القديس البار سيرافيم ساروفسكي الحامل الإله

القديس البار سيرافيم ساروفسكي الحامل الإله

القديس البار سيرافيم ساروفسكي الحامل الإله

نشأته

ميلاده كان يوم التاسع عشر من تموز سنة 1759م في بلدة كورسك في روسيا الوسطىكان أبوه، إيزيدوروس، الذي كان يعمل بناءً رقد، وكان قديسنا في السنة الأولى من عمره.

أما أمه، أغاثا فكانت امرأة طيّبة قويّة النفس معروفة بحبها للمرضى و الأيتام و الأرامل و عنايتها بهممحبّة أمّه للناس أثّرت في نفسه أيّما تأثير، فلما كبر أبدى من التفاني في خدمة المرضى والمضنوكين ما كان في خط أمه و يزيد.

القديس البار سيرافيم ساروفسكي الحامل الإله
القديس البار سيرافيم ساروفسكي الحامل الإله

 الطفل سيرافيم، الذي كان اسمه يومذاك بروخوروس، هو ثالث الأولاد في الأسرة بعد أخ و أخت. ‏عندما بلغ بروخوروس العاشرة من عمره مرض مرضاً خطيراًًًوفيما ظن من حوله أنه مشرف على الموت تعافىوقد أخبر أمّه، فيما بعد، أن والدة الإله أتت إليه في رؤيا ووعدته بأن تشفيهمذ ذاك نمت بين والدة الإله و بينه علاقة مميّزة. ‏عندما بلغ السابعة عشرة من العمر اشتغل في التجارة مع أخيه ألكسي، لكن التجارة لم تستهوه بحالكان عقله في الإلهيات أبداًوما فهم البيع والشراء ورأس المال والدين إلا إشارات و رموزاً للحقائق الروحيةوقد مالت نفسه إلى الحياة الرهبانية فسافر واثنين من أصحابه إلى كييفهناك سمع من فم أحد الآباء الشيوخ كلمة اعتمدها، والكلمة كانت: “سوف تذهب إلى ساروف، يا ولديهناك تكون نهاية حجِّك الأرضي… والروح القدس يهديك و يسكن فيك“. مذ ذاك سلك بروخوروس طريق ساروفوكانت ساروف على بعد ثلاثمائة كيلومتر من كورسك.

راهباً مبتدئاً

انضم بروخوروس إلى دير ساروف الكبير، و هو في التاسعة عشرة من عمرهكان قوي البنية، تبدو عليه علامات الذكاء و الحيويةعيناه زرقاوانوروحه فرحة مرحةسلك في الطاعة والتواضع وصلاة القلب والأصول الرهبانية ككل الرهبانعمل في الدير خبّازاً و عمل نجّاراًجمع بين العمل و صلاة يسوعواعتاد أن يقول فيما بعد: “كل الفن هناكفسواء جئت أم ذهبت، كنت جالساً أم واقفاً أم في الكنيسة، لتخرجْ هذه الصلاة من بين شفتيكأيها الرب يسوع المسيح، ارحمني أنا الخاطئفإذا استقرّت هذه الصلاة في قلبك، وجدت سلاماً داخلياً و خفراً في النفس والجسد“. هذه الكلمات كانت نتاج الخبرة لديه.

لاحظ رؤساء بروخوروس صبره و احتماله وحميّته في الخدم الليتورجية فجعلوه قارئاًوكان محباً لكتب الآباءنُمي عنه أنه درس مؤلّف القديس باسيليوس الكبير عن الخلق في ستة أيام، وكذلك مقالات القديس مكاريوس، وسلّم الفضائل للقديس يوحنا السلّمي وغيرها من كتابات الآباء النسّاك، إضافة إلى الكتاب المقدس الذي اعتاد أن يسمِّيه زوّادة النفس، وكان يقرأه، لاسيما العهد الجديد منه، واقفاً أمام الإيقوناتكان بروخوروس، أول الأمر، يقسو على نفسه قسوة شديدة، يسهر كثيراً ولا يأكل إلا قليلاًوقد سبّب له ذلك أوجاعاً حادة في الرأس ووقع في المرضلذلك أخذ ينصح المبتدئين، فيما بعد، بعدم التقسّي الشديد في النسك، أن يناموا خمس أو ست ساعات، ويرتاحوا قليلاً أثناء النهار إذ ليست الإماتة موجهة للجسد بل للأهواءالجسد يجب أن يكون عشير النفس ومساعدها في عمل الكمال، وإلا فإن الجسد المُضنى يُضعف النفس، هذا ولم يسترد بروخوروس عافيته إلا بعد ثلاث سنوات وبعدما ظهرت له والدة الإله، من جديد، برفقة القديسين بطرس ويوحنا، وقالت لهما عنه: “هذا واحد منا”

لبس بروخوروس الإسكيم الرهباني وهو في السابعة والعشرين من عمرهمن ذلك اليوم صار اسمه سيرافيم…

ظهورات العذراء للقديس 12 مرة
ظهورات العذراء للقديس 12 مرة

شماساً

تشمّس سيرافيم سبع سنوات عرف خلالها الاكتئاب لقصوره عن تسبيح الله كالملائكة على الدوامو قد أُعطي أن يعاين الملائكة يشتركون في خدمة الهيكل و الكهنة و الشمامسة، وسمعهم يرنّمون ترانيم سماوية لا مثيل لها بين الناسقال في نشوتي، التي لم يكن يعكرها شيء، كنت أنسى كل شيءلم أكن واعياً أني على الأرضأذكر فقط أني دخلت الكنيسة وخرجت منهاأما الوقت الذي أمضيته في خدمة هيكل الرب فكان خفيفاً رقيقاً رائعاً ذاب قلبي كالشمع في وهج ذاك الفرح الذي لا يدانى“. و قد عاين سيرافيم الرب يسوع مرة و كان يشمِّس فتسمّر في موضعه إلى أن خرج شمّاسان و حملاه إلى الداخل حملاً.

كاهناً

رٌسم القديس سرافيم كاهناً وهو في سن الثلاثين، فصار يقيم الذبيحة الإلهية كل يوموقد منّ عليه الرب الإله بمواهب الشفاء و طرد الأرواح الشرّيرة، و البشارة بكلمة اللهكما اعتاد أن يحثّ المؤمنين على المناولة المتواترةلكنه كان يعرف أن للمناولة أكثر من قناةقال مرة لأرملة مات زوجها و لم يتسنّ له أن ينال القدسات: “لا تخافي على خلاصه، يا فرحي، لأنه يحدث أحياناً أن تحول ظروف قاهرة دون مناولة إنسان مافمثل هذا يمكن أن يحظى بالقدسات، بحال غير منظورة، من يد ملاك الرب“. ‏بعد سنة من ذلك، سمح له رؤساؤه بمغادرة الدير و العيش ناسكاً على بعد ‏حوالي ستة كيلومترات من الدير في الغابة.

قديسنا في الغابة يصلي امامنسكه
قديسنا في الغابة يصلي امامنسكه

ناسكاً

كان القديس سيرافيم قد شاخ قبل أوانهكما كان المرض و الإمساك قد أضنياه، وكانت رجلاه منتفختين متقرّحتينلهذا سمح له رؤساؤه بالعزلةاعتاد أ‏ن يقرأ الأناجيل كمن يطلب أن يشترك في خبرة أحداثهالهذا السبب أطلق على عدد من الأمكنة في محيطه أسماء كتابية، و أخذ يقرأ في كل منها الفصول التي تناسبهافهنا الناصرة و هناك بيت لحم و هنالك قمة ثابور و الجسمانية. ‏كان لا يذهب إلى الدير إلا في آخر الأسبوع، و لا يحمل معه إلا القليل من الخبز عائداًو قد كان له شركاء في طعامهحيوانات البرّية التي صارت له عشيرة أليفةفمن المعروف مثلاً أن دباً كان يأتيه كالحملان ليأكل من يدهوقد اعتاد أن يعمل قليلاً في الأرض ويرتل أثناء العملوكثيراً ما كان يحدث أن يُخطف بالروح و هو يرنم.

وفي عودة القديس إلى الدير، في الآحاد والأعياد، كان الرهبان يتحلّقون حوله ويصغون إليه و هو يحدثهم عن الله: “بمقدار ما تدفئ محبة الرب قلب الإنسان، بنفس المقدار يجد المرء، في اسم الرب يسوع، حلاوة و سلاماً“.

اعتاد الرهبان انتظاره في مجيئه إليهم، و البهائم في عودته إلى منسكهكانت الحيوانات و العصافير و الزحّافات تجتمع أمام بابه تنتظر طعامهامرة سأل الشمّاس ألكسندروس القديس سيرافيم كيف يتمكن من إطعام هذا الجمع من الحيوانات فأجابهلا أعرف كيف، أعرف فقط أني كلما مددت يدي إلى كيسي وجدت فيه ما ألقيه إليهاكان منسكه أجردحتى السرير لم يكن موفوراً، لأن سيرافيم كان يستلقي على كيس من الحجارة الملساءغمبازه كان يتيماً وله حبل يربط وسطه به، لكن كان عنده للشتاء معطف سميك وقبعة رهبانيةكثيرون أخذوا يشقّون طريقهم إليه طلباً للنصح و البركة فتضايق، و سأل الله حلاً، فتشابكت الأغصان حول منسكه إلى حدّ تعذّر معه وصول الراغبين إليه.

صراع مع إبليس

قديسنا يطعم الدب في الغابة
قديسنا يطعم الدب في الغابة

و كثيراً ما كان يبدو للقديس سيرافيم كأن حيطان منسكه على وشك التداعي، والعدو يزأر و يهاجم من كل صوب، و الحيوانات الضارية تضرب المكان بعنف لتنقضّ على من في الداخلأصوات الصراخ والحيوانات الهادرة ملأت أذنيهأحياناً كان يحس كأن أحداً يحمله في الجو ثم يلقيه أرضاً بعنفو لما سئل القديس ما إذا كان قد رأى الأبالسة أجاب ببساطة: “إنها مقرفة!”. ثم بعد حين تغيّر نوع هجمات الشرّير عليه فربضت على قلبه كآبة ثقيلة واضطربت في روحه أفكار داكنةعاين القديس نفسه مداناً، و قد تخلّى الله عنهساعتذاك قاربت معاناته اليأسلذا قال: “من اختار حياة النسك وجب عليه أن يشعر بأنه مصلوب أبداً… والناسك، متى جربّته روح الظلمة، كان كأوراق الشجر الميتة في مهب الريح، و كالغيوم في هوجة العاصفةشيطان البريّة ينزل على الناسك قرابة نصف النهار ليزرع فيه قلقاً لا يستكين… هذه التجارب لا تُقهر بغير الصلاة“. معركته مع الأبالسة دامت سنواتلا نعرف الكثير عنهانعرف فقط أنه بقي ألف يوم راكعاً أو منتصباً على الصخر يصلّي.

ثلاثة لصوص

وجاء إلى القديس ثلاثة لصوص فيما كان يقطع الحطب في الغابة وطلبوا منه مالاًوإذ لم يكن عنده ما يعطيه لهم غضبوا أشد الغضب، وضربوه بقسوة فأغمي عليهوبالجهد، بعدما استعاد وعيه، جرّر نفسه إلى الديركانوا قد تسبّبوا في إحداث كسور في جمجمته وأضلاعه علاوة على الجراحولم يسترد عافيته إلا بعد أشهروقد شاب شعره واحدودب ظهره وصار لازماً له أن يستعين في مشيته بعصافلما عاد إلى منسكه دخل في صمت و لم يعد يذهب إلى الدير، فاتخذ مجلس الشركة قراراً باسترداده، فعاد طائعاًكان قد مضى على نسكه خمسة عشر عاماً.

مقفلاً على نفسه

أقفل القديس على نفسه قرابة الخمس سنوات قليلاً ما كان فيها يكّلم أحداً، ‏وكانوا يأتونه بالقدسات إلى قلاّيتهثم بعد ذلك انفتح وصار يقبل الزائرين المنتصحينبعض رؤساء الأديار في الجوار كان يأتي إليه سائلاً المنفعة، فكان يحثّهم على اللطف ومحبة الإخوة كمثل ما تحب الأم أولادها، وأن يصبروا على ضعفاتهم وشتى سقطاتهمكما اعتاد أن يقول لهم: “تعلّموا أن تكونوا في سلام وألوف النفوس من حولكم تجد الخلاص“. على هذا النحو، وبعد سبع وثلاثين عاماً من التهيئة بانت موهبة القديسأن يكون شيخاً روحانياً، يُعنى بالنفوسوصاروا يأتون إليه من كل مكانحتى القيصر الكسندروس الأول اعتاد المجيء إليهوإذ زاد عدد الطالبين صلواته فوق الطاقة، صار أحياناً يكتفي بإضاءة شمعة لكل منهم اقتداء بموسى الذي أشعل من أجل الشعب قديماً ناراً تكفيراً عن خطاياهم.

موهبة الرؤية

كانت للقديس سيرافيم موهبة معرفة مكنونات القلوب، ورؤية الأمور على ‏بعد في المكان والزمانوقد سأله أحدهم مرة راغباً في معرفة كيفية حدوث ذلك فأجابه: “القلب البشري مفتوح لله وحده وكلما اقترب منه أحد وجد نفسه على حافة جب عميق… أنا لا أفضي لأحد إلا بما يفضي إليّ به الرب الإلهوأني لمؤمن أن الكلمة الأولى التي ترد على ذهني موحاة من الروح القدسثم متى أخذت في الكلام لا أعرف ماذا يمكن في قلب الرجل الذي

يسألنيأعرف فقط أن الله يوجّه كلماتي من أجل ما فيه خيرهلكن، إذا أعطيت جواباً من بنات حكمي على الأمور دون أن آتي به إلى الرب الإله أولاً فإني أقع في الشطط… على هذا كما الحديد بين يدي الحدّاد كذلك أنا بين يدي الله، لا أبدي تحرّكاً من دون مشيئته ولا أتلفظ بكلمة غير ما يلحّ هو به علي“.

أباً للراهبات

على بعد اثني عشر كيلومتراً من ساروف كانت قرية ديفيافو وفيها كان دير للرهبنة النسائية، اهتم القديس سيرافيم بهثم ما لبث أن أسس ديراً للفتيّات بين الراهبات أسماه “دير الطاحونة” قريباً من الدير الأولوكان بينهن عدد من القدّيساتتعاطيه معهن امتاز بالسعة والمرونةسأل إحداهن مرة: “هل تقيمين صلواتك حسناً؟” أجابته: “كلاعندي الكثير من المهام ولست أصلّي كما يجب!” فقال لها: “ليس هذا مهماً، إذا لم يكن لديكِ وقت كاف للصلاة فبإمكانك أن تصلّي وأنت تعملين، أو فيما أنت ذاهبة من مكان إلى مكان، أو حتى في السرير شرط ألا تنسي أن تدعي الرب في قلبك، وأن تسجدي أمامه صباحاً ومساءًفإذا فعلت ذلك فإن الله نفسه سوف يعينك على بلوغ الصلاة الكاملة“. إحدى الراهبات في دير الطاحونة كانت هيلانة منتوروفهذه كان القديس يعتمد على أخيها ميخائيل في الكثير من أشغال البناءوإذ أصيب ميخائيل بمرض خطير ولم يشأ القديس أن يخسره لأنه كان بعد بحاجة إليه، أرسل في طلب هيلانة وقال لهالقد كنت دائماً تطيعينني، والآن عندي لك عمل طاعة، فهل أنت مستعدة لأن تتمّميه؟ فأجابتأنا مستعدة دائماً لطاعتك يا أبانافقال لهاحسناً، يا فرحي… أخوك كما تعلمين مريض بمرض خطير وقد يموت، ولكننا لا نستطيع في الوقت الحاضر أن نستغني عنهأنت تفهمين ما أقولهذا هو عمل طاعتك، إذنأن تموتي بدلاً منهفأجابتببركتك يا أباناثم أخذ القديس يتحدث عن سر الموت وهيلانة تسمع ولا تتفوّه بكلمةفجأة هتفتلكني يا أبانا خائفة من الموتفأجابهاولكن ليس في الموت ما يخيف لأنه يحمل إلينا الفرحفلما خرجت من عنده أصيبت بتوعك وإغماءة ولازمت الفراش قليلاًفي أول الأمر انتابها الخوف، ثم ما لبث أن فارقهاصار الموت لها يعني أن تعطي حياتها لأخيها وللشركة الرهبانية التي كانت تنتمي إليهاوقبل رقادها بأيام قليلة بدت وكأنها انتقلت إلى عالم آخر: “إنه آت مع الملائكة…”. وبعدما تناولت جسد الرب ودمه طلبت من الأخوات أن يعددن لدفنهاكان اليوم سهرانية عيد العنصرةوكانت قد بلغت السابعة والعشرينعندما أتت الأخوات إلى القديس ليخبرنه بموتها وهن باكيات قال لهنيا لسخفكن أن تنتحبن على‏ هذا النحوآه لو كان بإمكانكن أن ترين روحهافإن الشاروبيم والسارافيم ارتدّت إلى الوراء عندما شقت هيلانة طريقها إلى الثالوث القدّوس.

موتوفيلوف

نيقولاوس موتوفيلوف اسم بارز في سيرة القديس سيرافيم أسماه القديس صديق الله” وقد صار مدبّراً لدير الراهبات في ديفيافوعندما جيء به إلى قديسنا كان في الثانية والعشرين، صاحب أملاك واسعة خلّفها له أبوهوأقول جيء به لأنه كان مريضاً لا يقوى على الحركة، لا بل كان مشلولاًفسأل قديس الله أن يشفيه فأجابه: “لكنني لست طبيباً، عليك أن تذهب إلى أحد الأطباء! “فأخبره

موتوفيلوف عن معاناته والعلاجات التي تلقّاها وكيف أنه لم ينتفع شيئاً ولم يعد له رجاء إلا باللهفسأله القديس: “هل تؤمن بالرب يسوع المسيح الذي خلق الإنسان وبأمه الكلية القداسة مريم الدائمة البتولية؟“. فأجاب: “أؤمن!”. فقال له: “وهل تؤمن بأن الرب الذي اعتاد أن يبرئ المرضى بقوة كلمته وحسب قادر في أيامنا أيضاً أن يبرئ من يسألونه بنفس السهولة؟“. قال: “أؤمن!”. “وهل تؤمن بأن لشفاعة والدة الإله قوة لا تقهر من لدن ابنها القادر على شفائك؟ فأجاب: “أؤمن من كل قلبي، ولولا هذا الإيمان ما طلبت أن يؤتى بي إلى هذا الموضع!” حسناً، إذنإذا كنت تؤمن فأنت معافى سلفاً“. “كيف ذلك وأنت وخدمي تمسكونني لكي لا أقع أرضاً“. “كلا، كلا، أنت الآن معافى تماماً! “عند ذاك سأل القديس ‏الرجال أن يرفعوا أيديهم عن موتوفيلوف، ثم أخذه بكتفيه وجعله على قدميه قائلاً له: “قف على قدميك ولا تخف! “ولما أمسك بيده دفع به قليلاً إلى الأمام ودار به حول الشجرة. “أترى كيف تقدر أن تمشي حسناً!” “هذا لأنك تمسكني جيداًكلا بإمكانك أن تمشي لوحدك من دون مساعدتيقال هذا وسحب يديه، فشعر موتوفيلوف بقوة خفيّة تسري في بدنه وأخذ يمشي لوحده من دون خوفوقد شهد، فيما بعد، أنه لم يشعر بالعافية والحيوية في حياته كما شعر في ذلك اليوم.

القديس ووالدة الإله

شهد سرافيم نفسه ونقل عارفوه أنه كانت للقدّيس إلفة كبيرة بوالدة الإله، وإنها أتت إليه لا أقل من اثنتي عشرة مرة في حياتهوقد روت إحدى الراهبات واسمها أفدوكيا أن القديس دعاها إلى قلاّيته في الدير ليلة عيد البشارة في 24 ‏آذار سنة 1831‏م قائلاً أن فرحاً عظيماً سوف يعطى لها في ذلك اليومفبعدما صلّيا معاً هتف القدّيس فجأةها نعمة الله تنزل علينافي تلك اللحظة سُمع صوت كهفيف نسيم عليل يتخلل رؤوس الأشجار وانبعثت أصوات الترتيلوإذا بجو القلاية يعبق بالطيب أغنى وأحلى من البخور، فيسجد القديس هاتفاً بفرح: “يا والدة الإله الكلية القداسة، الكلية النقاوة، يا أيتها الملكة الممتلئة نعمة” ثم رأت الراهبة ملاكين يتقدمان فوالدة الإله وعن جانبيها القدّيسين يوحنا المعمدان ويوحنا الحبيب ومعهما اثنتا عشرة عذراء، لكل منهن إكليل على رأسهافامتلأت القلاية نوراً كما من ألف شمعةثم أخذ النور يقوى حتى أضحى أكثر بهاء من الشمسوقد بدت حيطان القلاية كأنها اتّسعت والمنسك أرحب مما كانثم كلّم القديس والدة الإله بدالة… فلم تسمع الراهبة من الحوار شيئاً سوى ما قالته والدة الإله للقديسقريباً، يا صاح، تكون معنا!. ثم تقدّمت والدة الإله من الراهبة وأقامتها من وضع السجود ودعتها للتحدّث إلى العذارى مقدمة إليها كلاً منهن بالاسم، ثم غادرتكان قد مضى على الزيارة أربع ساعات.

اقتناء الروح القدس

في يوم من الأيام الباردة المثلجة جرى بين القديس سيرافيم ونيقولاوس موتوفيلوف حوارهذا بعض ما جاء فيه:

القديس سيرافيملقد كشف لي الرب أنك عندما كنت ولداً رغبت في معرفة غاية الحياة المسيحية، وطرحت السؤال بشأنها على عدد من رجال الكنيسة البارزين.

نيقولاوساعترف أن هذا السؤال كان يؤرقني منذ أن كنت في سن الثانية عشر.

القديس ومع ذلك لم يقل لك أحد شيئاً واضحاً محدّداًقالوا لك أن تذهب إلى الكنيسة وأن تصلّي وأن تصنع صلاحاً وأن هذه هي غاية الحياة المسيحيةحتى أن بعضهم قال لكلا تبحث عن أمور أكبر منكلذلك سأحاول، أنا العبد الشقي، أن أشرح لك ما هو هذا القصدفالصلاة والصيام وأعمال الرحمة كلها صالحة لكنها أدوات للحياة المسيحية وليست القصد منهاإن الغاية الحقيقية هي اقتناء الروح القدس.

نيقولاوسولكن، ماذا تعني بلفظة اقتناء؟ لست أفهم تماماً ما تقول!

القديسأن تقتني معناه أن تمتلكأنت تعرف معنى أن يربح الإنسان مالاً، أليس كذلك؟ الشيء نفسه يقال عن الروح القدسيرمي بعض الناس لأن يصيروا أغنياءوأن يحظوا بكرامات وامتيازاتوالروح القدس نفسه رأسمال، لكنه رأسمال أبديالسيد يشبّه حياتنا بالتجارة وأعمال هذه الحياة بالشراءأشير عليك أن تشتري مني ذهباً… لكي تستغني (رؤيا3‏:18‏). أثمن الأعمال على الأرض هي الأعمال الصالحة التي نقوم بها من أجل المسيحهذه تكسبنا نعمة الروح القدسولا تأتينا الأعمال الصالحة بثمار الروح القدس إلا إذا كانت معمولة من أجل محبة المسيحلذا قال السيد نفسهمن لا يجمع معي يفرِق… في مثل العذارى، دعي فريق منهن جاهلات رغم كونهن محافظات على عذريتهنما نقصهن في الحقيقة كانت نعمة الروح القدسالأمر الأساسي ليس أن يصنع الإنسان صلاحاً بل أن يقتني نعمة الروح القدس، ثمرة كل الفضائل، الذي من دونه لا يكون خلاص… هذا الروح القدس الكلي القدرة معطى لنا شريطة أن نعرف نحن كيف نقتنيهفإنه يقيم فينا ويعدّ في نفوسنا وأجسادنا مكاناً للآب حسب كلمة اللهأني سأسكن فيهم وأسير بينهم وأكون لهم إلهاً وهم يكونون لي شعباً (2‏كورنثوس16:6‏)… هذا وأكثر الأعمال التي تعطينا أن نقتني الروح القدس هي الصلاة.

نيقولاوسلكن يا أبي، أنت تتكلم عن الصلاة وعن الصلاة وحدهاحدّثني عن الصالحات الأخرى المعمولة باسم المسيح.

القديسأجل، بإمكانك أن تحصّل نعمة الروح القدس من خلال أعمال صالحة أخرى… الصوم… الإحسان… ولكن ليس معنى الحياة أن نستزيد من عدد الصالحات بل أن نجني منها أعظم النفع، أعني المواهب الفضلى للروح القدسوأنت عليك أن تكون موزّعاً لهذه النعمة… فإن بركات النعمة الإلهية تزداد في من يوزّعها.

نيقولاوسإنك لا تكفّ يا أبي عن ترداد أن نعمة الروح القدس هي غاية الحياة المسيحيةولكن كيف وأين يمكنني أن أعاين مثل هذه النعمة؟ الأعمال الصالحة منظورة ولكن هل يمكن للروح القدس أن يكون منظوراً؟ كيف يمكنني أن أعرف ما إذا كان فيّ أم لا؟

القديس: ‏في أيامنا، وبسبب فتور إيماننا ونقص اهتمامنا بتدخل الله في حياتنا، نجدنا غرباء بالكلية عن الحياة في المسيح… في الكتاب المقدس مقاطع كثيرة عن ظهور الله للناسالبعض اليوم يقول إن هذه مقاطع غير مفهومةمردّ عدم الفهم هنا هو فقدان البساطة التي تمتّع بها المسيحيون الأوائل… إبراهيم ويعقوب عاينا الله وتحدّثا إليه، ويعقوب صارعه، وموسى تفرّس فيه، وكذلك الشعب كله، في عمود الغمام الذي لم يكن غير نعمة الروح القدس هادياً شعب إسرائيل في البرّية… لم يكن هذا حلماً ولا غيبوبة ولا في الخيال بل في الواقع والحقولكن لأننا صرنا لا مبالين بشأن خلاصنا، لم نعد ندرك معنى كلمات الله كما ينبغيلم نعد نلتمس النعمة، ويحول كبرياؤنا دون تجذّر النعمة في نفوسناولم يعد لنا نور السيّد الذي يهبه للذين يتوقون إليه بحميّة وجوع وعطش.”

نيقولاوسولكن كيف يمكنني أن أعرف أني داخل نعمة الروح القدس هذه؟ كيف يمكنني أن أتأكد من أنني أحيا في روح الله؟ آه كم أتوق لأن أفهم.

إذ ذاك أمسك القديس سيرافيم موتوفيلوف بكتفيه بقوة وقال له: “كلانا، يا صاح، في هذه اللحظة، في الروح القدس، أنت وأنالماذا لا ‏تنظر إليّ؟”

نيقولاوس: “لا أستطيع أن أتطلع إليك يا أبي، لأن نوراً ينبعث من عينيك ‏ووجهك أبهى من الشمس ضياء.”

القديس: ‏”لا تخف، يا صديق الله، أنت نفسك مضيء مثلي تماماًأنت أيضاً الآن ‏في ملء نعمة الروح القدس، وإلا ما أمكنك أن تراني كما أنا.”

لم يحتج قديس الله حتى إلى رسم إشارة الصليب ليكون لموتوفيلوف أن يعاين النور بعين الجسدفقط صلّى من أجله في قلبه.

القديس“هيا، انظر إليّ ولا تخف لأن السيّد معنا.”

فنظر موتوفيلوف إلى القديس مرتعداً فرآه سابحاً في نور يفوق بهاء الشمس في نصف النهار… رأى شفتيه تتحركان، ورأى تعبير عينيه وسمع صوته وشعر بيديه حول كتفيه، لكنه لم يعاين لا ذراعيه ولا جسده ولا وجههكما فقد الإحساس بنفسهكان النور يملأ كل شيء ورقع الثلج المتساقط عليهما كأنها اشتعلت.

القديس: “بماذا تشعر؟”

نيقولاوس: “أشعر بأني في أحسن حال وأتعجّب.”

القديس: “ماذا تعني بذلك تماماً؟”

نيقولاوس:”أشعر بسكون عظيم في نفسيأشعر بسلام لا يمكن التعبير عنه بالكلام.”

القديس: “هذا هو السلام الذي يفوق كل عقل الذي تحدّث عنه الرسول (فيلبي7:4). ماذا أيضاً؟”

نيقولاوس: “أشعر ببهجة غريبة لم آلفها من قبل.”

القديس: “عن هذه البهجة قال المرنم في المزمور: “….يشبعون من دسم بيتك وأنت تسقيهم من نهر نعمك” (8:35). ماذا أيضاً؟”

نيقولاوس: “فرح مدهش يملأ قلبي.”

القديس: “هذه أولى ثمار الفرح الذي أعدّه الله للذين يحبّونه والذي قال عنه الرسول: “ما لم تره عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على بال إنسان ما أعدّه الله للذين يحبّونه” (1كورنثوس9:2). بمَ تشعر أيضاً؟”

نيقولاوس: “أشعر بدفء مدهش.”

القديس: “ونحن في عمق الغابة وفي نصف الشتاء والثلج تحت أقدامنا وعلى أثوابنا!؟ إننا الآن في عداد من قال السيّد عنهملا يذوقون الموت حتى يروا ملكوت السموات قد أتى بقوةها أنت قد فهمت معنى أن نكون في ملء الروح القدس… لا يهم أن أكون أنا راهباً وأنت علمانياً، المهم، في عين الله، هو الإيمان الحقيقي به وبابنه الوحيدمن أجل هذا أعطيت لنا نعمة الروح القدسملتمس السيّد قلوب تفيض بمحبته ومحبة القريبهذا هو العرش الذي يجلس هو عليه ويظهر منه ذاته في مل ء مجدهيا بني أعطني قلبك (أمثال26:23‏). في القلب يُبنى ملكوت الله.”

رقاده

رقد قديس الله سيرافيم في سن السبعينكان في أيامه الأخيرة يتحدّث عن قرب مغادرته بفرح ووجه مشعوكان بعض الإخوة يسمعونه وهو يرنّم ترانيم الفصحتناول القدسات الإلهية في الأول من كانون الثاني سنة 1833 ‏وقبّل إيقونات الكنيسة مشعلاً أمام كل منها شمعةثم بارك الإخوة قائلاً لهم أن يصنعوا خلاصهم وأن يسهروا لأن الأكاليل قد أُعدت لهمبعد ذلك زار مدفنه، ثم أغلق على نفسه في القلايةوأثناء الليل رقد، وقيل كان على ركبتيهعُرض للتبرك ثمانية أيام في الكاتدرائية وتبرّك منه الآلافوقد ذكر أحد الرهبان في الجوار أن نوراً عظيماً التمع في السماء فقال: “هذه روح الأب سيرافيم تطير إلى السماء“. في 19 ‏تموز سنة 1903 ‏جرى إعلان قداسته بحضور العائلة المالكة ومئات ‏ألوف المؤمنين.”

( السنكسار – سير القديسين بتصرف)

 

 

 

  • Beta

Beta feature

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *