الدكتور اسد رستم مؤرخ الكرسي الانطاكي المقدس متقلدا اوسمته وابرزها وسام الكرسي الانطاكي المقدس

الدكتور اسد رستم مؤرخ الكرسي الانطاكي المقدس

الدكتور اسد رستم مؤرخ الكرسي الانطاكي المقدس

 

الدكتور اسد رستم مؤرخ الكرسي الانطاكي المقدس

مقدمة

” لايمكن أن تخفى مدينة موضوعة على جبل ولايُوقدون سراجاً ويضعونه تحت المكيال بل على المنارة فيضيء لجميع الذين في البيت” (متى5: 15-14)

اسد جبرائيل رستم، علم اعلام التأريخ في مشرقنا وسراجاً مضيئاً موضوعاً على المنارة الانطاكية منيراً جلد كنيسة المسيح الأنطاكية.

هو مؤرخ الكرسي الانطاكي المقدس بحق، كان كبيراً في عطاءاته جواداً مبدعاً في اسهاماته العلمية الاكاديمية، مهد السبيل أمام اكبر الباجثين في تعريفه الثري لكنيسة المسيح عامة وكرسينا الانطاكي خاصة ونحن والأكبر منا في هذا الفن، من الذين نهلوا من معينه الذين لم ينضب يوما  وبقي فواراً باستمرار، وبقيت اسفاره التي كتبها وخاصة السفر العظيم “تاريخ كنيسة مدينة الله انطاكية العظمى” والانتاج ذا الصلة وما اكثره.

لقد ترك هذا المؤرخ والكاتب الانساني “الاسد الانطاكي” ارثاً عظيماً لكل وافد الى تأريخه لينهل منه، وخاصة آلاف الطلاب ليشقوا طريقهم في دروب الثقافة وخدمة المجتمع وليستنيروا بأسفاره، كما رعا  رحمه الله في حياته عشرات الباحثين الأخصائيين في ميادين التاريخ والدراسات العربية وتابعت اسفاره في بناء شخصية هؤلاء العلمية ورؤاهم ونتاجهم الفكري القيم.

قيل عنه الكثير، وقال أئمة التاريخ فرادى، وفي مؤتمرات التاريخ عامة، وفي المؤتمرات للبحث في عطاءاته وشخصيته ما لايُحصى…ولكن برأي اجمل ماقيل فيه، وعنه، كان ماقاله غبطة ابينا البطريرك يوحنا العاشر بطريرك

غبطة ابينا البطريرك يوحنا العاشر
غبطة ابينا البطريرك يوحنا العاشر

انطاكية وسائر المشرق الكثير مما يعطيه حقه والأبلغ قوله عنه، هو:” رجل الموقف البلوري الواضح والصريح، احب الحقيقة التاريخية، ولم يتردد في التعبير الصريح عنها دون محاباة أو تقيّة. ومن حقيقة التاريخ التي درس ومحص، توجه الى محبة الكنيسة الأرثوذكسية، وآثر العودة اليها رغم مكانته المرموقة بين وجهاء الارسالية الانجيلية المؤسسة للجامعة الاميركية في بيروت، ورغم التضحيات الجمة التي استدعاها قراره هذا.”

وفي كلام غبطته الاشارة الواضحة لعودة علمنا الكبير الى كنيسته الارثوذكسية بعد ان كان بروتستانتياً وله مكانته المميزة في الارسالية الانجيلية التي أسست الجامعة الاميركية.

الدكتور أسد رستم  علم كبير ليس  فقط علماً لبنانياً بل ومن سورية الكبرى، ومن انطاكية العظمى اي سورية الكبرى الواحدة ومن كل المشرق، و لقد كان إماماً للتأريخ، ومن المؤرخين العالميين وقد دوَّن بكل أمانة  “الحقيقة التاريخية”، ولم يُسقِط ْ اية “حادثة تاريخية” بل اظهرها “حقيقة تاريخية” لايمكن التلاعب بها وفق الميل والهوى والانتماء بشتى اشكاله…! كما عند كثيرين…! بل أظهرها بكل تجرد بعد ان كان قد طواها النسيان، لأنه كان إنساناً في المقام الاول، وفي المقام ثانياً عاش حياته متصالحاً مع نفسه ومع ربه، وثالثاً حاضناً لتاريخ وطنه الشامي الكبير، ووطنه لبنان الصغير، وحاضناً  /ولعله الاول/ بلا منازع لكنيسته الانطاكية التي تتسع لسائر المشرق… وتأريخه المتميز لكنيسة انطاكية العظمى حاضر ابداً مؤكداً اولويته هذه.

عَزمتُ أن أكتُبَ عنه، استمراراً لنهجي في موقعي هنا، بترجمة أعلامِ كرسينا الانطاكي المقدس، وأعلامِ الوطن…وأعلامِ الكنيسة اعترافاً بفضلهم، وخاصة مؤرخَ الكرسي الانطاكي عَلَمنا ومعلمَنا د. اسد رستم…بحثت طويلا… ثم توقفت عند الكتاب الذي وضعته ابنته السيدة الدكتورة لميا رستم شحادة وهو بعنوان:” أسد رستم مؤرخ الكرسي الانطاكي مسيرة عمر” وهو من منشورات بطريركية انطاكية وسائر المشرق العام 2014 موشى بكلمة الناشر وهي لغبطة ابينا يوحنا العاشر بطريرك انطاكية وسائر المشرق وافتخر ان غبطته كان قد قدم لي هذه النسخة…فاعتمدت عليه في كتابة بعض السيرة الذاتية وتفاصيلها  في تدوينتي هنا شاكراً لغبطة ابنا البطريرك يوحنا العاشر راعي العلم والعلماء، والباحث ابداً في اعلام انطاكية، والمفتخر بأنطاكية العظمى بمقولته:”لغتنا انطاكية…لغتنا واحدة” والمهتم ابداً في ترجمة هؤلاء الأعلام ونشرها للعلن، ليعرفهم الجميع، فهم منائر أنطاكِّيةْ تنير لأجيال الكنيسة الطريق، ليتابعوا مافعله الآباء والاجداد. وهي شهادتي المجروحة بمسعى غبطته، وبالتالي أُقدم بعد شكري غبطة ابينا البطريرك يوحنا العاشر، الشكر لابنته السيدة د. لميا التي برت بوالدها العظيم بنشر سيرته العطرة…

استاذ في الجامعة الاميركية ببيروت
استاذ في الجامعة الاميركية ببيروت

ويبقى ماكتبته  مجرد تدوينة معجمية وقاصرة عن ايفائه حقه، فهي ليست موسوعية، وهذا العلم العظيم يحتاج في ترجمته الى جهد موسوعي، فأنا اقتبست من سيرته الشخصية نبذة من هذا الكتاب، واستقيت شهادات عن علم وفكر وعمل اسد رستم مماكتبه آخرون، ومن مشاركتي في الحلقة الدراسية ” من ذكرى المؤرخ الى تشكيل الذاكرة” البلمند 16 ايار 2003 “اعمال الحلقة الدراسية حول اسد رستم” منشورات جامعة البلمند عام 2004 ، ثم في أعمال المؤتمر المنعقد في دير سيدة البلمند البطريركي 12-14 آذار 2007 وكان بعنوان “مساهمة المؤرخين الأرثوذكس في التأريخ” وكانت من بينها دراسة عن علمنا بعنوان ” جدلية الموضوعية والذاتية في التاريخ الكنسي عند اسد رستم” للأب جورج برباري، وساهمت بدوري في هذا المؤتمر ببحث عنوانه:” الأب المؤرخ ايوب نجم سميا مؤرخ الكاتدرائية المريمية بدمشق”، ويبقى الهدف من تدوينتي هذه هو إظهار هذا العلم الذي نحني الهامات له، معلمنا في كتابة التاريخ الانطاكي تاريخ كرسينا الانطاكي المقدس الذي استحق علمنا بجدارة ان يحمل لقب مؤرخ الكرسي الانطاكي. وهنا اشكر من اطلق علي لقب: اسد رستم جديد” وما انا بمستحقه وهذه قناعتي واكرر الشكر لهم.

الشوير موطنه

الشوير مسقط رأسه، وهي منطقة عالية مرتفعة في فضاء المتن الاعلى بجبل لبنان يصل علو متوسطها الى الف مترعن سطح البحر، وتبعد عن بيروت 26 كم، وعن زحلة 29كم، وهذه الناحية تتألف من الشوير، والضهور وعين السنديانة، والخنشارة، وبتغرين والجوار.

وهي منطقة جبلية جميلة زاد جمالها  عندما استُحدثَ استعمال القرميد الأحمر في بناء البيوت، وذلك في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، فطغى بجماله على البيوت الأخرى ذات السطوح المسطحة.

وكان علمنا يردد باعتزاز ان بيت اهله هو اول بيت بُني على الطريقة الحديثة وسُقف بالقرميد الأحمر. مع ان سكان الشوير كانوا يستغلون العنب من كرومهم ويحولونه دبساً أو خمراً، الا ان الكمية المنتجة كانت لاتفيهم حاجتهم، لذا كانوا يعتمدون في معظم الأحيان على صنعة البناء التي اقتبسوها من معمار حلبي قدم الى الشوير قبل ثلاثمائة سنة من مدينة حلب. وهو جد عائلة الحلبي في الشوير. وذاعت شهرة الشويريين بهذه الصناعة وانفردوا بها اذ لم يكن في جبل لبنان من يتقنها غيرهم.

بعد انتهاء فتنة 1860 في جبل لبنان، واستقرار الاحوال الامنية في جبل لبنان، انتشرت مهنة البناء وانطلق الشويريون يسعون للارتزاق بها على بعد مسافات طويلة حتى بلغ بعضهم منطقة حوران.

ومن تراث عائلة علمنا انه عندما عزم الأمير بشير الشهابي الكبير على بناء قصره في بيت الدين في اوائل القرن التاسع عشر (سنة 1807 حسب النقوش على البابين الخارجي والداخلي للقصر) ارسل في طلب المعلم رستم مجاعص وغيره للمساعدة في البناء، فأكملوا بناء القصر سنة 1829 وكان المقدم او الرئيس بينهم المعلم رستم مجاعص، الذي ذاع صيته في الارجاء فتكنى أحفاده باسمه الأول “رستم”.

الأسرة

تنتسب الاسرة الى كبيرها رستم مجاعص، معلم العمار الذي خدم الامير بشير الشهابي الكبير مدة طويلة بصفته بّناءً ماهراً، وبقي بين رجال حاشية الامير أكثر من عشرين سنة، أنشأ خلالها قصر بيت الدين، اما حفيده جبرائيل رستم وهو والد علمنا فكان جبرائيل  قد تعلم واخويه حنا وميخائيل في مدارس الاميركان الانجيلية في عبيه، وعندما انتقلت ادارة المدارس الانكليزية من سوق الغرب الى الشوير التحق جبرائيل  بها معلماً في بعض القرى التابعة لها كأرصون…  وكان وأخوه حنا أول من اعتنق البروتستانتية في القرية بالرغم من معارضة والديهما، وكانا يجتمعان كل يوم أربعاء للصلاة في بيتهما مع زملائهما الانجيليين، وكانت والدتهما تريزا شلهوب مجاعص الارثوذكسية المكينة تتألم من هذا الوضع، وكانت تنتظر حتى يكتمل النصاب وقبل خروجها من المنزل تقف عند الباب وتقول:”حنا، حنا، بيتي بيت صلاة يُدعى، جعلتموه مغارة للصوص”؟ (مقتبسة من انجيل متى 13:21)

جبرائيل والد اسد رستم من كتاب مسيرة عمر
جبرائيل والد اسد رستم من كتاب مسيرة عمر

جبرائيل كان هادئاً دمث الاخلاق.  وقد تزوج في سنة 1874 من “ست الاخوة” ابو نخلة مجاعص، وقد سميت بهذه الاسم لأنها البنت الوحيدة بين سبعة صبيان، وعُرفت بجمالها وبعد زواج ثلاث وعشرين سنة، في الرابع من حزيران سنة 1897، رزقا ولداً ذكراً اسمياه اسداً ليطول عمره. والسبب بهذه القناعة انهما

لم يُرزقا ولداً حتى السنة السادسة من زواجهما فأسمياه “خليل”. وكانت والدته “ست الاخوة” قد نذرت أن تُعمده في كنيسة السيدة للروم الارثوذكس في الشوير، ولكن جبرائيل، كونه من الأوائل الذين اعتمدوا المذهب الانجيلي في القرية، رفض أن يُعمده أرثوذكسياً. وتوفي خليل بعد ستة أشهر من ولادته. فانصرفت قناعة والدته “الست” أن هذه المأساة كانت نتيجة عدم عمادته. وقد رزقا من بعده بثلاث بنات…

بكت “الست بحرارة” ونذرت للسيدة والنبي الياس كي ترزق ولداً ذكراً. ولم ينته ذاك الشهر حتى حملت بأسد، وأبصر النور بعد تسعة أشهر في الرابع من حزيران سنة 1897 فربته تربية صالحة، وان اتسمت بالشدة فهي متميزة بالشخصية القوية وتعرف ماتريد وتعمل لتنفيذه، حتى انها كانت قد تعلمت خياطة اللباس الغربي للرجال خصوصاً الذين يريدون الهجرة الى بلاد الغرب وذلك لمساعدة ابنها اسد في تحصيل علمه الجامعي في الجامعة الأميركية.

اسد رستم وعمره ستة اشهر من كتاب ابنته الدكتورة لميا مسيرة عمر
اسد رستم وعمره ستة اشهر من كتاب ابنته الدكتورة لميا مسيرة عمر

أمضى أسد رستم طفولته في هذه البيئة الجبلية  الجميلة التي تتمتع بمزايا طبيعية فريدة وفي هذه العائلة المسيحية المؤمنة

لمابلغ اسد الخامسة من عمره، أُرسل الى مدرسة الشويرالبروتستانتية ليتعلم القراءة والكتابة وشيئاً من الحساب. وكانت هذه المدرسة قد أصبحت تابعة للمرسلين الأميركيين بعد الانكليز. وهي تُختصَرْ بغرفة واحدة تجتمع فيها كل الصفوف. وكان عم أسد، حنا رستم، الاستاذ الوحيد فيها.

في السنة 1905 اصطحب  المعلم جرجس همام (وهو من اعلام كرسينا الانطاكي، وهو صهره زوج اخته) اسد الصغير الى زحلة، ليسجله في الكلية الشرقية بادارة الرهبنة الشويرية، وواظب أسد على جميع الدروس الابتدائية المفروضة زهاء سنتين كاملتين.

وزار مع صهره جرجس همام حمص تلبية لدعوة مطرانها اثناسيوس عطا الله ليستشيره في انشاء مدرسة ثانوية ارثوذكسية في حمص، حيث انشأ المطران اثناسيوس مدرسة “الغسانية” الحمصية الشهيرة.

في خريف السنة 1907، التحق اسد ب”مدرسة الشوير العالية”، وكانت والدته قد اصرت على ان يكون تلميذاً داخلياً فيها حتى لايلتهي عن دروسه. وكانت تأخذ له الطعام يومياً وحتى كوب الليموناضة الطازجة، وذلك يومياً في الساعة العاشرة  من كل صباح.

ست الاخوة والدة اسد رستم من كتاب مسيرة عمر
ست الاخوة والدة اسد رستم من كتاب مسيرة عمر

كانت المدرسة بادارة الدكتور ويليام كارسلو القس والطبيب الاسكوتلندي، مع الاستاذين جابر شبلي ويوسف الغريب، اللذين تركا اطيب الأثر في  نفس أسد.

وقد نال الفتى اسد شهادة المدرسة العالية الأميركية في الشوير برتبة الثاني في الصف، وهو لم يزل في الرابعة عشرة من عمره.

تزامنت هذه الطفولة والصبوة مع أفول نجم الاحتلال العثماني الظالم للسكان، واندلاع الحرب العالمية الأولى، ومع تفتح براعم النهضة العربية واليقظة العلمية، الثقافية والفكرية في المشرق العربي.

هذه العوامل الأربعة طبعت مرحلة الشباب التالية في حياة أسد رستم فإذا به شاباً رصيناً، يتعاطى مع ظروف الحياة وتحولاتها بجدية وتوازن، يجمع بين الحيوية في الحركة والثبات في الموقف، بين التحرّر في التفكير والانضباط في التعبير،  منفتحاً على الحضارات يتقبّل تناقضاتها، متعلّقًا بطبيعة لبنان وخصوصيتها، مؤمناً بغنى تراثه وأهمية موقعه على مساحة العالم العربي الجغرافية والتاريخية والاجتماعية والفكرية.

استمع والده جبرائيل لنصيحة المرسلين الانكليز بأن يمتهن اسد مهنة يعتاش منها، كتصنيع الأحذية وتصليحها لكسب الرزق، بدلاً من ان يتابع  تحصيله الجامعي في الجامعة الاميركية، لأن اوضاع الاب جبرائيل المادية كانت لاتسمح، الا ان الوالدة الحازمة “ست الاخوة” وهي (الأمية) انتفضت على هذا الاقتراح ورفضته باصرار واصرت على التحاق اسد بالكلية، ولو أدى الأمر الى الاستدانة ورهن الرزق. فتدخل حينها الصهر المعلم جرجس همام، وأكد استعداده لتقديم المال اللازم شرط إعتباره ديناً عليه يدفعه فيما بعد.

اسد رستم في بيروت عام 1920
اسد رستم في بيروت عام 1920

ونزل أسد ومعه امه عام 1911 الى بيروت حامليَّن توصية مدير مدرسة الشوير العالية الى الدكتور هاورد بليس رئيس الكلية السورية الانجيلية في بيروت، وتم قبول اسد في الكلية وأُلحق في صف المبتدئين في كلية الآداب والعلوم، وكان القسط السنوي قي ذلك الحين عشرين ليرة ذهبية. وساعدت أم اسد إبنها مادياً باعتماد الخياطة مصدراً للمال المطلوب لدراسته الجامعية.

التحق علمنا بالكلية السورية الانجيلية في خريف السنة 1911، وهو لم يزل في الرابعة عشرة من عمره مثقلاً بضيق الحال، فانكب على الدراسة مجتهداً كي لايستدين أكثر من الضرورة. وكان شعوره بالواقع المالي المعسر اكبر حافز له على التحصيل العالي، وكان يدرك ومقتنع بأن الفقر في بعض الظروف نعمة من الله ودافعاً للنجاح.

وقد اشتغل في الكافتريا يُخَّدِّم على المائدة كي يخفف من الدين الذي عليه فوفَّرَ ثماني ليرات ذهبية من أصل القسط. وفي السنتين الثالثة والرابعة اشتغل سكرتيراً للرئيس هاورد بليس، فدفع ثماني ليرات فقط من أصل القسط السنوي. وهكذا اصبح مجموع ماعليه من ديون ثماني وأربعين ليرة ذهبية سددها كاملة في السنة 1921.

كان اسد رستم فيما بعد القيم على 876 مخطوطة أقدمها يرجع الى السنة 900 مسيحية، وثلاثة آلاف وثيقة في اللغة العربية. كما اسس المكتبة الخاصة لقسم التاريخ  وكانت مؤلفة من حوالي عشرة آلاف كتاب.

وكان اسد قد سكن في الكلية كأقرانه، وكان يدرس في أروقة البناء على ضوء القنديل بعد نوم جميع الطلبة، وذلك طلباً للتفوق، وكان يحمل غسيله على ظهره في آخر الاسبوع، وينتقل من رأس بيروت الى الشوير مشياً على قدميه، كي تغسل والدته الغسيل فيوفر اجرةغسله في بيروت.

كان يسبق الجميع في الاستيقاظ باكراً  ليحضر دروسه قبل بدء دوام الدراسة يومياً.

انتقى اسد حقل التاريخ  للتخصص (وفق قانون كلية الآداب آنذاك في مطلع السنة الثانية) لأنه بدأ يُعجب بشخص استاذ التاريخ الدكتور هارولد نيلسون أولاً ثم اختار الرياضيات ثانياً قبل أن يعود إلى التاريخ.

تابع دروسه حتى سنة 1916، حيث نال شهادة البكالوريوس في الآداب، ونظراً لتفوقه في العلوم التاريخية والاجتماعية ونباهته وفصاحته في اللغة الانكليزية، طلب منه بليس ان يكون في عداد المدرسين ويعاون الدكتور هارولد نيلسون في تدريس التاريخ في الصفوف العالية من المدرسة الثانوية، وفي صفي المبتدئين والمحولين من كلية الآداب، فقبل أسد وبدأ التدريس في 2 تشرين الثاني سنة 1916.

مجاعة سفر برلك والجائعون البيروتيون
مجاعة سفر برلك والجائعون البيروتيون

مجاعة سفر برلك ونقل المتوفين بها بالطنابر دمشق القديمة
مجاعة سفر برلك ونقل المتوفين بها بالطنابر دمشق القديمة

دروس اسد العالية

وبالرغم من كل الشدائد التي رافقت الحرب العالمية الاولى، والتي عصفت بالبلاد وبالذات في بيروت ودمشق و… وخاصة المجاعة المدوية حيث كان الاموات من الجوع يملأون الشوارع، وكانت الطنابر تنقلهم سواء في دمشق وبيروت … الى المدافن، اضافة الى موجات الجراد التي أكلت الاخضر واليابس اضافة الى سوق الشباب الى القتال في جبهات بعيدة، وخاصة جبهة ترعة السويس، وتنفيذ الاتراك لخطة للقضاء على اللبنانيين المسيحيين كما خطتهم في ابادة الارمن وابادة الانطاكيين من سوريين ويونان في كيليكيا وارضروم وديار بكر وافراغ ثلاث ابرشيات ارثوذكسية من سكانها واستشهاد مليونين ومائتي الف ارثوذكسي ومليون ونصف ارمني وسبعمائة الف من السريان ومثلهم من الآشوريين  في آسية الصغرى، وهروب الناس الى المنافي البعيدة…

بالرغم من كل ذلك الا ان الجامعة الاميركية استمرت، وقد رأى اسد بعد نيله شهادة البكالوريوس في الآداب، ومع عمله في التدريس، رأى ان من المناسب ان يتابع دروسه في التاريخ لينال لفب ” استاذ في التاريخ” خلال سنوات 1917-1919 وقد نال شهادة “استاذ في الآداب” في الثامن عشر من حزيران1919 (اي درجة الماجستير)، ووصف الدكتور نيلسون عمل اسد في هاتين السنتين بأنه “كان ممتازاً، وأن أسد لم يظهر شغفاًً في عمله ومثابرة فحسب بل أظهر قدرة فائقة لمعالجة المواد التاريخية بنجاح.”

مجاعة سفر برلك التي فتكت بثلث اللبنانيين
مجاعة سفر برلك التي فتكت بثلث اللبنانيين

جامعة شيكاغو

في نهاية العام الدراسي 1922 انتقل اسد رستم الى الولايات المتحدة لطلب التعليم العالي بمساعدة مالية من رئيس الجامعة بايارد دودج، وزار في طريقه باريس واقام فيها شهراً زار متاحفها ومكتباتها…ودرس في هذا الشهر فن الخط، وكيفية اكتشاف التزوير في المخطوطات أو في التواقيع الشخصية، آملاً ان ينشىء غرفة للمخطوطات في الجامعة الأميركية ببيروت بعد عودته من الولايات المتحدة.

درس الالمانية بجهده الشخصي وهو على متن الباخرة التي اقلته الى شيكاغو حيث التحق بكليتها الشرقية، ودرس التاريخ الشرقي القديم واللغات الأشورية والعبرية واليونانية واللاتينية، وبعد خمسة عشر شهراً في جامعة شيكاغو نال شهادة الدكتوراة في التاريخ الشرقي القديم من رتبة “العليّ الأعلى”. وتم منحه عضوية الجمعية الفخرية “فاي بيتا كابا” ومفتاحها الفخري.

وبالمناسبة فانه ولنباهته، كانت دراسته  في مدة سنة وثلاثة اشهر في جامعة شيكاغو بدلاً عن ثلاث او اربع سنوات، كما انه اتبع  درساً في مقارنة اللغة المسمارية مع العهد القديم، وقد قال عنه المؤرخ الشهير جون ويلسون:” ان رستم لم يكن يعرف شيئاً من اللغة الآشورية فدرسها بقراءتها بصوت عال ومقارنتها بالعربية، فاستوعب لوحده درس مادة اربع سنوات خلال سنة واحدة”.

اسد رستم في جامعة شيكاغو 1922
اسد رستم في جامعة شيكاغو 1922

مع ان المساعدة المالية التي منحه اياها دودج كانت كافية لأكله ومنامته ومصروفه الشخصي، الا انه كان يعمل في نهاية الاسبوع والعطل الرسمية ببيع التذاكر للألعاب الرياضية ككرة القدم وغيرها، كي يرسل محصولها مع ماتبقى من مصروفه الشخصي إلى أهله وأخته في بيروت.

التدريس في الجامعة الاميركية ببيروت

عاد علمنا ومعه مؤهله العلمي العالي الى بيروت، (وكانت فرنسا قد اعلنت تطبيق انتدابها على لبنان عام 1923) عاد ليدرس التاريخ في كلية الآداب في جامعة بيروت الأميركية برتبة “استاذ مساعد”، وجاء في مجلة “الكلية” لتلك السنة:”اننا سعيدون بمجيء الاستاذ أسد رستم الذي بامكانه كقيصر في القدم:” اتيت، رأيت، فتحت، اذ ان سنته في جامعة شيكاغو كانت مثمرة في دراسة التاريخ، إذ مُنح جوائز شرف أكاديمية مميزة متوجة باستحقاق بشهادة الدكتوراة”.

وبذلك اصبح عدد الاساتذة في دائرة التاريخ ثلاثة، هم هارولد نيلسون، وفيليب حتي، وأسد رستم، وعلى رواية صديقه فؤاد البستاني الذي قال:”كان اسد رستم اول “دكتور” عُرف بهذا اللقب في لبنان دون ان يكون طبيباً، واصبح مرجعاً للمرضى لأن معظم الناس كانوا لايتصورون الدكتور الا “حكيماً”.

انكب اسد على التحضير لحقبة من التاريخ لم تكن ضمن اختصاصه، وهي الاربعمائة سنة الأخيرة من تاريخ العرب اي عهد الاحتلال العثماني، فجاب سورية ولبنان وفلسطين ومصر وتركيا بحثاً عن وثائق تلك الحقبة، وانكب على حفظ آيات من القرآن الكريم لتحسين لغته العربية، في تلك المرحلة تحول لبنان الكبير الى الجمهورية اللبنانية باقرار المجلس النيابي في 23 ايار1926 الدستور اللبناني…

اسد رستم في لباسه الرسمي في الجامعة الاميركية ببيروت عام 1927
اسد رستم في لباسه الرسمي في الجامعة الاميركية ببيروت عام 1927

زواج اسد

جاءت السنة 1927 وكانت ام اسد “الست” تناشد  ابنها اسد دوماً الزواج والاهتمام بعائلته عوض الاهتمام بعائلتي اختيه، فطلبت من صديق العائلة الاستاذ بولس الخولي أن يعرفه على “بنت بيت والها طلة”

وكان اسد ينوي الذهاب الى حماه لمقابلة المطران اغناطيوس حريكة مطران حماه للروم الارثوذكس بحثا عن مخطوطات يشتريها للجامعة الاميركية، فاغتنم الاستاذ الخولي المناسبة، ونصحه بأن يزور الدكتور توفيق سلوم الذي كان اباً لابنة جميلة جداً. وكان اسد قد تراسل مع المذكور يطلب منه اغنية كانت قد أُنشدت عن ابراهيم باشا.

وكان الطبيب توفيق سلوم من اوائل خريجي كلية الطب من الجامعة الاميركية في السنة 1869، وكان قد تولى “رئيس مستشفى حماه”، وقد عينته حكومة الملك فيصل رئيساً له وهو الذي اسسه بنفسه عام 1919، ثم تولى “مدير صحة لواء حماه”.

وكان أول بروتستانتي في سورية ينتخب لعضوية مجالس إدارة الولاية عن البروتستانت، وكانت بالتناوب بين الطوائف المسيحية الاصيلة فقط، وكان يستضيف في بيته الاساتذة الاميركان عند زيارتهم المدينة لعدم وجود فنادق لائقة، وكان اسد يود التعرف على ابنته وداد ولكنه حل ضيفا في بيت صديقه وجيه البارودي، وزارا معاً توفيق سلوم في بيته في جناح السلاملك ، ثم زاره ثانية تلبية لدعوة منه (الدكتور توفيق سلوم) على العشاء وحده بسبب خصوصية المجتمع المنغلق في حماه…

وداد كانت من مواليد 11شباط 1909 والتحقت في السنة 1923 بمدرسة الاميركان للبنات في بيروت لمدة سنتين، وكانت جميلة الوجه شديدة الذكاء، فائقة المحبة والكرم، وكانت قد ارتدت النقاب كزميلاتها المسلمات في حماه ومن طبقتين…فأعجب اسد بها وهي اعجبته وباستحسان من الدكتور توفيق والدها.

و في 21 ايلول 1927 تمت خطبة اسد من وداد في بيت ابيها الدكتور توفيق بحماه، وارخ المذكور لابنته قائلاً:

“العُرف أن الأساد تصطاد الورى…………….وفي حمانا عكس هذا ارخوا

وما عهدنا الظبي يصطاد أحد……………… وداد الظبية تصطاد أسد”

البطريرك غريغوريوس الرابع
البطريرك غريغوريوس الرابع

وفي يوم عيد الميلاد 25 كانون الاول 1927تم الاكليل في الكنيسة الانجيلية  بحماه وبحضور غبطة البطريرك غريغوريوس الرابع بطريرك الروم الارثوذكس(1906-1928) ( وأكيد كان بمعية البطريرك مطران حماه اغناطيوس حريكة وفق الاصول)، وتم الاكليل حسب طقس الكنيسة الانجيلية المشيخية  حيث عقد القس عبد الله مسوح عقد القران انجيلياً على علمنا أسد ووداد ابنة الدكتور توفيق سلوم.

في طريق العودة من حماه الى بيروت وصلا الى حمص حيث استقبلهما الاصدقاء والاقارب بحفاوة واستقلا القطار من هناك الى بيروت.

مطران حماه اغناطيوس حريكة
مطران حماه اغناطيوس حريكة

وفي كل مكان كان للقطار محطة توقف فيها، كان يحظيان بالاصدقاء المرحبين، وعندما وصلا الى بيروت عند منتصف الليل وجدا بانتظارهما على المحطة سلمى ولولو اختا اسد وبعض الأصحاب الذين امطروهما بالزهور. اما عند دخولهما المنزل فقد استُقبلا بالبخور والزغاريد، ووصفت وداد  في رسالتها الى ابيها هذا الاستقبال العائلي البهيج وبوجود  جمع غفير من الاصدقاء وكلهم كانوا مشدودين بجمالها واولهم امين ابن لولو اخت اسد  الذي شده جمال عروس خاله: “وأنه لم يرَقط امرأة بهذا الجمال”.

اسد رستم وعروسه وداد سلوم كانون الاول 1927من كتاب مسيرة عمر
اسد رستم وعروسه وداد سلوم كانون الاول 1927
من كتاب مسيرة عمر

ذهب العروسان الى القدس حيث أمضيا شهر العسل، وقد تمتعا بزيارة الأماكن المقدسة، وتأثرت وداد كثيراً، وسجدا في كنيسة القيامة وصليا امام القبر المقدس، ثم في بيت لحم بكنيسة المهد وحتى في الحرم القدسي… وعادا الى بيروت وتابعا حياتهما بسعادة ورزقهما الله بخمسة أولاد، أربع بنات وصبي. وكان اول اولادهما عفاف في 15 تشرين الثاني ستة 1929، وتم عمادها في كنيسة الشوير الانجيلية في 20 تموز 1930

وتحسنت اوضاع الدكتور اسد رستم المالية وكان بارا بوالديه وشقيقتيه والعائلة وكان اينما سكن تكون شقيقته سلمى ساكنة بجواره، و كان عادة يأخذ عائلته وابويه وعائلة اخته سلمى الى الشوير للاصطياف، حيث يستأجر بيتاً كبيراً ليستوعب هذا العدد من النزلاء، وكانت العادة أن ينزل أسد مع عائلته الى بيروت في اواخر شهر ايلول. وبقيت هذه العادة حتى السنة 1943 حين التحق الدكتور اسد بالمفوضية الأميركية، اذ لم يعد هناك من وقت لديه للذهاب الى الجبل ووداد لم ترد أن تتركه في المدينة وحده.

متروبوليت طرابلس الكسندروس طحان مرافق البطريرك غريغوريوس الى روسيا
متروبوليت طرابلس الكسندروس طحان مرافق البطريرك غريغوريوس الى روسيا

بنى علمنا اول فيلا في رأس بيروت وكانت تحوطها حديقة كبيرة في عام 1932 وكان هدفه من هذه الحديقة الجميلة أن يكون لأولاده متنفساً يلعبون به…

لما انتقل الى بيته الجديد وبناء على ماكتبه:”جاء الى البيت بعد القداس بموعد سابق كل من الخوري حناوالخوري ايليا عبد الكريم وابنه الارشمندريت الذي يمثل الكرسي الأنطاكي في موسكو (يقصد الكسي عبد الكريم مطران حمص السابق) والخوري ايليا الخوري والشماس نقولا ايوب لتكريس البيت الجديد. فصلوا على المياه ورشّوا جميع غرف البيت وذكروا أهل البيت فرداً فرداً: أسد ووداد وعفاف ونورا وصلاح ولميا وعصام وجورج دادو” وكان قد اعتنق الارثوذكسية وعمد اولاده ارثوذكسياً.

بواكير انتاجه العلمي

كان لبنان في حالة غليان سياسي، ولكن اسد كان يعد الاساسات لتأريخ  تاريخ لبنان، فجمع في العشرينيات الأصول المتعلقة بتاريخ لبنان في عهد محمد على باشا، ثم نشرها في خمسة مجلدات في اوائل الثلاثينيات، ثم حقق ونشر مع زميله الاستاذ فؤاد إفرام البستاني أول كتاب عن تاريخ لبنان بقلم الأمير حيدر الشهابي في ثلاثة اجزاء نال على أثره وسام الارز من الدولة اللبنانية. كما نشرا مخطوطة احمد الخالدي الصفدي عن تاريخ لبنان في عصر فخر الدين المعني الثاني.

وفي السنة 1937 ظهر أول كتاب مدرسي لتاريخ لبنان مستقلاً عن تاريخ سورية بطلب من وزير التربية حبيب ابو شهلا لعلمنا وللبستاني، وهكذا ظهر بعنوان:” تاريخ لبنان الموجز”.

وفي تشرين الاول من السنة 1938 أخذ اسد عطلة دراسية من الفصل الأول للسنة الدراسية،وذهب مع عائلته  الى مصر ليتمم عمله في قصر عابدين، ونشر لاحقاً “المحفوظات الملكية في عصر محمد علي باشا” في خمسة مجلدات.

في عام 1938 طلبت الدولة السورية من الدكتور اسد رستم التحقيق في قضية لواء الاسكندرون وشروع تركيا باغتصابه، فأنجز علمنا تحقيقه بكتابة تقرير جغرافي تاريخي يؤكد فيه وقوع لواء الاسكندرون داخل الأراضي السورية، فنال من الحكومة السورية وسام الاستحقاق السوري تقديراً للدور الذي لعبه في هذا الشأن.

في عام 1939 نشر علمنا اول كتاب من نوعه في اللغة العربية عن اصول كتابة التاريخ بعنوان:”مصطلح التاريخ”.

من اليسار روجر سولتو، د.اسد رستم، د.قسطنطين زريق
من اليسار روجر سولتو، د.اسد رستم، د.قسطنطين زريق

مستشاراً في المفوضية الاميركية

مع مجيء الحرب العالمية الثانية، أوفدت الولايات المتحدة الاميركية “المستر وادزورث” ليمثلها في بعثتها الدبلوماسية في لبنان، وكان قد علم في الجامعة الاميركية اثناء الحرب العالمية الاولى، وتصادق مع علمنا، ولما وصل الى بيروت طلب رستم وتباحث معه في امر التمثيل الدبلوماسي الاميركي الجديد في سورية ولبنان، وابان له حاجته الى خدماته كمستشار يعاونه في العمل فقبل رستم ان يكون هو المستشار الشرقي واتفقا على ذلك سراً.

ومضت الاشهر الأولى من العام 1943فقدم رستم استقالته من منصبه في الجامعة الاميركية، ووافقت وزارة الخارجية الأميركية على تعيين رستم مستشاراً شرقياً لمعتمدية الولايات المتحدة الدبلوماسية في بيروت.

ماانفك رستم يقدم الشكر للمستر وادزورث  على عنايته باستقلال لبنان وسورية، وسعيه المتواصل لتحقيقه في تلك الايام العصيبة بين السنة 1943 والسنة 1945، ويشكر الله على انه تعاون مع ممثل الولايات المتحدة في هذه الفترة المعينة ليشترك في العمل المثمر لتحرير بلاده والمحافظة عليها.

مستشاراً في قيادة الجيش اللبناني

وبعد نقل المستر وادزورث الى بغداد، وقد حل محله مالم يكن بكفاءة سلفه، حيث شعر رستم ان عمله في المفوضية الاميركية في بيروت سيصبح بدون فائدة، فاستقال من مركزه في السنة 1951 ليُعّين مستشاراً في قيادة الجيش اللبناني.بناء على طلب قائد الجيش فؤاد شهاب وليؤلف “تاريخ الجيش” ويعطي اذاعة الجندي الاسس القديمة.

مدرساً في الجامعة اللبنانية

كما طلب منه صديقه الاستاذ فؤاد افرام البستاني أن يملأ كرسي التاريخ القديم في الجامعة اللبنانية، واعطى دروساً في العلوم السياسية في الأكاديمية اللبنانية تلبية لطلب رئيسها الاستاذ الكسي بطرس. ورجع الى كتابة التاريخ، لكنه لم يرجع الى تاريخ العرب بل الى موضوع اختصاصه الأول اي “تاريخ الشرق القديم”، فنشر مؤلفه الضخم في:”تاريخ الروم وحضارتهم وعلاقتهم بالعرب”في جزئين في السنة 1955.

اصابته بذبحة قلبية

في كانون الاول 1956 أُصيب اسد بذبحة قلبية، لازم على اثرها الفر اش في مستشفى الجامعة الاميركية أكثر من شهرين، كان لهما أكبر الأثر في شخصيته. وما أن تعافى حتىأعلن للأهل والأصدقاء أنه سوف يُغني مكتبة كنيسته الارثوذكسية بمؤلفات عربية تكون ذات منفعة للاكليريكي والعلماني معاً. أحب الدكتور اسد كنيسة انطاكية، وقام بواجباته الكنسية على احسن وجه. وهكذا كان، ففي السنة 1958 كان قد أنجز كتابه السفر العظيم: “تاريخ كنيسة مدينة الله انطاكبة العظمى” في ثلاثة اجزاء فقلده مثلث الرحمات البطريرك الكسندروس الثالث بطريرك انطاكية وسائر المشرق(1931-1958) في الصرح البطريركي بدمشق، “وسام الكرسي الانطاكي المقدس/ وسام القديسين بطرس وبولس”، كما القى عليه لقب “مؤرخ الكرسي الانطاكي” للخدمات الجلى في حقل الكنيسة.

في اواخر عام 1958 اصيب بذبحة قلبية ثانية بقي بسببها لمدة شهر في مستشفى الجامعة الاميركية، ثم عاد ليزاول عمله كالمعتاد.

براءة الميدالية المذهبة لليوبيل الاسقفي الذهبي للبطريرك الكسندروس 1954
براءة الميدالية المذهبة لليوبيل الاسقفي الذهبي للبطريرك الكسندروس 1954

في صيف عام 1962 قدم استقالته من وظيفته في قيادة الجيش لبلوغه السن القانونية، وقبل عرضاً من بنك انترا للنظر في الشيكات والتحقيق في اصالتها قبل صرفهابواقع خبرته وتخصصه الذي حصله في باريس.

في 16 ايلول  وقع الاتفاقية مع الجامعة اللبنانية لاجل ادارة “مركز الابحاث”.

ابلغ ابنته لميا بروايتها عنه بأن الدكتور ثيرستون استاذ الديانات في الجامعة الاميركية ببيروت، أعلمه ان المال أصبح حاضراً لبدء العمل في معجم لاهوتي، وان نيويورك جعلت اسد عضواً في اللجنة المشرفة وقد نجح على قوله في جعل عدد من الآباء الكاثوليكيين اللاتين يشتركون في اللجنة. ووافق البطريرك ثيوذوسيوس السادس(1958-1969) على ان يكون الدكتور اسد رستم ممثل الكنيسة الارثوذكسية في اللجنة، وكان غبطته قد وصل الى بيروت في زيارة رسمية، وتناول علمنا الغداء معه واشترك وزوجته وداد في سهرة الاستقبال الرسمية حيث قلد رئيس الجمهورية غبطة البطريرك ثيودوسيوس الوشاح الاكبر اللبناني.

في يوم السبت 25 تموز 1964 احتفل اسد باكليل ولده صلاح في كنيسة سيدة البشارة الارثوذكسية في الاشرفية وبارك الاكليل المطران ايليا الصليبي مطران بيروت وايليا كرم متروبوليت جبل لبنان والمطران سرجيوس سمنة ممثل البطريرك ثيوذوسيوس السادس بطريرك انطاكية وسائر المشرق.

في 20 تشرين الثاني 1964 زار الدكتور قسطنطين زريق الدكتور اسد رستم واخبره ان “جمعية أصدقاء الكتاب” قررت منحه ذاك العام جائزة رئيس الجمهورية، اي خمسة آلاف ليرة لبنانية، ومُنحت الجائزة له بحضور أعضاء “جمعية اصدقاء الكتاب” ورئيس الوزراء ووزير التربية يوم الجمعة في 25 من الشهر ذاته.

انتقاله الى الاخدار السماوية

كان علمنا  مؤمناً متقبلاً الموت ودائماً متأهباً له ومستخفاً به فيقول للعائلة:” أنا حاضر! شنتتي مضبوبة وحاضرة للسفر، عندما يطلبني الله إني حاضر! فالآن أقدر ان اترككم وبالي مطمئن عليكم. حبوا بعضكم بعضاً. لاتحزنوا علي كباقي الناس الذين لارجاء لهم بالمسيح.صلوا من اجلي.”

وقد اهتم هذا العلامة الانطاكي الكبير بعائلته قبل وفاته وبعدها. فلم يفته شيء لم يأخذ له احتياطاً ليهوَّن عليهم تحمل العبء بعده، فترك بين أوراقه كتاباً قد أعده منذ زمن يبدأه:” زوجتي وابنائي الأعزاء، لاتحزنوا كما يحزن بقية الأمم  التي لا ايمان لها. وأحبوا بعضكم بعضاً”…

كما ترك نص “ورقة النعوة” التي يجب ان تُكتب وذَكرَ اسماء من يريد ان يدعوهم عند رحيله:

“عند الوفاة لايصار الى الدفن الا بعد السهر على الجثة ليلة كاملة. يُعلم مطران بيروت ومطران الجبل بالوفاة ويُطلب اليهما إذا كانا يوافقان على اصدار النعوة باسم الكنيسة ثم العائلة لأني مؤرخ الكرسي الانطاكي ويُعلم مطران الروم الكاثوليك ومطران الموارنة والبطريرك في دمشق وبطريرك الروم الكاثوليك وبطريرك الموارنة وذلك ببرقية مُفصَّلة.

“يصير الدفن في الشوير ويُنقش على بلاطة تنزل هكذا… ويُعلم قائد الجيش ورئيس الجامعة اللبنانية حالاً وكذلك الحركة الأرثوذكسية.

جاءت ورقة النعوة  بعنوان :”ولكنه يُعطي حبيبه نوماً”

ونعاه فعلاً البطريرك ثيودوسيوس السادس بطريرك انطاكية وسائر المشرق ومتروبوليت  بيروت ايليا الصليبي ومتروبوليت جبيل والبترون ايليا كرم. والعائلة كما اراد…

وقائع الوفاة والجنازة

في صباح الاربعاء الواقع في 23 حزيران سنة 1965 واستيقظ  كعادته في الرابعة  فجراً لينكب على كتابة القاموس خائفاً من مغادرته هذه الدنيا قبل انتهائه منه، وكان قد بقي لإنجازه أربعة احرف  وقد ظن انه سوف ينتهي من كتابتها خلال شهر ايلول. وبينما هو يكتب في القاموس، وقد قاربت الساعة السادسة، شعر بثقل في يده اليمنى، فرجع الى فراشه عارفاً بأن شيئاً خطيراً يلّم به. ونادى زوجته وداد،  وكانت هذه بداية النهاية وقال لزوجته وداد بكلمات ملؤها الايمان الذي تحلى به وكانت هي تبكي:

“مافي تذمر على الله ياوداد! مافي تذمر ! نشكر الله مثل ما الله بيريد. لا اعتراض على حكمته…اقتربي مني ولاتفارقيني بعد هذه اللحظة. انها بداية النهاية…، وودع حفيده جورج ابن الست سنوات وقد ضمه الى صدره وهو يقول له: “تقبرني ياجدو”  وودعه الوداع الاخير وقبله اكثر من عشرين قبلة…وكان الجميع حوله يبكون بصمت وبحرقة.

تم نقله الى مستشفى الجامعة الاميركية فوراً، وكان قد فقد الوعي كلياً ودخل في غيبوبة تاركاً وراءه غرفة فارغة وعلى مكتبه الكتاب المقدس مفتوحاً على انجيل متى الاصحاح التاسع والصفحة التي كان يخط عليها في ذلك الصباح ممتلئة من المعجم اليوناني- العربي.

قال الدكتور صبرا  الذي كشف عليه في البيت ونقله الى مستشفى الجامعة الاميركية مستنفراً كل الأطباء، شارحاً الحالة:” نحن نركض جاهدين لانقاذه وهو راكض امامنا”

وشخص الحالة بقوله:” لقد مات نتيجة جلطة في الشريان السباتي الداخلي الى اليسار مما سبب فالجاً نصفياً الى اليمين ثم فقد القدرة على الكلام نتيجة لأذى أصاب الدماغ . ثم الغيبوبة.

انتقل علمنا الى الاخدار السماوية بعد الظهر بعد ان عجز الاطباء عن وقف النزف في دماغه، وكان قد عيَّد عيد ميلاده الثامن والستين في الرابع من ذلك الشهر.

أُودع الجمان في ثلاجة المستشفى حتى الثامنة من صباح يوم الجمعة 25 حزيران 1965 حيث نُقل الى منزله حتى الثالثة بعد الظهر…وصليَّ عليه في كنيسة القديس جاورجيوس الأرثوذكسية في ساحة النجمة، وكان تشييعه وجنازته مأتماً وطنياً شارك به الآلاف،  وقرعت اجراس الكنائس كافة تعلن خبر انتقاله من هذه الارض، فالراحل لم يكن انساناً عادياً كأي انسان يمر بهذه الحياة، بل كان الكل يمجده…(الصحف والمجلات  والاذاعة اللبنانية واذاعة لندن والتلفزيون)  والكل يعترف بفضله على العلم والانسانية.

البطريرك ثيوذوسيوس السادس
الدكتور اسد رستم مؤرخ الكرسي الانطاكي المقدس

اكتست كنيسة القديس جاورجيوس بالسواد حزناً عليه. وشارك  في هذا الجناز المهيب اكثر من 25 اكليريكياً تقدمهم ممثل البطريرك ثيودوسيوس السادس ( كان مريضاً بالفالج في سريره  بدار البطريركية بدمشق قبل ان يتم نقله الى مستشفى الروم ببيروت حيث بقي فيها الى وفاته عام 1969 وعاد الجثمان الى دمشق ليُدفن في ضريح البطاركة في حرم مريمية الشام) المطران نيفن سابا متروبوليت زحلة اضافة الى مطران بيروت ايليا الصليبي ومطران حماه اغناطيوس حريكة، باسيليوس سماحة مطران بصرى حوران وفوتيوس خوري مطران بغداد والكويت، وبحضور ممثل بطريرك الموارنة، وبطريرك الروم الكاثوليك مكسيموس صايغ، ومطران بيروت للروم الكاثوليك، وقسس طوائف البروتستانت، وممثل رئيس الجمهورية اللبنانية، ومحافظ بيروت فؤاد البستاني، وممثل رئيس الجامعة الاميركية فؤاد صروف، وقائد الجيش اللبناني وعدد كبير جداً من الشخصيات الرسمية والعلمية وطلاب الجامعات.

وقد ابنه ممثل البطريرك ثيودوسيوس مطران زحلة نيفن سابا بكلمة عزاء رائعة استهلها بالقول:” سقط عظيم من لبنان ودوى صدى سقوطه في الجبال والوديان…” وكانت ارتجالية بديعة لم يُسمع برثاء ابلغ وارق مماقاله المطران.

د. رستم يقبل يمين البطريرك ثيوذوسيوس السادس عام 1962 في زيارته الى بيروت
د. رستم يقبل يمين البطريرك ثيوذوسيوس السادس عام 1962 في زيارته الى بيروت

وبعد انتهاء الجناز في كنيسة القديس جاورجيوس ببيروت تم الانتقال الى الشويرمسقط رأسه، وهناك حمله اهل الشوير على الأكف فوق الأعناق  مجتازين  الشوارع والمنعطفات الى كنيسة السيدة  في الشوير واجراس كل الكنائس كانت تقرع بخشوع وصلي عليه في الكنيسة واهل المنطقة بالآلاف يبكونه،  وكان كل رجال الاكليروس ينتظرون جثمانه في كنيسة السيدة الارثوذكسية وهي التي كان دوما الدكتور اسد يفتخر بأن جده قام بتبليطها.

وكان البطريرك ثيودوسيوس السادس قد ارسل برقية تعزية رقيقة للعائلة قال فيها:” كان لنبأ الخطب الجلل في انقضاض المنية على مؤرخ كرسينا البطريركي الرسولي المقدس وقع اليم على قلبنا الابوي وعلى الاسرة النبيلة والملة العزيزة عامة التي فقدت فيه خادماً أميناً لها وابناً باراً للكنيسة الأرثوذكسية وعنصراً خيراً للمجتمع الانساني، رحمه الله رحمة عظمى جزاء خدماته العديدة الجُلّى، وجعل العزاء لنا ولكم في ماترك بعده من خالد الأثر وماينتظره لدى ربه من عظيم الثواب والأجر.”

الاوسمة التي حازها

حائز على عدد وافر من الأوسمة وشهادات التقدير منها: وسام الاستحقاق السوري،  وسام الاستحقاق اللبناني، وسام المعارف المصري، وسام الاستقلال العربي الاردني من الأمير عبد الله. كما أن  مثلث الرحمات البطريرك ألكسندروس الثالث منحه لقب “مؤرخ الكرسي الأنطاكي” وقلّده وسام القديسين بطرس وبولس. كذلك في 27 تشرين الأول من العام 1964، منحت جمعية “أصدقاء الكتاب” أسد رستم جائزة رئيس الجمهورية

كما مُنِحَ عند وفاته وسام الاستحقاق اللبناني المذهّب.

براءة وسام الكرسي الانطاكي المقدس ممنوحاً من البطريرك الكسندروس الثالث
براءة وسام الكرسي الانطاكي المقدس ممنوحاً من البطريرك الكسندروس الثالث
ارفع الاوسمة الانطاكي والسوري واللبناني من كتاب مسيرة عمر ص 315
ارفع الاوسمة الانطاكي والسوري واللبناني من كتاب مسيرة عمر ص 315

اهم محطات حياته وابداعاته وشهادات به

في القرن العشرين حققت كتابة التاريخ في لبنان والعالم العربي قفزتها النوعية على يد الدكتور أسد رستم وأخذت بُعدَها العلمي، واحتلت موقعها اللائق على لائحة العلوم الدولية. هذا التحوّل الكبير ترسّخ بداية في فكر أسد رستم وهو لا يزال طالباً جامعياً، ثم أخذ بعده التطبيقي الجدّي مع احتكاك رستم بالواقع العلمي والأكاديمي الذي عايشته الأنتلجنسيا الأوروبية والأميركية في الربع الأول من القرن العشرين.

وكانت فرنسا محطّة محورية في علاقة الدكتور أسد رستم بعلم التاريخ. فيها ولد رستم في عراقة التاريخ علمياً فصار هو الباحث الأول والمجدد ومؤسس المدرسة الحديثة للتأريخ في لبنان الذي أدخل المنهجية والأسلوب العلمي إلى البحث التاريخي وفق الشروط التي يعتمدها الغرب في زمنه.

لمزيد من امتلاك المادة بدأ الدكتور أسد رستم وكان يدرس في الجامعة الاميركية ببيروت يتلقى شخصياً دروساً يومية في القرآن الكريم، يحفظ آياته، إيمانًا منه بأنّه الركن الرئيس في فهم تاريخ العرب وتفهّمه.

وقد زاد تعمقه في القرآن وتاريخ الإسلام في فهم روحية الحضارة الإسلامية والتقرب من إخوته في المواطنية المسلمين اللبنانيين. وهو القائل “لو كنت حاكماً بأمري لأوجبت درس القرآن وحفظه على كل طالب لبناني مسيحي ودرس الإنجيل وتفهم معانيه على كل طالب مسلم”.

كتابه المؤرخ للكرسي الانطاكي " كنيسة مدينة الله انطاكية العظمى ثلاثة اجزاء
كتابه المؤرخ للكرسي الانطاكي ” كنيسة مدينة الله انطاكية العظمى ثلاثة اجزاء

لم تمنعه مهنة التعليم من متابعة أبحاثه العلمية والتاريخية. فاختار النهضة العربية الحديثة موضوعاً تبحّر به، منكباً على دراسة حقبة محمد علي باشا، وهي الحقبة التنويرية في مصر والشام من خلال الحملة المصرية على بلاد الشام 1831-1840. لذلك ومع حلول صيف 1926 انطلق علمنا أسد رستم  ميدانياً في سلسلة زيارات شملت سورية وفلسطين إضافة إلى لبنان، باحثاً عن آثار عهد الحكومة المصرية في تلك الدول. أسفرت جولاته عن ولادة المجلد الأول من مجموعة “الأصول العربية لتاريخ سورية في عهد محمد علي باشا”.

عام 1929 نشر رستم المجلّد الأول من مجموعة “الأصول العربية لتاريخ سورية في عهد محمد علي باشا” ثم وفي أوقات لاحقة أبصرت المجلدات الثاني والثالث والرابع والخامس من المجوعة المذكورة النور.

كان علمنا يهدف من خلال أبحاثه للوصول إلى الحقائق التاريخية وإعلانها للجمهور بأسلوب علمي، سهل وبليغ في آن واحد.

احتل رستم مكانة مرموقة وفريدة في تطوير كتابة التاريخ العصرية في الدول العربية استنادًا إلى الأساليب العلمية الحديثة المتبعة في الغرب.

تقول  ابنته الدكتورة لميا رستم شحادة: “أما النقطة الأولى التي تحدث عنها والتي تبدو لنا الآن واضحة بعد انقضاء نصف قرن، كانت في حينها نقطة افتراق بينه وبين المؤرخين المحليين السابقين، وهي أن الدراسة التاريخية يجب أن تستند على أكمل سلسلة ممكنة من المصادر الأولية، وهذه المصادر يجب أن تستعمل بمطلق الموضوعية والجدية.”

“إن عمله الفردي يضاهي عمل المؤسسات أمثال الجمعية الجغرافية الملكية في مصر، والجمعية التاريخية التركية”. (كما يلاحظ الدكتور ألبرت حوراني).

عام 1930 وصل رستم إلى القاهرة، والتقى بالخديوي فؤاد الأول الذي منحه وسام المعارف المصري في 30 حزيران 1935 ووضع في تصرّفه عددًا من المترجمين من اللغة التركية إلى العربية، إضافة إلى عدد من الكتبة. وانطلق أسد رستم بجولة جديدة من الأبحاث أسفرت عن ظهور مجموعته الثانية وهي “المحفوظات الملكية المصرية” في خمسة مجلدات.

كتاب اسد رستم مصطلح التاريخ
كتاب اسد رستم مصطلح التاريخ

تعلّق الدكتورة لميا رستم شحادة على هذا النشاط قائلة: “لعل الدكتور رستم في هذه المؤلفات هو أول من حاول أن يجعل من الوثائق أساساً لكتابة تاريخ لبنان وقد كاد التاريخ اللبناني قبل الدكتور رستم أن يكون سرداً تقليدياً ورواية من الخَلَف عن السَّلَف لا غير. وأتقن أسد رستم اللغة العربية فكان رائداً في الأسلوب العلمي السلس السهل القراءة والفهم”.

في لبنان، أسس أسد رستم غرفة المخطوطات في الجامعة الأميركية بعد أن أصبح خبيراً محلفاً لدى المحاكم في شؤون المخطوطات والوثائق والخطوط يعتمد عليه في كشف التزوير في الخطوط والأختام والتواقيع.

عثر أسد رستم على “مخطوطة الأمير حيدر” محفوظة في قسميها في المكتبة الشرقية لجامعة القديس يوسف ومكتبة الجامعة الأميركية في بيروت. فتعاون مع الدكتور فؤاد افرام البستاني على دراستها ونشرها عام 1933 في ثلاثة مجلدات.

كانت هذه التجربة، أولى خطوات التعاون بين الجامعتين اللتين أنهتا بها سبعين سنة من المنافسة العلمية والثقافية. وفيها أيضاً باكورة دعم الحكومة اللبنانية لنشر الأصول العربية لتاريخ لبنان في العصور الحديثة.

تقديراً لهذا العمل الرائد، نال أسد رستم وسام الاستحقاق اللبناني من الدرجة الثانية في 18 حزيران 1934.

أكمل رستم تعاونه مع البستاني، فتمكنا من إخراج ونشر وثيقة ثانية من تاريخ لبنان هي “تاريخ الأمير فخر الدين الثاني” للشيخ أحمد بن محمد الخالدي الصفدي وذلك في سنة 1936.

فما كان من وزير التربية حبيب أبو شهلا إلا الطلب منهما وضع تاريخ موجز عن لبنان يمكن اعتماده في المدارس الرسمية الابتدائية. فأنجز رستم والبستاني العمل خلال سنة واحدة وصدر “تاريخ لبنان الموجز” سنة 1937 مؤلفًا من ثمانية وعشرين فصلاً.

في عام 1939 نشر رستم كتابه “مصطلح التاريخ” هو الأول من نوعه في المكتبة العربية على الإطلاق، وهو بحث في نقد الأصول وتحرّي الحقائق التاريخية وإيضاحها وعرضها وفي ما يقابل ذلك في علم الحديث.

عن أهمية هذه المحطة في مسيرة التاريخ العربي يقول الدكتور الياس قطّار

“مع النهضة الأدبية في المشرق العربي، بدأ الاتصال بالغرب والتعرّف إلى إنتاجه على صعيد المؤلفات التاريخية بما تطرحه من مضمون جديد واسع وما تعتمده من منهجية. وانتقل قسم من أهل المشرق إلى الجامعات الغربية للدراسة، مقتبسين علومها ومنهجيتها. وكان من بين هؤلاء أسد رستم، الذي أثاره تخلّف الكتابات التاريخية الشرقية مضموناً ومنهجاً. فبدأ يدرّس طلابه في الجامعة الأميركية في بيروت في كتاب لانغلوا وسنيوبوس . ووجد رستم، في أثناء التدريس، أن ذلك لا يفي بالغرض. فسعى إلى ردم الهوّة عبر وضع مؤلّف في اللغة العربية يعلّم المنهجية، فكان كتابه “مصطلح التاريخ” (1939) الذي يأخذ في شكل واضح عن كتاب لانغلوا وسنيوبوس.

براءة الميدالية المذهبة لليوبيل الاسقفي الذهبي للبطريرك الكسندروس 1954
براءة الميدالية المذهبة لليوبيل الاسقفي الذهبي للبطريرك الكسندروس 1954

“ولكي تكتمل الصورة المنهجية، عمل رستم على إزواج النظرية بالتطبيق. فقدّم إلى جانب النظرية أمثلة تطبيقية من واقع تجربته التأريخية الشخصية. كما أقدم على محاولة ربط هذا العلم، الميتودولوجيا، بعلم الحديث عند المسلمين مقتبساً منه العديد من مصطلحاته وبعض وسائل نقده الرواية والراوي.

“بعد نصف قرن على صدور طلائع كتب المنهجية في الغرب، كان كتاب أسد رستم يشق طريقه إلى النور…

“جاءت كتاباته علمية منهجية رائدة سواء في كتب الوثائق الشامية أو المصرية التي نشرها أم في المخطوطات التي حقّقها أم في الكتب التي ألّفها. وهذا الربط بين النهج الذي كتب عنه في “مصطلح التاريخ”، ومؤلفاته ونشره الوثائق نشراً علمياً أثار إعجاب المؤرّخ البريطاني تمبرلي في كتابه “إنكلترا والشرق الأدنى” وألبرت حوراني الذي قال إن لأسد رستم مكانة فريدة في تطوير كتابة التاريخ العصرية في الدول العربية، وله منهجية أقرب إلى منهجية عصر حوراني منها إلى عصر رستم. لقد كان إصدار “مصطلح التاريخ” ثورة بيضاء وحدًا فاصلاً في اللغة العربية لصناعة التاريخ ولكل منهجية في العلوم الإنسانية تتمنى أن ترتقي مصاف البحث العلمي الصارم والدقيق.

“والحق أن أسباب رستم لإصدار هذا الكتاب كانت عدّة أبرزها

رغبة الكاتب في تلافي الفراغ القائم في اللغة العربية في علم الميتودولوجيا.

التخلّف الحاصل في الدراسات التاريخية.

النهضة التي تجمع التراث إلى الانفتاح على التطور في الحضارات الأخرى.

تجاوز الافتخار الباطل بأمجاد السلف والتوقف عندها.

تحرير التأريخ من الميل الأدبي القصصي الاخباري الروائي المسطّح..

ضعف المؤرخين العرب في ميادين النقد الداخلي السلبي الذي يكشف مآرب المؤلفين وأهواءهم وميولهم والتزامهم السياسي والديني والمذهبي والمناطقي والعشائري وغيره.

“في مصطلح التاريخ”، كما في مجمل كتبه، يطل أسد رستم علينا وقد امتلأ بنعمة العلم والمنطق والمنهج، ممهداً الطريق أمام الباحثين في طريقه المعالجة وفي اللغة التي اختارها لعرض معلوماته: لغة بعيدة كل البعد عن التورية والتصنّع والتقيّة، لغة دقيقة، واضحة، متسلسلة، هادفة، بليغة من دون ثرثرة وإطناب وهلوسة ورمزية. عن هذه اللغة يكتب جبرائيل جبّور: “إن أسد رستم مؤرخ قبل أن يكون أديباً. إنه في منهجه وفي بحوثه التاريخية وفي تدريسه أبعد ما يكون عن الفن والصناعة والأسلوب الأدبي الفني. كان يحول بين الطلبة وبين الجنوح إلى الفن الأدبي في الكتابة التاريخية، ويكره الصناعة الإنشائية والتزويق والاستعانة بالخيال وأساليب البيان العربي المألوفة في العشرينات من هذا القرن”.

في الاعمال الكاملة للاديب والمؤرخ الموسوعي الكبير  الاستاذ نقولا زيادة زميله في التدريس بالجامعة الاميركية/ كتابه أعلام عرب، يقول في حديثه عن بدايات دراسة والتدريس لدى د. اسد رستم:

” أول مانريد أن نضيفه ان اسد رستم، لما دخل الجامعة الأميركية وكانت لاتزال تحتفظ بإسمها الأول الكلية السورية الإنجيلية، لقى مدرساً او استاذاً للتاريخ هو هرولد نلسون الذي لم يكن عالماً بتاريخ الشرق القديم فحسب، بل شغوفاً به. وكاتب هذه السطور الذي لم يتعرف الى نلسون شخصياً يذكر انه حصل في وقت مبكر من حياته العلمية على نسخ خطته من محاضرات نلسون عبر التاريخ القديم وقد أُعجِبَ بها، وأعلم هذا الاستاذ  وشغفه بموضوعه انتقلت حماها الى اسد رستم. لذلك فلما اتيح لرستم ان يتوجه الى اميركا للتخصص رتب له نلسون أن يكون في جامعة شيكاغو ليتتلمذ على واحد من كبار علماء التاريخ المصري في اواخر القرن التاسع عشر واوائل القرن العشرين وهو حيمز هندي برستون ( وهو كان استاذاً لنلسون)

وهكذا أتيح للشاب اللبناني المؤرخ ان يتدرب على ايدي برستد وزملائه فيتعلم هناك اللغات السامية اللازمة لفروع تخصصه. وهكذا عاد اسد رستم وهو مهيأ لتدريس حضارات الشرق القديم  وتاريخ الفصول الخالية… وهنا بدأت مرحلة جديدة ومختلفة في حياة مؤرخنا. نحن نتحدث عن العشرينات والثلاثينات…

في السنوات الاولى من عمله في الجامعة الاميركية، وكانت ابحاثه تدور في إطار القرن التاسع عشر، على وجه العموم ، في رقعة بلاد الشام وفي مصر…” ( انتهى الاقتباس)

عن كتاب”مصطلح التاريخ” وهو الأول من نوعه في آداب اللغة العربية، تقول ابنته الدكتور لميا رستم شحاده

“جاء كتابه هذا سبقاً في محاولته ربط هذا العلم الجديد بالعلوم العربية القديمة وخاصة بما كان لرجال الحديث من ابتكار في نقد الأحاديث. فما تطرق المؤلف إلى مرحلة من بحث تاريخي أو ناحية من نواحيه إلا وقارنها بما قام به علماء الأحاديث مستعيناً بمصطلحاتهم وأساليبهم في التحقيق والتعبير منوهاً دائماً بفضلهم وسبقهم وهذا أمر قلّ ما انتبه المؤرخون الأجانب أو ورثة هذا العلم. ولم يكتف رستم بكتابة المصطلح والتزامه هذا الأسلوب فيما كتب وألّف بل غرس هذا الأسلوب العلمي في نفوس تعاليمه”.

منذ الثلاثينيات وشهرة أسد رستم تتخطى الحدود اللبنانية وتفرض حضورها في مختلف أنحاء العالم العربي. وإذا به يتحول إلى محجّة يستشار بعلمه وخبرته ومعرفته لإيجاد حلول لمختلف المسائل ذات البعد التاريخي والتي كانت تطرح في تلك المرحلة الدقيقة التي بدأ يدخلها الشرق الأوسط.

في الثلاثينيات طلب منه إبداء الرأي في قضية البراق الشريف. كما اعتمدت على معرفته الحكومة السورية لتدافع عن حقوقها التاريخية في لواء الإسكندرون وقد رفعت وثيقة بتوقيعه إلى عصبة الأمم في جنيف ومنحته وسام الاستحقاق السوري في 20 حزيران 1937 كما منحه الأمير عبد الله وسام الاستحقاق العربي في تلك الفترة نفسها.

استدعته قيادة الجيش اللبناني لتعيّنه مستشاراً بعد ان ساعد منذ الأربعينيات في تجهيز المتحف العسكري.

كتاب مسيرة عمراصدار بطريركية الروم الارثوذكس
كتاب مسيرة عمر
اصدار بطريركية الروم الارثوذكس

وقد كتب تاريخاً للجيش اللبناني لا يزال مخطوطًاً ووضع معجماً للألفاظ العسكرية. هو أول المدرسين في الجامعة اللبنانية ومن رواد معلمي العلوم السياسية والتاريخ في الأكاديمية اللبنانية. له الفضل في تأسيس إذاعة الجندي كما أنه ساهم مساهمة كبيرة في تحرير “مجلة الجندي اللبناني”.

يقول منير اسماعيل

“اتسم خط أسد رستم، المؤرّخ الملتزم، بخصائص يمكن إيجازها في ما يأتي: حافظ رستم في مؤلفاته على مستوى أكاديمي يوازي في قيمته ما يصطلح المنهجيون المعاصرون على الإشارة إليه بكلمة ouvrage، نائياً بها عن مستوى الكرّاسات والأبحاث المبعثرة التي تُجمع من هنا وهناك. هكذا ظلّ رستم في المستوى اللائق، فكان المؤرّخ “المحترف”، إذا صحّ التعبير، لا عابر سبيل، وذلك بعيدًا عن التباهي والادّعاء.

كان أسد رستم غنيّ الإنتاج بالمفهوم الأكاديمي، رغم أنّه لم يكن يؤلّف في كل موضوع. ولكنّه وضع لنفسه منهجاً التزم به في جميع مؤلفاته، وذلك من دون الخروج عن قناعاته في ما يقول ويكتب وبما يُسر ويعلن.

“إذا ضاعت الأصول ضاع التاريخ معها” شعار أطلقه أسد رستم وعُرف به. فكان له السبق والريادة في إرساء منهج البحث التأريخي الذي نهل منه جيل من الباحثين في لبنان والبلاد العربية. وقد علّل رستم ذلك بقوله “هذه قاعدة عامة لا موضع للجدال فيها، وذلك أن التاريخ لا يقوم إلا على الآثار التي خلّفتها عقول الآخرين”. فكان أوّل من حاول الاعتماد على الأصول في كتابة أي مرحلة تاريخية”.

في أواسط الخمسينيات عاد رستم ليكرّس وقته لكتابة التاريخ باحثاً في تاريخ الشرق القديم متعمّقاً بتاريخ الروم فنشر كتاب “الروم في سياستهم وحضارتهم ودينهم وثقافتهم واختلاطهم بالعرب” في جزءين في سنة 1955.

عام 1956 أصيب أسد رستم بأول ذبحة قلبية فلازم الفراش. حادثة كان لها أثر كبير في توجيه فكره. وإذا به ينطلق في وضع مجموعة مؤلفات عربية تتناول الكنيسة الشرقية للروم الأرثوذكس. فأنجز عام 1958 “تاريخ كنيسة مدينة أنطاكية العظمى” في ثلاثة أجزاء، وقلّده  البطريرك ألكسندروس بطريرك أنطاكية وسائر المشرق وسام القديسين بطرس وبولس في دمشق ومنحه لقب مؤرخ الكرسي الأنطاكي.

يمكن اعتبار كتاب “كنيسة مدينة الله انطاكية العظمى” من أكمل ما كتب عن هذا الموضوع من جهة الاتساع والترتيب والشمولية والموضوعية. إشارة إلى أنّ رستم عاش الكثير من الأحداث التي أرّخ لها مختبراً الشخصيات الكنسية التي تكلّم عليها. كما أنّه تلمّس الصراع المحموم بين المرسلين الكاثوليك والبروتستانت على أرض لبنان، والهزّات العنيفة الداخلية التي عصفت بالكنيسة الأنطاكية الأرثوذكسية في القرن العشرين.

كذلك كتب لمجلّة “المسرّة” و”النور” ووضع ثلاثة كتب الأول بعنوان “وبكنيسة واحدة جامعة مقدّسة رسولية” (مجموعة مقالات عن الكنيسة) والثاني “نحن ورومة  والفاتيكان” والثالث “آباء الكنيسة” تعتبر كلها من أبرز الأطروحات في الحوار المسكوني والدعوة إلى الوحدة الكنسية والتلاقي بين مختلف الكنائس محلياً وعالمياً بعيدًا عن المساومة على الإيمان وأسس العقيدة.

عام 1963 كان الدكتور رستم أحد الأعضاء البارزين في لجنة كتب اللاهوت الدراسية التابعة للكنائس في الشرق الأدنى. وفي 27 تشرين الأول 1964 منحت “جمعية أصدقاء الكتاب” أسد رستم جائزة فخامة رئيس الجمهورية اللبنانية لعام 1964 عن مجموعة آثاره.

عندما مات علمنا  ترك وراءه مخطوطة لمعجم ألفاظ العهد الجديد من اليونانية إلى العربية. اعتبره “دون ماكنيل” في “جريدة الحياة” عام 1965 “باكورة العمل المسكوني والوحدة العملية في الشرق. فهو مساهمة عظيمة من أسد رستم في سبيل وحدة الكنيسة”.

وكان في المرحلة الأخيرة من حياته  قد سعى إلى وضع معجم من اليونانية إلى العربية بالتنسيق مع لجنة من المتخصصين تمثّل مختلف الكنائس المسيحية مدعومة من صندوق تعليم اللاهوت ومجلس الكنائس العالمي. لم ينه رستم مهمته هذه بسبب وفاته المبكرة، فقد تبقّى أربعة أحرف لإتمامه كما مر.

ورد في مجلة الاسبوع العربي المقال الصحفي التالي بالحرف

الدكتور اسد رستم مؤرخ الكرسي الانطاكي المقدس
الدكتور اسد رستم مؤرخ الكرسي الانطاكي المقدس

” أسد رستم بين 64 الف مخطوطة

نال المؤرخ اللبناني الدكتور اسد رستم جائزة رئيس الجمهورية في جوائز جمعية أصدقاء الكتاب ، تقديراته على مجموع مؤلفاته وتحقيقاته التاريخية والاسبوع العربي  تقدم خطوط صورة عن الدكتور رستم المؤرخ والرجل.

” ” رأيت وانا اصافحه على باب داره غبار التاريخ الأبيض  يعلو حاجبيه ويلتف حول رأسه، وتحت هذا الغبار عينان تشعان بالذكاء والفضول وبشيء ثالث لست ما ادري ما اسمه…

يتقدم نحو السبعين … ربعة، مرح، وهادىء…يترك وراءه عشرات المصنفات التي الفها أو ساهم في تأليفها أو حققها وجمع لها الوثائق. تقلب فيها بين التعليم في الجامعتين الأميركية واللبنانية، وأمانة محفوظات سراي عابدين  الملكية، ومركز المستشار الشرقي في السفارة الاميركية ومستشار في الجيش اللبناني وعددا من المراكز وغيرها من المناصب …

وقد جاءت جائزة رئيس الجمهورية في جوائز اصدقاء الكتاب التي منحت للدكتور أسد رستم الأسبوع الماضي، بمثابة تقدير رمزي له من الكتاب الذي امضى ايامه في خدمته ولايزال. إنه ينتمي الى هذا الجيل الذي قطع الحربين. وأمضى مابينهما جاهداً في خدمة الحقيقة التاريخية.

ويتذكر الدكتور اسد رستم ايام دراسته الأولى في مدارس الشوير الاسكتلندية، ثم في الجامعة الأميركية حيث احرز البكالوريوس في العلوم في منتصف  الحرب العالمية الأولى، ثم عهده بالتخصص في شيكاغو بالتاريخ القديم، وقد عاد منها سنة 1923 بشهادة الدكتوراه بدرجة ممتازة.

أول عمل علمي قام به هو جمعه لمختلف  الوثائق التاريخية عن عصور العرب الحديثة بين طوروس وسيناء، نشرها في خمسة مجلدات، فكانت سبب تعرف الملك فؤاد به واستدعائه له للعمل في محفوظات سراي عابدين الملكية. وهناك عثر على 64 الف وثيقة تعود الى العصر الذي يدرس قنشرها قي خمسة مجلدات اخرى.

ويغتبر الدكتور رستم المؤرخ، طليعة من شق النهج النقدي في كتابة التاريخ  الحديث عند العرب. وجرياً على هذا النهج الف كتابه “مصطلح التاريخ” نسجاً على منوال علماء الحديث فيما اسموه مصطلح الحديث وهو يعتبره أفضل كتبه.

من مؤلفاته “تاريخ الروم” صدر منه حتى الآن جزءان، وتاريخ الكنيسة في سورية ولبنان(3 مجلدات).  ومن الكتب التي شارك في تحقيقها وبنشرها في كتاب ” لبنان في عهد الشهابيين للأمير احمد حيدر الشهابي، وكتاب الدكتور مخائيل مشاقة: وغير ذلك من الوثائق والمراجغ الاولية في التاريخ العربي واللبناني.

وهو يُعنى الآن بوضع معجم لليونانية الهلينية والعربية سيصيب به – على حد قوله – عصفورين بحجر : الأول الوصول الى تعريب علمي دقيق لنصوص الانجيل والرسائل، والثاني وضع معجم تحت تصرف من يعنى بنقل العلوم من الهلينية الى العربية في العهد العباسي.

ولابد لمن يطلع على هذه المصنفات التي تكون بمجموعها تراث الدكتور رستم حتى الآن، أن يلاحظ امرين: الأول أنه لم يختر الطريق السهل في كتابة الموضوعات التاريخية اليسرة، والتعريف البسيط بجوانب التاريخ التي عالحها المؤرخون من قبله، بل اختار لنفسه دائما أن يكون موضوعه جديداً، فاختار ان يكون الفاتح.

الثاني ان جميع هذه الكتب التي الفها أو شرها، لاتعني المثقف العادي، بقدر ماتتوجه الى رجال الاختصاص في التاريخ. ومن هنا سر احتجابها عن التداول الواسع.

ثم شيء آخر بقي في ذهني وأنا أغادره (يقول الكاتب): ان هذا الرجل ليس كسائر علمائنا المؤرخين، خزانة معرفة فحسب. ولكنه قبل كل ذلك عقل ناقد متبصر… وانسان من شعب لبنان لم تزده الثقافة الاسكتلندية الا اصالة وعراقة.

 

مكتبه يوم رحيله
مكتبه يوم رحيله

 

اعماله

  • مصطلح التاريخ
  • بشير بين السلطان والعزيز (1804 – 1841)
  • عصر اوغسطس قيصر وحلفائه
  • مخطوطات البحر الميت وجماعة قمران
  • كنيسة مدينة الله أنطاكية العظمى
  • آباء الكنيسة في القرون الثلاثة الأولى
  • الروم في سياستهم وحضارتهم ودينهم وثقافتهم وصلاتهم بالعرب
  • الأصول العربية لتاريخ سورية في عهد علي باشا
  • لبنان في عهد المتصرفية
  • المخطوطات الملكية المصرية
  • لبنان في عهد الأمير فخر الدين المعني الثاني
  • حروب إبراهيم باشا المصري في سوريا والاناضول
  • لبنان في عهد الامراء الشهابيين
  • حرب في الكنائس
  • عصر أوغسطوس قيصر وخلفائه
    الدكتور اسد رستم في آخر العمر

    الخاتمة

    العلماءُ أنوار لاتبهت، وأعلام تظل ترفرف الى آخر الدهر يهتدي بها الضال ويسترشد التائه، فيحق لهم على الناس التقدير والاحترام في حياتهم، والذكرى الحميدة بعد رحيلهم، لاسيما من كان منهم جامعاً بين العلم والفضيلة والتقوى.

    علمنا الدكتورأسد رستم جامع لهذه الخصال، لما رحل ترك وراءه إرثاً فكرياً غزيراً وعدداً كبيراً من الطلاب والطالبات والأصدقاء والزملاء، رحل تاركاً وراءه “أسس البحث العلمي” للتاريخ و”التفكير النقدي” السليم.

    رحل وهو يطارد الحقيقة من كل حدب وصوب، وهو صاحب الكلمة الحرة والعقل النير.

    رحل وترك كنيسة انطاكية المعذبة ابداً والباقية ابداً على الرجاء تبكيه للفراغ العظيم الذي تركه.

    هو الذي نادى بأهمية “الأصول لدراسة التاريخ” وهو القائل :”اذا ضاعت الأصول ضاع التاريخ معها”. وهو كان أول من جمعها ونشرها، لذلك قال فيه الدكتور فؤاد البستاني رئيس الجامعة اللبنانية:” لقد قام بمفرده بأعمال تنوء بها اللجان” كما قال فيه المؤرخ البرت حوراني” ان ماقام به اسد رستم بمفرده ناءت به المؤسسات”

    اسد رستم كان داعياً الى وحدة الكنيسة والمجاهد في سبيلها عبر مؤلفاته الكنسية الرائدة والحوار مع جميع الكنائس، وحثهم على الاتحاد، وكانت جنازته تجسيداً لتلك الوحدة وتقديراً لانجازاته الجمة، فقد قال فيه مثلث الرحمات البطريرك ثيودوسيوس السادس:”لقد نهض بماعجز عنه اساقفة الكنيسة خلال العصور”.

    اسد رستم رجل يختصر فترة من الزمن كانت حافلة بمتغيرات سياسية وولائية وانتداباتكان رجلاً اختصر عدة رجال هو الساع ابداً في تأريخه وراء الحقيقة المجردة وهي صفات المؤرخ النزيه…

    رحمة الله عليك يااستاذنا واستاذ الكل…

    مصادر البحث

    1)الدكتورة لميا رستم شحادة، اسد رستم مؤرخ الكرسي الانطاكي مسيرة عمر/ منشورات بطريركية انطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس 2014.

    2)  ” مساهمة المؤرخين الأرثوذكس في التأريخ” جامعة البلمند، معهد التاريخ والآثار ودراسات الشرق الأدنى 2007

    3) مسعود ضاهر وآخرون مؤرخون أعلام من لبنان – دار النضال بيروت 1997

    4) يوسف اسعد داغر: مصادر الدراسة الأدبية – منشورات الجامعة اللبنانية 1972

    5) اسد رستم: مصطلح التاريخ – المكتبة البولسية بيروت 1984

    6) ” من ذكرى المؤرخ الى تشكيل الذاكرة” البلمند 16 ايار 2003 اعمال الحلقة الدراسية حول اسد رستم منشورات جامعة البلمند عام 2004.

    7) كنيسة مدينة الله انطاكية العظمى.

    8) مبادرون

    11 ديسمبر 2022 · إحتفال تكريمي للدكتور أسد رستم، مؤرخ الكرسي الأنطاكي. بدعوة من "مؤسسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافية " و "معهد القديس يوحنا الدمشقي اللاهوتي" في جامعة البلمند.
    11 ديسمبر 2022 ·
    إحتفال تكريمي للدكتور أسد رستم، مؤرخ الكرسي الأنطاكي.
    بدعوة من “مؤسسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافية ” و “معهد القديس يوحنا الدمشقي اللاهوتي” في جامعة البلمند.
    إحتفال تكريمي للدكتور أسد رستم، مؤرخ الكرسي الأنطاكي.
    بدعوة من “مؤسسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافية ” و “معهد القديس يوحنا الدمشقي اللاهوتي” في جامعة البلمند.
    أقامت “مؤسسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافية ” و” معهد القديس يوحنا الدمشقي اللاهوتي” في جامعة البلمند، ندوة حول الدكتور أسد رستم مؤرخ الكرسي الأنطاكي، بمناسبة إطلاق خمسة كتب للدكتور أسد رستم من منشورات البطريركية الأنطاكية بهمة “مؤسسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافية”.
    وحضر الإحتفال الذي أقيم في جامعة البلمند- قاعة البطريرك أغناطيوس الرابع راعي ابرشية طرابلس والكورة وتوابعهما للروم الأرثوذكس المتروبوليت إفرام كرياكوس ممثلا غبطة البطريرك يوحنا العاشر بطريرك مدينة الله أنطاكيا العظمى وسائر المشرق، راعي أبرشية طرابلس للروم الكاثوليك سيادة المطران إدوار ضاهر، راعي ابرشية طرابلس المارونية سيادة المطران يوسف سويف ممثلا بالأب عبود جبرايل، مفتي طرابلس والشمال سماحة الشيخ محمد إمام والشيخ عبد الرزاق إسلامبولي الرئيس السابق لدائرة الأوقاف الإسلامية بطرابلس، النائب أشرف ريفي ممثلا بكمال زيادة، النائب جميل عبود، النائب الدكتورنجاة عون صليبا، النائب الدكتور غسان سكاف ، السفيرآصف ناصر ممثلا النائب الدكتور حيدر ناصر، الوزراء السابقون سمير الجسر، إلياس حنا ، النواب السابقون مصباح الأحدب، نضال طعمة،
    كما حضر الإحتفال الرئيس السابق لبلدية الميناء عبد القادر علم الدين، أمين عام جمعية المقاصد الإسلامية الخيرية حسن بحصلي ممثلا رئيس الجمعية فيصل سنو على رأس وفد من مجلس الامناء، رئيس لقاء أبناء الجبل الشيخ الدكتور منير حمزة، حاكم اندية الليونز بطرس عون وحشد من الهيئات الثقافية والإجتماعية ومدراء الجامعات الرسمية والخاصة وكتاب وأدباء.
    في الإفتتاح النشيد الوطني اللبناني ونشيد جامعة البلمند ونشيد الفيحاء، نشيد مؤسسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافية.
    الخوري
    وألقى الشيخ منصور الخوري امين عام الجمعية اللبنانية للإنترنت والمعلوماتية كلمة ترحيبية وقدّم للمتحدثين وقال: بإسم هذا المعهد الوطني العريق إسمحوا لي أن أرحب بكم جميعا في هذا اللقاء الذي نجتمع فيه على ذكرى عظيم من أمتنا هو الدكتور اسد رستم مؤرخ الكرسي الإنطاكي الذي عمل على مدى عقود في البحث والتأليف وأمضى العمر في نشر رسالة القيم الإنسانية التي إستقاها من حضارة الشرق مهبط الرسالات والديانات السماوية، وقد شكل في مسيرته المضيئة مدرسة في الميادين العلمية والأكاديمية، لقد كان كبيرا في بناء صروح المعرفة ورائدا من رواد التدريس الجامعي فأضحى منارة لكل طلاب العلم والإختصاص ومثالا يحتذى لكل أجيالنا الطالعة.
    زريق
    ثم تحدث رئيس الهيئة الإدارية لمؤسسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافية الدكتور سابا قيصر زريق فقال: في ذاك السبت من ربيع 1991، جَرياً على عادتي، وبينما كنتُ أتسكَّعُ في شارعٍ ضيقٍ من فيحائي الحبيبة، إنطلاقاً من تقاطعِ الجامعِ المنصوري الكبير وصولاً إلى ساحةِ البلديةِ العتيقة، زائراً وفياً للمكتباتِ العديدةِ المتراميةِ على ضفتيه، عَرَّجتُ على مكتبةِ “السائح” لأبينا ابراهيم سروج، مستعرِضاً رفوفَها المكتظة بما لذّ وطابَ من أدبٍ وتاريخ، حين لفَتَتْني مجموعةُ كتبٍ من أجزاءٍ عديدة، بتجليدٍ فنيٍ خَمريِّ اللون فاخر، لمؤلِّفٍ لم أكن قد سمِعتُ به من قبل؛ هو الدكتور أسد رستم. عَقَدْتُ العزمَ على تملّكِ المجموعةِ لأن أحدَ رفوفِ مكتبتي الخالي بحاجةٍ إليها.
    واقتصرَتْ مراجَعتي لها آنذاك على عناوينها وتواريخِ إصدارِ كلٍ منها، خلال مرحلةٍ زمنيةٍ إمتدَّتْ من سنة 1984 ولغاية سنة 1991. وأفادتني تلك العناوينُ المتنوعة أن غنيمَتي هي أشبهُ بموسوعةٍ تاريخيةٍ شاملة؛ يتصدرُها مُجَلدُ “مصطلح التاريخ”، تتبَعه مجلداتٌ أخرى عالج فيها المؤلفُ تاريخَ لبنان في عهدَي الأمراء الشَهابيين والمعنيين وتحتَ حُكمِ العثمانيين وكذلك حروب إبراهيم باشا في سوريا والأناضول.
    وتابع: كما أفْرجتِ الموسوعةُ عن دليلٍ حِسيٍ على إهتمامِ المؤلفِ بأنطاكيا وكنيستِها والرومِ وحضارتِهم وصِلاتهم بالعرب؛ دون تجاهلِ المشاكل التي إعترضَتْهم وكذلك بالعلاقةِ مع روما والفاتيكان وبتاريخ اليونان من فيليبوس المقدوني إلى الفتحِ الروماني وعصرِ أوغوسطس قيصر وحلفائه (44 ق.م. – 69 ب.م.). فاستحقَّ المؤلِّفُ عن جدارةٍ نادرةٍ لَقَبَ “مؤرِخ الكُرسي الأنطاكي”.
    وشاءَتِ الظروفُ أن يُرَدَّدَ إسمُ أسد رستم أمامي بكثيرٍ من الإطراء، دون أن يحُثّ ذلك فُضوليتي على العودةِ إلى مكتبتي لقراءةِ بضعةِ صفحاتٍ من المجموعة الخَمرية لأغرِفَ من مضمونِها معرِفةً جديدة.
    وقال: لم أكُنْ أدري آنذاك أن ذلك المؤلِفُ الغزيرُ حَفرَ صخرَ التاريخِ بيَراعِ المُثابرِ المُجاهِد علمياً، هو الذي ضجَّتْ بأخبارهِ الأوساطُ الأكاديمية، رائداً في إرساءِ منهجٍ علميٍ جديدٍ لدراسةِ التاريخ، فأضحَتْ آثارُه مرجِعاً لا يقارن بأي مرجِعٍ تطَّرقَ إلى المواضيعِ نفسها؛ يعتمدُها مؤرِخون وفُقهاء، معتبرين مضمونَها الأمين من الثوابت التي لا تُدحَض. فالموضوعيةُ الصِرفةُ التي إتّسمَتْ بها أعمالُ دكتور أسد رستم تُصدِقُ قولَ الأديب الكبير أمين الريحاني “إن التاريخَ الصادقَ هو شاهدٌ لا قلبَ له”؛ أي بعبارةٍ أخرى، لا تَدْخُلُ في حِسبانِ واقعيَتِهِ أيةُ أحاسيسَ شخصية.
    إلى أن حان اليومُ الذي تلقّيتُ فيه اتصالاً من الدكتور جان توما، يُفيدُني بأنه يرغبُ في أن يعرِّفَني إلى الأرشمندريت البروفسور يعقوب خليل، عميد معهد اللاهوت في بَلَمندِنا الشامِخ. وتمّ لقاءٌ ثم آخر، شحذَ خلالَهُ أبونا يعقوب، وهو المطَّلع على نشاطاتِ مؤسسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافية، همّةَ المؤسسة لإخراجِ خمسةِ كتبٍ لأسد رستم، كانت عائلتُهُ قد سلّمت مخطوطاتِها إلى راعي هذا الحفل، غِبطةِ أبينا الكبير، يوحنا العاشر. وقبل أن ترمُشَ عيناي رمشَتَهما التالية، وافقتُ، علنَّي بذلك أكفّرُ عن تجاهلٍ غير مبرَّرٍ لأحدِ عظمائنا.وفي زيارةٍ له للمؤسسة، أفادني الأخ الصديق الغيور الشيخ منصور الخوري، بعد اطّلاعه على الإصدارات الخمسة، بأنه على علاقةٍ وثيقةٍ بابن د. أسد، عنيتُ الدكتور صلاح رستم. فأسَرَّيتُ له بأني أنوي إقامةَ ندوةٍ حول مؤرِّخنا الكبير، فاقترحَ أن ألتقي د. صلاح. وكان اللقاءُ في مكتبِ المؤسسة في طرابلس، تمهيداً للقاءاتٍ أخرى، وذلك نظراً للمودةِ الكيميائية التي سَرَت بيننا. وكان من الطبيعي، لا بل من الطبيعي جداً، أن أعرضَ عليه ومن ثم على أبينا يعقوب عقدَ هذه الندوة.
    وتبيّن لي لاحقاً أن بين الأبِ وابنِهِ صلاح وابنتِهِ لميا شراكةً نُبُوغية، إذ أنهما جَسَّدا القولَ الرائجَ “أن الولدَ سِرُ أبيه”. وها نحن اليوم معهما، في رِحابٍ أنطاكية، لطالما سالَ قلمُ د. أسد في تخليدِ تاريخها، إيفاءً لوشلٍ متواضعٍ من يمِّ ما له في ذمتنا.
    خليل
    ثم كانت كلمة الأرشمندريت البروفيسور يعقوب خليل
    عميد معهد القدّيس يوحنّا الدمشقيّ اللاهوتيّ – جامعة البلمند، فقال:بدايةً أودّ أن أرحّب بكم باسم أبينا صاحب الغبطة والقداسة البطريرك يوحنّا العاشر، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق، الذي شاء وبارك فصدرت من ضمن منشورات بطريركيّة أنطاكية وسائر المشرق أولُ خمس كتب من مجموعة مؤرّخ الكرسيّ الأنطاكيّ الدكتور أسد رستم.
    وقال: إنّ العظماء، أيّها الضيوف الكرام، يختلفون عن ذوي المقامات، في أنّهم لا ينالون الألقاب الرنّانة السائدة، بل يُحدِث القومُ لمثل هؤلاء الألقابَ، كي تُنصف فرادة مساهماتهم التي تصنع التغيير. لذا أطلقوا على أسد رستم لقبًا لم يُطلق على أحد سواه لعدّة قرونٍ من الزمن خلت، لقب مؤرّخ الكرسيّ الأنطاكيّ.
    لم يكن أسد رستم ناقلاً في انشغاله في التاريخ، فإنّه لم يجمع تاريخ أنطاكية العظمى تجميعًا من مصادر متنوّعة، بل دقّق وبحث وجادل كأسدٍ جبّار وقال كلمته في الأحداث التاريخيّة وأنصفَ، لا سيّما في كتابة تاريخ أنطاكية خلال الفترة العثمانيّة، حين تلطّخت كتابة التاريخ بهوى الذاتيّة وتحريف الحقائق لغايات خفيّة. فكان مؤرّخًا ثائرًا على النفاق والترويج لنشاطات مشبوهة في حظيرة الكنيسة الشرقيّة. وما أثمن هذه الهديّة التي وعد ان يقدمّها لكنيسته وصدق في وعده.
    وتابع: نعم كان ثائرًا، كما يسمّيه الزميل الأب جورج برباري، ثائرًا كمؤرّخ وكرجل كنيسة. فهو المؤرّخ الثائر الذي لم يكتف باتباع منهجيّات واسعة القبول في البحث بل طوّر منهجيّة وجدها تساهم في جلاء ماهو صحيح ثابت من الروايات مما ليس بصحيح وثابت. وأظهر بالمجهود البحثيّ الذي بذله أنه لا يمكن للمؤرّخ أن يتغاضى عن تاريخ الروم ليجْلُوَ تاريخ العرب.
    هو أيضًا الثائر الكنسيّ الذي كان من أبرز أعمدة النهضة في كنيسته الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة في فترة أواسط القرن العشرين، ونحن اليوم نبني على أسسٍ أثمرت عن عملهم الدؤوب.
    وتابع: أخذت بطريركيّة أنطاكيّة وسائر المشرق على عاتقها إعادة نشر مجموعة مؤلّفات مؤرّخها الكبير، لتكون بين يديّ القرّاء الضمنيّين الذين كانوا في ذهنه. ففي هذا المعهد اللاهوتي، بشكل خاص، يستمر أسد رستم معلّمًا للأجيال دون انقطاع. يرتاح قرير العين في عرينه على هذه التلّة البلمنديّة المقدّسة ويفتخر، إذ صارت منهجيّته الثائرة مبدأً متّبعًا في كلّ فروع الدراسات اللاهوتيّة.
    وختم: أخير وليس آخرًا، أوجّه شكرًا كبيرًا لمؤسّسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافيّة التي بهمتها تم إعادة طبع كتب مؤرّخ أنطاكية العظمى أسد رستم، وهي تشارك اليوم معهد القدّيس يوحنّا الدمشقيّ اللاهوتيّ – جامعة البلمند في رعاية هذا الاحتفال التكريميّ.
    درويش
    وكانت كلمة للباحث في التاريخ البروفيسور ماجد الدرويش فقال: رجل مميز في زمانه ومكانه وعلمه، تنضح كتبه بافتخاره بإنتمائه العربي الذي يشكل عمق بلاد الشام التاريخية، التي تعربت قبل الفتح الإسلامي بتسعمئة سنة (عبارته)، والعربية عنده امتداد طبيعي للسريانية التي بدأت بها المسيحية، لذا يرى أن التكامل بينهما يشكل أساسًا متينًا لإعادة اللحمة إلى هذه الكنيسة التي أصابها الإنشقاق الكبير.ومن هنا وجدناه في الكتاب الذي نحن بصدد الاحتفاء به (تاريخ الكنيسة الانطاكية) يجهد في تقريب وجهات النظر بين الشرق والغرب من خلال تحقيق النصوص التاريخية العائدة للكنيسة وفق قواعد علم المنهجية (methodology) وهو العلم الذي وضع فيه كتابه العظيم (مصطلح التاريخ) مستمِدًا مباحثه من مناهج علماء الحديث المسلمين، فلم تعد كتاباته جسرًا بين الكنيسة بشقيها الشرقي والغربي، وإنما باتت جسرا للتكامل الحضاري بين الإسلام والمسيحية من جهة، وبين كل حضارات الأرض من جهة أخرى.
    وتابع: يقول مؤرخنا في تقديمه لهذه المجموعة: «وإذا ما صلَّينا وابتهلنا لوحدة الصفوف، فإنما نفعل ذلك لأجل متابعة العمل في حقل الرب بعد جمودٍ دامَ طويلًا، وحقلُ الرب واسعٌ جدًّا يشمل العالَمَ بأسره، والعمل فيه لا يثمر إلا إذا اقترن بظروف صالحة معينة، وأهم هذه الظروف التجدُّد الداخلي الذي يتحلَّى بإنكار الذات، وإنكارُ الذات يبدأ باعترافٍ داخلي بالعيوب وعدم الوصول إلى الكمال، ويفرض تنازلًا حقيقيًّا عمَّا نسمِّيه كرامةً شخصيةً، وهو يتطلَّب استعدادًا للتعاون مع الغير في سبيل مبدأ صحيح عام كليِّ المفعول». ويتوسل سبيلا لذلك الابتعاد «عن سياسة القسر والإكراه، فلا نستغل ظرفًا سياسيًّا، ولا نستعين بسلطة زمنية مسيطرة، فقد جرَّبنا هذا النوع من العلاج مرارًا وتكرارًا؛ فأخفقنا وتباعدنا».
    وقال: كلام راق جدا، وعاقل جدا، ومنطقي جدا. وبالفعل نجده سلك هذا السبيل، فجهد في كتابه الذي نحن بصدد الاحتفاء به في تقريب وجهات النظر بين المسيحيين، شرقيين وغربيين، كما جهد في تقريب وجهات النظر بين المسلمين والمسيحيين، فبرزت جهوده فيما أخرجه من مجموعات عربية مهمة للوثائق التاريخية، وعلى الخصوص تلك التي تعود للقرون الأربعة (من السابع عشر إلى العشرين ميلادي)، وهي الفترة التي أسند إليه تدريسها في الجامعة الأمريكية في بيروت. وهي مجموعتان: الأولى: (الأصول العربية لتاريخ سوريا في عهد محمد علي باشا) ستة مجلدات، الثانية (المحفوظات الملكية المصرية من سنة 1810 إلى 1841) خمسة مجلدات، طبق عليها قواعد البحث التاريخي التي أثبتها في كتابه (مصطلح التاريخ)، كما طبقها أيضا في كتابه المهم جدا (الروم في سياستهم وحضارتهم ودينهم وثقافتهم وصلاتهم بالعرب)، هذا الكتاب الذي أنصف فيه الإسلام فيما كتبه في الفصل الخامس عشر من الباب السادس منه تحت عنوان: (النبي العربي والروم).
    وقال: إن قراءة التاريخ تحتاج من المؤرخ علوما وعقلا وجهودا مضنية صادقة تبدأ بمرحلة جمع الوثائق التي تعتبر المراجع الأولية (التقميش)، ثم «نقد هذه المراجع الأولية؛ ليتثبت من أصالتها وعدم تزويرها أو الدس فيها»، وما يستتبع ذلك من خطوات توثيقية للأحداث والأشخاص. ثم «تجيء المرحلة الثالثة في التأريخ، وهي دور إثبات الحقائق المفردة، فيتابع المؤرخ البحث والتنقيب للوصول إلى طمأنينة العقل وسلامة الاستنتاج». ولأن التاريخ «بعيدٌ عن المشاهدة، ضعيفُ الاستدلال بالقياس»، كان لا بد من الابتعاد عن تعميم الأحكام والتسرع في إطلاقها، وعدم الاعتماد على ما انفرد به من لا يوثق بروايته، حتى لا تنحرف الحقيقة عن مسارها التاريخي، إذ من الممكن أن يكون الانحراف سببا لشقاق إنساني، وصراع حضاري أو عقدي البشريةُ في غنى عنه.
    وختم: فكم من حرب أُطلقت مقدسةً، وكانت النتيجة أنها مجرد هوىً تمكن في عقل وقلب محركها، وفي ذلك يخاطب القرآن الكريم المؤمنين بقوله: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون﴾، فتصوير الأمر على أنه دين، وهو في الحقيقة غير ذلك، خيانة للدين وليس نصرا له، وسبيل الابتعاد عن ذلك: العقل والعلم والإنصاف، وهي الصفات التي برزت بشكل رائع في كتابات مؤرخنا.
    نحاس
    وتحدث بإسم الرابطة اللبنانية للروم الأرثوذكس الأستاذ فواز نحاس فقال: أسد رستم هذا الذي حدثنا عنه غبطة أبينا البطريرك يوحنا العاشر يازجي خلال لقائنا الأخير معه في المقر البطريركي في البلمند قائلا:انه بالإضافة إلى كونه مؤرخ الكرسي الإنطاكي هو مرجع في الموضوعات التي كتب فيها لدى غالبية جامعات العالم.
    وتابع: إنكببت على مطالعة هذه الكتب وكنت كلما أنهيت قراءة جزء سارعت إلى التالي، فإذا بي أمام مؤرخ نافس في الدقة والحيادية والموضوعية والثقافة العالية المستوى أهم المؤرخين العالميينن هذا ما دفع الدكتور شارل مالك في كتابه “المقدمة” إلى ان ينصح كل من يريد كتابة في التاريخ بمراجعة مصطلح التأريخ لاسد رستم الذي ضممنه طريقة البحث التاريخي التي لها مبادئها وأصولها المعترف بها.
    وقال: لقد أدرك الدكتور رستم أن معنى التاريخ يكمن في وحدة تطوره ونموه وفي تفاعل الفكر الحر عبر التراث الإنساني الذي يختزن قمم الفكر والروح التي لا تضاهى ولا يعلى عليها، وان الإسهام الحقيقي في كتابة التاريخ لا يتم ولا يكتمل إلا بالغوص في جزئيات هذا التاريخ فأبدع في ذلك حيث بقي أمينا للحقيقة التي نراها جارحة ومؤلمة في كثير من الأحيان وأكاد أقول في غالبها الأمر الذي سيكتشفه كل قارىء في اية جهة كان وفي اي موقع وقف.
    وقال: كان الدكتور رستم جادا في طلب الحقيقة المجردة التي آمن بها فدونها في كل كتبه بلغة سهلة وراقية نلاحظها حين كتب عن الخلافات التي حدثت بين أبناء الكنيسة الأرثوذكسية الواحدة او بينهم وبين سواهم، وهذه الحيادية إنسحبت على كل مدوناته وفي كل مؤلفاته خاصة حين نقرأ في كنيسة مدينة الله العظمى حيث خصص الكتاب الثالث لموضوع واحد متشعب وهو: النصرانية في دار الإسلام حيث ارّخها من العام 1453 وهو تاريخ الفتح العثماني للقسطنطينية.
    وختم: ان الرابطة اللبنانية للروم الأرثوذكس التي ينص نظامها الاساسي على حرصها وواجبها في المحافظة على التراث الأرثوذكسي بالتعاون والتنسيق مع المرجعيات الإكليريكية الأرثوذكسية وعبر التعاون مع سائر الهيئات الثقافية العلمانية والمدنية في الوطن وبلاد الإنتشار تشكر بصدق الجهات الداعية لهذه الندوة حول المؤرخ الكبير وتقدّر عاليا الجهود الكبيرة التي تقوم بها جامعة البلمند بتوجيه من صاحب الغبطة البطريرك يوحنا العاشر في الحفظ على الآثار الثمينة والغنية التي تركها لنا كبارنا الذين سبقونا.
    لميا رستم
    وتحدثت إبنة المكرّم السيدة لميا رستم شحادة فقالت: لقد كُرّم اسد رستم عدة مرات في حياته وحاز على عدة اوسمة كما كُرّم بعد وفاته وقلّده فخامة الرئيس السابق شارل حلو ممثلا بوزير التربية آنذاك الوسام اللبناني الذهبي، كما كرمته الجامعة اللبنانية بإقامة مؤتمر إستمر لثلاثة أيام لدرس صفاته وعطاءاته كما كرمته جامعة البلمند ليوم واحد حيث درّست خلاله عطاءات رستم وفعلت مثلها الجامعة الأميركية.
    أضافت: وها نحن اليوم نكرم رستم بسبب محبة الدكتور سابا زريق وإجلاله وإعجاب عميد كلية اللاهوت الأب يعقوب. فلماذا كل هذا التكريم؟ والجواب في كلمة واحدة هو “المؤسس” مع “ال” التعريف وقد إستعرت ال التعريف من المؤرخ الدكتور منير إسماعيل الذي وصف رستم بمؤرخ المتصرفية ثم قال: لا بل هو مؤرخ لبنان ثم قال: لا بل هو “المؤرّخ”. إنه المؤسس لأنه عندما عاد من جامعة شيكاغو في سنة 1923 متأبطا شهادة الدكتوراه بعد 15 شهرا من مكوثه هناك، بدرجة الإمتياز الأعلى وواجهته الإدارة في الجامعة الأميركية بالطلب منه تعليم تاريخ العرب في الأربعماية سنة الأخيرة.
    فإتجه رستم رأسا إلى المكتبة للإطلاع على هذا الموضوع لأن موضوع إختصاصه كان تاريخ الشرق القديم ولكنه فوجىء بخلو المكتبة العربية من اي مصادر أولية لتلك الفترة من التاريخ.
    وتابعت: لقد قام المؤسس بتجميع هذه المصادر خلال سفرة له إلى سوريا وفلسطين ومصر والأردن وتركيا، كما قصد عدة سفارات أهمها السفارة البريطانية ومكتبات أهمها مكتبة البطريركية المارونية في بكركي، والمحاكم الشرعية وغيرها، ونتج عن هذا العمل الشاق اربعة اجزاء لهذه الوثائق وخامس للفهارس في سنة 1930 وأسماها “الأصول العربية لتاريخ سوريا في عهد محمد علي باشا”.
    وقالت: كتب رستم إلى إبنته لميا وزوجها:”إني بدأت العمل الجدي في يونانية العهد الجديد وذلك بتدوين الكلمات اليونانية ومقابلها بالعربية على بطاقة واحدة لإعادة ترتيب كلمات العهد الجديد بموجب حروف الهجاء العربية، وبعد الإنتهاء من هذا العمل نبدأ بدرس كل كلمة بمفردها وإعداد ربع عامود في التعليق عليها في معناها اليوناني الاصلي ومعناها في العهد الجديد ووجه الخطأ ووجه الصواب في الترجمات العربية المختلفة ثم نطبع على الميميوغراف ونوزع على العلماء طالبين آراءهم قبل الطبع النهائي.
    اضافت: انها المحاولة الأولى في التاريخ الكنسي لتأليف معجم يوناني عربي وقد كلفه بها مجلس الكنائس العالمي، ووصف رستم الهدف من القاموس بأنه تقديم مرادفات لجميع الكلمات اليونانية في العهد الجديد بالعربية بموضوعية وغير إنحياز.
    صلاح رستم
    ثم القى كلمة العائلة الدكتور صلاح أسد رستم إستهلها بشكر البطريرك يوحنا العاشر والدكتور سابا زريق في سعيهما لعقد هذا اللقاء التكريمي لاسد رستم الذي ينعش الروح ويبعث الأمل في نفوسنا بأن أبناء لبنان مستمرون بالعطاء وينهلون من معين لا ينضب ألا وهي الحقيقة المجردة التي قضى اسد رستم حياته سعيا وراءها.
    وتابع: من هنا أستنتج واقول أن أسد رستم ما زال حيا فينا نقرأ له ونسمع صوته أحيانا ونسعى لتقليده أما “البابا أسد” فهو اسطورة خلدها التاريخ لأن كل من تتلمذ عليه كان يحظى بنفس المحبة والتضحية التي شملتني واخوتي، ومن هنا ترعرعت على إحترام كل اللبنانيين ومقدار محبتي لهم تقاس بقدر محبتهم للبنان بغض النظر بما يعتقدون به فهم شركائي في الوطن وبه نعتز وسوف ننهض بعزائم المخلصين.
    وقال: اسد رستم ترك فينا نحبة خالدة لما رأينا منه محبة وتضحية وإحتراما بالغا “لأم صلاح” فكانت وداد توفيق سلوم شريكة حياة اسد بالمعنى الصحيح والقويم ففتحت بيته وأغنته محبة نادرا ما ترى مثلها وقدمت له كل عون وسهّلت عليه الكتابة والتأليف..
    أسد رستم علمني الإبداع وان أستوعب خصمي وأتحمل المصاعب وأن أكون صريحا شفافا ووفيا مخلصا لعملي ووطني حتى الشهادة.

 

 

 

 


by

Tags:

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *