمى كذلك بسبب ظهوره في مدى الامبراطورية وعلى وجه التخصيص في مصر وسورية. وبعد سقوط القسطنطينية، ظل يزدهر حيثما حلت الكنيسة الأرثوذكسية”.(11)

يتساءل إمام فن الايقونة الفنان الاستاذ الياس زيات  رحمة الله عليه(12)

” اذا كانت الايقونة انجازاً في فن التصوير قوامه معالجة نصوص العهد الجديد بالشكل واللون، فهل كل لوحة دينية أيقونة؟

وهنا اقصد تحديداً الموضوعات الدينية التي عالجها فنانو عصر النهضة الأوربي بمهارة في تصوير الواقع المرئي بكل ابعاده التجسيمية والتجسدية – في نمطية لم يخرج عن إطارها العام إلا ذوو الموهبة الفذة والقدرة الرؤيوية البعيدة المدى كليوناردو دافنشي ورمبراندت وجيروم بوش- وذلك منذ اواخر القرن الرابع عشر واستمر ذلك حتى اواخر القرن التاسع عشر، هذا التجسيم الذي أخذ الألباب بحسن أدائه حتى انعكس على فن الايقونة الكنسية منذ القرن السابع عشر في كل كنائس العالم الارثوذكسي، ومذاك اختلف الفن الايقوني في توجهه مبتعداً عن بيزنطيته الأصيلة واقصد بذلك عن جذره الرمزي الذي تبنته الكنيسة بعد حرب الايقونات في القرن التاسع الميلادي.”

كما يتساءل عن موقع الايقونة الكنسية في مسيرة الفن الحديث

ليس هناك من مقاربة بين الايقونة وابداعات الفن الحديث حتى اليوم هناك لوحات تزيينية في الكنائس الغربية اليوم قام بها فنانون معاصرون امثال ماتيس وشاغال…الا ان هذه وتلك لاتعتبر ايقونات بالمعنى التقليدي في الاصظلاح الكنسي، ذلك لأن الفنان الحديث والمعاصر بامتلاكه حريته لأبعد الحدود حتى الافراط في الأنا قد ابتكر دربه الخاص به وخاطب الناس به. اما فنان الايقونة فكان عليه ان يتخلى عن ذاته عند ابداعه لعمله الفني حتى يتمكن من تحقيق الشروط المثلى في مجال الممارسة الدينية لأنه يشارك بذلك الجماعة المؤمنة، وتكون الأيقونة حينذاك أداةً للصلاة والتأمل.

حواشي البحث

1- (انظر بيير كانيفي:”المسيحية في القرن الاول للميلاد”- في المسيحية عبر تاريخها في الشرق، مجلس كنائس الشرق الأوسط 2001ص:39 – 57)

2-(انظر سياستيان بروك:”نشوء الفكر المسيحي، مدارس أنطاكية والرها ونصيبين اللاهوتية”- في “المسيحية عبر تاريخها في الشرق” اصدار مجلس كنائس الشرق الأوسط2001، ص: 143-164)

3- كاتدرائية دمشق في موقعنا هنا/باب آثار مسيحية

4- انظر ثروت عكاشة:” الفن الفارسي القديم” القاهرة دار المستقبل العربي 1989،ص:212-347)

5- الاستاذ الياس الزيات مقاله:”الايقونة بين النص والصورة” كتاب نهر الحياة طباعة دمشق 2015

6- القديس يوحنا المعمدان انظره في موقعنا /باب قديسون

7- الاستاذ الياس الزيات بالاستناد الى رسالة القديس بولس الرسول الاولى الى اهل كورنثوس35:15-58 بشأن قيامة الأموات والجسد الروحي

8-نرى اثره في كنائسنا القديمة كما نرى نماذج منه في متحف دمشق.

9- سقوط القسطنطينية انظرها في موقعنا/تاريخ الكنيسة

10-  المدرسة الحلبية انظرها في موقعنا /تاريخ انطاكية

11-جورج خضر -الأيقونة، بيروت 1977

12- “الايقونة بين النص والصورة”

 

 

 

 

 

  • Beta

Beta feature


by

Tags:

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *