البطريرك ملاتيوس الثاني 1899-1906
هو البطريرك العربي الأول بعد فترة البطاركة اليونانيين 1724 – 1898 وهو من وضع أسس وركائز البطريركية الأنطاكية بواقعها الحالي، والتي سبق للعلامة أبي خلدون ساطع الحصري أن وصف حادثة نقل السدة البطريركية الانطاكية الى ابناء انطاكية الوطنيين، هذه بأنها أساس للنهضة العربية التي تتوجت باستقلال بلاد الشام والمنطقة العربية عن الدولة العثمانية مشيداً بدور المسيحيين العرب في هذا التعريب والاستقلال لاحقاً.(1)
في نسب الاسرة
اساس هذه العائلة من بلدة دوما الواقعة في اقصى الشمال الشرقي لغوطة دمشق الشرقية وقد هاجروا من البلدة مع العديد من الاسر عند كل خضة طائفية الى دمشق وقطنوا في ساحة الدوامنة الواقعة في القسم الشرقي من دمشق القديمة وكانت اخر هذه الهجرات بتأثير الفتنة الطائفية المدمرة في 10 تموز 1860 وكانت الاكبر والاشرس والافدح في الابادة المنتظمة للمسيحيين في دمشق المدينة والغوطات الاربع المحيطة وجبل الشيخ وجبل الدروز وقبلها في زحلة واقضية راشيا وحاصبيا والبقاع منذ 1849 وفي 1850 في بعلبك ومعلولا والقلمون وحلب،.
اما آل علمنا فينتسبون الى جدين احدهما موسى الذي نشأ من سلالته الدمشقيون الأرثوذكس ومن سلالته ابو موسى يوسف الموسيقي الرومي الشهير والرخيم الصوت، والخوري يومحنا الدوماني الذي خدم كاهنا في ابرشية بيروت في الربع الاخير من القرن 19 ومطلع القرن العشرين، واخيه البطريرك ملاتيوس علمنا ونقولا، ومن اولاد يوسف الدكتور الشهير موسى الدوماني احد اعيان طرابلس في اواخر القرن 19.
ومن اولاد الخوري يوحنا كاهن بيروت كان الاب الياس الذي صار من اكليروس ابرشية زحلة، ومن اولاد اخيه نقولا كان الدكتور سوتيري الذي رباه عمه البطريرك ملاتيوس مذ كان مطراناً لابرشية اللاذقية وتابعه عمه بشكل حثيث في دراسته في كل المراحل وخاصة في دراسة الطب كما تشير الوثائق البطريركية، وكانت اقامته بعد تخرجه ومنذ بدايات عمله كطبيب في الاسكندرية…
السيرة الذاتية لعلمنا
هو ميخائيل بن موسى الدوماني ( الدمشقي)، ولد في 8 تشرين الثاني سنة 1837 في مدينة دمشق القديمة، في محلة الجورة بمنطقة باب توما القديمة بعد انتقالهم من بيت الاسرة الكائن في ساحة الدوامنة، وهي اي الحارة الجديدة المسماة الجورة تقع إلى اليمين من باب توما الأثري في حارة دعيت بالجورة، كونها كانت ارضا هي الاخفض في دمشق القديمة، وكانت وحتى الثمانينات من القرن 20 تعيش فيها أغلبية مسيحية أرثوذكسية تميزت في معظم عائلاتها بأنهم من الميسورين، وتعيش معهم أقلية مسلمة شيعية بحب ووئام واحترام. وهذا ما تطبع به علمنا من حب للآخر والانفتاح عليه وتفهمه.
كانت عائلته كمثل عائلات ذاك الزمان متمسكة بإيمانها القويم وممارسة لطقوسها في مريمية الشام والكنيستين الأخريين : مار نقولا، وكبريانوس ويوستينة، الواقعتين في الصرح
البطريركي وقتئذ. لذا فانه ومنذ نعومة أظفاره ارتسمت على محياه سمات التقوى المتصلة إليه وراثة من عائلته، والحائز عليها اكتساباً بممارسته والعائلة للطقوس من صوم وصلاة وتعبد. ولما ترعرع أدخله والداه في “المدرسة الأرثوذكسية الدمشقية – المدرسة الآسية الأرثوذكسية” التي كان قديس دمشق الخوري يوسف مهنا الحداد قد أعاد فتحها(2) عام 1836 ، كما أعاد تنظيمها وفق المدارس الأوربية بعدما أخرجها من واقع الكتاتيب(3) فأخذ منها ميخائيل في طفوليته وحداثته مبادئ اللغات العربية واليونانية والتركية والإيطالية وبقية مبادئ العلوم والمعارف، في مرحلتها الابتدائية. وتابع في دراسته الرشدية ( الإعدادية ) ثم الثانوية (في مفهومنا حالياً) وظهرت فيها مواهبه وتفوقه العلمي، إضافة إلى نمو ملحوظ في روحانيته وانتمائه الكنسي وخدمته وترتيله في الكنيسة، حيث شاء الله أن يعدّه أميناً على تعاليمه، وراعياً لخرافه الناطقة في المرحلة القادمة من حياته، فمال بكل عواطفه إلى التوشح بالأسكيم الملائكي (الرهباني).
دراسته اللاهوتية وكهنوته
تتلمذ في المدرسة الاكليريكية العليا وهي القسم اللاهوتي الجامعي في مدارس الآسية في دمشق والتي كان قد أحدثها الخوري يوسف مهنا الحداد باني النهضة الأنطاكية ( القديس الشهيد في الكهنة يوسف الدمشقي) وقتئذٍ وكانت كلية لاهوتية جامعية بالقياس على كليات ومعاهد اللاهوت حالياً، وكانت بإدارته وقد ضم إليها والى مدرسة الموسيقى الرومية العليا التي أحدثها أيضاً بمباركة من البطريرك ايروثيوس، وبعم مالي وعيني من تلميذه القديس المنسي ديمتري شحادة الصباغ الدمشقي المقيم في اسطنبول بقصد العمل (4) وكانت هذه المدرسة أيضا بمثابة أكاديمية عليا للموسيقى الكنسية، وذلك لتطوير الترتيل الرومي في الكاتدرائية المريمية والكنائس الدمشقية الأخرى خصوصاً، وفي أبرشيات الكرسي الأنطاكي الأخرى عموماً ، وكان قد أحدثها وضم اليهما 12 طالباً اكليريكياً كانوا هم من أسس للنهضة الأنطاكية، وفي مقدمهم كان الراهب ملاتيوس الدوماني فاستنفد علمنا علوم هاتين المدرستين واتشح بالأسكيم الملائكي سنة 1857 ونال من البطريرك الأنطاكي ايروثيوس الذياذوخوس 1850 -1885 عناية خاصة فاعتبره من أمانة سره وأخذه معه في (17 أيلول سنة 1858). من ضمن حاشيته البطريركية المرافقة له إلى القسطنطينية، وكان هناك مجمع أرثوذكسي بدعوة من البطريرك القسطنطيني وضم الإسكندري، والأنطاكي، والأورشليمي، للتباحث في أمور تهم العالم الأرثوذكسي والكنيسة الأرثوذكسية الواقعة في دائرة الدولة العثمانية. وهناك لفت انتباه البطاركة الأربعة، نظراً لمواهبه العلمية وروحانيته وصوته وأدائه الكنسي الجميل حتى أنه رُسم من المطوّب الذكر البطريرك الأورشليمي كيرلس شماساً بإرادة من معلمه البطريرك الأنطاكي السيد ايروثيوس وذلك في يوم أحد العنصرة الواقع في 22 أيار سنة 1860.
أسقفيته
عاد مع معلمه البطريرك الأنطاكي ايروثيوس سنة 1861 إلى بيروت. ومنها إلى دمشق بعد نكبة مسيحييها في مجزرة 1860 وكان البطريرك ايروثيوس يقدر أتعابه فكلفه بإدارة ضبط وتوزيع التعويضات التي قدمتها الدولة العثمانية للمسيحيين الأرثوذكسيين المنكوبين في دمشق بهذه النكبة والتي توزع بمعرفة رئاساتهم الروحية(5). واستطاع وبفضل من أمانته إحقاق الحق بتوزيع هذه المعونات التي كان يتلاعب بها الوكيل البطريركي المطران ايوانيكيوس مساميري.
قد حقق محبة الرعية الدمشقية كلها التي كانت تعرفه حق المعرفة من خلال أسرته أولاً ومن خلاله لاحقاً، وما قام به لمصلحتها في محنتها، ولذلك فإن معلمه الذي كان بدوره يقدر أتعابه، وتنفيذاً لرغبة الرعية به، أخذ يرقيه في درجات الكهنوت، فرقاه أولا قساً، فكاهناً بحجر( منحه قبول سر الاعتراف)، ثم رفعه إلى رتبة ارشمندريت، فكان كاهناً حقيقياً أحبته الرعية، وبادلها الحب ذاته، إضافة إلى خدمته في دار البطريركية بدمشق، وأبرزها أمانة سر البطريرك. فلما ترمّلت أبرشية اللاذقية سنة 1865 بوفاة مطرانها، رشحه لرعايتها، فانتخبه مطارنة الكرسي الأنطاكي وقتئذ بالإجماع، ورُسم مطراناً في تشرين الثاني سنة 1865. وجاء إلى أبرشيته في 5 كانون الثاني سنة 1866.
أعماله في اللاذقية
كانت أبرشية اللاذقية من أفقر الأبرشيات الأنطاكية، فاستلم مهامها وجمع أوقاف كنائس اللاذقية إلى سجل واحد لتنظيمها، وحصرها خدمة للأبرشية ومشاريعها، وأسس فيها مدرسة للذكور يعلم فيها العربية والفرنسية واليونانية وغيرها… وخصص وإرادات الأوقاف للمدرسة، واعتنى بترميم الكنائس في المدينة والقرى،
وإعادة تعميرها مجدداً، فجدد وأعاد إعمار سبع كنائس في الأبرشية(6). وفي عهده انتمى الى الارثوذكسية بفضل رعايته المتميزة العديد من ابناء الاديان والمذاهب وفق الوثائق البطريركية وفي سنة 1869 منحه السلطان العثماني عبد العزيز الوسام المجيدي من الطبقة الرابعة، كما منحه ملك اليونان جورج وسام صليب المخلص الذهبي. وقد اتصف بصفات رعوية منها انه كان لين الجانب، متواضع، قنوع، نزيه، كريم، مهاب الطلعة، ملبٍ للنداء يسبق فعله قوله، تقي يمتاز بغيرة متقدة على ترقية رعيته بالعلوم والمعارف ونجاحها. فهو لم يكن يبالي بالمال من أجل النفع العام، وقد سهر الليالي في هذا السبيل. ومع أن واردات الأوقاف كانت لا تفي بنفقة المدرسة فقد ثبتها بمساعيه مسدداً عجز ماليتها من ماله الخاص (وكان كما عرفنا أنه ابن عائلة دمشقية ميسورة) وقد اعتمد نهجاً لتخفيف نفقات المدرسة ومصاريفها، وهو قبول أساتذتها ومعلميها في أكثر السنوات مقيمين في دار المطرانية على نفقته ومائدة المطرانية. وكان يسعى بشتى السبل لتمد الجمعية الأمبراطورية الروسية – الفلسطينية الأرثوذكسية (7) وزيادة في اهتمامه بنشر العلوم الروحية الأكاديمية في شباب رعيته،
فأرسل على نفقته الشخصية الشماس جراسيموس مسرة من اللاذقية، والأستاذ باسيل جبارة من دمشق إلى مدرسة خالكي اللاهوتية في اسطنبول، وبرعاية وإنفاق أحياناً من رفيق دراسته في الآسية السيد ديمتري شحادة الصباغ الدمشقي المقيم في القسطنطينية، وبمتابعة حثيثة من الأخير الذي ساهم في قبولهما وقبول الشماس روفائيل هواويني الدمشقي( القديس) وغيرهم
والأستاذ باسيل جبارة من دمشق إلى مدرسة خالكي اللاهوتية في اسطنبول، وبرعاية وإنفاق أحياناً من رفيق دراسته في الآسية السيد ديمتري شحادة الصباغ الدمشقي المقيم في القسطنطينية، وبمتابعة حثيثة من الأخير الذي ساهم في قبولهما وقبول الشماس روفائيل هواويني الدمشقي( القديس) وغيرهم
، وكان وكيلاً عنه، وعن بقية المطارنة في تدبير أمور الطلبة الموفدين من سائر أرجاء الكرسي الأنطاكي للدراسة في هذه الجامعة اللاهوتية الأرثوذكسية الأعلى في العالم وقتئذ – خالكي فنال مسرة وجبارة شهادتها العليا وعادا إلى اللاذقية الأول شماساً ومديراً ومدرساً في مدرستها وواعظاً في كنائسها(8)، والثاني مدرساً في مدرستها وهو شقيق مطران حماة.
وكان غبطة السيد اسبريدون (1891-1898) (9)قد تقدم باستقالته نتيجة احتجاج الدمشقيين رعايا وكهنة مدعومين من مطارنة المجمع الانطاكي المقدس وفي مقدمهم مطران كيليكيا جرمانوس اليوناني الذي كان اول من قام على البطريرك نتيجة سياساته الخاطئة رعائيا ونهضويا…وقد بدأ مع مطران اللاذقية ملاتيوس الحراك الرسمي لعزل البطريرك بعد الاستلاب المستمر من الرهبنات والارساليات الغربية للرعايا الارثوذكسية في دمشق وسواها… وقامت على أثر استقالته قامت الازمة البطريركية حيث تمسك القائمقام جرمانوس بحقه كيوناني في السدة الانطاكية مدعوما من مطران ابرشية حلب والاسكندرون نكتاريوس (اليوناني) ومطران أبرشية ارضروم بنيامين ( اليوناني) والدعم اللامحدود من المسكوني والاسكندري والاورشليمي تمسكا بحق اليونان فقط في كرسي انطاكية. ودامت هذه الازمة على صعيد الكرسي قرابة السنتين وخاصة من المطارنة اليونان الثلاثة فقرر المجمع بعد استنفاذ كل الفرص والمساعي الحميدة معهم واعادتهم الى روح المجمعية، قرر المجمع عزل جرمانوس من منصب القائمقام واسناده لمطران اللاذقية ملاتيوس الدوماني (علمنا) ثم تم انتخابه بطريركا على الكرسي الانطاكي، فما انجلت الازمة البطريركية الا وكانت دار البطريركية بدمشق واهنة القوى مضعضعة الاركان مثقلة بالمطالب والتكاليف تحدق بها العيون من كل الجوانب وتتهددها السنة الشامتين، وكان علمنا قد قبل كل هذه الاوضاع السلبية بكل شجاعة ونشير هنا الى ان هذا الحراك لتعريب السدة الانطاكية قد بدأ مع وفاة البطريرك ايروثيوس (1885) بقيادة المحسن الكبير والغيور الارثوذكسي العظيم السيد ديمتري نقولا شحادة الصباغ الدمشقي المقيم في الاستانة وهو النافذ الكلمة في بلاط السلطان مع رفاق دربه ودراسته
مطارنة الكرسي العرب وكان محور الحراك هو مطران اللاذقية ملاتيوس (علمنا) ومطرح ثقة الجميع وكان تلميذه الشماس جراسيموس مسرة اللاذقي هو الدينامو العارف بخصال معلمه مطران اللاذقية ملاتيوس وكان اول تلميذ موفد الى خالكي،
وتعهده السيد ديمتري حتى تخرجه بنجاح متميز فاق اقرانه اليونانيين في خالكي في الدراسة اللاهوتية و قد بقي وفيا الى معلميه ملاتيوس و ديمتري وكان يطلع الاخير بشكل سري وفي كل يوم من دمشق عن كل المستجدات وكانت امنيتهما وبقية المطارنة ان يتولى الدوماني السدة البطريركية لخصاله النادرة في الرعاية والبناء واعادة احياء السطوع الانطاكي الارثوذكسي… لكن الدسائس وتخاذل البعض افشلت هذا الحراك الوطني…وتولى السيد جراسيموس اليوناني ومن رهبنة القبر المقدس اليونانية 1885 السدة الانطاكية ليستقيل بعد انتخاب مجمع اورشليم اياه بطريركا على اورشليم ويخلفه السيد اسبريدون …قبل السيد ملاتيوس بكل شجاعة دعوة الروح القدس واستلم عصا الرئاسة بنفس ماتعودت الا الاستماتة في سبيل الايمان القويم والكرسي الانطاكي.
بطريركيته
انتُخب بطريركاً على أنطاكية عام 1898 بعد الحراك الشعبي الدمشقي الأرثوذكسي ضد البطريرك اسبريدون اليوناني الذي أكره الأخير على الاستقالة. ( وكما اسلفنا اعلاه كان قبلاً قد رُشح للبطريركية إثر وفاة البطريرك ايروثيوس عام 1885وكان عميداً للمطارنة في المجمع وأقدم أعضائه، وقائدًا للحراك الشعبي الدمشقي وفي الأبرشيات الأخرى، المقيم في الوطن والمغترب عنه وفق مراسلات السيد ديمتري حيث كان للأخير الدور القيادي في إسقاط اسبريدون وانتخاب ملاتيوس، وكان لديمتري ايضاً دوراً في الحراك المجمعي بين مطارنة الكرسي وجميعهم من رفاق دراسته ولكن كان الدور الرئيس فيه للشماس جراسيموس مسرة الذي انتقل إلى دمشق لخدمة البطريرك ايروثيوس. ولكن لم يحالفهم النجاح وقتها، بسبب ماحيك من وراء الستارة بهدف إبقاء الكرسي الأنطاكي محصوراً ببطاركة يونانيين، وانتخب وقتها البطريرك جراسيموس وهو من رهبنة القبر المقدس الأورشليمية)(8)، وخلفه البطريرك اسبريدون الذي استقال نتيجة الضغط الشعبي في الشارع
الدمشقي…وانتَخَبَ السيد ملاتيوس من أعضاءُ المجمع الأنطاكي المقدس بشبه إجماع عام 1898، عدا الثلاثة مطارنة اليونانيين السالف ذكرهم رفضوا انتخابه وتمسكوا بمناصبهم وكراسي أبرشياتهم، هم مطارنة حلب وارضروم وكيليكيا بقوة المسكوني ونفوذه عند الدولة العثمانية، بالرغم من اقالتهم من المجمع الكرسي الأنطاكي. ونظراً لنفوذ البطريرك القسطنطيني هذا لم يُصدر السلطان العثماني مرسوم تثبيته البطريرك ملاتيوس كالعادة، إلا بعد اكثر من سنة. وبعدما بذلت جهودٌ جبارة من قبل كمال بك قزح وكيل الكرسي الأنطاكي في الأستانة، فصدرت الإرادة السلطانية المثبتة لبطريركية علمنا، وجرى تنصيبه في الكاتدرائية المريمية في 31 تشرين الأول باحتفال غير مسبوق شهدنه دمشق عام 1899.
أعماله البطريركية
استلم غبطة علمنا الرئاسة والشؤون مختلة والاحوال مضطربة وقسم كبير من الابرشيات خالٍ من الرعاة والمعاكسة قائمة من المطارنة الثلاثة ومن الاغلبية اليونانية والاناضولية في الابرشيات الثلاثة بالرغم من اقالة مطارنتها ومما زاد في ثقل المنصب على غبطته انه اتخذ قوة المبدأ وثقة الجميع به بوصلة لعهده بالرغم من كل الصعوبات التي تفوقه داخليا وارثوذكسيا…وقد بدت لعينيه في الواقع حالة الكرسي بمشهدها المحزن، ورأى الدار البطريركية خالية من المال والرجال والاثاث، فبادر اولاً ومن جيبه الخاص الى تجهيزها بمايلزمها لتبدو لائقة بالكرسي الانطاكي العريق، وأنشأ فيها قاعة استقبال كبرى لافتقارها الى قاعة استقبال وذلك مابين العامين 1901 و1902، وقام بتجديد مقام القديسة كاترينا وهي التي كانت امطوش لدير القديسة كاترينا في سيناء وقد زادت نفقات هذين الصرحين عن الالف ليرة عثمانية، وقام باحداث مهجع الرهبان في الجهة الغربية من دار البطريركية، وطال الترميم كل الدار البطريركية حيث ابرزها بعد مدة وجيزة مركزاً لائقاً واحدث فيها مكتبة بطريركية لتثقيف الاكليروس والرهبان ونظم ادارة الصرح البطريركي على الاسلوب المعاصر. ورمم سقف الكاتدرائية المريمية، وجرسية وسقف كنيسة القديس يوحنا الدمشقي المجاورة للآسية وكنيسة القديس جاورجيوس في المدفن مع المقام واهتم كثيرا بمستشفى الروم الدمشقي وبقية الجمعيات العلمية والخيرية ومكتبة جمعية القديس يوحنا الدمشقي الرائدة وكان لايدخر وسيلة لتوفير الموارد المالية لأجلها.
ولقناعته المستقرة التي كانت قد دفعته الى ارساء النهضة العلمية بفتح المدارس في كل قرية وناحية في ابرشيته واوفد الطلاب المتميزين كمسرة وجبارة …للدراسة اللاهوتية العالية في خالكي لذا كانت اول اهتماماته كبطريرك بالمدارس الأرثوذكسية في أبرشية دمشق كالآسية ذكور وإناث، ومار نقولا… وكانت مدرسة الآسية الدمشقية للذكور (وهي التي تعلم فيها على القديس يوسف) ضيقة لاتحتوي على محلات كافية للدرس والتدريس فاشترى بيتاً ملاصقاً لها وضمه اليها ومثل ذلك فعل في مدرسة القديس حنانيا الرسول في محلة الميدان والواقعة في حرم كنيسة حنانيا الرسول بحارة القوره شي، فاشترى ومن جيبه الخاص نظرا لفقر الرعية الميدانية وكي لاتظهر بمظهر الصف الثاني امام الغير اشترى منزلاً كبيرا يتصل بحارتي القرشي والموصلي الموازية لها بقيمة ثلاثين الف غرش (وهو مبلغ كبير جداً وقتها) والحقه بالمدرسة المذكورة فصارت المدرسة بقسميها الاساس والمحدث تضمان كل اولاد الرعية ومعظمهم بالمجان و كذلك في سائر أرجاء الكرسي حيث تشير الوثائق البطريركية الخاصة بالابرشيات الاخرى الفقيرة انه كان يدعمها ببناء مدارسها بتقدمات كحوران وديار بكر وارضروم والموصل، كل ذلك كان قد فعله نظراً لحبه الشديد للتعليم وإيمانه بأن الرقي المنشود للكنيسة يقضي برفع سوية التعليم العام والديني (كما مر). كما اهتم بتوفير الأوقاف، وتنمية مواردها. وأعاد فتح مدرسة البلمند الاكليريكية في عام 1900، وجاء لها بالأساتذة اللاهوتيين الكبار من اليونان وروسيا. واناط بادارتها الى رفيق الدرب غطاس قندلفت خريج دار المعلمين التابعة للجمعية الامبراطورية الفلسطينية-الروسية الارثوذكسية ووفر لها مايكفيها من موارد، وقد صرف كل جهد واهتمام لترقية هذا المعهد وجعله في مقدمة اعماله العامة، ولما رأى ان مدرسة البلمند الاكليريكية
في حاجة الى قاعة كبيرة لمنامة التلاميذ فأنشأ فيها وقتها ردهة فسيحة متقنة البناء تسع اربعين سريرا واجرى عدة ابنية غيرها. بيد ان تأسيس اكليريكية البلمند واعداد لوازمها ونفقاتها الباهظة كل ذلك لم يصرفه عن النظر في بقية الشؤون المهملة التي تستدعي الاصلاح العاجل فزار الاديرة والاملاك البطريركية حيث زار اولاً دير النبي الياس شويا البطريركي واصلح شؤونه وفتح مدرسته، كما فعل بفتح مدرسة دير القديس جاورجيوس الحميراء، وترميم ديري سيدة صيدنايا البطريركي ودير القديسة تقلا البطريركي في معلولا. كما اهتم بالأوقاف في دمشق وفي الأديار البطريركية وسائر الأبرشيات، وتنمية وارداتها للإٌنفاق على خطواته التحديثية في المجالات كافة. كما أنه واكب إحداث كنيسة للرعية ومقر لمدرسة القديس يوحنا الدمشقي في حي القصاع الناشئ وقتئذٍ، وأقيمت بتوجيهاته أخوية للسيدات في كنيسة حي القصاع للصلاة ومتابعة الفقراء ومدهم بالإحسان وهي الأساس الأخوية الحالية( أخوية السيدات الأرثوذكسيات) في كنيسة الصليب حالياً. والأكبر مع وجود أخويتين أخريين للسيدات…
وكان علمنا قد زار أبرشيات الكرسي الأنطاكي المقدس، ومنها زيارته لأنطاكية ولواء الاسكندرون وكيليكيا عام 1900، بحراً من بيروت، فالأبرشيات الساحلية (حيث خُلدت زيارته تلك لما قدمه إلى كنائسها من تقدمات كنسية وآنية وأيقونات… (عايَّنا بعضها في زيارتنا إلى أنطاكية والاسكندرونة وكيليكيا بمعية مثلث الرحمات البطريرك أغناطيوس الرابع وقد دَّونا ذلك في كتابنا عن تلك الزيارة التاريخية التي تمت بعد مرور 92 سنة على زيارة البطريرك ملاتيوس إليها، المطبوع بدمشق عام 1994) ثم منها عاد إلى بيروت بحراً. وتابع جهاده في سبيل الكرسي الأنطاكي بالرغم من مقاطعة شاملة ووقف الشركة مع الكرسي الأنطاكي من قبل الكراسي الأرثوذكسية اليونانية:( القسطنطينية والإسكندرية وأورشليم…)
كتبت جريدة المحبة البيروتية (10) في مراحل جلسة انتخابه:
“انتخاب غبطة السيد ملاتيوس الى السدة البطريركية الأنطاكية
لقد طال ابتعاد السادة مطارنة الكرسي الأنطاكي عن مراكز ابرشياتهم ، ونشأ عن ذلك صعوبات ومشاكل عديدة اهمها ماحدث من الاختلال بأبرشية مركز الكرسي البطريركي ولم تنفرج الأزمة إلا بعد مضي سنة ونصف على تلك الحوادث، ولما رأى المجمع المقدس تان الفصح المجيد قد قرب ارتأى وجوب المباشرة بالانتخاب ولديهم الارادة السنية الملوكانية تخولهم الحرية التامة بانتداب شخص قد تجمل بصفات تؤهله الى مثل هذا المنصب الخطير، وقد صدرت الإرادة السنية في أواخر شهر شباط الماضي وثبتت وقتئذٍ السيد ملاتيوس قائمقاماً، وكان المجمع قد قدم الى الباب العالي قبل مباشرة الانتخاب لائحة بالمرشحين للسدة البطريركية احتوت على اسماء احد عشر سيداً من مطارنة الكرسي الانطاكي الذين جرى ترشيحهم في 6 ايار من السنة الغابرة بقطع النظر هن جنسيتهم وبلادهم، وعرضت تلك اللائحة على الحكومة حتى تصادق على تعيين من ترى به الاهلية لمثل هذا المركز المهم. ومن القوانين أن لايكون المرشحون أقل من ثلاث، على أن الباب العالي لم يُظهر نواياه، بل اقتصر على أظهار اعتراض البطاركة اليونان الثلاثة على تلك اللائحة الذين طلبوا أن يكون المرشحون من اكليروس سائر البطريركيات، واعتذروا لاضطرارهم الى عدم معرفة المنتخب من تلك اللائحة، فلم يتأخر المجمع المقدس الأنطاكي عن تفنيد ذلك الاعتراض والتشكي من تلك المداخلة الغير قانونية وطلب من البطاركة الثلاثة رسمياً ان يلزموا الحيادة، ثم عرض على الحكومة أن تُظهرْ له ملاحظاتها على لائحة الانتخاب فلم تجب طلبه فرفع إذ ذاك رسالة برقية الى الباب العالي يُظهر له الاسباب التي تحمله الى الاسراع بالعمل، وفي يوم الخميس الماضي دُعيَ أعضاء مجلس الانتخاب من اكليريكيين وغيرهم الى عقد جلسة قانونية، وكان الاكليريكيون السادة أصحاب الأبرشيات ونيافة المطران ايرينوبوليوس الذي ناب عن ابرشية ارضروم المترملة. وأما العلمانيون فكانوا نخبة من ذوات الملة ووجهائها، انتُخبوا في السنة الماضية بجلسة حافلة رسمية لينوبوا عن أهالي دمشق في امر الترشيح والتفريق، وقد رتبنا أسماءهم على حروف الهجاء وهم الأفندية أمين أبو شعر، بطرس قندلفت، جبران لويس، داود أبو شعر، سليم شاهين، سمعان لاذقاني، غطاس قندلفت، الياس شاتيلا، مطانيوس عوض، ونقولا شباط.
وفي الساعة المعينة انعقدت جلسة قانونية في المحل الرسمي المخصص لمثل هذه الاجتماعات في دار البطريركية، فافتتحها السيد ملاتيوس مبيناً فيها الأسباب التي دعت الى هذا الاجتماع والمركز الحرج الذ وُجِدَ فيه الكرسي الأنطاكي وثِقل الأحمال التي تُفَّوضْ الى المنتدب للسدة البطريركية. وعرض على أعضاء الجلسة أفكاره الخصوصية واشار عليهم بالتأني والتربص قليلاً، فوافقه البعض على أفكاره وقام الأكثرون يلحّون بسرعة الانتخاب وبييّنوا بأدلة دامغة وحجج راهنة الأسباب الموجبة الى الاسراع وبعد الأخذ والرد قرروا برأي الأكثرية مباشرة التفريق والانتخاب فقدم كل من أعضاء المجلس ورقة سرية فيها اسماء ثلاثة من المرشحين ولدى فتح الاوراق اكتسب الأكثرية:
السيد ملاتيوس (دوماني)مطران اللاذقية (سابفاً)
السيد أثناسيوس (عطا الله) مطران حمص
السيد جراسيموس (يارد) مطران زحلة
وهكذا تسجل العمل واخذ المجمع المقدس اسماء وصعد بهم الى الكنيسة الكاتدرائية (المريمية) وانتُخِبَ منهم باتفاق الأصوات السيد ملاتيوس دوماني (بطريركاً)، وما أُعلن هذا الانتخاب للشعب حتى علت أصوات الاستحسان من الجماهير المتجمعة في دار الكنيسة وتلتها الأدعية الحارة بحفظ الذات الشاهانية.
ومنذ انتخاب غبطته لسدة البطريركية الآنطاكية أخذ يُظهر مقاصده الخيرية السامي مداوماً تحريض الشعب على الطاعة والاخلاص للدولة العلية الأبدية القرار. ولما كان حضرة صاحب الدولة ناظم باشا والي الولاية السورية فاتحاً صدره لكل خادم امين لعرش الدولة الحميدية الأنوارعرض على مسامع الذات الشاهانية سلامة نوايا غبطته وجودة آرائه واستقامة أعماله فصدر الأمر المطاع بمعرفته بطريركاً لأنطاكية كما سبق.
وفاته
توفي غبطته بسكتة دماغية مفاجئة لم تمهلهتوفّي في 26 كانون الثاني من عام 1906 ، وجنز باحتفال لائق مهيب جدا في الكاتدرائية المريمية بدمشق بمشاركة كل احبار الكرسي الانطاكي ووالي دمشق العثماني وقناصل روسيا والدول المسيحية في دمشق ومفتي دمشق ورؤساء الكنائس المسيحية في دمشق وبحضور جماهيري ارثوذكسي عارم تقدمه اعضاء المجلس الملي البطريركي والجمعيات الارثوذكسية الدمشقية، وكان وفق العادة في تجنيز البطاركة باجلاسه على كرسي البطريركية وبلباسه الحبري الكامل ثم دُفن كسابقيه في مدفن البطاركة جلوسا في حرم الكاتدرائية المريمية الغربي ، وكان ذلك عام 1906.
خصاله
هو الرجل الذي ضرب بتقواه المثل واجتمعت فيه كل المزايا التي امتازبها آباء الكنيسة الابرار وغيرته مشهودة على العقائد الارثوذكسية ومحافظته على تقاليدها المقدسة واهتمامه بالجمعيات الخيرية وعطفه على المساكين ومحبته للرعية اشهر من أن تُذكر آثاره الحميدة التقوية في كل أقواله واعماله.
تميز بطهارة القلب وسلامة الطوية وتواضع النفس يلاطف الكبير والصغير ويحب الكل على السواء، كان يكره العظمة والفخفخة ويميل بكليته الى البساطة والزهد الرهباني كما تدل عليه بشهادة عارفيه معيشته ومظاهره…خيَّر يبذل المال بكل سخائه على الخير واعمال النهضة في كل الابرشيات وينفق لأجلها قبلاً ماهو موجود بجيبه الخاص الذي من عائلته وهي من العائلات الارثوذكسية الثرية، ومن ثم يبذل المال البطريركي ويقدمه احسانات متلاحقة الى المدارس ورواتب المطارنة عن ابرشيات فقيرة كديار بكر وارضروم وحوران وكذلك للكهنة بدمشق وريفها وحوران وخاصة الذين كانوا قد افتقروا زمن سلفه، واعطى اهتماما غير مسبوق لمستشفى القديس العظيم بندلايمون الارثوذكسي الدمشقي وهو مستشفى الروم الدمشقي …وكان يعتبر ان كل درهم يدخل صندوقه أمانة عنده امام رب الكنيسة لتصرف في سبيل مشروع خيري او اعانة مسكين وهو الذي كان قد اعال المنكوبين في ابرشيته اللاذقية وعددهم بالآلاف عندما نكبت الابرشية ومدارسها وكنائسها بالزلزال المدمر عام 1885 عدا عن اعالة المنتمين للأرثوذكسية من العلويين والمسلمين والارمن من ابناء اللاذقية وهم من الفقراء واوجد لهم اعمالاً ومدارس لأولادهم منذ توليه زمام الابرشية عام 1864 وحتى انتخابه قائمقاماً بطريركياً عام 1898وانتقل الى دمشق…وقد وثقت دوريات تلك المرحلة هذه الخصال لهذا البار والقائد الفريد.
والحق يقال أنه لولا وفاته مبكراً لكانت إصلاحاته أشمل وأعم، وقد خلفه خير خلف هو مثلث الرحمات البطريرك غريغوريوس الرابع..
الاوسمة
نال وهو بطريرك الوسام المجيدي العثماني الاول من السلطنة العثمانية.
نال ارفع وسام روسي من قيصر روسيا. وسام القديس فلاديمير. ومثله من متروبوليت روسيا والمجمع الروسي المقدس اضافة الى الاوسمة التي كان قد نالها وهو مطران من ملوك اليونان وصربيا وخان البلغار وبراءات تقدير بدرجة علمية من معهد خالكي التابع للبطريركية المسكونية، ومدرسة المصلبة الاورشليمية ووسام القبر المقدس
الحواشي
1- جبور. د. جورج (رأي في تعريب السدة البطريركية الأنطاكية)
2- زيتون. د. جوزيف سيرة الشهيد في الكهنة القديس يوسف الدمشقي التي كتبناها في 1987 و1988 (انظرها في موقعنا هنا).
3- المصدر ذاته. ومفردها كتَّاب: وهي أشبه بمدرسة بدائية كان يعلم فيها شيخ الحارة الأولاد مبادئ القراءة والكتابة.
4 – المصدر ذاته. وكان قد انتقل عام 1844 للعمل في اسطنبول وبقي هناك حتى السنة 1890 ونحن بإذن الله بصدد طباعة كتاب عنه.
5- بواسطة لجان خاصة دعيت قومسيون التعويضات ( الوثائق البطريركية )
6- وثائق أبرشية اللاذقية.
7- المصدر ذاته. وسنفرد قريباً بحثاً ضافياً عن هذه الجمعية.
8- المصدر ذاته.
9- البطريرك جراسيموس 1895-1892 استقال بعد انتخابه بطريركاً على الكرسي الأورشليمي، وخلفه البطريرك اسبريدون وهو من رهبنة القبر المقدس ذاتها، واستقال هو الآخر بضغط شعبي من رعية دمشق عام 1898.
10-دورية المحبة الارثوذكسية البيروتية التي أنشأها متروبوليت بيروت ولبنان السيد غفرئيل شاتيلا وقارعت الدوريات الكاثوليكية كدورية البشير اليسوعية وسواها ومن كتابها كان الشماس جراسيموس مسرة، كتبت وصفا للجلسة الحاسمة التي انتخب فيها المجمع الانطاكي المقدس بدمشق بعددها رقم 16 تاريخ 24 نيسان 1899.
Beta feature
اترك تعليقاً