الغنى والتنوع الديني المسيحي في سورية

الغنى والتنوع الديني المسيحي في سورية

الغنى والتنوع الديني المسيحي في سورية

سورية والكرسي الأنطاكي

سورية إذا اتخذتَ الرقعة الأرضية أو عدد السكان مقياساً للأهمية،فهي بلد صغير في الأرض، لكنها تقف في الصف الأول وعلى قدم المساواة مع أعرق البلدان حضارة وأغناها تراثاً بالمفاخر التاريخية،تضم كنوزاً فوق كل ثمن منها المدني، ومنها الحربي، ومنها الفني، الطبيعي والفولكلوري، فهي متجذرة في التاريخ، وعمرها ينوف عن عشرة آلاف سنة، لذلك يحق لها أن تفتخر بذاتها ويفتخر بها كبار العلماء والمستشرقين ومنهم رينان بقوله :” لكل إنسان متحضر في هذا العالم وطنان وطنه وسورية”
سورية كانت ولا تزال هدفاً ومقصداً لطلاب المعرفة والاستشراق وللسياحة وبخاصة الدينية منها وزيارة الأماكن الدينية.
يتجذر الكرسي الأنطاكي المقدس في بلاد الشام منذ الثلث الأول من القرن الأول في انطاكيتنا الرائعة والسليبة، وكانت إذ ذاك عاصمة الشرق الروماني وتسمى “عين الشرق كله”، وفيها “دُعيَ المسيحيون أولاً” وأُقيم كرسيه الرسولي بهمة الرسولين بطرس وبولس “هامتي الرسل”،واستوى عليه القديس بطرس كأول أساقفته منذ 45- 53 مسيحية قبل أن يجول مبشرا” في أوربة ليصل إلى رومه العاصمة ويقيم كرسيها الرسولي مع رفيقه القديس بولس عام 64 ويكون أول أساقفته وحتى السنة66 وليستشهد وبولس زمن نيرون، وبذلك يفتخر الكرسي الأنطاكي بأنه اسبق في تأسيسه لكرسي رومه بعقدين وأن بطرس كان أسقفه الأول وقبل أسقفيته على رومه.
تفرد أسقف أنطاكية وحده بحمل لقب البطريرك باعتراف المجامع المسكونية، والبطريرك كلمة يونانية تعني شيخ العشيرة، ثم تلقب به أساقفة الكراسي الأخرى.

شعار الكرسي الأنطاكي
شعار الكرسي الأنطاكي


شملت ولاية الكرسي الأنطاكي حتى حدود الصين شرقاً، أما اليوم وبعدما نشأت كنائس مستقلة للأرمن وللكرج وللسريان فتقتصر ولايته على بلاد الشام والرافدين والجزيرة العربية والانتشار الاغترابي في أوربة والأميركيتين واستراليا،وجدير ذكره استشهاد كل الأبرشيات في آسية الصغرى، وخاصة في مطلع القرن العشرين بالتطهير العرقي الذي قضى على الوجود الأرمني والسرياني والآشوري، والأرثوذكسي بشقيه اليوناني والعربي،وإلحاق كيليكيا عام 1922، ولواء الاسكندر ون عام 1939، بتركيا حيث أُفرغت من قرابة ثلاثة ملايين مسيحي قتلاً وتهجيراً، وقد اختار من بقي حياً اللجوء إلى سورية بلد الحب والسلام والعيش الواحد.

حروب الفرنجة

وكان الكرسي وأتباعه في بلادنا قد نُكب مع شقيقه كرسي أورشليم طيلة قرني غزوات الفرنجة من القرن 11 إلى القرن13، ثم نُكب أيضاً حينما تم طردهم حيث اعتبر البعض، ولا يزالون مع شديد الأسف،أنهم أي -أبناء الأرض- فرنجة، وخاصة  ما تعرضت له مدينة أنطاكية،فقد دمرها الظاهر بيبرس، وكان الفرنجة قد خرجوا منها قبل حصاره لها، وقتل وسبى مائة ألف من سكانها عام 1268، فتغرب الكرسي مجدداً في آسية الصغرى وقبرص حتى العام1344، حيث استقر في دمشق في دار البطريركية الحالية وقاعدتها الكاتدرائية المريمية. وكانت وقتها دار مطرانية دمشق، ومن وقتها اتحدت سلسلة مطارنة دمشق مع بطاركة إنطاكية فأصبح البطريرك مطراناً لدمشق،وقد اختيرت دمشق لأنها الموقع الأقدس بعد القدس، فمنها انطلقت المسيحية إلى العالم، وهي الأهم بعد أنطاكية ادرياً، حيث كان أسقفها يلي البطريرك في الترتيب، إضافة إلى أنها زاهية مدن الشام.
مرت بكرسينا الأنطاكي حوادث عاصفة عبر تاريخه العريق سلخت منه أبناء أحباء، ارتبطت في معظمها بصراعات قومية استقلالية عن كنيسة الدولة الرومية الرسمية، مع خلافات لاهوتية متعلقة بتفسير مغلوط للغة اليونانية لغة الإنجيل المقدس والبشارة ولغة الثقافة العالمية وقتئذ.

نشوء كنائس
أول إعلان بالاستقلال كان من قبل الأرمن حيث أعلن ملكهم ارطاد المسيحية ديناً رسمياً للدولة في السنة302 وكانت أرمينيا أول دولة تتنصر، ونشير إلى أن الإمبراطور قسطنطين أعلن في عام 314 من ميلانو براءته الشهيرة التي أباح فيها للمسيحيين في الدولة بحرية العبادة، بينما اعتبر الإمبراطور ثيوذوسيوس الكبير المسيحية دين الدولة الرسمي حال إمبراطوريته السنة 379. ثم انفصل الآشوريون بعد رفضهم لمقررات مجمع أفسس431 وأنشأوا كنيستهم المستقلة السنة 489 في المدائن ببلاد فارس باسم الكنيسة النسطورية الشرقية ثم نقلوا المقر البطريركي إلى بابل. ورفض السريان والأرمن في أنطاكية، والأقباط والأحباش في شمال إفريقيا، مقررات مجمع خلقيدونية451، ونشأت الكنيسة السريانية مستقلة عام 513 في ماردين، وكان أول البطاركة ساويرس الأنطاكي، وتنقل مقر الكرسي إلى أن استقر في دير الزعفران في ماردين عام 1293 حتى عام 1933، حيث نُقل إلى حمص إلى عام 1959 حين نقله البطريرك يعقوب الثالث إلى دمشق في باب توما، مع الإشارة إلى انه تم بناء صرح كبير وجميل، أواخر القرن 20 باسم دير مار أفرام السرياني في معرة صيدنايا، وجُعل أيضا مقراً بطريركياً.
أما الموارنة فقد أقاموا بدورهم كنيستهم المستقلة عام 685 في لبنان، وأول بطاركتهم كان يوحنا مارون، ثم خضعوا لرئاسة بابا رومه زمن الوجود الإفرنجي في منطقتنا السنة 1183، وكانوا أول كنيسة شرقية تعلن خضوعها لبابا رومه. وجدير ذكره أن القديس مارون الذي ينتسب إليه الموارنة، هو من قديسي الكنيسة الشرقية، ومُكرم منها جميعها بما فيها الكنيسة الأرثوذكسية ويدخل في كتبها المقدسة، ويُعيد له كنسياً في 14 شباط سنوياً، وهو من رهبانها أيضاً كمعاصره القديس سمعان العمودي، وهما من المنطقة ذاتها من سهول حلب وادلب وباريشا التي عاش فيها ألوف الرهبان  ويعود هذا الوجود إلى منتصف القرن الرابع، ولا تزال أثار قلاليهم وأديرتهم إلا ما كان  موجود منها في منطقة أنطاكية والجبل الأقرع ومصب العاصي في السويدية، حيث جُرفت جميعها!!!.
ونتيجة للتبشير الكاثوليكي الذي بدأ اعتباراً من مطلع القرن 15، نشأت كنائس شرقية خاضعة لبابا رومه برئاسة بطاركة، وكل منهم حمل لقب بطريرك أنطاكية على طائفته، وكانت الكنيسة الكلدانية، وهي الفرع الكاثوليكي للكنيسة الآشورية، أول كنيسة شرقية تخضع للكنيسة البابوية وذلك في عام 1553 في الموصل باسم “بطريركية بابل على الكلدان” وأول البطاركة كان يوحنا.ليس لهم مطرانيه في دمشق،إنما لهم كنيسة باسم القديسة تريزا في حي باب توما.
وكانت الكنيسة الأرمنية الكاثوليكية قد نشأت في أواسط القرن15 منفصلة عن الأرمن الأرثوذكس، ولكنها باتت بشخصيتها الحالية في عام 1740 على يد البطريرك أبراهام بطرس الأول،الذي جعل مقرها في دير بزمار بجبل لبنان باسم “كاثوليكوسية بيت كيليكيا للأرمن الكاثوليك” ولهم مطرانية في دمشق باب توما بالقرب من حمام البكري مع الكاتدرائية.
أما كنيسة السريان الكاثوليك فقد انشقت عن كنيسة السريان الأرثوذكس عام 1662 بهمة البطريرك اندراوس اخيجان في ماردين، ولكن يمكن اعتبار البطريرك ميخائيل جروه مؤسساً حقيقياً وفعلياً لها، وخاصة بعد بنائه لدير الشرفة في جبل لبنان عام 1786 ،وجعله مقراً للبطريركية،وتقع دار مطرانية دمشق في موقع بستان الزيتون بالقرب من باب الشرقي.
أما كنيسة الروم الكاثوليك، فهي أكبر الكنائس الشرقية الكاثوليكية في سورية فقد انشقت بدورها عن بطريركية الروم الأرثوذكس في عام 1724 انشقاقاً فعلياً، وكان أول بطاركتها السيد كيرلس طاناس الذي جعل مقر بطريركيته في دير المخلص بصيدا، وتم الاعتراف بها رسمياً بفرمان سلطاني عثماني عام 1833 بهمة البطريرك مكسيموس مظلوم، وقد نقل المقر البطريركي إلى دمشق، بعدما اشترى كنيس لطائفة اليهود القرائين المندثرة من وكيلها في اسطنبول، وأقام الصرح البطريركي وكاتدرائية سيدة النياح الجميلة في موقع يسمى حالياً”حارة الزيتون”حيث كان يقع فيها بستان كبير للزيتون بالقرب من باب الشرقي.
ونشير لوجود مطرانية للاتين في حلب مرتبطة ببطريركية اللاتين في القدس مع كنيستين إحداهما في دمشق القديمة، والثانية في الصالحية.
وفي عام 1851 اعترفت الدولة العثمانية بالطائفة الإنجيلية الناشئة بتبشير البعثات البروتستانتية التبشيرية الانكليزية والأميركية والألمانية والايرلندية وغيرها بفرمان سلطاني،ويجمعها السينودس الإنجيلي الوطني في سورية ولبنان ومقره في بيروت.
أما الأرمن الأرثوذكس وبنتيجة نكبتهم منذ 1884 وحتى مابعد1915 حيث تمت في الأخيرة وحدها إبادة أكثر من مليون ونصف ارمني فقط في آسيا الصغرى، وأُفرغت منطقة بحيرة فان، وهي موقع أرمينيا التاريخية، من سكانها الأصليين، فقد أضيفت إلى بطريركية اتشميازين في أرمينيا وبطريركية الأرمن في اسطنبول، بطريركية جديدة هي بيت كيليكيا في بيروت، باسم “كاثوليكوسية بيت كيليكيا للأرمن الأرثوذكس عام 1939” وللأرمن مطرانية في كل من دمشق وحلب والجزيرة، وتقع مطرانية دمشق ملاصقة لسور دمشق بجانب باب الشرقي مع كنيسة باسم القديسين سرجيوس وباخوس وتعود الى زمن الفتح العربي لدمشق عام 635، ولهم في دير الزور كنيسة كبيرة دُشنت عام1991 تخليداً لذكرى شهدائهم، وتضم مئات جماجم ورفات الشهداء وأمامها شعلة الخلود مع نبع الصداقة عرفاناً بفضل السوريين على الأرمن، ويحج الأرمن إلى هذه الكنيسة الجميلة من سورية ولبنان والانتشار يوم 24نيسان سنويا وهو تاريخ بدء تلك المجزرة الرهيبة ويدين الأرمن في كل العالم لسورية وشعبها وللعشائر العربية في دير الزور والرقة والحسكة على إغاثتهم لمنكوبيهم عام 1915.
ونؤكد أن دمشق عاصمة سورية الحبيبة بالنسبة لسائر المسيحيين السوريين هي القبلة والمنطلق والانتماء، وهم مرتبطون برباط عضوي بها بالرغم من ان وجودهم العددي في بلاد الانتشار أضعاف ماهو موجود منهم  في سورية.

دمشق

دمشق
دمشق

هي شامة الله في أرضه، وهي أقدم المدن الحية والأقدس مسيحياً بعد القدس وتتقدم عليها أنطاكية موطن البطريركية الأساس إدارياً، وفيها مقر ثلاث بطريركيات حالياً كما مر.
شهدت دمشق للسيد المسيح ما قبل صعوده للسماء، ومنها انتقلت البشارة المسيحية إلى كل المسكونة.
دمشق حاضرة المدن ،دائماً حية أصيلة ومتجددة جمالها أخاذ، يضاف إلى سحرها الطبيعي ذكرى الأمويين، فلا يزال حكمهم حلما مستعذباً، وعطراً فواحاً مجلبباً بالفن والأناقة، انه سر الهي، سر خلود هذه الشامة الخضراء التي يخترقها بردى مجرى الذهب. ابنها البار القديس يوحنا الدمشقي أمين بيت مال المسلمين الملقب بيوحنا مجرى الذهب لحلاوة لسانه كحلاوة ماء بردى، سليل أسرة عريقة في إيمانها القويم، وفي حبها للشام وفي وطنيتها الصادقة، فجده سرجون الذي فتح باب دمشق الغربي لأبي عبيدة بن الجراح صلحاً السنة635 حقناً لدماء الدمشقيين،قد تولى وابنه وحفيده يوحنا على التتابع أحد اكبر ديوانين في الخلافة العربية الأموية، ديوان بيت المال ويماثل ديوان الجند لأكبر إمبراطورية عربية عرفها التاريخ. وكان المال يحفظ في تلك العلية المقببة الجميلة الموجودة في ساحة الجامع الأموي،و كانت بعهدة هذه العائلة المسيحية. عندما اعتزل يوحنا العمل الدنيوي تَرهَب في دير مار سابا في فلسطين، وانصرف للكتابة فأعطى أعظم الأشعار والميامر الروحية الدالة على عذوبة ألفاظه والكتابات اللاهوتية، هو غريد وقيثارة الكنيسة الرومية ونظم موسيقاها الكنسية التي لا تعتمد على الآلة الموسيقية بل على الصوت متوائمة مع الكلمة، هي الموسيقى البيزنطية أو الرومية، ووضع لها ثمانية الحان، ووائم في مقاماتها مع صنوف الموسيقى الشرقية وأوزانها من حجاز كار وعجم كرد ونهوند وعجم عشيران وغير ذلك، وقد تسمت باسمه العديد من الجوقات الكنسية في الوطن والمهجر،وتسمت باسمه العديد من المدارس العلمية واللاهوتية، ومنها “معهد القديس يوحنا اللاهوتي في جامعة البلمند” لتخريج رعاة الكرسي الأنطاكي في أبرشياته كافة، وله تدين الكنيسة الأرثوذكسية عرباً ويوناناً وصرباً بهذه الموسيقى الرائعة منذ12قرناً إضافة إلى كنيسة الروم الكاثوليك الشقيقة.
سبق لأمير الشعراء أحمد شوقي أن قال:” وعز الشرق أوله دمشق” و لكن إن جاز لي وأنا السوري المسيحي الذي تتشكل أديم ارض قبلته ومعشوقته دمشق الطاهرة من رفات أجدادي إن حق لي عندها أقول: “وعز المسيحية أوله دمشق” وليس كلامي وليد العاطفة والانفعال، بل هو حق مبني على واقع ساطع الضياء،ففيها اهتدى شاول المضطهد القادم من فلسطين ليقضي على مسيحييها أول جماعة مسيحية خارج فلسطين،بقيادة أسقفهم حنانيا الدمشقي الذي كان قبلاًً قد سافر إلى فلسطين، وشاهد معجزات السيد قبل صعوده إلى السماء،وهو احد الرسل السبعين الذين أرسلهم السيد للتبشير وقد عاد إلى دمشق،وأسس أول جماعة مسيحية، هذه التي جاء شاول للقضاء عليها وحصلت له بسببها تلك المعجزة الرهيبة في سهل كوكب، عندما حصلت معه تلك المقابلة الرهيبة مع الرب يسوع، فأشرق في وجهه نور ساطع أفقده بصره، وسمع صوته مدويا:” شاول شاول لم تضطهدني؟” في هذا الموقع المقدس المجاور لبلدة داريا وأصلها دار أو دير الرؤيا نسبة لهذه المعجزة فيه ينتصب اليوم دير رؤية القديس بولس الحديث والرائع،وقد بني على أنقاض دير يعود إلى القرن الأول أقامه المسيحيون الأوائل تبركاً، واستمروا في الحج إليه وتعميد أولادهم على ركامه طيلة 20 قرناً ومما نفخر به أن مالك هذا الموقع من آل الحسيبي،  السوري والمسلم الحقيقي الذي رفض بيعه للبعثات التبشيرية عام 1933 قائلاً لهم بأنه إن أراد بيعه فلن يبيعه إلا للمسيحيين الوطنيين، لأنهم الأشقاء وأبناء الوطن، وذهب هو إلى البطريركية بدمشق وقابل البطريرك الكسندروس طحان الدمشقي وعرض عليه واقعة الحال،وقدم له سعراً لا يتناسب إطلاقاً مع سعر الأرض الحقيقي، وأدنى بكثير مما عرضته البعثة ثمناً للأرض، ولما كانت البطريركية الأرثوذكسية واقعة تحت طائلة الديون الكبيرة (نتيجة قيام سلفه البطريرك غريغوريوس حداد بفتح أبواب البطريركية بدمشق لإطعام الجياع في مجاعة سفر برلك بغض النظر عن الدين والمذهب، وقام  برهن الأوقاف والاستدانة بفوائد فاحشة، وقد باع حتى صليبه الماسي المهدى له من قيصر روسيا1913ومقتنيات الكنائس الذهبية والفضية، وقد بلغت الديون وقتئذ 25 ألف ليرة ذهبية)وتبيع أوقافها في دمشق والأديار لوفائها، فقد بادر هذا المحسن الكبير إلى إطالة أمد وفاء ثمن الأرض إلى مدة طويلة راجياً صلاة وبركة البطريرك. وقد تُرك هذا الموقع على حاله حتى الستينات، حيث قامت بطريركية موسكو بالمساهمة في بنائه، وهو الآن محجة للسياح وخاصة من اوربة الشرقية، وقامت لجنة إحياء تراث القديس اندراوس الروسية، وتضم روساً وسوريين مغتربين في روسيا،بوضع نصب كبير للقديس بولس ودُشن بحضورها والسفير الروسي بدمشق عام 2005.
اقتيد شاول الأعمى إلى حنانيا الذي كان  السيد المسيح قد ترأى له في الحلم وطمأنه بعدم الخوف من هذا الطاغية وأمره بتعميده حين يصل دمشق، وقد عمده فعلاً في بيت يهوذا الدمشقي، ويقع حالياً في منطقة مئذنة الشحم، على مقربة من دار البطريركية والمريمية.أما شاول وقد صار اسمه بولس بعد اهتدائه، فلما شعر المسيحيون بغدر اليهود الدمشقيين وسعيهم لقتله، قاموا بتهريبه من فوق باب السور من جهة الشرق، والذي تسمى بعد ذلك باسمه، متدلياً في سل كبير بمساعدة من جاورجيوس بواب هذا الباب، الذي قتله اليهود رجماً خارج الباب عقاباً له على فعلته هذه، وقام المسيحيون بدفنه في موقع استشهاده، ثم صاروا يدفنون موتاهم حول قبره تبركاً، ومع تمادي الزمان أصبحت هذه المنطقة مقبرة للمسيحيين الدمشقيين وسميت  تل العظام أو الطبالة وهي كلمة عبرانية تعني المقابر كما تسمت مقبرة القديس جاورجيوس، أما قبر جاورجيوس البواب فصار محجة ومزاراً للمسيحيين ولكنه تحول مع تمادي الزمان لاسم القديس العظيم في الشهداء جاورجيوس الأشهر بين القديسين، أما الكنيسة الموجودة بالقرب من المزار، فهي الكنيسة التي كان فيها قد تعبد المسيحيين الأوائل كالعادة، وقد هدمت في فتنة 1860 وجددت عامئذ.
إن عدنا إلى زمن الفتح الإسلامي لدمشق 635 وما بعد، وتجولنا في شارعها المستقيم وتفرعاته في شطري المدينة الشرقي والغربي، لوجدنا فيها 35 كنيسة مناصفة،وكانت أبرزها كاتدرائية دمشق باسم يوحنا المعمدان وتقع في غرب دمشق التي كان بناها الإمبراطور ثيوذوسيوس الكبيرعام379بتحويله هيكل جوبيتر الى كاتدرائيتها، فدمشق الأهم في مدن الشام بعد مدينة أنطاكية عاصمة ولاية الشرق، وقد أمر بذلك بعدما جعل المسيحية ديناً رسمياً للدولة الرومانية، وصادر كل معابد الأوثان وأوقافها، وحولها إلى كنائس يمجد فيها اسم الله الواحد. وقام الإمبراطور مركيانوس  450 بنقل رأس القديس يوحنا المعمدان من القسطنطينية إليها، ووضعه في صندوق من الفضة الخالصة على مائدتها المقدسة. وتليها في الأهمية كنيسة مريم، وهي الكنيسة الثانية الأشهر وتعود إلى القرن الأول،وتقع على الخط الفاصل بين دخول جناحي جيش المسلمين حرباً من باب الشرقي بقيادة ابن الوليد، وصلحاً من باب الجابية غرباً بقيادة أبي عبيدة،إضافة إلى العديد من الأديرة الرهبانية الواقعة في قلب المدينة كدير الراهبات وهو على اسم السيد العذراء وموقعه حالياً هو ميتم البنات خلف الكاتدرائية المريمية في الدرب الذي كان يسمى درب مريم ويصل إلى القيمرية، وهي تعريب لتسمية القديسة مريم باليونانية أيا ماريا. أما في الغوطة الجميلة التي كانت تحيط بدمشق إحاطة السوار بالمعصم فكانت فيها 18 كنيسة مع عدد مماثل من الأديرة، كان منها دير بولس في كوكب الذي يعود إلى القرن الأول، ودير الصليب المقدس ومكانه الآن كنيسة الصليب المقدس في القصاع،  ودير حنانيا الرسول ومكانه الآن كنيسة حنانيا الرسول في حي القره شي بمنطقة الميدان… ناهيك عن أديرة منطقة وادي بردى والزبداني، وبلودان، منها دير القديس جاورجيوس وهي كنيسة بلدة بلودان وتحمل الاسم ذاته، وكان قد اكتشف تحتها عام1922 عشرات الهياكل العظمية لرهبان الدير، وتصل في تاريخها إلى القرن 4 كبقية الأديرة،وفي بلودان أيضاً وعلى قمة جبل اليونان، يقع دير خرب تابع للبطريركية بدمشق وحالياً تعيده إلى الحياة، ولنتصور أن في هذه السلسلة الجبلية عاش ألوف الرهبان المتوحدين منذ القرن 4 إلى منتصف القرن18 في قلالي وكهوف رهبانية وفي أديار جماعية، منها دير الشيروبيم ودير مارتوما… ودير القديس خريستوفوروس ومار الياس في معرة صيدنايا… مع التأكيد على كون بلدة صيدنايا ومنطقتها منطقة الكنائس والأديار،وأبرزها دير سيدة صيدنايا البطريركي وكان حج الإفرنج إلى  الأماكن المقدسة في فلسطين لايكتمل بدون الحج إلى هذا الدير بصفته الأقدس بعد مهد وقبر السيد المسيح،وكانوا يحصلون من صلاح الدين الأيوبي على الإذن بزيارته ، مع الإشارة إلى انه كان لهذا الدير مكانة خاصة عند الأيوبي حيث فيه شُفي شقيقه بمعجزة وكان بصحبة شقيقته خاتون، الأمر الذي دفع بها لوقف من زيت الزيتون (مائة ألف كيله) وقفاً مؤبداً تقدمة شكرية للسيدة العذراء، وثمة أيقونة في الدير تخلد معجزة الشفاء هذه. هناك العديد من المدن والقرى في محيط دمشق، وفي سورية تحمل اسم دير مثل دير عطية وكان هناك  دير للقديس الراهب ثيوذورس وتعريبه “عطية”أو “عطا الله”، ودير العشائر ودير العصافير في الغوطة ودير شميل ودير الزور…وكان الأمر يتم بأن يقوم احد الرهبان مثل سمعان العمودي أو مار مارون أو… بالتوحد في منطقة ما فتتابعه جموع المؤمنين لسماع تعليمه وإرشاده،فتستقر تدريجياً حول منسكه أو ديره،ويتحول المكان تدريجياً إلى قرية تحمل الاسم ذاته، ولنتذكر أن في وادي العاصي والعمق في أنطاكية وجبال حلب وادلب وجبل الزاوية وأعماق ريف حماه كما في منطقة الأندرين… عاش ألوف من الرهبان منذ بدء الرهبنة في سورية في مستهل القرن الرابع وحتى القرن 15 وما بعد قليلاً ولا تزال تلك الآثار تشهد على الحياة الرهبانية الزاهية وقتئذ،إضافة إلى أطراف المدن المنسية الرائعة، وفي منطقة وادي النصارى كجبل السائح ابن القرن السادس، ودير القديس جاورجيوس الحميراء البطريركي ابن القرن الرابع ودير المقعبرة والقلاطية… وغابات الساحل السوري ولا تزال مزارات حية تعيش حتى الآن متماهية مع جمال الطبيعة، كما تمثُل أديرةعريقة حية تعبق بالوجود الرهباني منذ قرون طويلة، منها دير النبي الياس في الصفصافة. إضافة إلى دير السيدة للراهبات في بلمانا بطرطوس، وهو دير حديث بعث لإحياء سيرة دير رهباني موغل في القدم في تلك المحلة. ومع اقراري بالاستفاضة إلا أن الحديث عن الآثار المسيحية من رهبانية وكنائس بائدة وعامرة يحتاج إلى جهد دؤوب عبر ورش عديدة لتوثيقها وتفعيل الحج إليها حيث هي اكبرمن أن تحصر.

الأيقونة السورية

عندما نتحدث عن الروحانية المسيحية السورية لابد لنا منأن نتحدث بفخر عن أحد أهم رموزها العابقة بالإيمان، وهي الأيقونة السورية عموماً والدمشقية خصوصاً،والأيقونة تعريفاً هي كلمة يونانية تعني الصورة المقدسة، وبدأت من شامنا متأثرة بالبيئة المتجذرة مع آثار ايبلا وأفامية وبصرى وتدمر، ووجوه أصحابها ومن تمثل سوريون بامتياز إن كان من حيث سمرة البشرةأو اللباس أومشاهد البيئة… ثم انتقل هذا الفن إلى مناطق أخرى لتنشاْ الأيقونة البيزنطية الرومية والأيقونة القبطية والأرمنية … وقد تأثرت كما السورية بالبيئة المحلية،أما أهميتها الروحية عندنا نحن أبناء الشام خصوصاً وعند الشرقيين عموماً فهي صورة للتقوى وأسلوب كنسي  مميز لتعليم المؤمنين وتثقيفهم، هي ليست للعبادة بل لتكريم من تمثل وللتذكير به والجماعية منها تشتمل غالباً على سير إنجيلية متتابعة، فتبدو كأنها إنجيل مقدس لتعليم الأميين، ولألوانها معان رمزية لسنا بصدد التحدث عنها الآن كونها تحتاج إلى حلقات خاصة ومطولة، وتنتشر في بيوت الدمشقيين خصوصاً، ولها عندهم حرمة وقداسة والكثير منها عجائبية وتفاخر هذه العائلات بتوارثها لها،ويوقدون أمامها الشموع، ويبخرونها باستمرار وخاصة في الأعياد.وقد عانى القديسون والرهبان السوريون خلال القرنين السابع والثامن وسواهما من إضطهادات مرة دفاعاً عن الأيقونات وتكريم من تمثل واستشهد ألوف منهم،  حتى أن القديس يوحنا الدمشقي فقد يده دفاعاً عنها وبأعجوبة شهيرة أعادتها له.وأثمن تلك الأيقونات العجائبية هي الأيقونة المحفوظة في دير سيدة صيدنايا البطريركي، وهي أيقونة للسيدة العذراء وعلى يدها الطفل يسوع محفوظة بحرص شديد في غرفة الشاغورة أي في مقام السيدة العذراء، وهي من رسم القديس لوقا الرسول قبل 20 قرناً، وهي واحدة من ثلاث متماثلة رسمها، ومنتشرة في العالم إحداها في احد أديرة جبل آثوس الرهباني في اليونان، ولكن أول أيقونة لم ترسمها يد إنسان كانت تلك التي انطبع عليها وجه السيد المسيح، وهو تحت  الآلام والعذاب والجلد و يحمل صليبه الضخم،وعندما وقع مرة على الأرض أسرعت إحدى السيدات التي عُرفت فيما بعد باسم القديسة فيبرونيا، ومسحت وجهه بمنديلها فانطبع عليه وجهه  الكريم المغطى بالدماء.

لقد حمل الغزاة الإفرنج خلال قرني الغزو أعداداً لا تحصى من الأيقونات السورية مع مخطوطات لاتعد من الأديرة في الشام الكبرى وأودعتها في الأديرة التي تحول معظمها إلى جامعات عريقة كجامعة أكسفورد…
أيها السادة اكتفي بهذا القدر، وأؤكد لمحبتكم إن ما أشرت إليه هو الغث من سمين الغنى والتنوع الديني المسيحي في سورية، وأشير أخيراً إلى أن سورية وكرسيها الأنطاكي قدم للعالم كله عشرات القديسين والعجائبيين والمبشرين وأولهم كان بولس الرسول المشرع الأهم للمسيحية، وهو وان كان من طرسوس أصلاً،إلا انه صار دمشقياً لأنه ولد روحياً فيها، ومنها انطلق مبشراً شمالاً وجنوباً، ومنهم القديس اغناطيوس الأنطاكي وهو ذاك الطفل الذي كان قد احتضنه السيد المسيح له المجد قائلاً في رده على اليهود والفريسيين :” الحق الحق أفل لكمإن لم ترجعوا وتصيروا كهؤلاء الأطفال فلن تدخلوا ملكوت السموات” وهذا أصبح ثالث بطاركة أنطاكية وقد اقتيد شيخاً طاعناً بالسن سيراً على الأقدام من إنطاكية إلى رومه ليكون طعاماً للوحوش في ساحة الفوروم وذلك في مستهل القرن الثاني، وكذلك الحمصيان القديسان رومانوس المرتل الذي نظم أروع الألحان الكنسية للكنيسة قاطبة، والطبيب اليان الحمصي وهو شفيع حمص، وضريحه فيها.

القديس يوحنا الدمشقي امين بيت مال المسلمين ( وزير المالية) في العهد الأموي
القديس يوحنا الدمشقي امين بيت مال المسلمين ( وزير المالية) في العهد الأموي

وبطريرك القدس صفرونيوس الدمشقي الذي عثر مع الملكة هيلانه على الصليب المكرم في القدس في مستهل القرن الرابع، والبطريرك صفرونيوس الدمشقي أيضا في مستهل القرن السابع، الذي سلم مفاتيح القدس للخليفة العادل عمر بن الخطاب، وكذلك القديس اندراوس الدمشقي أسقف كريت، والقديسون الثلاثة غريغوريوس وباسيليوس ويوحنا الذهبي الفم وغيرهم من الذين اعتلوا كرسي بطريركية القسطنطينية، وكرسي القسطنطينية مماثل في المكانة لكرسي رومه، وكما يحق لشهبا في جبل العرب أن تفتخر بابنها الإمبراطور فيليب العربي المسيحي المستتر الذي أوقف حمامات الدم في عهده بحق المسيحيين في الدولة الرومانية،أيضا يحق لسورية أنها قدمت سبعة باباوات لكرسي رومه عبر التاريخ، ويحق لدمشق أن تفتخر بأسرة القديس يوحنا الدمشقي.
وأخيراً وليس آخراً يكفي كرسينا الأنطاكي وسورية فخراً،أن ابنها المطران ميخائيل السوري، وكان تابعاً لبطريركية القسطنطينية،قام ورهبانه في العام 988 بتعميد كل الروس في انهار روسيا بتوقيت واحد، وكانت أكبر معمودية مسيحية شهدها التاريخ،فنُقلوا هذا الشعب برمته من الوثنية إلى الإيمان بالله. وان صاحب الفضل في إقامة كرسي بطريركية روسيا، كان البطريرك الأنطاكي ابن جمعة في القرن15وهو من منطقة صافيتا،  وكان يزور وقتها الإمبراطورية الروسية وعلى يده صار البطريرك الروسي هو البطريرك الخامس في ترتيب البطاركة أرثوذكسياً بعد القسطنطينية والإسكندرية وأنطاكية وأورشليم ولذلك يكن الروس قيادة وشعباً كل الحب لسورية ولكرسيها الأنطاكي.

خلاصة القول
نفتخر نحن المسيحيون السوريون في كل كنائسنا بأن الرب يسوع سوري بالجسد إن كان لجهة أمه العذراء الطاهرة،أو لجهة موطنه الأرضي فلسطين الحبيبة فهي مهده وموطنه وقبره وقيامته، هي إبنة سورية المسلوبة من أمها كما نفتخر بانتمائنا إلى أنطاكية حيث دُعي المسيحيون اولاً” وقد سلخت هي أيضاً من سورية، فبهما نفتخر، وأي فخر.

 

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *