اوليفيه كليمان

اللاهوتي الارثوذكسي الفرنسي أوليفييه كليمان (17 تشرين الثّاني 1921 – 15 كانون الثّاني 2009)

 اللاهوتي الارثوذكسي الفرنسي أوليفييه كليمان (17 تشرين الثّاني 1921 – 15 كانون الثّاني 2009)

السيرة الذاتية

أبصر موريس (أوليفييه) كليمان النّور في مدينة صغيرة تقع في جنوب فرنسا في العام 1921، في كنف عائلة متوسّطة الحال. عائلة أبيه كاثوليكيّة الأصل. أمّا عائلة أمّه فبروتستانتيّة. ولكنّ والديه وكلّ أفراد عائلته الّذين عايشهم في طفولته ألحدوا وفقدوا كلّ صلة لهم بكنيستهم،. وبعد خبرة فراغ روحي ويأس نفسي وفكري اهتدى إلى الإيمان المسيحي، وانخرط في السلك اللاهوتي كعلماني متزوج.

أثر فيه بشكل خاص اللاهوتيان الروسيان فلاديمير لوسكي ونيكولاي برديايف اللذان كانا قد نفيا من روسيا بعد قيام النظام الشيوعي، وكان لهما التأثير الكبير في حياته، وفي اختياره للكنيسة الأرثوذكسية ككنيسته الأم.

يتميز لاهوت كليمان بغناه وبتغذيه من معين التقليد الآبائي العريق وسبكه للتعليم الروحي واللاهوتي في لغة الإنسان المعاصر وفي إطار مشاكله الآنية. كما يغتني لاهوته بصيغة فريدة هي عدم الفصل بين اللاهوت والروحانية والليتورجية في التفكير.

المطران خضر يزور اوليفيه في مرضه
المطران خضر يزور اوليفيه في مرضه

علم أوليفيه كليمان – وهو مؤرخ وصحافي أيضًا –  لسنوات عديدة في معهد سان سيرج الأرثوذكسي (والتابع للكنيسة الروسية ماوراء الحدود) في باريس، وكان معاصرًا وصديقًا للاهوتيين عظام مثل سرجي بولغاكوف وبافل أفدوكيموف. كما وعلم في المعهد الحبري الشرقي في روما، وكانت تربطه علاقة خاصة بمركز آليتّي للدراسات حول الشرق المسيحي في روما، شهادة لروحه ونشاطه المسكوني.

من بين مؤلفاته: “الشمس الآخر. سيرة ذاتية روحية”، “نشيد الدموع. مقالة في التوبة”، “نظرة أخرى إلى روما. الأرثوذكسية والبابوية”، “عيون من نار. الإيروس والأغابي”، “حتى وإن مات سيقوم”، “خيوط من نور”، “تساؤلات حول الإنسان”، وغيرها الكثي

وفاته

انتقل  أوليفييه كليمان إلى رحمته تعالى عن عمر ناهز الثمانية والثمانين عامًا، وذلك نهار الجمعة 16 ك2 2009 في روما . بعد مرض عضال أقعده جسديًّا ولم يستطع أن يقعده عقليًّا، فاستمرّ في الانتاج الفكريّ إلى آخر لحظة من حياته الممتدّة على سبعة وثمانين عامًا. هو المؤرّخ واللاهوتيّ الذي أتى من الإلحاد إلى الأرثوذكسيّة على يدي معلّمه اللاهوتيّ الروسيّ الكبير فلاديمير لوسكي وبعد أن تعرّف بفكر الفيلسوف نقولا برديايف (المتوفّى عام 1948) الذي بدأ ماركسيًّا وانتهى هو الآخر مسيحيًّا. وهو الفرنسيّ الأصل الذي تبنّى الخبرة الروحيّة الأرثوذكسيّة سبيلاً إلى الانتصار على عدميّات العالم المعاصر.

نبذة في تراثه

جنازة اوليفيه كليمان
جنازة اوليفيه كليمان

خلّف أوليفييه كليمان وراءه العديد من المؤلّفات التي تناولت مواضيع شتّى من السيرة الذاتيّة، إلى تاريخ الكنيسة وتعاليم الآباء واللاهوت الأخلاقيّ والصلاة والتوبة والأنتروبولوجيا المسيحيّة. كما أجرى حوارين أخرجهما في كتابين، حوار مع البطريرك المسكونيّ أثيناغوراس وحوار مع خلفه البطريرك المسكونيّ برثلماوس الأول عنوانه “الحقّ يحرّركم”. وقد علّم كليمان لزمن طويل في معهد القدّيس سرجيوس للاهوت الأرثوذكسيّ في باريس موادّ التاريخ الكنسيّ واللاهوت الأخلاقيّ، وتخرّج عن يديه العديد من الطلاّب الذين أصبح منهم الأساقفة والكهنة.

نميز لاهوت كليمان بغناه وبتغذيه من معين التقليد الآبائي العريق وسبكه للتعليم الروحي واللاهوتي في لغة الإنسان المعاصر وفي إطار مشاكله الآنية. كما يغتني لاهوته بصيغة فريدة هي عدم الفصل بين اللاهوت والروحانية والليتورجية في التفكير. بسعة المعرفة الفلسفيّة والأدبيّة والشعريّة بالإضافة إلى المعرفة اللاهوتيّة والتاريخيّة. وكم كنّا نندهش، نحن طلاّبه المتعلّقين بحرفيّة العقيدة، من كثرة استشهاداته من خارج الإطار الأرثوذكسيّ الأمر الذي لم يكن مألوفًا عند باقي الأساتذة. فكنّا نراه ينتقل ببراعة من التراث الرهبانيّ الأرثوذكسيّ إلى الروحانيّة الكاثوليكيّة وإلى كبار المتصوّفة المسلمين كالحلاّج ورابعة العدويّة، ثمّ يأتينا بأعذب ما قيل من الشعر في الأدب الفرنسيّ بعد أن يسرد لنا بعض أقوال معلّمي ديانات الشرق الأقصى. ويتركنا نستنتج أنّ الله حاضر في كلّ جمال مستعيدًا قول دوستويفسكي: “الجمال سوف ينقذ العالم”.

وآمن أوليفييه كليمان بأهمّيّة الحوار وبقوّة الكلمة وفاعليّتها في عالم اليوم. فساهم في العديد من المنتديات في العمل من أجل تثمير الحوار المسكونيّ بين الكنائس والوصول إلى نتائج حاسمة على هذا الصعيد. وكان من آخر ما ألّفه كتاب “روما، نظرة أخرى” الذي نقلته إلى العربيّة بترجمة ممتازة كاترين سرور (تعاونيّة النور الأرثوذكسيّة للنشر والتوزيع)، وهو الكتاب الذي جاء ليلبّي علميًّا وأكاديميًّا أمنية البابا الراحل يوحنّا بولس الثاني في رسالته “كي يكونوا واحدًا” أن يتمّ التوصّل إلى رؤية مشتركة لممارسة الأوّليّة في الكنيسة. ونحن على أبواب أسبوع الصلاة من أجل الوحدة بين المسيحيّين يجدر بنا العودة إلى قراءة نصّي البابا وكليمان.

وفي السياق ذاته انفتح أوليفييه كليمان على الإسلام والمسلمين. فوضع كتابًا مشتركًا مع المفكّر التونسيّ محمّد الطالبي عنوانه “احترام راسخ”، يدعو فيه الكاتبان إلى ثقافة الاحترام المتبادل بين أهل الديانتين. واللافت أنّ أوليفييه كليمان يعوّل كثيرًا على الدور العربيّ الأنطاكيّ في الحوار الإسلاميّ المسيحيّ، ولكن أيضًا على دورهم في الحوار المسكونيّ بين المسيحيّين. فهو يعتبر أنّ الأنطاكيّين تميّزوا دومًا على مرّ تاريخهم بالانفتاح وقبول الآخر والتعايش السلميّ معه، وأنّ الأمور لو تُركت بين أيدي الأنطاكيّين لكان المشهد مختلفًا نحو الأحسن.

لعلّ كتاب “الشمس الأخرى، سيرة ذاتيّة روحيّة” غير المعرّب هو أفضل ما يعبّر عن شخصيّة أوليفييه كليمان. عندما يريد أن يتحدّث عن نفسه يجد نفسه يتحدّث عن المسيح، “الموت هو المرآة التي بدون انقطاع نرى أنفسنا فيها. لذلك، يبدو لي مستحيلاً أن أتحدّث عن نفسي. المرآة تحطّمت. لكنّني أريد أن أتحدّث عنه. كيف يبحث عنّا. كيف بحث عنّي، كيف وجدني”. لذلك كان حظّنا جيّدًا نحن الذين عاشرنا أوليفييه كليمان أستاذًا وإنسانًا بسيطًا محبًّا للجمال والحياة، إذ كنّا نرى وجه المسيح يطلّ علينا عبر دروسه وأقواله وحضوره.

الإنسان وجه فريد لا يكتمل إلاّ بالعلائقيّة الخلاّقة كي يصبح كائنًا متألّهًا، هذا ما علّمنا إيّاه أوليفييه كليمان. هو عبر، وتبقى بسمته متألّقة في ما تركه لنا من كتابات وذكريات. طيّب الله أيّامك الآتية يا شجرة مباركة، زيتونة لا شرقيّة ولا غربيّة.

من بين مؤلفاته ايضاً، “نشيد الدموع. مقالة في التوبة”، “نظرة أخرى إلى روما. الأرثوذكسية والبابوية”، “عيون من نار. الإيروس والأغابي”، “حتى وإن مات سيقوم”، “خيوط من نور”، “تساؤلات حول الإنسان”، وغيرها الكثير

 

 

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *