اثناسيوس عطا الله وروفائيل هواويني

المطران أثناسيوس والقديس رفائيل من دمشق إلى خالكي

خالكي 1879-1880

عندما يجتمع المعلم والتلميذ في مقعد دراسي واحد

المطران أثناسيوس والقديس رفائيل من دمشق إلى خالكي

لبروكلين في نيويورك قديسٌ واحد، هو الأسقف رفائيل الدمشقي (1860-1915)، في زمن عمّ فيه الكفر وعزّ القديسون. إن له مكانته المميزة في التاريخ المعاصر للأرثوذكسية الأنطاكية والجامعة على حدّ سواء. عدا عن كونه الأسقف الأرثوذكسي الأول الذي تتم رسامته الأسقفية في الديار الأميركية، حيث أن الرسامات إلى درجة رئاسة الكهنوت حتى ذلك الوقت كانت تجري خارج أميركا وحين وصول الأسقف المشرطن حديثاً إلى أميركا يتم استقباله وتنصيبه في احتفال رسمي وشعبي، فهو أول إكليريكي سوري في القارة الأميركية يمارس الكهنوت التبشيري، بمعنى أنه خلال خدمته الإكليركية في أميركا نحو عشرين عاماً لم يكن مجرّد خادم ٍ أمين للأسرار المقدسة، كما كان يجري مع سائر الكهنة الأرثوذكسيين في كنائس الشرق الأوسط، وهي كنائس ورعايا قائمة لقرون خلت. بل هو قد تجاوز الإطار التقليدي للكهنوت، الذي كان ينحصر بخدمة الأسرار الإلهية في مكان ما معلوم، هو الكنيسة، ولرعية ما معلومة، هم سكان تلك القرية أو ذاك الحي من المدينة. ذلك أنه لم تكن للأنطاكيين في أميركا حينها أية كنيسة قائمة لتجمع أبناءها المنتشرين في سائر الولايات والمدن في أميركا وكندا، في مرحلةٍ زمنية ازدادت معها وفرة أعداد المهاجرين السوريين إلى العالم الجديد، بمعدل خمسة آلاف مهاجر سنوياً، جلّهم من طائفة الروم الأرثوذكس.

ولهذا عمد إلى مئات من الجولات الرعوية القصيرة وثلاث جولات تبشيرية طويلة، استغرقت كل منها عدة شهور. طاف في مختلف البلاد الأميركية ثلاث مرات من أقصاها إلى أقصاها، قاطعاً إياها طولاً وعرضاً، صيفاً أحياناً وشتاءً طوراً، غير مبالٍ بتقلبات الطقس، غير ممتعض من برد الشتاء أو حرّ الصيف، وغير عابئ بالأخطار، بحراً أو برّاً، بالقطار أم على الخيل أو في المراكب والقوارب، وكان يقوده تجواله إلى أماكن قصيّة مهما كان عدد المهاجرين فيها صغيراً، باحثاً عن الخراف المشتتة، ليقوم بخدمته الروحية، معمّداً أطفالهم، معزّياً حزناهم، مزوّجاً شبابهم، وعاضداً مرضاهم، متمماً سائر الأسرار المقدسة وجامعاً الكلّ إلى قداسٍ إلهي يجري في أحد بيوت المؤمنين، حاثّاً إياهم على الوحدة والسلام والتعاون لتأسيس رعية واستقدام كاهن، ومثيراً الحماسة في صدورهم لتشييد كنيسة، بل ومدرسة ومدفن إن أمكن.

المطران أثناسيوس والقديس رفائيل من دمشق إلى خالكي
المطران أثناسيوس والقديس رفائيل من دمشق إلى خالكي
وكان على رأس تلك الإرسالية الروحية السورية، التي لم تهدأ نشاطاتها ولم تتوقف إنجازاتها، لا في فترة كهنوته ولا في زمن أسقفيته، فأثمرت جهوده عن تأسيس ثلاثين رعية وكنيسة يأمها ثلاثون ألف مؤمناً وينشط فيها ثلاثون كاهناً، إضافة إلى عدد من الجمعيات والمدارس.
أي أنه قد أوجد من العدم في نحو عشرين سنة ما يعادل الذي أوجده أباطرة بيزنطية وبطاركة الشرق مجتمعين في مدة عشرين قرن في أبرشية بيروت وجبل لبنان، والتي كانت كبرى أبرشيات الكرسي الأنطاكي بداية القرن العشرين.
وُلد عام 1860 لأبوين سوريين، فرّا من المذابح في وطنهما دمشق، فنجا الطفل في بطن أمه الحامل من البطش، وأبصرت عيناه النور في بيروت التي قد لجأ إليها والداه، وفيها عاش سني حياته الأولى إلى أن عاد مع عائلته إلى دمشق ليبدأ دروسه الأولى في المدرسة البطريركية. لم تكن الحال الاقتصادية في دمشق بأفضل مما كانت عليه في بيروت، فاقتصادها الهشّ الذي كان يعتمد أساساً على الصناعات التقليدية، وخاصة الحرير والأقمشة والألبسة، كان لايزال منهاراً منذ دمار الحي المسيحي عام 1860 ومقتل الآلاف من سكانه، حيث كان مسيحيو المدينة الحرفيون يشكلون عصب تلك الصناعات. وهذا ما يفسّر الفقر المدقع الذي كان فيه حينذاك ذوو الطفل رفائيل، والمجتمع الدمشقي بأسره، ما اضطرّ والده للتفكير بإخراج ابنه من المدرسة.

وهنا تدخلت العناية الإلهية مرة أخرى في حياة القديس الشاب، ورتبت له أمر إكمال علومه، لا في المدرسة البطريركية وحسب، بل وفي كلية خالكي اللاهوتية أيضاً، وذلك بعون من أثناسيوس عطالله (1853- 1923)، الذي كان شماساً وسكرتيراً للبطريرك في ذلك الحين ثم لاحقاً رئيساً لدير مار الياس شوّيا (1883) ومطراناً لحمص (1886)، وهو العام الذي تخرّج فيه الشماس رفائيل من خالكي.

الارشمندريت اثناسيوس عطا الله
الارشمندريت اثناسيوس عطا الله
تأسست كلية خالكي اللاهوتية عام 1844 لتثقيف الإكليروس اليوناني على مستوى جامعي رفيع وتخريج قادة الكنيسة المستقبليين، فأصبح أكثر خرّيجيها كهنة، أساقفة ومطارنة، ومنهم من اعتلى عرش البطريركية المسكونية في اسطنبول ورئاسة أسقفية اليونان في أثينا. وفي العصر الحميدي (1876 – 1908)، كان يعسر على غير اليوناني الدخول فيها، بسبب تشديد السلطات العثمانية حينها على عدم قبول غير اليونانيين فيها. وبتدخل العناية الإلهية مرة أخرى في حياة الشاب الطموح، تم تدبير أمر دخول رفائيل إلى خالكي، عام 1879، بعد استبدال اسم كنيته “هواويني” باسم آخر يوناني، هو “ميخائيليذيس”، المشتقّ من اسم أبيه ميخائيل. فإذا ما حاولتَ البحث في أرشيف كلّية خالكي لن تجد سجلاّ واحداً باسم رفائيل هواويني، بما في ذلك أطروحته “التقليد الشريف وسلطته” لنيل شهادتها اللاهوتية عام 1886، بل جميعها هي باسم رفائيل ميخائيليذيس.
كانت السنوات الثلاث الأولى تتضمن منهاج مرحلة الدراسة الثانوية بفرعيها الأدبي والعلمي، والسنوات الأربع الأخيرة منهاج الإجازة في اللاهوت، الذي من بين مواده باللغة اليونانية كان يشتمل على ما يلي: مدخل إلى العهدين القديم والجديد، تفسير الكتاب المقدس، علم الآباء، العقيدة، الفلسفة، الأخلاق المسيحية، الحق القانوني، فلسفة الدين، الرعائيات، الوعظ، تاريخ الكنيسة العام، تاريخ الكنائس الأرثوذكسية المستقلة، علم الآثار المسيحية، تاريخ العقيدة، تاريخ الفلسفة، تاريخ الأديان، الموسيقى البيزنطية، إضافة إلى اللغة التركية وآدابها (هذه المادة تعطى حصراً للتلاميذ ذوي التابعية العثمانية، ومنهم رفائيل).

وكانت دراسة علم اللاهوت في كلّية خالكي بغاية التنظيم والمنهجية، للتصدّي الفكري وبالحجج المنطقية والدينية للإيديولوجيات والنظريات الاجتماعية الغربية والأنظمة الفلسفية ذات المواقف المعادية للمسيحية التي كانت منتشرة في أوربا آنذاك بكثافة، بل أيضاً لمواجهة نزعة الاقتناص الديني لدى مبشّري ذاك العصر من الطوائف المسيحية التقليدية وخاصة الأرثوذكسية.

البطريرك ايروثيوس
البطريرك ايروثيوس
كان العام الدراسي من فصلين، ينتهي كل منهما بامتحانات خطية وشفاهية، وكذلك إعداد وكتابة بحث، يُلقى في قاعة الدروس بحضور عميد الكلّية نفسه، ما كان يتطلب الرجوع إلى المصادر في مكتبة خالكي، والتي تعتبر بحقّ من كبريات المكتبات العالمية وأغناها من حيث وفرة عدد الكتب بمختلف اللغات. وعند النجاح في كل فصول الدراسة، يتم في الأحد الأول من شهر تموز /يوليو حفل تخريجٍ لتلاميذ الأمس ومعلّمي المستقبل، حيث أن كلّ خرّيج منهم ينال مع شهادته اللقب: “أستاذ في اللاهوت المسيحي الأرثوذكسي”. يستطيع القارئ أن يستنتج مما سبق مدى أهمية عبور القديس رفائيل في هذه الجامعة الأرثوذكسية العريقة وأثر ذلك في تكوين شخصيته وتنمية معارفه، ما سيترك أبعد الأثر ليس على مواطنيه وحسب، بل وفي كل المسكونة، من خلال كتاباته الروحية الغزيرة وبأكثر من لغة.
لقد تمّ إيفاده للدراسة في خالكي قرب اسطنبول من البطريرك الأنطاكي إيروثيوس، الذي قد قرّب إليه العديد من الكهنة الوطنيين، وعلى رأسهم أثناسيوس عطالله، الذي كان في ذلك الحين رئيس شمامسة (أرشيدياكون) وسكرتيراً للبطريرك ومرتلاً في الكاتدرائية المريمية وأحد أهم معلمي المدرسة الأرثوذكسية الكبرى في دمشق منذ مجيئه إليها عام 1871.

وإنه لمن الصدف التي قلّما تحدث في التاريخ أن يجتمع معلم وتلميذه في مقعد دراسي واحد، متتلمذين في جامعة واحدة، وهي خالكي. فالوثائق تشير إلى أن الأرشيدياكون أثناسيوس، الذي كان قد توسط لتلميذه الخاص رفائيل لدى البطريرك ليكمل علومه في المدرسة الأرثوذكسية الكبرى في دمشق، قد توجّه إلى خالكي في أواخر أيلول 1879 برفقة الراهب رفائيل، حيث انتظم ببركة غبطة البطريرك في سلك طلبة اللاهوت في جامعة خالكي الشهيرة، وانخرط فيها كأحد تلامذتها جنباً إلى جنب مع رفائيل.

القديس المطران روفائيل هواويني
القديس المطران روفائيل هواويني
غير أن رغبته الشديدة في تحصيل الدروس وكثرة اجتهاده وانكبابه المتواصل على مطالعة الكتب قد أثّرا على عينيه تأثيراً ألزم إدارة الجامعة منعه من الدراسة فيها حفاظاً على صحته. فعاد أواخر آذار 1880 إلى دمشق، بصدر ملؤه الأسف لاضطراره الى الإحجام عما تميل إليه نفسه من التعمق في العلوم. لكن البطريرك قد عزاه على ذلك بإعادته إلى منصبه السابق فثابر على التعليم في المدرسة الكبرى في دمشق، ونال اعتباراً فائقاً في عيون تلاميذه ومكانة سامية في عموم الطائفة.

وفي عام 1883 سامه كاهناً ورقَاه إلى درجة أرشمندريت، وبعد شهرين عينه رئيساً لأحد أهم الأديار البطريركية، دير مار الياس شويا في لبنان، فكان خير نموذج يحتذى لرؤساء الأديرة في الإخلاص والعطاء ومحبة الخير، حتى انتخابه وسيامته مطراناً على حمص عام 1886، نفس العام الذي قد تخرج فيه تلميذه اللامع من خالكي، الذي سيغدو معلماً للمسكونة قاطبةً.

معهد خالكي اللاهوتي
معهد خالكي اللاهوتي

 

المصدر

Metropolite Athanasios

 

  • Beta

Beta feature

  • Beta

Beta feature

  • Beta

Beta feature

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *